إلى أن نلتقي

إلى أن نلتقي

عندما يُلهم التاريخ

إذا سُئل الفرنسيون عن أحبّ شعراء فرنسا المعاصرين إليهم، أجابوا: أراغون، وإذا سئلوا عن أهم أعماله الشعرية بنظرهم، قالوا: ديوانه «مجنون إلزا». وهو ديوان يمت إلى العرب وتاريخهم وتراثهم الشعري بصلة وثيقة. فقد يحسب من يقرأه منقولاً إلى العربية، وقد نقله إليها الدكتور سامي الجندي قبل ثلاثين عامًا وصدر في بيروت، أن أراغون وضعه أصلاً بها لفرط استلهامه لحكايات وأشعار عربية، ولتمثّله لوقائع وأحداث حصلت في غرناطة العربية الإسلامية قبل سقوطها في عام 1492 بعامَين. شاعر ومُغَنّ غرناطي، غريب الأطوار، يطوف في أسواق غرناطة، ويروي أيامها الماضية، ويتحدث عن حاضرها الحزين، ويتغنّى بامرأة سلبت لبّه. يستلّ أراغون صورة المجنون الغرناطي من صورة المجنون العربي القديم، قيس بن الملوّح وحكايته مع حبيبته ليلى، ويبني عليها ديوانه، وفي غمار كل ذلك يسعى لردّ الاعتبار لأبي عبدالله آخر ملوك غرناطة.

ردّ الاعتبار لأبي عبدالله لم يكن مهمة سهلة في فرنسا الاستعمارية في بدايات القرن الماضي. يخبرنا أراغون في مقدمته لديوانه هذا، أنه عندما زار مرة موريس بارِّسْ BARRES في باريس وذكر له أنه ضد الفكرة الشائعة التي تقول إن الملك المغلوب هو دائمًا جبان وخائن، استنادًا إلى كتابة الغالب للتاريخ، وبالتالي فهو لا يرى ما يراه المؤرخون الإسبان المعاصرون لأبي عبدالله فيه، نظر بارسْ إلى أراغون مستغربًا وظانًا أن فيه روحًا شرّيرة، وتمتم: «هذه هي المرة الأولى التي ألتقي فيها بمن يدافع عن أبي عبدالله»!

ولكن أراغون، الشاعر ذا النزعة اليسارية، يفعلها عبر عمل يعتبر قمة عطائه الأدبي. فبعد أربعين عامًا من لقائه بهذا الكاتب الفرنسي يكتب أراغون ملحمته الخالدة عن غرناطة ومجنونها وعن أبي عبدالله الذي يراه شخصية مؤثرة تعرضت للأكاذيب، وينصفه. وقد توفي أبو عبدالله بعد أربعين سنة من سقوط غرناطة، أي عام 1532، وهو يقاتل الإسبان الذين نزلوا في مراكش، مات وهو يدافع عن الإسلام حتى نهاية عمره وقد بلغ السبعين.

«مجنون إلزا» ليست مجرد ديوان شعري وحسب، إنها شعر ورواية في الوقت نفسه. أو لنقل إنها شعر روائي أو رواية شعرية. فهي إذن شعر ونثر. وفيها يجسّد أراغون مبدأ يرى أنه لا اختلاف جوهريًا بين الشعر والنثر، كما لا فوارق جذرية بين القصيدة والرواية. ومن هذه الزاوية بوسعنا اعتبار «مجنون إلزا» قصيدة ورواية في آن، الأمر الذي يُطلق تحدّيا جديدًا للمفاهيم السائدة.

المؤسف أن ديوان أراغون هذا لم يُحدث عربيًا الأثر المرجو منه. لم يَجْر استلهامه عندنا لا من حيث الشكل ولا من حيث المضمون بالرغم من جدارته بذلك. فمن حيث الشكل مازال ديوان الشعر العربي على حاله، يضمّ أشتاتًا غير مؤتلفة من القصائد وغير موحدة في مواضيعها. ونادرًا ما صدر ديوان يضم قصيدة واحدة مطوّلة هي عبارة عن دفقة وجدانية تتمحور حول موضوع واحد. أما أحداث التاريخ العربي الإسلامي الكبرى، ومنها فتوح العرب في الشرق والغرب، من الهند إلى الأندلس، فقد ظلت بعيدة عن التناول الشعري والفني أيضًا، بالرغم من كرامات هذه الأحداث وقدرتها العجائبية على النفاذ إلى قلب القارئ وعقله.

وإذا استثنينا شوقي في بعض مسرحياته، وكذلك صلاح عبدالصبور، فإن من الممكن القول إن أحداث التاريخ العربي لم تعرف قراءة شعرية جديدة على النحو الذي فعله الشاعر الإسكندري/اليوناني كافافيس الذي عاد إلى تاريخ اليونان القديم مستلهمًا متسائلاً مستنطقًا، وعاد منه بما أمّن له إقامة دائمة في وجدان كل يوناني قرأ قصائده الملحمية عن تاريخ اليونان. ليس الشعر مجرد مطاردة للأوزان والقوافي وحسب. وإنما هو أيضًا بحث عن الروح والنبض في ماضي الأمة وحاضرها، وإضاءة فنية واعية على الأحداث الكبرى التي صنعتها أو مرّت بها هذه الأمة. إذا أهمل الشاعر نقطة النظام هذه، واكتفى بنظم ما لا يهمّ أحدًا سواه، كان مداد الحبر الذي تستقي منه ريشته من ذاك الحبر الذي لا يلتمع، كما كان يقول القدماء.

 

جهاد فاضل