1919 قصة للكاتبة الأمريكية: توني موريسون "الفائزة بجائزة نوبل 1993" سمير أبوالفتوح

1919 قصة للكاتبة الأمريكية: توني موريسون "الفائزة بجائزة نوبل 1993"

ما من شيء عرقل قط الاحتفال بعيد الانتحار الوطني سوى نشوب الحرب العالمية الثانية، إذ كان يتم في كل ثالث من يناير منذ عام 1920، وإن كان المحتفل الوحيد به لسنوات طوال هو مؤسسة المدعو "شادراك "، ورغم أنه كان عند عودته إلى "مداليون" حسن المظهر، إلا أن تلفا أصابه من الداخل، فقد عصفت به أحداث عام 1917، وأذهلته عن نفسه بصفة دائمة حتى أن ذوي الميول الضيقة في المدينة وجدوا أنفسهم أحيانا يتخيلون ما كانت لا بد عليه هيئة الرجل قبل أن يمضي إلى الحرب بسنوات قلائل. لقد كان شابا غضا يكاد يبلغ العشرين ربيعا، رأسه خال تماما من المشاكل، وجد نفسه يعدو مع رفاقه عبر حقل في فرنسا في أول مواجهة له مع العدو، ولم يدر ما إذا كانوا يجرون لملاقاة العدو أم هم يفرون منه، وكانوا قد ظلوا سائرين أياما عديدة بمحاذاة نهير تجمدت المياه عند شفيريه، ثم عبروه عند إحدى النقاط، وما كادوا يفعلون حتى اختلط اليوم كله بالصيحات والانفجارات، وتوالى قصف المدافع من حول "شادراك" من كل ناحية، ورغم علمه بأن لهذا ما يبرره ويقتضيه، إلا أنه لم يستطع أن يستجمع داخل نفسه الإحساس المناسب الذي يتلاءم معه. لقد توقع أن يصدر عنه شعور قوي عارم بالفزع أو بالبهجة، لكنه في الحقيقة أحس فقط بلدغة مسمار في حذائه راح يخزه كلما أنزل قدمه على الأرض، وكان اليوم باردا إلى الحد الذي جعل تنفسه واضحا، وتعجب للحظة من نقاء أنفاسه وسط ما يحيط به من غبار متساقط وانفجارات رمادية اللون، وطفق يعدو كالرمح المسدد مخترقا سيل الرجال المتدفق بسرعة عبر الحقل، وأدار رأسه قليلا ناحية اليمين وهو يجفل من الألم، فرأى وجه جندي بالقرب منه يطير بعيدا، وقبل أن يستوعب الصدمة اختفت بقية رأس الجندي التي بدت مثل طبق حساء مقلوب، وجرى الجسم المقطوع الرأس فى رشاقة وقوة وعناد دون توجيه من المخ، متجاهلا أن أنسجة هذا الأخير تتساقط وتنزلق خلف ظهره.

عندما فتح "شادراك" عينيه وجد نفسه ممددا على سرير صغير، وأمامه على صينية صحفة عريضة مقسمة إلى ثلاثة مثلثات، في مثلث منها أرز، وفي الثاني لحم، وفي الثالث طماطم مطبوخة، وكان بالصحفة كذلك تجويف صغير مستدير يمسك كوبا به سائل مائل للبياض أن يقع، فجعل هو يحدق في الألوان السقيمة، في بياض الأرز الشاحب ذي الكتل، وفي عصارة الطماطم المرتعشة، وفي اللحم البني الضارب إلى السمرة، وكانت المثلثات تستوعب كل ما بينها من تناقض في توازن دقيق، فهدأ ذلك من روعه، وأعاد إليه هو شيئا من توازنه، واطمأن بالتالي إلى أن تلك الألوان، الأبيض منها والأحمر والبني، باقية حيث هي في مواضعها، ولن تنفجر أو تندفع بقوة من المناطق المحددة لها، وأحس فجأة بالجوع، وتلفت حوله باحثا عن يديه، وكانت نظرته حذرة في أول الأمر، إذ رأى أن يتوخى جانب الحذر، فلربما كان ثمة شيء ما هنا أو هناك، فلاحظ وجود كتلتين تستقر كل منهما بجانب إحدى وركيه تحت البطانية البيج، فرفع إحدى ذراعيه بحرص بالغ، فشعر بالارتياح، إذ وجد كفه متصلة برسغه، وكرر المحاولة بالنسبة للذراع الأخرى، فوجد كفه الأخرى كذلك، فمد كفا منهما ببطء نحو الكوب، وما كاد يبسط أصابعه حتى رآها بدأت تنمو كيفما اتفق من كل ناحية من الصينية والسرير معا على نحو ما حدث لساق الغول الخاصة بجاك (1)، فأغمض عينيه صارخا صرخة ثاقبة مدوية، وأسرع بوضع يديه الناميتين الضخمتين تحت الأغطية، وما إن توارتا عن ناظريه حتى بدتا له قد ارتدتا إلى حجمهما الطبيعي، على أن صرخته حملت الممرض على الحضور.

قال الممرض:

- لسنا على استعداد لأية متاعب اليوم أيها الجندي (2)، أفاهم أنت أيها الجندي؟ أفاهم؟. وأبصر "شادراك" رجلا أصلع يرتدي بنطلونا، وسترة خضراء من القطن، ويفرق عن اليمين عشرين أو ثلاثين شعرة صفراء متفرقة ليغطي بها صلعته. وأردف هذا قائلا:

- هلم أقبل أيها الجندي تناول هذه الملعقة، هيا تناولها، فلن يتولى أحد إطعامك إلى الأبد.

فانساب العرق من تحت إبطي "شادراك "، إذ لم يكن في استطاعته أن يتحمل رؤية يديه وهما تنموان من جديد، فضلا عن أنه كان خائفا من الصوت الصادر عن البذلة الشبيهة بالتفاح الأخضر.

وقال الممرض: - قلت لك تناولها، لا داعي لهذا.

ومد يده تحت الغطاء ليقبض على معصم "شادراك "، ويسحب يده الضخمة الهائلة، فنتش هذا يده، وقلب الصينية، ونهض على ركبتيه في فزع، وحاول أن ينتر أصابعه المخيفة بعيدا، ولكنه نجح فحسب في إلقاء الممرض على السرير المجاور.

عندما قيدوا "شادراك" بسترة المجانين كان هادئا وممتنا، فقد حجبوا يديه أخيرا، وحدوا من حجمهما أيا كان قدر الذي حققوه.

حاول وهو ساكن ومقيد إلى سريره الصغير أن يستجمع شتات نفسه وفكره، وود مستميتا لو يرى وجهه، ويربط بينه وكلمة "Private " هذه التي دعاه بها الممرض "وكذلك الذين عاونوه على تقييده"، وظن أن المقصود بها عورة ما، وتساءل عن سبب نظرهم إليه، ومناداتهم له بتلك الكلمة، وقال لنفسه إذا كانت يداه قد تصرفتا على هذا النحو فما باله بوجهه إذن؟، ومن شدة خوفه ولهفته صرف تفكيره إلى أشياء أخرى.

أعني أنه ترك عقله يتسلل من أي مدخل يحلو له من مداخل كهف الذكرى، شاهد نافذة تطل على نهر يعلم أنه مملوء بالسمك، وكان ثمة شخص ما في اللحظة ذاتها يتحدث بنعومة خارج باب.. كان عنف "شادراك" المبكر متزامنا مع وجود مذكرة من إدارة المستشفى بشأن نشر المرضى وعدم تكديسهم في المناطق البالغة الخطر، وكان ثمة أمر واضح بإجلاء بعضهم، وقد أكسبت الأسبقية- أو العنف المبكر- "شادراك" حريته، فضلا عن مبلغ نقدي قدره 217 دولارا، ومجموعة كاملة من الملابس، وصور طبق الأصل من الأوراق الرسمية الخاصة به، وعندما خرج من المستشفى أوقعته بقع الأرض من حوله في اضطراب شديد، فمن بقعة تكسوها الشجيرات المقصوصة، إلى مساحات النجيل المهذب، إلى المماشي الممتدة باستقامة، وتطلع "شادراك" إلى الجوانب الممتدة المغطاة بالأسمنت والتي يشير كل منها إلى جهة ما يحتمل أن تكون هي المقصودة، ولم تكن ثمة أسوار، أو تحذيرات، أو عوائق على الإطلاق بين الأسمنت والعشب الأخضر، ولهذا كان في استطاعة المرء أن يتجاهل في يسر الشريط الحجري الممتد بانتظام، ويتحول إلى الجهة الأخرى التي يريدها، ووقف "شادراك" أسفل درج المستشفى يشاهد أعالي الشجر وهي تتمايل على نحو كثيب، ولكن بغير أذى، فقد كانت جذوعها ثابتة في الأرض لا تملك مع ثباتها أن تهدده، بيد أن المماشي وحدها فحسب هي التي أخافته، وجعل يخفف من وزنه، وأخذ يسأل نفسه عن الكيفية التي يستطيع بها أن يبلغ البوابة من غير أن يمشي على الأسفلت، وبينما هو يخطط لسيره، أين يثب، وأين يدور حول دغل الشجيرات، إذا بضحكة مدوية تروعه، فقد كان ثمة رجلان يصعدان الدرج، ثم لاحظ وجود أناس كثيرين على مقربة منه، أبصرهم فقط في تلك اللحظة، أو رآهم تجسدوا له. رآهم قصاصات ورق كتلك الدمى الورقية المنتشرة في المماشي، والتي يجلس بعضها على كراسي ذات عجل تدفعها من الخلف شخوص ورقية، وبدا له الجميع يدخنون، وقد انثنت أيديهم وأرجلهم بفعل النسيم، ولعل ريحا قوية تهب فتطيرهم إلى أعلى بعيدا، فيستقرون على قمم الأشجار. اندفع "شادراك" بسرعة بالغة. أربع خطوات وصار على العشب المواجه للبوابة، وأبقى رأسه محنيا لكي يتفادى رؤية الناس الورقيين، وأخذ يروغ منهم ذات اليمين وذات الشمال، وضل طريقه، ولما رفع بصره رأى نفسه واقفا بجوار مبنى أحمر وطيء يفصله عن المبنى الرئيسي ممشى مغطى ومن مكان ما هلت رائحة حلوة ذكية ذكرته بشيء مؤلم، وتطلع حوله باحثا عن البوابة، فرأى أنه قد ابتعد عنها توا في رحلته المعقدة فوق العشب، وعلى يسار المبنى الوطيء مباشرة ظهرت له طريق مفروشة بالحصباء تؤدي إلى خارج تلك البقاع، فأسرع يغادر المأوى الذي مكث فيه أكثر من عام، أو ثمانية أيام على ما يذكر هو تماما، وما إن أصبح على الطريق حتى يمم شطر الغرب، وقد تركه طوال الإقامة في المستشفى ضعيفا لا يكاد يقوى على المشي بثبات على أي من جانبي الطريق المفروشين بالحصباء، فجعل يجر قدميه، وتشوش ذهنه أكثر، وتوقف ليلتقط أنفاسه، ثم استأنف سيره ثانية وهو يتعثر، ونضح جسمه بالعرق، ولكنه أبى أن يمسح صدغيه، وكان لا يزال خائفا أن ينظر إلى يديه، وأغمض المسافرون في سيارات الميدان الداكنة عيونهم عمن حسبوه سكيرا يتطوح. كانت الشمس فوق رأس "شادراك" مباشرة عندما أتى مدينة مكونة من بضعة صفوف من الشوارع الظليلة، ولم يلبث طويلا حتى أصبح في قلبها، في حيها التجاري المنظم الهادئ البديع، وجلس إلى جانب الرصيف متورم القدمين منهوكا ليخلع حذاءه، وتحسس بأصابعه رباط حذائه الثقيل ذي الرقبة العالية الذي كان الممرض قد عقده له عقدة مزدوجة، كما يصنع المرء لأطفاله، ولم يستطع "شادراك" من طول ما تعود على عدم معالجة الأشياء المعقدة أن يفك الرباط، فنزع عقده بأظافره كيفما اتفق، وأخذ يغالب خوفا لا سبيل إلى التحكم فيه أو السيطرة عليه، خوفا ليس مرجعه فحسب الرغبة الملحة في التحرر من ألم قدميه المتوجعتين، فقد كانت حياته في صميمها قائمة على التحرر من العقد والمشاكل، وفجأة وبدون أن يرفع جفنيه شرع يبكي.. كان آنذاك في الثانية والعشرين من عمره، وكان ضعيفا، وسريع الاهتياج، وخائفا، لا يكاد يجرؤ على الاعتراف بحقيقة أمره، من هو أو تراه من يكون، بلا ماض، أو لغة، أو عشيرة، أو دفتر عناوين، أو مشط، أو قلم رصاص، أو ساعة، أو منديل، أو بطانية، أو سرير، أو صابونة أو فتاحة علب، أو بطاقة بريد باهتة، أو مفتاح، أو كيس تبغ، أو ملابس داخلية متسخة، أو عمل يؤديه البتة، ولكنه كان متأكدا من أمر واحد فحسب ألا وهو أن يديه ضخمتان وغاية في البشاعة، ولا سبيل إلى كبحهما، وبكى بدون صوت مسموع على جانب رصيف تلك المدينة الصغيرة الواقعة في الغرب الأوسط، وهو يسائل نفسه ترى أين هي النافذة، وأين هو النهر، وأين هي تلك الأصوات الرقيقة العذبة خارج الباب؟.. ومن خلال دموعه رأى أصابعه وهي تعقد الرباط في حذر أول الأمر، ثم بسرعة، وفي تلك الأثناء كانت سيارة الشرطة تجوب الشارع، وكان "شادراك" يعاني من صداع فظيع، فلم يخفف من حدته ما شعر به من ارتياح عندما أبعد رجال الشرطة يديه عما ظنه اشتباكا دائما مع رباط الحذاء، واقتادوه إلى السجن متهما بالتشرد والسكر، وأودعوه زنزانة، وكل ما استطاعه هو أن حدق في الحائط مغلوبا على أمره، فسكن الألم في رأسه، ولبث على هذا الحال المؤلم وقتا طويلا ثم تبين له أنه يحدق في حروف أمر مطبوع معلق هناك كي يشغل نفسه به، وراح يتأمل عبارته، إذ ذهب الألم عن رأسه، وكما يتسلل القمر من ستارة النافذة تسللت إلى ذهنه فكرة تحقيق رغبته القديمة، أن يرى وجهه، فبحث عن مرآة، ولما لم يجد شق طريقه إلى سلطانية المرحاض وهو يخفي يديه خلف ظهره، وألقى نظرة خاطفة على داخلها، وكانت الشمس تنير ماءها بصورة متفاوتة، فلم يقف على شيء فيه، ولما عاد إلى سريره تناول البطانية، وغطى بها رأسه، جاعلا الماء أسود تماما عله يرى صورته فيه، فرأى هنالك وجها أسود حالكا يطل عليه، وكان سواده من التحديد والوضوح بحيث أدهشه، وهو الذي طالما فزع من قبل إلى فهم مضطرب أنه شيء غير حقيقي، بل غير موجود على الإطلاق، أما وقد صافحه السواد بحضوره الذي لا يقبل الجدل، فهو إذن ليس في حاجة إلى مزيد، وفي غمرة فرحه أقدم على ترك حافة البطانية تنزلق، ونظر إلى يديه، فرآهما ساكنتين في وداعة ورقة، نهض "شادراك" عائدا إلى فراشه، حيث استغرق في أول نوم له في حياته الجديدة، نوم أعمق مما تجلبه عقاقير المستشفى، وأعمق من نوى الخوخ والبرقوق، وأكثر ثباتا من جناحي الكندور (3)، وأكثر انسيابا ورقة من حنية البيضة.

نظر الشريف (4) من خلال القضبان إلى الشاب ذي الشعر الملبد، وكان قد فحص الأوراق الخاصة به، واستدعى مزارعا يسأله عنه، فلما استيقظ من النوم أعاد إليه الشريف ثانية أوراقه، ورافقه إلى مؤخرة عربة السكة الحديد، وركب "شادراك" العربة، وفي أقل من ثلاث ساعات عاد إلى "مداليون"، إذ كان على مسافة اثنين وعشرين ميلا فقط من نافذته ونهره وأصواته العذبة الرقيقة خارج الباب، وفي مؤخرة عربة السكة الحديد المدعمة بأجولة مسحوق اليقطين وبذوره بدأ "شادراك" صراعا دام اثني عشر يوما لينظم تجربته ويبلورها، وكان مضطرا إلى أن يفسح للخوف مجالا في تجربته بقصد السيطرة عليها. لقد خبر رائحة الموت، وأصابه الهلع منها، لأنه لم يتهيأ لها سلفا أو يحتط، ولم يكن القتل أو الموت هو ما أفزعه، بل عدم التوقع لكليهما معا، وحلا لكل هذه المعضلات اهتدى "شادراك" إلى فكرة مؤداها أنه لو تم تخصيص يوم في السنة للقتل أو الموت لأقلع كل إنسان عن هذا الطريق، وعاش آمن السرب حرا بقية العام، وعلى هذا النهج أسس "شادراك" عيد الانتحار الوطنى، وفي اليوم الثالث من أيام العام الجديد جاب "شادراك" قاع المدينة باتجاه طريق "كرينتر" وهو يحمل معه جرس بقرة وحبل جلاد، وأخذ يدعو الناس جميعا قائلا لهم إن هذا اليوم هو فرصتهم الوحيدة لكي يقتلوا أنفسهم أو يقتل بعضهم بعضا. كان الناس خائفين أول الأمر، إذ كانوا يعرفون أن "شادراك" مجنون، ولكن هذا ليس معناه أنه لم يكن لديه أي نصيب من العقل أو الإحساس، أو حتى مما نوليه نحن اهتماما أكبر، أعني القوة البدنية، فقد كانت عيناه مفرطتين في الوحشية وشعره بالغ الطول وملبداً للغاية، وصوته ملآن بالثقة والقوة والوعيد، وذلك ما سبب الذعر للناس في أول عيد للانتحار الوطني عام 1920 أو عيد الإجازة، وكان العيد التالي عام 1921 أقل إثارة للفزع، ولكنه كان لا يزال يسبب القلق بعض الشيء، وقد ألف الناس في تلك الآونة أن يروا "شادراك" خلال العام، لأنه كان يسكن على ضفة النهر في كوخ كان مملوكا في وقت من الأوقات لجده لأبيه الذي مات منذ زمن طويل، وكان يبيع في أيام الثلاثاء والجمع السمك الذي يصطاده في صبيحتها، ثم يقضي بقية الأسبوع في السكر والصخب والعربدة، ولكن من غير أن يمس أحدا بأذى أو يتشاجر معه، أو حتى يلاطفه، ولما فهم الناس حدود جنونه وطبيعته تقبلوه على علاته.

وكان الكبار في الأعياد التالية بعد ذلك يختلسون النظر إليه من وراء الستائر وهو يدق الجرس، ويسرع المارة الخطا، ويصيح الأطفال ثم يجرون، ويحاول القرعان أن ينخسوه "رغم أنه كان لا يكبرهم إلا بأربع أو خمس سنوات فقط "، ولكن هذا لا يستمر طويلا، إذ سرعان ما ينهال عليهم باللعن والسب والشتم، ومع مضي الوقت قلّ اهتمام الناس بالثالث من يناير، أو هم بالأحرى ظنوا ذلك، وكذلك كانوا يظنون أن ليس لديهم بطريقة أو بأخرى أية مشاعر أو ميول تجاه استعراض "شادراك" السنوي المنعزل، والحقيقة أنهم ببساطة تركوا التعليق على العيد، لأنهم سربوه إلى أفكارهم ولغتهم وحياتهم.

قالت امرأة لصديقتها:

- لا ريب أن ولادة هذا الطفل استغرقت منك وقتا طويلا، كم لبث المخاض؟.

فأجابت الصديقة:

- حوالي ثلاثة أيام، فالآلام بدأت في عيد الانتحار الوطني واستمرت حتى يوم الأحد التالي، إن أطفالي جميعا أنجبتهم يوم الأحد.

وقال محب لخطيبته:

- دعينا نتم الزفاف بعد احتفالات السنة الجديدة وليس قبلها، إني دفعت نقودا من أجل الاحتفال بليلة رأس السنة.

فردت محبوبته:

- حسنا، لكن علينا أن نتأكد أن ذلك لن يكون يوم عيد الانتحار الوطني، فأنا لست مستعدة لسماع أجراس البقر في أثناء إتمام مراسم الزفاف.

وقالت جدة شخص ما إن دجاجاتها بدأت تضع بيضا بمحين في أعقاب عيد الانتحار الوطني مباشرة.

وتعرض الكاهن "ديل" لموضوع العيد في إحدى خطبه قائلا إن الذين أوتوا نصيبا من العقل يجنبهم دعوة "شادراك" هم أنفسهم الذين يصرون على شرب الخمر، وهم أنفسهم الذين ينغمسون في الشهوات والملذات حتى الموت، "فهل ترانا حقا تفهمنا دعوة "شادراك"، وأنقذنا الحمل الضال من التردى في الخطيئة". وبذلك أصبح عيد الانتحار الوطني في هدوء ويسر جزءا من نسيج الحياة في قاع مدينة "مداليون" بولاية "أوهايو".

 

سمير أبوالفتوح

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




الكاتبة الأمريكية توني موريسون