زواج التكنولوجيا والغريزة

زواج التكنولوجيا والغريزة

يطول الحديث عما أحرزه إنسان القرن العشرين من تطور تكنولوجي هائل، حتى أن ما حققه جيل نهاية هذا القرن فاق- بكثير- أحلام الجيل السابق له!

والطريف أن التكنولوجيا الحديثة ليست حكراً على دولة معينة، بل هي متاحة للجميع دون تمييز أو تفرقة. حتى أنك لترى دولاً تنتمي إلى العالم الثالث قطعت شوطاً كبيراً في مضمار التطور، والأمثلة لدينا كثيرة ومتنوعة. ولربما كانت جمهورية جنوب إفريقيا القابعة عند الطرف الجنوبي للقارة السمراء، أحد أبرز تلك الأمثلة وأشهرها. وما نسوقه اليوم من فكر متطور وتطبيق تكنولوجي حديث، لدليل واضح وجلي على ذلك.

فقد نجحت تلك الجمهورية في تطوير قواتها المسلحة وصناعاتها العسكرية حتى باتت قوة إقليمية عظمى، تمتلك من الأسلحة أحدثها بما في ذلك السلاح النووي، ومن الخبراء العسكريين مهرة في جميع فنون التكنولوجيا المعاصرة. حتى أنهم نجحوا في ابتكار تلك المنظومة الحديثة (Medds) للكشف عن الألغام والمتفجرات، مستعينين بكلاب مدربة موجودة بعيداً عن موقع اللغم أو الشحنة المتفجرة.

كلاب الحرب

يعد استخدام الكلاب في مهام عسكرية فكرة قديمة، ويروي لنا التاريخ أن الكلاب كانت أكثر من جند البشر - من الحيوانات- في حروبهم القديمة والحديثة. ويرجع ذلك لسرعتها الكبيرة نسبيا، واستيعابها لما تتلقاه من تدريبات بسهولة بالغة، وإجادتها تنفيذ مهامها المكلفة بها. كما يتصف الكلب بإطاعة الأوامر وتفهم مهمته دون عناء، بل وقدرته على التسلل خلف خطوط العدو، ناهيك عن وفرة الكلاب وقدرتها على الدفاع عن نفسها.

والتاريخ العسكري يعج بالعديد من الأحداث والبطولات التي سطرتها كلاب الحرب، ففي عام 1895م وعلى المسرح الأوربي نحج كلبان في إنقاذ كتيبتين من الأسر بإمدادهما بالذخيرة اللازمة لمواصلة القتال، وفي عام 1904م استخدم الألمان أكثر من "600" كلب مدربة- تدريباً راقياً- على فنون الحرب. ويذكر أن الروس كانوا أول من أنشأ مدرسة عسكرية لتدريب كلاب الحرب، ثم لحقت بها اليابان عام 1933م. وفي عام 1916 قررت باريس تجنيد الكلاب رسمياً. برغم أن جيش"نابليون" فقد استعان- قبل ذلك بكثير- بكلاب في الحراسة داخل المدن.

والطريف أن الكلبة "جودي" كانت أول حيوان حمل صفة أسير الحرب، حيث قبض عليها الجنود الألمان أثناء الحرب العالمية الثانية، وهي في طريقها لتنفيذ إحدى المهام خلف خطوطهم.

نظام الآلة والحيوان

غير أن المهمة التي كلفت بها الكلاب في جنوب إفريقيا - والتي نحن بصددها الآن- تختلف عن ذلك بكثير، فهي درب من الدمج التكنولوجي مع تلك الخاصية التي يتميز بها الكلب من قدرة فائقة على الشم وتمييز الروائح فقد نجح الخبراء في تصميم نظام لكشف الألغام والشحنات المتفجرة يعرف باسم (Medds)، يمكن بواسطته مسح أي منطقة أيا كانت تضاريسها وظروفها الجوية. حيث يقوم بذلك فريق محمول على عربة مدرعة طراز "كاسبير 4 × 4" والتي صممت خصيصاً بحيث يمكنها الصمود أمام أي لغم قوته "4" أضعاف اللغم المضاد للدبابات، وقد زودت تلك المركبة - من الأمام - بصندوق لجمع الأبخرة، يعمل على دفعها إلى مكان أعلى المركبة بمعدل "2" لتر في الثانية، حيث يوجد مرشح داخله مادة كيماوية ماصة تحتفظ بروائح تلك الأبخرة.

يقوم هذا الفريق بالتحرك في وثبات داخل المنطقة المراد مسحها بسرعة لا تتجاوز "20" كيلو متراً في الساعة، مسافة كل وثبة كيلو متر واحد تتوقف بعدها المركبة لتغيير المرشح الكيماوي، على أن يتم وضع علامة على كل مرشح يمكن منها تعرف المنطقة المناظرة له. وفي النهاية تتوجه المركبة إلى منطقة يطلق عليها منطقة التعرف، تتميز بأنها نظيفة تماما من أي كيماويات أو شحنات متفجرة بغض النظر عن كونها منطقة مفتوحة أو مغلقة حيث يجري نقل تلك المرشحات فوق حوامل صغيرة، وبهذا يكون الشق التكنولوجي قد تم الانتهاء منه ليبدأ بعده الشق الكلبي.

كواشف حية

يتم إحضار كلب أو أكثر من تلك التي جرى تدريبها جيدا على تمييز رائحة الشحنات المتفجرة، وبات لديها حساسية تمييز مكان بندقية مجهزة للإطلاق وإن كانت مخبأة في حاوية داخل مصنع للمتفجرات ..! فقد أكد المتخصصون في علوم الحيوانات تفوق الكلب في الحس بالمتفجرات وتمييز أنواعها المختلفة. بدرجة تفوق عشرة آلاف مرة تلك الكواشف بالغة الحساسية التي صنعها الإنسان.

تمر الكلاب على تلك المرشحات فوق الحوامل لتشمها، وخلال بضع دقائق تحدد أي المرشحات يعطي إشارة التلوث الانفجاري، وهو ما يعني أن هذا الجزء من المنطقة المسموحة موجود به شحنة متفجرة. وهنا تتحرك المركبة- بطاقمها مصطحباً بعض هذه الكلاب- وتتجه مباشرة إلى الجزء المقابل من المنطقة. حيث تقوم الكلاب باستخدام قدرتها على الشم في تحديد موقع الشحنة المتفجرة بالضبط، وإن كانت لغماً مدفوناً على بعد عشرة أمتار من سطح الأرض. وعلى الفور تتحرك المركبة إلى تلك النقطة، في ذات الوقت تنتشر الكلاب عند أطراف منطقة الشم، حتى لا تتعرض للأذى عند التقاط الشحنة المتفجرة.

وعند النقطة التي حددتها الكلاب تقوم المركبة بمد ذراع يجري التحكم فيها عن بعد، وبحرص ودقة شديدة يجري التقاط الشحنة المتفجرة ورفعها، حيث يقوم الطاقم بتأمينها أو تفجيرها مع مراعاة أن يتم ذلك بعيداً عن الطريق. أما إذا كانت الشحنة المتفجرة مدفونة، فإن الذراع الموجودة بالمركبة صممت بطريقة تتيح تثبيت وحدة حفر، وهنا يجري أيضا كشف الشحنة والقتها. وبرغم ذلك فانفجار الشحنة وارد خلال هذه المرحلة، لكن الطاقم في أمان تام داخل مركبتهم المدرعة. والكلاب منتشرة بعيداً عند أطراف المنطقة. ولاشك أن النظام (Medds) حقق إمكانية الكشف عن الألغام والشحنات المتفجرة، سواء تلك التي تحتوي على أجزء معدنية أو تلك التي تكون جميع مكوناتها بلاستيكية، وهو سبق لم يحققه أي نظام آخر. فضلا عن قدرته على كشف الأسلحة المخبأة والذخائر، وحتى إمكانية الاستفادة به في الكشف عن المخدرات في المناطق الجبلية والأدغال. كل ما هنالك هو تدريب الكلاب على رائحة الهدف المراد كشفه، وجمع الأبخرة في مرشحات بواسطة المركبة التي تتحرك فقط داخل المنطقة، علما بأن المركبة مخطط لها تغيير خمسين مرشحاً كيماوياً خلال الرحلة الواحدة. وهو ما يعني عدم استخدام الكلاب مباشرة في البحث، وذلك لتوفير مجهودها لمجرد تلك الدقائق التي تشم فيها رائحة تلك المرشحات، ومن ثم دقائق اخرى تتحسن فيها النقطة المخبأ بها المتفجرات على أرض الواقع.

ولا أرى تقويما أبعد من تلك التجربة الحقيقية التي جرت في الصيف الماضي، حيث وضعت بودرة T.N.T داخل عبوة بلاستيكية محكمة الإغلاقث، وتركت في مكان مفتوح على بعد "3" كيلو مترات من أحد الطرق. بدأ البحث بعد ثلاث ساعات من وضع العبوة، واستخدمت مركبة كاسبير واحدة وكلبان اثنان فقط وقد نجح الفريق في التقاط العبوة في غضون ثلاث ساعات فقط أن تلقي البلاغ، علماً بأن منطقة التعرف كانت تبعد خمسين كيلو متراً من منطقة البحث.

آفاق منظورة

يؤكد الخبراء العسكريون لجمهورية جنوب إفريقيا، أنهم حاليا بصدد تجهيز المركبة كاسبير المستخدمة مع النظام (Medds) بجهاز تفجير. غير أن بحوثهم بالروائح إلى نحو "4" نحو زيادة مدة احتفاظ المرشحات بالروائح إلى نحو "4" شهور من لحظة امتصاصها دون أدنى تغيير.

وهكذا.. فبعد نجاح التجربة بات سن الطبيعي أن تسير نحو التطوير، برغم أن نتائجها الأولية باهرة، خاصة وأنها نبعت من داخل العالم الذي غرقت شعوبه في الفقر والحروب الأهلية.

والأكثر من ذلك .. أنه لاول مرة يزوج الإنسان ما بلغه من تكنولوجيا متطورة، لتلك الفطرة التي حباها الله عز وجل ذاك الحيوان الأليف، فتبلور أخيراً هذا النظم المتناغم بين شقيه لتحقيق هدف بذاته، بعيدا عن المخاطرة أو التلوث أو.. أو.. غير ذلك.

 

إيمان عبدالمنعم الزكي