جيبوتي: الخروج من حلقة الفقر صادق يلي تصوير: حسين لاري

جيبوتي: الخروج من حلقة الفقر

في هذه القطعة الصغيرة من ذلك القرن الإفريقي النازف منذ مهد الجوع وبداية الألم، والتي تستند بظهرها إلى قارتها المزدحمة بالوجوه المكدودة والأيادي الناحلة والصراعات القبلية والعرقية وتراث الدم والكوارث والقهر، كان التاريخ هنا منذ بداياته. هكذا تقول الحقائق العلمية الحديثة، في جيبوتي بدأ الاستيطان البشري قبل ما يقرب من مليوني سنة، وفيها ظهر الكائن "لوسي" الذي يعد أكثر أسلاف الإنسان قدما.. إنها إذن "مهد الإنسانية" حتى لو كان القادر قد أرغمها على اختيار "الانطواء"، وأعطاها ذلك الشكل الذي تصل وداعته الظاهرة درجة الابتئاس.

في البداية كان الأمر غامضا لدينا، حين كُلفنا "أنا وزميلي المصور" بإنجاز هذا الاستطلاع، فمعلوماتنا عن هذا البلد العربي الإفريقي لم تزد عما أوردته الكتب المدرسية وبعض الدوريات القليلة التي تتناوله بجمل مقتضبة ضمن ما يرد بها عن الدول العربية، أو الإسلامية أو حتى الإفريقية.

كان الأمر غامضا لنا، ولعل هذا الغموض هو ما حفز روح المغامرة ودفعنا إلى ما يشبه الكشف عن مجهول ما كان ينبغي أن يظل بعيدا عن الذهن والقلب أيضا.

.. في الطائرة التي أقلتنا إلى العاصمة واسمها هو نفس اسم الدولة، ظللت أبحث عما يفك تلك الطلاسم التي لا تزال عالقة، التفت يمينا ويسارا لأرى ما يساعدني على إزاحة تلك الغلالات الضبابية عن بلد سأطأ ترابه بعد ساعات للمرة الأولى، دون أن أجد في النشرات الدعائية ما أريد والتي لا تهتم سوى بإيراد أرقام تكتظ ولا تنتهي عن حجم الإنجازات وتعددها في كل المجالات، بحثت عن بشر أتكلم معهم لغتنا "العربية" المشتركة، فلم يصل إلى أذنيّ إلا أحاديث متقطعة بالفرنسية، وبلغة أخرى لم أكن أعلم عنها شيئا قبل أن أصل وزميلي المصور إلى مطار العاصمة لتصافحنا وجوه سمراء نحيفة، تمتزج فيها السماحة ببراءة وود نادرين.

كل شيء يتغير

.. في الطريق إلى الفندق علم سائق التاكسي أننا عرب، فأخذ يحدثنا بلغتنا، ولما سألنا إن كانت هي المرة الأولى التى نزور فيها بلاده، وأجبناه: نعم، تطوع بسرد كل ما طرأ على ذهنه وتفسير كل ما مررنا به من طرق وبنايات وأماكن حكومية وأحياء شعبية وأخرى لكبار القوم، هذا شارع "نيلسون مانديلا" وكان اسمه في السابق شارع "الأمبولي" وهو شارع مشهور جدا هنا، فهو المكان الذي تعبره سيارة أوراق "القات" تحيط بها حراسة مشددة، قادمة من مطار جيبوتي بعد أن تحمل الكمية التي ترد إلى البلاد يوميا في الواحدة ظهرا قادمة من إثيوبيا. وهذا شارع حميد لويكا الذي كان اسمه سابقا شارع العيسى، وهذه هي المحكمة الشرعية التي تقع بشارع عبدالله جديد وكان يسمى في السابق شارع "العفارين".. استطرد السائق: "ألا ترى إذن أن كل شيء في جيبوتي قد تغير".

.. لم أفهم تحديدا أي تغير يقصد، فالذي أراه أمامي للوهلة الأولى يبدو متواطئا بشدة مع الماضي، ذلك ما يمكن لأي زائر أن يخرج به من انطباعات، فكل هذه الشوارع التي مررنا بها والتي تعمد سائق التاكسي- ربما- أن يمر بنا خلالها لنلمس ما أسماه تغيرا، كان العادي فيها صارخا، و"الحديث" لا يكاد يرى فيه القادم من بلاد أخرى أية مسحة لحداثة، ينطبق هذا على الشوارع وينطبق أيضا على بعض الأحياء التي وصلت أسماؤها لأسماعنا منه، ومنها حي "هرون" الذي يقال إنه كان سكنا لرؤساء دول منظمة "آجاد" وتعني منظمة التنمية ومكافحة الجفاف والتي تشكلت من الدول الست المتجاورة "إثيوبيا، كينيا، أوغندا، جيبوتي، الصومال، السودان"، وهو الحي الذي تحول اسمه فيما بعد إلى حي "آجاد" وبعده أخذت عدة طرق أخرى أسماء عواصم دول تلك المنظمة فحملت أسماء "كمبالا، مقديشيو، أديس أبابا، نيروبي، الخرطوم". ما استوقفنا حقا هو منظر شرطة المرور النسائية بملابسها الرسمية وهن واقفات على تقاطعات الشوارع الرئيسية يضبطن حركة السير بكفاءة عالية، وباحترام شديد من قائدي السيارات والعابرين باتجاه الخطوط الأرضية وهو ما دفعنا لقراءة "جيبوتي" بعيون أخرى.

بداية الغزو

وهو أيضا ما جعلنا نبحث عن قصة هذا الشعب منذ حمل هويته الوطنية، وهذه القصة تبدأ من ذلك الموقع الاستراتيجي الذي وجدت جيبوتي نفسها تحتله، والذي ألقى بها على عرض المحيط الهندي لتكون بمثابة مفترق حيوي، وهو ما دفع الآخرين للانتباه إلى أهمية ذلك البلد، وتوجيه الأطماع بالتالي نحوه. وهكذا في صباح أحد أيام العام 1889 حط القائد الروسي أتشينوف ومعه 150 من الجنود القوزاق رحالهم في شاطئ خليج "تاجورة"، بعد أن أوصلتهم إحدى السفن الحربية إلى هناك ومعهم بعض الكهنة الروس بهدف إقامة صلة ما بين الإمبراطوريتين المسيحيتين في كل من الحبشة وروسيا، وعندما نزل القوزاق إلى الشاطئ واحتلوا على الفور حصن "سجالو" ثم فرضوا إتاوة على قوافل "العفارين" المارة هناك، كاد حادث دبلوماسي خطير أن يقع، إذ وجه المفوض الفرنسي- وكانت جيبوتي قد خضعت لتوها لإدارة فرنسية مستحدثة- إنذارين لإخلاء المكان من القوزاق بزعامة قائدهم أوتشينوف مما دعا قيصر روسيا لتقديم اعتذار رسمي عن هذه الحملة التي ما لبثت أن ارتدت على جناح السرعة نحو بحر البلطيق.

لكن التاريخ لا يبدأ من هذه الحادثة وإن كانت إحدى علاماته الفارقة في العصر الحديث، ففي الزمن الأكثر قدما كانت ملكة مصر الفرعونية حتشبسوت توجه حملتها في العام 1500 قبل الميلاد إلى بلاد "بونت" (وتشمل جيبوتي) بحثا عن العطور، وفي الزمن الأقل قدما تكونت أول دولة إسلامية في المنطقة "الشاو" بقلب إثيوبيا الحالية وتحديدا من عام 890 وحتى 900 بعد الميلاد.

وهي ليست الدولة الإسلامية الوحيدة، فمنذ وصل الإسلام إلى جيبوتي في عام 630 ميلادية، كانت مملكة "إيفات" الإسلامية تجمع الأقاليم الممتدة من "زيلع" في الصومال شرقا حتى "شلوا" في الحبشة، ومن القرن الرابع عشر حتى السادس عشر قامت وتطورت ممالك أخرى باسم الإسلام، وكانت القرون الثلاثة الواقعة بين 1300 وحتى 1600 قد شهدت نشوء وانحلال أكبر مملكة إسلامية في ذلك الوقت، وكان عام 1543 قد شهد موت الفاتح الصومالي أحمد إبراهيم الغازي الذي اشتهر بكنيته "الأشول" تاركا مع موته بداية تحلل دولة إسلامية كبيرة كان قد رفع لواءها في تلك المنطقة.

وتميزت القرون التالية بسيطرة العثمانيين على أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي والدول الإفريقية لدرجة أن القائد العثماني "سليمان العظيم" استطاع أن يسيطر علي مضيق باب المندب في ذلك الوقت محولا البحر الأحمر إلى بحيرة خاضعة لنفوذه التام، وقد ظل الأمر على هذا الحال إلى أن دخل نابليون بونابرت إلى مصر مع بداية القرن التاسع عشر، وعندئذ بدأ الأوربيون في طرح ما أسموه المسألة الشرقية، وفي عام 1839 احتل الإنجليز عدن فلجأت فرنسا على الفور إلى البحث عما يحقق لها التوازن أمام الحضور الإنجليزي هناك، فكان أن وقعت اتفاقية تحالف وصداقة في العام 1862 مع سلاطين "العفار" إحدى القبيلتين الرئيسيتين في جيبوتي تخلى فيها العفار عن حقوقهم في ميناء "أوبوك" داخل مضيق باب المندب، مقابل 10 آلاف تالر، وهي عملة قديمة عبارة عن قطعة مسكوك عليها صورة ماري تريز النمساوية، وقد أعطيت هذه العملة بعد تحريف في حروفها اسم "الدولار" فيما بعد. وفي الفترة الواقعة بين عامي " 1884 - 1885 " دخلت إيطاليا إلى حلبة الصراع على هذه المنطقة، فاتفقت الدول الأوربية الثلاث فرنسا، إيطاليا، إنجلترا على اقتسامها بينها، فصارت زيلع وبربرة من نصيب إنجلترا، ومصوع وعصب من نصيب إيطاليا، وأوبوك وتاجورة من نصيب فرنسا.

افتتاح المدينة

أما في العام 1888 وتحديدا في مارس منه، فقد أعلنت فرنسا رسميا عن افتتاح مدينة جيبوتي وعينت برهان أبوبكر كباي حاكما لها، ولم تكن تلك البلدة تحتوي إلا على سوق واحد في ميدان "منليك " (ميدان 27 يوليو حاليا). وبعد الحرب العالمية بدأت جيبوتي تأخذ ملامحها كمدينة كبيرة ذات مرافق مهمة إلى أن كان إعلان الحرب الفرنسية الإيطالية بمثابة نكبة على المدينة، إذ إنه أخضعها إلى محنة مرعبة عانت خلالها من آثار الحصار، وقد عم الجوع فيه بعد أن أغلق الميناء وخط السكة الحديد.

ظل الحال كما هو إلى أن وصل إلى نقطة تحول مهمة في أغسطس 1966، إذ انفجر الغضب الشعبي مهددا زيارة الجنرال ديجول رئيس الدولة الفرنسية لجيبوتي، وبعد استفتاء1967 تغير اسم "الصومال الفرنسي" إلى "الأراضي الفرنسية للعفار والعيسى"، وفي العام 1975 تجمعت المعارضة تحت راية: "الرابطة من أجل الحصول على الاستقلال"، إلى أن استطاعت في 27 يونيو 1977 الحصول على استقلال بلادها وامتلاك مصيرها بيديها.

قراءة في الجغرافيا

.. تقع جمهورية جيبوتي في منتصف المسافة بين خط الاستواء ومدار السرطان، ويعود مصدر أهميتها إلى موقعها الاستراتيجي، فهي تقع عند مصب البحر الأحمر وخليج عدن أي بين السويس والشرق الأقصى، وتمتد حدودها التي تتجاور مع إريتريا وإثيوبيا والصومال نحو 300 كيلومتر إلى الغرب والجنوب على الحدود الإثيوبية وإلى الشمال مع حدود إريتريا، وتمس حدودها من الجنوب والشرق الصومال، وتمتد شواطئها 370 كيلومترا من رأس دوميرا في الشمال إلى قرية لوي عدي في الجنوب وتبلغ مساحة أراضي جيبوتي حوالي 23 ألف كيلو متر مربع، وهي تقع لسوء الحظ أو لحسنه في قلب منطقة انهيار أرضي يمتد من البحر الأحمر حتى مرتفعات الحبشة والصومال، ويغدق عليها بما يسببه من تحولات في تضاريس الأرض ذات الأصل البركاني، بثروات معدنية كثيرة، وإلى جانب الطبيعة القلقة للأرض تتميز جيبوتي بجبال شديدة الارتفاع، ففي شمالها يوجد جبل موسى البالغ ارتفاعه 2020 مترا وبطول خليج تاجورة تبدو للناظر من بعيد سلسلة جبال جودا التي يبلغ ارتفاعها 1750 مترا، ثم مرتفعات مبلا الواقعة في غابة الداي القديمة وطولها 1380 مترا وهي منطقة جميلة للغاية تكسوها خضرة مستديمة طوال العام.

أما في الجنوب فيبدو الأمر مختلفا تماما، حيث تسود السهول المنتظمة والتي تحمل أسماء "جاجادا، حنلة، وجوباد". وفي الغرب، تعتبر قبة الخراب، منذ فترة، بمثابة المكان الأكثر أهمية لكل الباحثين الذين يعملون في مجال علوم الأرض، خاصة هؤلاء الذين يهتمون بمتابعة حركات الكوكب الأرضي.

بدأ هذا الاهتمام يأخذ منحى جادا عقب رصد أكثر من 800 هزة أرضية بالمنطقة كانت من الدرجة الخفيفة، ثم ازداد الأمر بوقوع انفجار بركاني هائل في 8 نوفمبر 1985 شعر به سكان جيبوتي التي تبعد حوالي 80 كيلو مترا عن موقع الانفجار.

كان وميض هذا الانفجار بمثابة الحافز للأخصائيين الفرنسيين والجيبوتيين الذين يعملون في المحطة الجيوفيزيائية للمعهد العالي للدراسات والأبحاث العلمية والتكنولوجية بمنطقة "عرتة" لفتح صفحة مهمة في كتاب المعرفة.

طفاوة القارات

وعلى الفور قام عالم البراكين هارون تازييف بتأسيس شبكة بتكلفة باهظة لرصد الزلازل وتقدير زوايا مساحات الأرض في منطقة بحيرة "عسل" في قلب الأخدود الكبير بمنطقة العفار وذلك بهدف التحقق من الفرضيات الجيوفيزيائية حول "طفاوة القارات" وهي النظرية التي تقول بأن القارات تطفو فوق سطح جسم لزج، وذلك بعد أن أعرب عن دهشته من إمكان حدوث البركان الذي أسماه "أرض قوبة" في المكان الأكثر ارتفاعا على الخريطة الطبوغرافية. والأمر عند تازييف لم يكن مجرد فوهة بركان بلغت الحمم التي ألقتها خلال أسبوع واحد 16 مليونا من الأمتار المكعبة غطت مساحة تقرب من 1.6 كيلو متر مربع بعد أن قذفتها نافورات متوهجة في درجة حرارة تصل إلى 1100 درجة مئوية، بل كان يتعلق ببداية تكون محيط لم يكن بركان "أرض قوبة" إلا تمهيدا له، فهذا المجموع المكون من منخفض العفار، البحر الأحمر، ومضيق خليج عدن يشكل وفقا لعلماء الجيولوجيا، محيطا في حالة صيرورة هو المحيط "الإريتري" ليس له من العمر سوى 25 مليون سنة كما يقول العلماء، و500 كيلو متر مربع من الاتساع، لكنه خلال 200 مليون سنة سيكون عريضا مشابها لشقيقه الأكبر المحيط الأطلسي.

ما أكد صدق نبوءة العالم تازييف هو ذلك الشق الأرضي الذي أحدثه الانفجار، إذ انفتحت فجوات ضخمة مؤدية إلى توسيعه في دفعة واحدة حوالي متر ونصف، وتبعا لذلك انزاحت ركيزة القارة الإفريقية بمجملها بنفس المسافة. وقد نشأ هذا الانشقاق الإفريقي الكبير عبر تصدع حدث بفضل هزة أرضية وتراكمات بركانية شملت 6500 كيلو متر ابتداء من سواحل جيبوتي ومرورا بالمنطقة الأكثر ارتفاعا في تركيا وحتى التصدعات الشاغرة للقشرة الأرضية في موزمبيق، ونتيجة لهذه الهزات الأرضية الخفيفة التي تتعرض لها جيبوتي يمكن تفسير هذا التحرك البطيء جدا لسطح إفريقيا والجزيرة العربية والذي يصل إلى 2 سم في المتوسط بالعام. المدهش حقا في هذا الأمر هو أن علماء الجيولوجيا من العالم بأسره يتلاقون في آخر هذه الصحراء العجيبة، لمتابعة هذا المفترق الكبير للقشرة الأرضية، وكأنهم في محراب، إذ إن نشاطات الانشقاقات المحيطية تظهر بصورة رئيسية تحت الماء باستثناء منطقتين على سطح القشرة الأرضية هما أيسلندا وجيبوتي وينظر العلماء إلى هاتين المنطقتين على سطح الكرة الأرضية بوصفهما الأكثر مقارنة جيولوجيا مع قشرة سطح القمر وتشبه منطقة "قبة الخراب " الجيبوتية بصورة متزامنة حالة الحمم التي تجمدت وبردت في عمق المحيطات بالأرض القمرية.

شطآن مالحة

.. وكان لا بد لنا من رؤية هذه المنطقة التي ما زالت تجذب العديد من العلماء والسائحين من مختلف بقاع العالم، وهناك بعد ما يقرب من الستين كيلو مترا من "تاجورة" كان المنظر يبدو رائعا للغاية إذ إن بؤرة الحمم الخامدة تضفي على المنطقة جمالا لا مثيل له، وهناك يرى المرء جبالا هائلة من الجبس تتلامس مع شطآن من الملح، محاطة ببحيرة فيروزية ذات زرقة رائعة الجمال مخططة بألوان زمردية، تتراص حولها كتل من البازلت، ومن هناك أردنا الذهاب إلى "قبة الخراب" فكان لا بد لنا من اتباع ذلك الشريط المعبد والمسمى حديثا بـ "طريق الوحدة" الذي يصل شمال البلاد بجنوبها وهي رحلة لم يكن من الممكن القيام بها قبل بضع سنوات إلا عبر طرق غير مرصوفة، أما الآن فإن الوصول من جيبوتي إلى "قبة الخراب" لا يستغرق أكثر من يوم ونصف عبر الطرق المعبدة.

وهناك يشاهد المرء آخر مخاضات الكوكب الأرضي "هاوية الشياطين" في قاع الخليج، وهنا تحديدا حذرنا الصيادون من أن أرواحا شريرة تقطن هذه الناحية وتسحب إلى القاع كل من يجرؤ على التوقف في هذه النقطة، لكن أحد مرافقينا عند سماعه ذلك أخذ يقهقه ويضحك بشكل مستمر، وبعد أن تعب ضحكا فسر لنا الأمر بأن هذا الاعتقاد للصيادين يعود إلى التيارات العنيفة التي تصل سرعتها إلى ثماني عقد والتي تشكل في بعض الظروف الطقسية مشهدا مسرحيا تصل فيه الموجة إلى ارتفاع أربعة أمتار في الممر المؤدي إلى خليج "قبة الخراب" وفي مثل هذه الظروف لا يمكن الوصول إلى ملتقى الفجوات الأرضية خارج ساعات الجزر.

العودة إلى العاصمة

من مناطق جيبوتي النادرة عدنا ثانية إلى العاصمة، وهناك اقتربنا أكثر من شعب هذا البلد الذي لا يزيد تعداده على 427 ألف نسمة وتتراوح تركيبته السكانية الأساسية بين قبيلتي العفر والعيسى، والذي تسوده اللغة الفرنسية إلى جانب العفارية في الوقت الذي لا تعدو العربية أن تكون لغة الدولة الرسمية بينما تستخدم الفرنسية في الأعمال الإدارية وداخل المكاتب الحكومية.

اقتربنا من هذا الشعب حين تجولنا في أسواقه العامرة بأنواع متعددة من الفواكه والخضراوات، ورأينا فتيانه وفتياته معا في قاعة الدراسة بالثانوية الوحيدة والمدارس حيث التعليم مختلط في جميع مراحله.

ولكن إلى جانب هذا تحتفظ الصورة بملامح من التعب الذي يعانيه التعليم في ذلك البلد العربي، لذلك كان لنا لقاء مع وزير التربية والتعليم الأستاذ أحمد جيزة الذي أشار إلى أن جيبوتي ظلت تعاني في الفترة التي أعقبت الاستقلال من ندرة المدارس والمدرسين، بالإضافة إلى الخلل في السياسة العامة للتعليم، فسياسة المستعمر ارتكزت على ربط التعليم بالمتطلبات الإدارية إلى جانب النظرة الدونية التي ينظر بها إلى المجتمع الجيبوتي، ولذلك لم يتجاوز التعليم في ذلك الوقت المرحلة الابتدائية. يشير الوزير إلى أن هذا الوضع قد تغير جذريا، فبعد أن كان عدد الطلاب في عام 1976 وهي السنة التي سبقت الاستقلال 8500 طالب وطالبة في المدارس الابتدائية، ارتفع الآن إلى 42 ألفا بعد مرور 15 سنة على الاستقلال.

أكد الوزير أحمد جيزة أيضا على أن الدراسة مجانية ترعاها الدولة لجميع أفراد الشعب، وهي بصدد وضع قانون للتعليم الإلزامي.

إمكانات مشجعة

.. ورغم المشاكل التي تضفي على الصورة بعض القتامة، تظل جيبوتي حبلى بإمكانات تشجع على الأمل بمستقبل زاهر، فهذا البلد يمتلك مخزونا هائلا من الطاقة البشرية المتمثلة في شباب جيبوتي الذي يشكل نسبة 63 بالمائة من عدد السكان (تحت العشرين عاما)، إلى جانب ذلك فإن جيبوتي التي تمتلك موارد طبيعية محدودة جدا "تربية ماشية- صيد" استفادت من اقتصاد خدمات نشط للغاية، فهي بلد عبور وتموين وإعادة تموين للبواخر، ويعد ميناء جيبوتي رئة للبلد وهو المكان الأكثر أهمية في البنيات التحتية الموروثة من الماضي الاستعماري، وليس غريبا أن تخصص له وزارة كاملة، فهو يقع في تقاطع الطرق البحرية وعلى أبواب المحيط الهندي، وهو منطلق لخطوط جوية في اتجاه ثلاث قارات، كما أنه مفترق بين عالم البترول الشرق أوسطي والثروة البشرية لإفريقيا الشرقية، وهو مزود برصيف للحمولات الكبيرة ويصل إلى 400 متر مع مراكز للتخزين، وكل هذه العوامل جعلت من هذا الميناء واحدا من أرقى الموانئ في التعامل والأداء السهل الميسر.

يقول وزير الميناء والشئون البحرية موسى روبلي: يضم الميناء منطقة حرة ووسائل مواصلات حديثة و 19 مستودعا وأربع محطات لتزويد السفن بالماء. وأضاف أن البضائع التي تعبر ميناء جيبوتي الدولي تتمتع بجميع مزايا المناطق الجمركية الحرة، فكل البضائع الواردة والصادرة تتمتع بإعفاء جمركي ولا يدفع أصحابها رسوم استخدام المعدات والخدمات.

وأشار إلى أن الكويت ممثلة بالصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية قدمت عدة قروض للإسهام في تطوير ميناء جيبوتي، كان القرض الأول في عام 1981 بقيمة 3.5 مليون دينار كويتي أما القرض الثاني فكان بقيمة 2.6 مليون دينار كويتي، إلى جانب ذلك قدم الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي منذ عام 1981 حتى عام 1992 خمسة قروض بلغت قيمتها خمسة ملايين و650 ألف دينار كويتي موزعة على النحو التالي:

1- مليون دينار كويتي لتمويل المشروع العربي المشترك الثاني للاتصالات السلكية واللاسلكية سنة 1981.

2- 850 ألف دينار كويتي لتمويل المشروع العربي المشترك الخامس للاتصالات السلكية واللاسلكية سنة 1982.

3- 1.9 مليون دينار كويتي لتمويل الكيبل البحري من جنوب شرق آسيا وغرب أوربا عبر الشرق الأوسط "سيمويه" سنة 1985.

4- 400 ألف دينار كويتي لتطوير الاتصالات سنة 1987.

5- 1.5 مليون دينار كويتي لتمويل الكيبل البحري " سيمويه الثاني ".

وبواسطة هذه المشاريع التي أتاحتها القروض المقدمة أصبحت جيبوتي من الدول المتقدمة في مجالات الاتصالات، بل واحتلت المركز الخامس بين الدول الإفريقية في تقديم هذه الخدمة.

ويعد مصنع الألبان في جيبوتي أحد المشاريع المهمة التي تغطي حاجة السوق المحلي، وقد قام الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية بتمويله بمبلغ 1.5 مليون دينار كويتي في عام 1980 كقرض أول، ثم قدم قرضا إضافيا قدره ربع مليون دينار كويتي.

ويعمل بالمصنع نحو 75 عاملا وفنيا من الجيبوتيين يعاونهم مجموعة من الأجانب المتخصصين في صناعة العصائر والحليب، وهو يغطي حاجة البلاد من الحليب والزبادي وعصير العنب والبرتقال والأناناس ويبلغ إنتاجه الشهري 200 ألف لتر يستهلك كله في جيبوتي.

استصلاح الأراضي

.. صورة أخرى مشرقة يعرضها وزير الزراعة والثروة الحيوانية عمر شردون عباس حين يقول: إنه على الرغم من أن الاستعمار كان يصور أرض جيبوتي على أنها لا تصلح للزراعة وأن شعبها المعروف بأنه رعوي لا يقدر قيمة الزراعة، إلا أننا حاولنا إثبات عكس ذلك وبدأنا التجربة بعد الاستقلال مباشرة باستصلاح بعض الأراضي التي تتوافر فيها المياه العذبة عن طريق حفر الآبار الارتوازية أو الاعتماد في بعض الأحيان على مياه الأمطار، وقد بدأنا بزراعة الخضراوات الورقية التي بدأ الشعب يألفها، ثم زرعنا الطماطم والبطاطس والكوسا والباذنجان وأخيرا الأعشاب الصالحة لغذاء المواشي والجمال، وبذلك استطعنا الجمع بين حرفتي الرعي والزراعة في مكان واحد فازداد دخل المزارع.

المرأة في جيبوتي

وتبدوالصورة أكثر جلاء للمرأة الجيبوتية فهي موجودة في جميع المرافق التابعة لوزارات الدولة، كموظفة أمام أجهزة الكمبيوتر أو مديرة لمكتب وزير أو مستشار، كما تجدها في محل لبيع الأدوات الرياضية أو مكتب لتغيير العملات وحتى في محلات بيع الفواكه والخضراوات وتجدها أيضا مشاركة لشقيقها كمدرسة أو طالبة تجلس على طاولة واحدة معه. تقول الأمينة العامة لاتحاد نساء جيبوتي سابقا سعيدة حسن: لا يمكننا إغفال دور المرأة ومساهمتها في نهضة جيبوتي منذ زمن طويل، فقد ساهمت في المطالبة بالاستقلال عن فرنسا منذ منتصف الخمسينيات ولعبت دورا لا يستهان به مع التنظيمات الوطنية والشعبية في المطالبة بالحرية والاستقلال.

وفي مقر الاتحاد النسائي الجيبوتي كان لنا لقاء مع الأمينة العامة الجديدة للاتحاد كلثوم ميعاد التى قالت: إن نشاط الاتحاد ينحصر في عدة محاور أهمها مجال الصحة وتربية الطفل ورعاية الأم، ولنا نشاط في فصول محو الأمية باللغة العربية ونشاط آخر مخصص للحرف اليدوية والخياطة والتطريز والزراعة وتزيين الحدائق. تشارك المرأة الجيبوتية الرجل في بناء وطنها، تماما كما شاركته في الدعوة للاستقلال والحرية.

إنه نموذج جديد يضيف إلى صورة هذا البلد الإفريقي كثيرا من الإشراق تماما كما يضيف إلى مستقبله عدة جوانب مضيئة لتصبح الصورة أشد بهاء وأكثر سطوعَا.

والآن بعدما وصلنا إلى جيبوتي والصورة يغلفها الضباب، غادرناها وقد اتضح الغد تماما، ذلك الغد الذي يعد بالكثير، إذا ما خلصت النوايا وتم توظيف الطاقات توظيفا جيدا.

 

صادق يلي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




جيبوتي الخروج من حلقة الفقر





وزير الميناء والشئون البحرية موسى روبلي





خريطة تبين موقع جيبوتي الهام على مضيق باب المندب





صناعة الأطباق والسلال من القش الملون من الحرف التي تزاولها المرأة في جيبوتي





السيدة كلثوم ميعاد رئيسة الاتحاد النسائي في جيبوتي





تحرص المرأة الجيبوتية على اقتناء الملابس ذات الألوان الزاهية





ميناء جيبوتي أحد البنى الأساسية لموارد البلاد الاقتصادية وسفينة تفرغ حمولتها على رصيف الميناء





قدّم الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية عدة قروض لتحسين خدمات الشحن والتفريغ في ميناء جيبوتي





سكك حديد جيبوتي-أديس أبابا هي الوسيلة الوحيدة لتزويد إثيوبيا بكل ما تحتاجه من بضائع ومواد متنوعة





رقصة سجلو من أشهر الرقصات التقليدية التي تؤديها الفتيات في مدينة تاجورا





القناع الفضي المذهب من الحلي التقليدية التي تتزين بها الفتاة الجيبوتية





رقصة تقليدية لفتيات قبيلة عيسى يصاحبها في العادة الطبل والغناء





الجمال العربي القادم من اليمن استوطن جيبوتي منذ القدم





الجمال العربي القادم من اليمن استوطن جيبوتي منذ القدم





جمال عربي إفريقي محبب





مجموعة من الأيتام ترعاهم جمعية المرأة الجيبوتية





تقوم إحدى عضوات جمعية المرأة الجيبوتية بتعليم وإرشاد إحدى القرويات الخياطة والتطريز





جانب لأحد الفنادق الحديثة في مدينة جيبوتي