قراءة نقدية في.. بَـدْريّة محمد حسن عبدالله

قراءة نقدية في.. بَـدْريّة

رواية الحقبة: بين الأعراف والإكتشاف
للقاص: وليد الرجيب

لا يخضع وليد الرجيب مؤلف "بدرية" إلى شعور الحنين إلى الماضي ولكنه يصوره قويا، إنسانيا وشديد الحضور. ولا يكتفي بذلك بل يوجه إليه سهام النقد حتى يتمكن من تحليل اللحظة الراهنة.

رواية الحقبة، أو رواية المرحلة، هي تلك التي تهتم برصد ملامح التطور أو التغير الاجتماعي في فترة زمنية محددة، وهذا يعني أن الروائي يختار من الزمان الممتد تلك الفترات التي يحتدم فيها الصراع بين القديم الراسخ المتجذر بفعل الألفة والتعود، والجديد الطامح إلى اكتشاف الواقع، ونقده، وتوجيه حركة المجتمع إلى مستقبل أكثر أمانا وعدلا وجمالا. هذا النوع من الروايات عرفته الآداب الأوربية إبان ازدهار المدرسة الواقعية، أي حين كفّ الأديب عن الاعتقاد بأن الأدب خالد، وأنه يكتب لكل العصور، ولجميع الناس. رواية الحقبة تصوّر العادات والتقاليد (أو الأعراف) في كثير من ملامحها، وقد يتجلى الفرق في الغاية، فمع احتفاء رواية الحقبة بالعرف السائد، والتقاليد، وطقوس العادات المختلفة، نجدها لا تتوقف عند حدود هذه الغاية، الموضوعية الحيادية- إن صحّ القول- وإنما تتجاوزها لتكشف عن حركة الزمن وإلى أين تتجه سفينة المجتمع، وهل سترسو على شاطئ الأمان، أم أن الأمواج تغالبها، وهنا- عادة- تقترب رواية الحقبة من رواية النبوءة، أو الرواية التبشيرية. وهذه الأمشاج جميعا قد وجدت في رواية "بدرية" التي ألفها وليد الرجيب، ونشرت عام 1989- وهي الرواية الوحيدة للكاتب، بعد مجموعتين من القصص القصيرة: "تعلق نقطة.. تسقط، طق"، 1983، "إرادة المعبود في حال أبي جاسم ذي الدخل المحدود" 1989، ثم كانت روايته الكفاحية المتميزة: "طلقة في صدر الشمال" 1992 التي يصفها- على غلافها- بأنها مجموعة من القصص القصيرة، ونراها أدْخل في بناء الرواية، بل نراها رواية امتازت بشكلها الفني الخاص، المستمد من علاقات التوازن بين الاتصال والانفصال، في وحدات التكوين الشامل.

لقد كانت "رواية الحقبة" بداية التأليف الروائي في الكويت، حين كتب الأستاذ عبدالله خلف "مدرّسة من المرقاب " عام 1962 وفيها استخدمت المدرّسة "نجيبة" الحصص الخالية في فترة تراخي الدراسة آخر العام لتحدث تلميذاتها عن بيتها وأهلها قبل استهلال زمن النفط، وحتى أقبلت موجاته بالصخب فاكتسحت عالمها القديم العزيز. إن وليد الرجيب- في رواية بدرية- لا يجاري هذه النزعة الرومانسية في الحنين إلى الماضي، كما أنه لا ينتقصه، إنه يصوّره فنيا، كما كان يتراءى للذين عاصروه، قويا، إنسانيا، شديد الحضور، مشبعا، لكنه ليس بالضرورة العالم المثالي الذي عمل أهله على استدامته، أو نعمل نحن الآن على استرجاعه. إن نظرة وليد الرجيب تقدمية، ليس بالمعنى السياسي، بل بما تعنيه اجتماعيا في الاحتفاء بفكرة التقدم، بناء على نقد تجربة واكتشاف سلبياته، وحق الإنسان في ممارسة طبائع زمانه!!.

ثنائيات البناء الفني

رواية وليد الرجيب تبدأ مع تحوّل عمال البحر إلى المشاركة في أعمال الإنشاء التي قامت بها شركات التنقيب عن النفط، وبالمثل تحول النوخذا المعتزل إجبارا بانتهاء زمان الغوص، إلى "مقاول" توريد عمال، وإقامة منشآت لحساب الاستثمار النفطي. في مرحلة البداية، أو مع التحول، كانت بدايات التعرف على "مفردات" الحياة الحديثة: السينما، والكوكاكولا، وحتى الشغب، تلك الكلمة الجديدة، التي ولدت في الأحمدي، حين تطلع العمال إلى مشاهدة السينما من وراء السور فكان صدام، وكانت نتيجة فاصلة بين ما يتقبله عصر، وما يرفضه عصر آخر من المشاعر والسلوكيات. قرب نهاية الرواية سيهطل مطر غزير يفرح له الناس عادة، لكنه يتمادى حتى يتحول إلى "هدامة" تكتسح منطقة حولي، التي تبدأ فيها أحداث الرواية، وفي ختامها يحدث العدوان الثلاثي على مصر (1956) ويتضامن عمال النفط في إعلان الإضراب وإيقاف الضخّ، ويختلف الجيل الطالع حول شخصية جمال عبدالناصر، ومدى أحقيته في قيادة الأمة العربية، غير أن تضامن العمال، وقطع النفط عن أوربا كان أعطى الجواب.

هذا التحديد الزمني، أو الإطار الخارجي، هو الذي يساعدنا على تصور موقع الرواية، وسياقها في الزمن الكويتي، لكنه لا يستقطب الأحداث الجزئية التي تشعبت في كل اتجاه، مع هذا بقي "المجتمع" هو الركيزة. ولعلنا نوضح هذا حين نجرد عناصر التكوين في علاقات، فنكتشف أن بناء هذه الرواية قام على تقابلات ثنائية، تلتقي، وتفترق، لتجلو المغزى التطوري الذي يحرص الكاتب على أن يضعنا في بؤرته: هناك أولا: فلاح وفهد، وهما: شاب ناضج، وآخر فتى على أبواب المراهقة يمكن أن يحمل على الكتف ليتمكن من مشاهدة "الشاشة"، ويرفضه عريف الأنفار، لكن المقاول يسكت عنه في نظير أن يأخذ نصف أجر!! وإذا كان "فهد" ابن غواص أو بحار غرق في الزمن الماضي، فإن الصبي الذي يقابل الحياة الجديدة يتيما، لا يجد غطاءه الاجتماعي فيمن غرق أبوه على سفنهم، بل في رفاق الشقاء القديم، الذين يعانون الشقاء الحديث في أعمال الحفر والبناء. أما "فلاح" الذي أخطأه الغرق سابقا، فإنه الآن مستبعد من العمل في الشركة، منبوذ، لا ينال من خيرات الزمن المتغير، حتى يفقد تماسكه وإنسانيته، تقابل هذه الثنائية، ثنائية أخرى يُمثلها بونشمي، وعيسى تابعه وأمين أسراره. بونشمي هو نوخذا الزمن السالف، ومقاول الزمن الراهن، والآتي،وتابعه عيسى أداته وعصاته وبوقه ومدبر ملذاته. إن "بونشمي" لم يخرج عن التكوين النمطي لطبقته، وكذلك عبر عيسى عن "لوازم" الطبقة، فحيث يركب الصياد لابد من وجود "كلاب الصيد"، إنه مع سيده فى سلة واحدة، حتى وإن أهانه إهانة بالغة، إنه يدرك أن حبله السري موصول بهذا السيد، وأن قدرهما واحد، وجودا ومصيرا.

الثنائية الثالثة " العنجريزي" هندرسون، وتابعه الهندي، سواء كان موظفا في الشركة، أو شرطيا، إنه صوت سيده، ويده، وأهدافه في مستواها الصدامي، إنه "البناء" المقابل، المؤازر لبونشمي وعيسى، والمقابل المناقض لفلاح وفهد.

وتبقى بدرية- التي حملت الرواية اسمها- وحيدة ليس لها مقابل، مع أنها بمثابة "كبسولة التفجير" التي- على صغرها- لا قيمة للعتاد بدونها، إنها المحرك وراء فهد، والتي عصفت بأبونشمي وأعلنت انتهاءه رمزيا، ودفعت بعيسى إلى أن يعجل بنهاية سيده دون أن يقصد (أو لعله يقصد وقد ضاق بالسيد التاريخي وتاق إلى استبداله بسيد جديد). كان لا بد أن تكون بدرية وحيدة، وقد "فصّل" لها وليد الرجيب ظروفا وملابسات تعين على أن نتقبلها واقعا، وألا يتجافى عنها التجريد الرمزي، لولا عدم ثقته في القارئ، ومن ثم إصراره على النص على مدى التوسع المطلوب في "فهم " هذه الشخصية. وهنا سنكتشف أن هذا النص، كما أنه يضعف الأسلوب الفني، فإنه يدخل المؤلف مع القارئ في مماحكة ذهنية قد تعطل عملية التوصيل المطلوبة في الرواية!!.

التواصل المستحيل

"بدرية" هي تلك الفتاة ذات الشخصية القيادية، هي بين أترابها من البنات والصبيان أكبر في العمر قليلا، ولكنها أنضج في الشعور والخبرة كثيرا:

"شهية كالفاكهة بدرية، عذبة الحديث، تظهر على وجنتيها غمازتان عندما تضحك، وعندما تضحك تطير قلوب الصبيان كعصافير الربيع، وتغرق الفتيات بغيرة لا محدودة، ويحاولن أن يفعلن مثلها..

لم نكن نعرف لبدرية أما ولا أبا، فنحن نراها في كل البيوت، تتناول الغداء عند أحد البيوت، والعشاء في بيت آخر، وعندما يتأخر الوقت كانت تنام في أقرب بيت، ولما سألنا أهلها:

- ابنة من بدرية؟!.

أجابوا وكأنهم لا يخفونا سراً:

- ابنتنا جميعا.

وحذرونا من أن نسألها نفس السؤال:

- "يمكن تزعل "!!.

هنا تبدأ "بدرية" من الواقع، لكنها تخترق حدود الواقع لتصل إلى "الرمز"، إنها ابنة الجميع، ولم "يتحفظ " الصبية السائلون على هذه الإجابة غير الممكنة، بل لم يعتبروا هذا التعميم في الانتماء مساويا لعدم الانتماء، بل لقد اعتبروه ميزة تنفرد بها بدرية:

"بدرية التي لا يملكها أحد منا، وانتشينا بالغموض".

وهكذا ارتفع التعميم إلى مستوى "التجميع"، فهي رمز هذه الجماعة، أو هذا المجتمع التكافلي، الحر، البسيط، المنطلق، دون أن نبحث عن "تطابق حرفي" يضر بهذه الدلالة الرمزية لانحدار بدرية عن مجهولين، فليس الرمز مفتاحا لكل الأبواب، إنه محكوم بسياق الموقف وإطار العلاقات بين وحدات العمل، ولم يكن "الأصل" مطروحا للمناقشة، وإنما السلوكيات، وقد كانت بدرية صورة ناضجة للسلوك، حتى حين عصفت بطفولتها البريئة أحداث لا طاقة لها بها.

لقد اتجهت عواطف بدرية نحو "فهد"، وهذا مقصود للكاتب، وتطيقه طبيعة هذه الشخصية وحدود طموحها الاجتماعي، ولا ترفضه الدلالة الرمزية، فإذا كان بونشمي- المزواج الثري- قد استضعف الطفلة فطمع في أن يحدد بشبابها القادم ذبول شيخوخته المولية، فاتخذ قرار الزواج بها، ونفذه، فإن هذا الزواج المغلوط ظل "ادّعاء" على الورق، لم يأخذ سبيله العملي، الذي به شرع الله سبحانه الزواج، وجعل الأسرة عماد الوجود الإنساني. إن هذا "الانطفاء" الذي فاجأ بونشمي ليلة زفاف بدرية إليه، يصدر قرارا أقوى سلطة من قرار الزواج: إن إمكان التواصل بين بونشمي بكل ما يمثله، وبين بدرية وما تكنّه لفهد، وفلاح وأشباههما، ضرب من هذيان التعلل بالأماني الكاذبة.

الأعراف.. والاكتشاف

لقد اهتم وليد الرجيب في هذه الرواية برسم التقاليد، ورعاية الطقوس أو الأعراف التي اعتادها الناس في مناسبات شتى، وقد أجاد هذا الرسم، وبلغ به ما أراد، وهو تثبيت صورة المجتمع القديم، وتقوية ألوان الواقع البديل الذي رسمه بلوحاته، ولكي يكون "التمثيل" شاملا، والألوان وافية، لا تهمل الظلال وأنواع التداخل بين المحدد واللا محدود، فإنه نوع من أشكال الرسم، ومستوياته، فهناك اللوحات، والأمثال، والأشعار، والصيغ المأثورة (الكليشيهات المتداولة):

فحين يتلهى الأطفال بإمساك نواة التمر وعليها عقدة النواة، فتشبه رجلا يرتدي قبعة، ويغنون:

عنجريزي بوتيله

عساه يموت الليله

فإننا نصل عن طريق هذه الأغنية- الأمنية- إلى حقيقة المناخ الذي ساد تجاه تلك الحقبة، على المستوى الشعبي.

وحين يلعب الأطفال "خروف مسلسل" فإن هذا اللهو البريء يساوي دلاليا أن يرى المائدة المشتركة لأبناء الفريج صبيحة العيد، وقد امتدت خلف مسجد "ابن عويد" فإننا ندرك عمق الروح الجمعية "الجماعية" المتأصلة في ضمير أبناء البلد. أما حين صفع كبير الموظفين الإنجليز "بوصالح" مسئول الحراسة في السينما عندما أهمل أو تغافل عن وجود العمال الوطنيين قريبا من الموقع، فإن الرجل "بوصالح" تصرف كما كان يتصرف العربي منذ العصر الجاهلي: الاحتماء بجماعته حين تلحقه إهانة، انطلاقا من أن إهانته موجهة لجماعته، وعليها أن تأخذ له حقه. وهكذا نشبت معركة السينما، انساق إليها العمال دون عمد أو اختيار أو اتفاق أو تحديد أسلوب أو تحصيل هدف.. إنها "فورة" الكرامة، والغضب المكتوم، فكانت حدا فاصلا بين عصر "النخوة" وعصر "ما ينص عليه العقد المبرم" وما يستلزمه النظام. إن تصوير وليد الرجيب لهذه المعركة، غير المتكافئة جعل منها "كوميديا سوداء" تثير الضحك وتستدعي دموع الإشفاق على ربعنا الشجعان الذين لم يحسنوا وضع الشجاعة موضعها. كيف نفهم أن يثور فلاح منتخيا لأبوصالح، حتى يقول:

- "عند وجهك يا بوصالح، ما تنزل دمعة على شيباتك وأنت دخيل النشامى".

ثم يقتلع عمودا خشبيا علقت أعلاه مصابيح الكهرباء، ويحمل على رواد السينما، كما كان عنترة العبسي يحمل على فرسان ذبيان، ويقسم فلاح:

- "بأميمتي الغالية، لأنسي هالحمر حليب أمه، حنا إيدك اللي ترد الإهانة يا بوصالح ". وإذ سقط الصبي "فهد" بضربة طائشة، صاح فلاح كما كان يصيح فرسان الزمان الأول:

- "يا ثار فهد بامية رجل، طاح فهد، وارتفع بين الرجال شانه"!!

غير أن هذا الوعيد كله تبعثر وركض خارجا حين أطلق أحدهم- من الحراس- بضع رصاصات في الهواء!.

في رصد الأعراف وتثبيت طبائع الزمن وملامحه رأينا طقوس تجميل النساء، وخطوات الزفاف، وموكب "المعرّس"، ومن أبدع اللوحات الحية ذلك الحفل- ليلة الزفاف- الذي تبارى فيه الشعراء، ونازل "صقر ثامر" الشاعر "جويعد"، عقب أن اختارهما الحضور للمباراة، بإلقاء لسان الذبيحة أمام الشاعر، واللسان أداة القول، ومن الجدير بالملاحظة أن في الرواية فتى آخر مجهول النسب هو "عبادين " وهو غير طبيعي، وكما هي عادة استجلاب هذا النموذج إلى الروايات، فإنه يمثل أعماق المجتمع البيضاء، ولأنه لا يعني ما يقول، أو لا يملك تحمل مسئولية ما يردد، فإنه يستطيع- وحده دون غيره- أن يعلن الحقيقة، وأن يواجه الآخرين بما يعجز غيره عن إعلانه. إن "عبادين " يشارك بدرية في وحدة الجذور، أو مجهولية النسب، لكنه لا يقاسمها أي صفة أخرى، ولهذا فإن أصل "بدرية"- المسكوت عنه- لم يتشابه مع أصل "عبادين " الذي امتزجت فيه الخرافة بالمحتمل، أو الممكن، وانسحبت الخرافة على واقعه أيضا، حتى أقسم بعضهم أن له علاقة بالجن، وأنه شوهد طائرا مع أم السعف والليف!!.

إن السؤال الخطير الذى يختم به المؤلف روايته يوجهه صبي إلى بقية رفاقه: هل أنتم كويتيون أم لا؟!.

لقد أقر الجميع بأنهم كويتيون.. ومن هذا الأساس أصبح الاختلاف على ما عدا هذا الإطار المستقر ممكنا، ومقبولا، ولا يؤثر على الجماعة، أو المسيرة، وكان هذا اكتشافا ثالثا بعد اكتشاف أمية الحركة الجماعية في مواجهة النوازل، وبعد اكتشاف أهمية أن تتواصل في الكويت مع حدث يجري في مكان بعيد، قد يكون ضرب بورسعيد، أو يجري في مكان قريب جدا، قد يكون إهانة تلحق بفهد أو بوصالح، ليتأكد بالمعنى العملي أننا جميعا كويتيون، وينبغي أن نتصرف على أساس هذه الحقيقة!.

 

محمد حسن عبدالله

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الأديب الكويتي وليد الرجيب





غلاف الرواية