جويا: فنان ثائر ولوحات سوداء السيد القماش

جويا: فنان ثائر ولوحات سوداء

لقد ولد المرض والعزلة داخل أعماق هذا الفنان أطيافا وأشباحا غريبة، وجاءت اللوحات التي عبر فيها عن مكنون نفسه مليئة بالعنف والجراءة وذات لغة مختلفة، لذلك فقد فتحت عصراً جديداً من الفن.

ولد جويا GOYA في قرية فوين دي تودوس FUEN DE TODOS التي تقع بإقليم أراجون ARAGON على بعد عشرين ميلاً من جنوب مدينة سرجوس بإسبانيا ومازال المنزل الذي ولد فيه قائما وقد حول إلى متحف يزوره الجميع من محبي فنه: وتوفي في بوردوس BORDEOS في السادس عشر من أبريل عام 1828 ميلادية. وكان جويا أحد أربعة أطفال ولدوا لخوسي وزوجته جراسيا جويا من مواطني سراجوسا، وكان خوسي ابناً لكاتب عمومي، ولقد عمل في هذه المهنة ولكنه تركها واشتغل بالزراعة بدون نجاح كبير ليفلح قطعة أرض في فوين دي تودوس كانت ملكاً لزوجته. أما دونيا جراسيا DONA GRACIA- والدته- المولودة في لوسينتس فقد كانت تجري في عروقها الدماء الزرقاء أكثر مما تجري في عروق زوجها، فقد كانت تنتمي لطبقة ملاك الأراضي الفقراء الذين يعيشون في فقر مدقع، ولكنهم حريصون على أصولهم العريقة. أما إخوته فهم، توماس TOMAS الذي كان أبرع من عملوا في مهنة التذهيب. أما أخوه كاميللو CAMILLO فقد دخل سلك الكهنوت. أما شقيقتهم ريتا RITA فقد ماتت بلا زواج وهي في الثلاثين من عمرها.

وفي عام 1749 انتقل خوسي والد جويا بأسرته إلى سراجوس بعد أن مل فلاحة الأرض ليعمل في مهنة التذهيب، وسكن منزلاً في حي المغاربة القديم، وعندما بلغ جويا الحادية عشرة أرسله والده إلى مدرسة مؤسسة سراجوس، وهي تابعة لطائفة البيارست وتعرف باسم ESCUELAS PIAS وقد تأسست في القرن السادس عشر على يد القديس جوزيف كالاسانتيوز لتعليم أولاد الطبقة العاملة تعليماً أولياً بالمجان، وهناك تعرف على مارتين زاباتير ZABATER الذي أصبح صديقه الحميم ومحل ثقته ومرجعاً أصيلاً لتقصي الأخبار عن حياة جويا.

مدريد مدينة قذرة

كانت إسبانيا في الوقت الذي ولد فيه جويا على درجة كبيرة من الإهمال فالعاصمة مدريد كانت تعيش في جو من الفوضى والظلام، مما تسبب في تكدس القاذورات بها، والإهمال في إنارتها، كما كان تهاون رجال البوليس سبباً في انتشار العصابات وقطاع الطرق.

وهذا النقص في الخدمات البسيطة الأولية والأمنية كان بداية الضعف في الجهاز الحكومي، وقد امتد هذا الإهمال إلى قطاع التعليم أيضاً فلم تعطه الحكومة القائمة حينذاك أي اهتمام، وكان أقصى ما قامت به هو تشجيعا بسيطا للإصلاح الزراعي، وقليلا من التجديدات في الطرق الصناعية والتجارية بهدف حماية المصالح القائمة وليس بغرض إعادة إصلاحها، كما كانت الكنيسة تمتلك مساحات شاسعة من تلك الأراضي، التي كان يقوم بفلاحتها الغالبية الفقيرة من الفلاحين المستأجرين. أما الطبقة الأرستقراطية فقد كانت هي أيضا سبباً في استمرار الحياة المتدهورة وغير المستقرة. هكذا عايش جويا هذه الحياة في طفولته وتأثر بها كما تأثر أهل بلدته التي كانت تعاني من التخلف والفقر والجهل، والسبب قلة وجود المياه وندرة المطر مما جعل سكانها يعيشون في شظف من العيش، لا يكادون يحصلون على قوتهم من محصول الأرض القليلة العطاء، والتي تظل في معظم أوقات السنة شبه جرداء. أما أهم الأزمات الاجتماعية التي كان لها أكبر الأثر على حياة جويا في الفترة التي سبقت تصوير لوحاته السوداء التي نحن بصددها فهو التأثير العميق للمرض الذي أصابه عام 1792، ليس فقط على حياته كإنسان، بل على فنه وحياته الفنية، فهذا المرض قد فاجأ جويا وهو في أوج حياته الفنية، وكان في السادسة والأربعين من عمره وفي قمة نجاحه، ففي خريف عام 1792 كان مسافراً إلى الأندلس في جنوب إسبانيا لرسم جزء من محراب في كاديز CADIZ، فداهمه مرض شديد وهو في أشبيلية وحاول عدد من رجال الطب بكل الوسائل أن يشخصوا المرض، منهم من قال إنه قد أصيب بالزهري، ومنهم من قال إنه يعاني من انفصام في الشخصية وتنتابه نوبات من التشكك من وقت لآخر. ومنهم من قال إنه يعاني من اضطراب في السمع، ويشكو أيضا من ضعف الإبصار ويعاني من الدوار، وانتهى به الأمر كما حدث للموسيقار الألماني بيتهوفن (1770- 1827) إلى صمم كامل.

ولكن في جميع الأحوال فإن مرضه هذا قد أوجد قطعاً في حياته وفي أعماله الفنية، فإن الصمم الذي أصابه قد عزله عن العالم وأغرقه في أعماله الفنية وقد جعله ينطوي على نفسه وينمي نظرته التشاؤمية للعالم، ويزداد نقده اللاذع للهياكل الاجتماعية، وينمو أسلوبه الساخر، واتسعت قدرته على التخيل. كل ذلك كان له أثر على لوحاته الفنية السوداء. ففي فترة الركود الفني وبسبب فترة النقاهة من مرضه، نمت في عقله ووجدانه أشكال وتأثيرات وتكوينات وزوايا وتخطيطات اختبارية إنسانية تتفاقم وتتعاظم يوماً بعد يوم في داخل نفسه.

وقد أخذ جويا يبحث عن نفسه وكيفية تحريرها بوسيلة غير محددة وشخصية بحتة بحيث تتدفق فيها عبقريته وتخيلاته وخصائصه الفنية. ومن هنا ولدت أعماله السوداء، ففي العقل الصامت للفنان الأصم، تكون حدة البصر وتخيلاته من أقوى الحواس التي تسجل كل ما يحيط به من حركات وخطوط وأشكال تندمج في ذاكرته الفنية وتجعلها تتفجر بعد ذلك في أعمال فنية رائعة نابعة من نفس مقهورة من المرض، محددة بالصمم، ذات نظرة تشاؤمية لما حولها. بعد مرض جويا الخطير الذي أنهكه في نهاية عام 1819 ميلادية والذى جعله أكثر تشاؤماً، قرر أن يجعل (يرسم) وصيته في العمل الأخير الذي ضمنه ما يريد أن يقوله للأجيال القادمة، لقد عبر عن كل ما يستطيع أن يعبر عنه من خلال صوره ورسوماته السابقة، وبعد شفائه وتصويره لصورته الشخصية مع طبيبه أرييتاARRIETA في عام 1820 كرس جويا جهوده لهذا المشروع الضخم، فرسم بالألوان الزيتية أربع عشرة لوحة، يبلغ مساحة البعض منها ستة أمتار مربعة وهذه اللوحات معلقة على حوائط منزله، ومن الأرجح أنها بجانب بعضها البعض الآخر. إن جويا كان يدخر في نفسه علي الرغم من كبر سنه حبه للتصوير على الجدران، فلم يصمد أمام إغراء حوائط منزله الريفي، واستيقظت بداخله الرغبة في أن يغطي هذه الحوائط بأشكال وهيئات غريبة، مستمدة من الخيال، وبدلاً من أن يزخرف، فقد رسم بنفس القوة المعهودة في أعماله الحائطية، فجويا يرسم بحرية هذه التشكيلات الكبيرة التي تمده وتمنحه حرية الحركة والقدرة الكبيرة على الابتكار. وإذا تركنا جانبا الفرق الذي يوجد بين تكليف ملكي برسم حوائط كنيسة، وما رسمه جويا من رسومات سوداء لاكتشفنا أن المسافة بين هذا وذاك مختلفة تماما. ويقوم جويا بتغطية كل حوائط منزله ليستدعي كل الأطياف والأشباح التي تؤنس وحدته، فشعوره المظلم الأسود يولد رسومات سوداء بنفس القوة واللهيب، وبنفس العنف أيضا تولد الأشكال القوية والمعبرة على الخلفية المظلمة، تستدعيها فرشاته فتأتي مسرعة تنهض بالحياة وكأنها تمثيل حقيقي ونسخة أصلية للواقع. ولقد نفذت هذه اللوحات بالألوان الزيتية مباشرة على الجص، وهي تعبر عن خلاصة خمسين عاماً من الصراع ضد الضغوط والعبودية في مجال عمله، ونصف قرن قبل الانطباعية ظهرت أجمل أمثلة الحرية في الفن.

وضحية محاكم التفتيش

إن جويا قد اختار هذا التقاعد في منزله لكي يهرب من البلد الذي سيطر فيه الرياء والوشاية والاضطهاد. لقد أصبحت الحياة لا تطاق فقد عاد التفتيش الجنائي إلى فتح ملف باسمه وأصبح في كل لحظة يستطيع أن يخترق حياته الخاصة. إن هذا المنزل يمثل لجويا في ذلك الوقت الذي سادت فيه الفوضى السياسية والاقتصادية في إسبانيا حينذاك، مرفأ أمان، وبعداً عن هذه الفوضى، وقد يكون هذا قبره. في لوحات هذا المنزل أطلق جويا الفنان المكبوتات التي اختزنها في أعماقه وكانت ثمرتها أربعة عشر تصويراً جدارياً ضخماً، صور ستة منها في غرفة الطعام بالطابق الأرضي، وثمانية بقاعة الجلوس بالطابق العلوي وقد صورت هذه اللوحات مباشرة على الجدران الجصية لأكبر حجرتين بدون مسودات أو دراسات مبدئية أو تحضير لها، فهذه اللوحات أصيلة في تصويرها على نحو رائع، فكل الفنانين يعيشون بشدة في لوحاتهم، ففي هذه اللوحات لم يكن ينقل صورة من اللاوعي إلى الورق أو قماش التصوير فحسب، ولكنه أيضاً يحاول تجسيد العالم الروحي لعقله عن طريق هذه اللوحات الناتجة عن حصيلة البيئة. فهذه اللوحات يمكن رؤيتها على أنها بدائية غريزية تحاول تحليل النفس، ولها نفس نهاية طريقة التحليل النفسي الحديث. إن جويا كان يؤمن بأن الخيال المهجور من العقل ينتج فناً مستحيلاً. لقد أبدع جويا في لوحاته هذه (السوداء) عالماً خيالياً لم يكن مستمداً- كما كانت العادة السائدة في وقته- من قصص الإنجيل، أو من الموضوعات التاريخية، معظم عناصره لساحرات ومردة، وأشخاص مشوهين، وأناس بسطاء مقهورين، وقد يرى البعض أن هذه الأعمال هي بمثابة وثيقة اتهام يقدمها جويا ضد قوى القسوة والظلم التي عاشتها إسبانيا في عصره، إن العديد من هذه اللوحات يظل تجسيداً لكوابيس ورؤى وأحلام الفنان نفسه، ونادراً ما صورت الساحرات والشياطين والمخلوقات الوهمية بشكل مقنع مثلما صورها جويا، فقد رسم تلك المسوخ البشعة متعلقاً بمحبتها تقريباً، فلقد رسم وصور ما أحسه بالكثير من موجهات العقل في عصر التنوير، ولم تكن اللوحات السوداء مصادفة أو طفرة في عمل جويا، فطالما صور السحرة وخاصة في مجموعة النزوات، والأمثال، كما صورهم أيضاً في لوحاته الراقية في عام 1798 م، ولوحة راحة السحرة والتي صورها في عام 1789.

منزل الأصم من الداخل

على جانبي الباب الرئيسي من جهتي اليسار واليمين، لأكبر حجرات الطابق الأرضي لمنزل الأصم، توجد لوحتان بالحجم الطبيعي، إحداهما لامرأة جميلة أخاذة، ويقال إنها لـ" دونيا اليوكادياويسي" وهذه اللوحة هي الوحيدة التي تفلت من عالم الكوابيس، كما لا تعتبر كابوساً مزعجاً، أعتقد أن هذه اللوحة هي التي تحدد المعنى الحقيقي لبقية اللوحات، حيث تتوالى مثل تتابع لرؤية الآخرة المحرمة على الأحياء، الصورة النفسية هنا داكنة، أعتقد أن جويا ذهب بعيداً جداً وعميقاً إلى المعنى ولم يهتم كثيراً بالنسب ولا القوانين التشريحية.

واللوحة الأخرى وهي على الجانب الأيمن من الحجرة تسمى "الشيخان" والتي تساويها تقريباً، وهي دراسة غير دقيقة لرجلين أحدهما مسن ورصين والآخر قلق شرير يهمس في أذن العجوز، أما المرأة التي نراها في اللوحة فيبدو أنها تصور الصحة نسبياً، ترتدي السواد على عكس العجوزين، وأعتقد أنها تمثل اليوكاديا والتي جعلها جويا كما لو كانت شاهدة على الكابوس الخاص به. والرؤية مظلمة عنيفة ذات تأثير دفين.

أما لوحة بيبلكيال جوديث، والتي تناظر لوحة زحل فهي تمزج بين الموت والدم والقهر الشديد للرغبة الظمأى، وقد صورها جويا تلوح بسكين مستعدة لجريمتها الشهيرة، وهنا ارتبط جويا بالقصص القديمة. وفي اللوحة نرى جوديث بمساعدة خادمة عجوز تقتل القائد الراقد في الظلام عند قدميها، وأعتقد أنها مثال يبين تسلط فكرة الانتقام الأنثوي عند جويا، أو أنه يشعر بمرارة الفوضى السياسية والاجتماعية، وتعتمل بداخله فكرة الانتقام لإنقاذ شعبه من شرور من يتسببون في ذلك ولو على يد امرأة كما حدث في القصص القديمة. ولقد كانت الجوديث موضوعا خصباً تناوله العديد من عباقرة الفن في عصر النهضة من بينهم مايكل أنجلو (1475- 1514)، وكذلك اندريا مانتينيا (1431- 1506) وأيضاً الفنان الإيطالي أنطونيو كوريجيو، وقد تناول أيضاً الفنان الرسام الفرنسي جوستاف مورو (1826- 1898) هذا الموضوع مع الاختلاف في الشكل والأداء والأحجام والألوان أيضا، وعلى نفس الجدار بعد اللوحة السابقة توجد لوحة زحل يلتهم ابنه، وتعتبر هذه اللوحة من أقوى لوحات المجموعة وأكثرها رعباً، وهي تصور أسطورة الإله زحل وهو يلتهم أحد أبنائه وهو والد الكثير من آلهة الإغريق، بلغته نبوءة أفزعته بأن أحد أبنائه سيعلوه، فأكل أبناءه واحداً بعد الآخر إلا جوبيتر الذي أخفته أمه، في هذه اللوحة نجد أن جويا قد عاد إلى تصوير الأساطير القديمة، فاختار أسطورة زحل التي قد يكون لها ارتباط بالأحداث التي تقع في بلاده. والتكوين قوي والتعبير مأساوي ولا نجد خطوطاً بل إضاءات وضربات فرشاة مليئة بالإثارة والخوف. ويلعب موضوع زحل، دوراً مهما في مجمل اللوحات السوداء كرمز للكآبة والخراب؛ وهو يعبر عن هول سكرات الموت. لقد كان زحل آكل لحوم البشر موضوعاً خصباً للعديد من الفنانين ومن بينهم روبنز (1577- 1640).

سحرة ومشعوذون

وعلى الحوائط الكبيرة لنفس الغرفة توجد لوحتان عملاقتان مزدحمتان تواجه كل منهما الأخرى إحداهما تصور راحة السحرة أو التيس الكبير، وقد صور فيها جويا مناظر تسودها القتامة وخوف لا عقلاني من المجهول والحس الداخلي بالبشر، صور فيها الماعز تتكلم إلى حشد السحرة والمشعوذين وأنصاف الآدميين بعيون غائرة، وجه بعد وجه في هذا الزحام ينطق بتعبير حيواني مغلق على الخرافة فكل منهم قد فقد خصائصه الإنسانية، فأنوفهم كبيرة ورءوسهم ثقيلة مليئة بالذعر الخفي المشحون بالقلق والتوتر، كما يبدو أنهم ألحقوا بأنفسهم خسارة باشتغالهم بالفنون السوداء، وعلى عكس تلك الوجوه توجد طفلة صغيرة في الأرض السوداء جالسة تطفئ يديها في موقد في أقصى اليمين بعيدة عن الحشد ولكنها تظهر منومة مغناطيسياً بسحرهم الشرير، أما الفراغ الذي يحيطهم فهو قاتم مثير للدهشة، ضربات فرشاة خشنة أصبحت هي كل شيء ، هي التي يخرج منها اللون والضوء والملابس ولون الأجساد والتعبير. أما لوحة تجلي حجاج القديس ايسيدور، وهو الراعي لمدريد وإقامة القداس فقد كانت في شكل نزهات وغناء ورقص وشرب للخمر، والمعربدون هنا في هذا المهرجان البدائي المتألق المصقول بالجنون مشدودون بعضهم إلى البعض الآخر في قطيع، وجوههم مخبولة في ابتهاج، يشربون ويغنون لينسوا، ووجوه المغنين التي تسود اللوحة مشوهة والذهول يعم الحشد، وعليهم هيئة أناس يعملون بأيديهم بواسطة بعض القوى الشريرة. إن جويا قد صور في لوحة "راحة السحرة" ولوحة "القديس ايسيدور" كلا من بغضه المتصل اللاعقلاني وافتتانه المتواصل بها. أما في الحجرة التي بالطابق العلوي فإننا نجد دراسات متضادة في لوحة "امرأتان مبتسمتان"، فقسمات وجهيهما ملتوية مرعبة، وكأن تلك اللوحة مشهد من مشاهد سقف كنيسة سان انطونيو، ولكن بعد مرور وقت من الزمن عليها، فقد تغيرت ملامح الوجوه وأصبحت مرعبة مثيرة.

أما لوحة رجال يقرأون، فبالرغم من أنهم حول شيء يقرأونه إلا أن كل واحد منهم في حالة خاصة مليئة بالتوتر والمعاناة والخصوصية الزائدة المليئة بالقلق، ويلعب الضوء دوراً مهماً في إظهار تلك الأحاسيس.

أما لوحة العجوزين، فهما يأكلان العصيدة في فميهما الخاليين من الأسنان، وهما يذكراننا بالرجل الشحاذ الأهتم في سقف كنيسة سان انطونيو. وعلى عكس هاتين اللوحتين بل على عكس كل اللوحات السوداء توجد مشاهد للإيمان بالعقل وسط جنون العالم، فهناك أربع لوحات كبيرة، أكثرها وحشية لوحة القتال بالهراوات: فهذه اللوحة ليست إلا صراعاً همجياً بضربات الهراوات، فنرى فيها رجلين يضرب كل منهما الآخر بهراوة بدون رحمة وأحدهما غارق في دمائه بشكل سيئ، وقد غارت سيقانهما حتى ركبهما في مستنقع، مانعتهما من الهرب، دافعة لهما على مواصلة القتال حتى النهاية الوحشية، وربما يرمز هذا المأزق البشع إلى قتال الإخوة في الحرب الأهلية التي كان جويا شاهداً لها، وأعتقد أن تورط الاثنين المتحاربين حول هذا المشهد الفخم إلى كابوس مخيف، وهذه الجدارية هي دليل على الاشتعال والنار والتأجج الذي كان يشعر به جويا جيداً. أما في لوحة الكلب، فهي تقع في نفس القاعة التي نجد فيها لوحة المبارزة، حيث نرى الرأس فقط هو الذي يحيا فيه، هذا المشهد الميت المثير يتصدى لكل التحليلات والأفكار ولا يظهر سوى هلوسات وعالم اللامعقول، ونرى رأس الكلب خاضعا للواقع الذي يراه جويا حينذاك. أما لوحة الحج إلى نافورة سان أيسيدور والمعجزة، فنرى فيها الأفراد يتدفقون بعيداً عن النور (العقلي) ونحو غاية مظلمة داكنة تعبر عن المجهود. ألا يكون ذلك هو ظلمة الوحشية القاسية التي عانى منها جويا؟!.

عالم متوحش وانفجارات جامحة

أما لوحة الأقدار، فنرى أربعة أشكال تطير في الفراغ وتحوم باطمئنان مرح فوق العالم منتظرة لتضرب إلى أسفل واحدا أو الكل، ويمسكون في أيديهم بعض الأشياء المثيرة للتساؤل. لوحة رؤية خيالية، وفيها شخصان يسبحان في الهواء نحو مدينة على صخرة عالية مجابهة لهما، ويطوفان فوق حشد من الناس غافلين عن جنديين يصوبان بندقيتيهما عليهما.

إن كل هذا العالم المتوحش والمنبعث من هذه الرسوم، يعبر بحق عن الانفجارات التخيلية الجامحة في نفس جويا النابعة من رجل وحيد يقطع كل صلاته بالعالم من حوله، هذا العالم الذي لم يقدم له طوال حياته إلا مشهداً يلازمه من التفاهة والقسوة.

والجدير بالذكر أن- البارون لانجيز- قد أنقذ تلك اللوحات السوداء من الضياع باقتنائه لمنزل الأصم عام 1873، ونقلت جميع اللوحات من على الحوائط وحولت إلى لوحات منفصلة وعرضت في معرض في باريس عام 1878، ثم حفظت في متحف البرادو بمدريد. وتسبب نقل هذه اللوحات من على الجدران في جعل العديد من المعاصرين له يقومون بعمل خرائط لأماكن وضع تلك اللوحات على الجدران ولكن المؤكد أنهم قد اجتمعوا على قائمة واحدة مع اختلاف بعضهم بعض الشيء.

 

السيد القماش

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




صورة شخصية للفنان جويا وهو في أواخر سنوات عمره ألوان زيتية متحف البرادو، مدريد





لوحة.. ساتيرين يأكل أولاده (1820-1823) ألوان الزيت على الجص





القتال بالهراوات (1820-1823) ألوان زيتية على الجص متحف البرادو - مدريد





لوحة عجوزان بأكلان العصيدة (1820-1823) ألوان زيتية على الجص