الطعام في الثقافة العربية الإسلامية سعيد الناجي

الطعام في الثقافة العربية الإسلامية

الطعام الذي هو عطاء إلهي، منّة ونعمة من الله، وسبب من أول أسباب استمرار الحياة، كيف تنظر إليه الثقافة العربية الإسلامية؟ سؤال دقيق، وإجابة مجتهدة، يحملهما إلينا هذا المقال الذي ننشره في شهر الصوم الكريم.. شهر التعامل مع الطعام بقداسة الإسلام وعمق فلسفته.

تختلف عادات الشعوب في تناول الطعام اختلافا يدفع إلى التساؤل عن أسبابه ومدلولاته. لقد احتفظ العرب بالأصابع وسيلة مثلى لتناول الطعام، فيما ذهب أهل آسيا إلى ابتكار عيدان خشبية، أما الغرب فقد طور الشوكة والسكين وسائط بين الإنسان وطعامه. لماذا لم يتكلف العرب بلورة أداة خاصة لتناول الطعام، وكأنهم بقوا في مرحلة بدائية من علاقة الإنسان بالطعام؟ إن الإنجازات المهمة للحضارة العربية على امتداد التاريخ تدفعنا إلى البحث عن تعليلات أخرى لهذه المسألة.

لا حائل بين النعمة والإنسان

إن استعمال الأصابع في الأكل يعني أولا هدم كل مسافة بين الذات (الإنسان) والموضوع (الطعام) التي تخلقها أدوات أخرى كالشوكة مثلا. فهذه الأخيرة مصنوعة من مادة صلبة مطلية بطلاء براق، وهي بهذا تنفي ليونة الأصابع لتقيم مقامها الصلابة والعنف باعتبارهما جوهرين قامت عليهما أسس حضارة التصنيع الغربي. وتتأكد حمولة العنف هذه بالنظر إلى شكل الشوكة الذي يشبه إلى حد كبير سهما متعدد الرءوس. وحين نقارن بين الشوكة والأصابع أثناء تناول الطعام سنلاحظ أن الأولى تختطف الطعام من أعلى بعد أن تنغرس رءوسها فيه، فيخضع الطعام إلى قوة تتجاوز بكثير تلك اللازمة لحمله، وتتحول إلى عنف غير مدرك يمارسه الإنسان على طعامه.

وفي المقابل، يقود استعمال الأصابع في الأكل إلى اكتساب الجسد الدور الأول في ملامسة الطعام وتناوله خارج كل وساطة ممكنة.وهكذا، يمكن أن نحدد، إضافة إلى نقل الطعام، وظيفتين أساسيتين للأصابع:

1 - الحفاظ على حميمية العلاقة بين الجسد والطعام؟ حيث تلامس الأصابع مباشرة الطعام بحركات خفيفة فيها من القوة ما يلزم فقط لحمله ونقله دون ضغط أو عنف. وفيها شحنة عاطفية تنشأ من أن الأصابع تحيط بالطعام من جوانبه وتنقله برفق.

2 - نقل أخبار ومعلومات حول الطعام قبل تناوله (سخونته، برودته، ليونته...) هذه الوظيفة الإخبارية التي تتكفل بها الأصابع قبل اللسان (الحلاوة، المرارة...) أكثر دقة من تلك التي تحققها بعض الحواس الأخرى مثل البصر (لون الطعام، شكله...). بهذا تصبح الأصابع ضامنا أول للطعام من حيث قابليته للتناول.

إن السؤال الذي يطرح بإلحاح هو: ما هي الثوابت والقيم التي أباحت التعلق بالأصابع باعتبارها أداة وحيدة لتناول الطعام؟.

اعتمد البديل الديني للإسلام على نفي الإشراك بالله، وترسيخ فكرة الوحدانية التي تجعل الإنسان في علاقة مباشرة مع الخالق، هذا ما كان يقوض أسس المنظومات الدينية قبل الإسلام، خاصة الوثنية التي اعتبرت - ضمن اعترافها بالذات الإلهية - الوثن وسيطا بين الإنسان والله.

ولعل أهم شيء يمنحه الله للإنسان الرزق أو النعمة، ويدعوه إلى أن يستفيد منه حسب ما تم تحليله وتحريمه. وكما أنه يمنحه له في الدنيا: الذي لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به رزقا لكم فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون سورة البقرة آية 23"، فإنه يمنحه إياه الآخرة دون اشتراط العمل الذي يكسب به الإنسان الرزق في الدنيا؟ فصورة الجنة ترتكز على مكونين اثنين: الرزق (الثمرات) والحور العين: وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ولهم فيها أزواج مطهرة وهم فيها خالدون (سورة البقرة آية 25).

ويرتبط مفهوم الرزق بفكرة وحدانية الله لأنه دليل عليها فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا. بمعنى أن الرزق يدل على وجود الله المانح لكل شيء، ويدل على وحدانيته التي لا يجدر بالمؤمن خرقها. وليس من قبيل المصادفة فيما نظن أن تنظم سورة المائدة قواعد الأكل: اليوم أحل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب... (آية 4)، وشروط الصلاة وطقوسها في نفس الوقت: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم للصلاة فاغسلوا وجوهكم..(آية 6).

منّة إلهية مباشرة ومقدسة

هكذا، يندرج الطعام في الثقافة العربية الإسلامية ضمن مجال المقدس، لأن مصدره الأول هو الله سبحانه وتعالى الذي نظمه فحلل منه ما حلل وحرم منه ما حرم، وبما أنه لا وساطة بين الله والإنسان فكذلك لا وساطة بين ما يصدر عنه ويدل عليه (الطعام) وبين الإنسان، مما جعل أمر بلورة أداة للأكل، غير اليد، غير وارد في الثقافة العربية. لقد وقر في اللا وعي الجمعي الإسلامي أن الطعام منّة إلهية مباشرة ومقدسة.

ويمكن أن نستخرج من القرآن دلائل عديدة على تقديس الطعام لعل أجلاها أولا انفراد الجنة به وبعلته (الماء): تجري من تحتها الأنهار. باعتبار الجنة فضاء نهائيا لا فضاء يستقبل المؤمن من بعده (خالدين فيها)، وثانيا ضرورة تسمية الله قبل البدء في تناول الطعام وختمه بحمده: فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه واتقوا الله إن الله سريع الحساب (سورة المائدة آية 3)، إن تسمية الله على الأكل أمر ضروري يدخل ضمن التقوى. وترتفع قيمة الطعام إلى أن يصبح وسيلة لتقوية الإيمان (الصدقة) أو لتصحيحه فإطعام ستين مسكينا. أما تقديس الطعام فيصل إلى منتهاه في رمضان حيث يتزامن وقت الصلاة مع تناول الطعام أو الامتناع عنه، فالدعوة إلى صلاة المغرب إيذان بتناول الطعام، والدعوة إلى صلاة الفجر إخبار بضرورة الامتناع عنه.

عطاء إلهي

هكذا، يمتلك الطعام قيمة عطاء إلهي مباشر لا يجدر بالإنسان إلا أن يتناوله مباشرة دون وساطة. وإذا كان استعمال الأصابع تثمينا لدور الجسد في نقل الطعام وتناوله، فإن الإسلام يمنح نفس الأهمية للجسد حين يدخله في نسق خاص من الحركات يجعل التقرب من الله غايته الأولى: فالصلاة تطهير للجسد (الوضوء) ثم الدخول في برنامج حركات عمودية تبدأ وقوفا وتنتهي جلوسا، والتسبيح ذكر لله اعتمادا على الأصابع، والدعاء رفع الأكف لله.. ونستطيع أن نعدد الأمثلة.

إن العرب، رغم أنهم طوروا فنون الطبخ، قد حافظوا على علاقة مباشرة مع الطعام أصبحت أحد ثوابت السلوك اليومي المتكرر الذي يعين ملامح هويتنا بالمقارنة مع شعوب أخرى. ونظن أن البحث عن مكونات الهوية العربية قد كان يخطئ طريقه أحيانا حين كان يتجاوز مثل هذه السلوكيات اليومية مثل الطبخ، الأكل، اللباس.. التي تحمل في طياتها تاريخا مختزلا من الإبداع العربي.

 

سعيد الناجي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات