اللغة العربية ما قبل الإسلام وفضل الشعر في تشكّلها وحفظها

 اللغة العربية ما قبل الإسلام وفضل الشعر في تشكّلها وحفظها
        

          كانت قد تبلورت في شبه الجزيرة العربية بحلول القرن السادس الميلادي لغة شعرية عربية وتقاليد شعرية متميزة ذات شخصية غنية موّحدة تمثلت فيما وصلنا من تراث شعري اصطلح على تسميته بالشعر الجاهلي.

          وعلى الرغم من أن الشعراء والنقاد العرب القدماء عدّوا هذا الشعر فاتحة التراث الشعري العربي وتحدثوا عنه بصورة توحي باعتقادهم بأنه يمثل بداية حركة الإبداع الشعري عند العرب، كقول ابن سلاّم الجمحي (م 232 هـ) مثلا في كتابه طبقات فحول الشعراء إن امرئ القيس الذي قيل إنه أول الشعراء، سبق إلى أشياء «ابتدعها واستحسنتها العرب واتبعه عليها الشعراء، من استيقافه صحبه في الديار ورقّة النسيب وقرب المأخذ، وشبّه النساء بالظباء والبيْض، وشبّه الخيل بالعقبان والعصيّ، وقيّد الأوابد...»، أو رواية ابن قتيبة (م 270 هـ) عنه في كتابه الشعر والشعراء أو طبقات الشعراء: «يقول من فضّله: إنه أول من فتح الشعر واستوقف وبكى في الدمن ووصف ما فيها...». إلا أن شعر امرئ القيس وشعر غيره من الشعراء العرب الذين عاشوا ما قبل الإسلام، بما حققه من صياغة فنية رائعة في إتقانها، يدلّ على أن الشعر العربي كان قد مرّ بمراحل طويلة من التطوّر قبل أن ينتهي إلى صيغة تعدّ كلاسيكية مكتملة في النصوص التي وصلتنا من الشعر الجاهلي.

          وليس بالإمكان تحديد البدايات الأولى لهذا الشعر العربي، غير أن أول إشارة تاريخية وصلتنا عن فن شعري أبدعه العرب ربما كانت تلك التي وردت لدى المؤرخ اليوناني سوزومينوس (Sozomenus) الذي عاش في أوائل القرن الخامس الميلادي، حيث ذكر أنه في عام 372 للميلاد هزمت «مانيا» ملكة العرب، الجيش الروماني في فلسطين وفينيقيا، وأن العرب حفظوا ذكرى ذلك الانتصار في أغانيهم الشعبية. فإلى أي مدى ترتبط اللغة التي يسميها المؤرخ اليوناني عربية باللغة العربية التي نعرفها في الشعر الجاهلي؟ وهل كانت صيغة باكرة من صيغ هذه اللغة؟ وهل ما بين أيدينا من شعر جاهلي تطوّر عن تلك الأغاني الشعبية؟ هذه أسئلة يصعب الوصول إلى إجابة حاسمة عنها إذ لم ترد فيما وصلنا من كتب النقاد والمؤرخين العرب القدماء أية إشارة إليها.

          إلا أن ما عثر عليه من نقوش صفوية وثمودية ولحيانية تعود إلى الفترة ما بين القرن الأول قبل الميلاد والقرن السابع الميلادي، تلمّح غالبا إلى طلول الديار والتوق إلى الغائبين أو إلى من توفّي من الأصحاب، وتحيل إلى الزيارة في الحلم، وكثيرا ما تتضمن وصفا للنياق وغيرها من الحيوان، مستخدمة في ذلك تسميات وافرة ومتنوّعة. إن تلك النماذج الشعرية التي أبدعت في الجزيرة العربية تُعدّ من أقدم ما وصلنا من شعر ما قبل الإسلام، كانت قد ترسخت فيها إلى حدّ كبير الصيغ المعجمية لوحدات النسيب والتخلص التي نعرفها فيما وصلنا من شعر عربي ومن قصائد عربية من العصر الجاهلي. إن اختيار موضوعات متشابهة بل متطابقة في هذه النقوش وفي الشعر الجاهلي لا يمكن أن يكون مجرد صدفة، وإن كان الفارق بين لغة تلك النقوش ولغة ذلك الشعر ينفي أن يكون الشعر الكلاسيكي قد نقل حرفيًا عن تلك النماذج الشعرية القديمة. أما أول النقوش التي وصلتنا من القرون السابقة لمجيء الإسلام التي نستطيع أن نقول إن أصحابها كانوا عربا وأن لغتهم العربية كانت قريبة من لغة القرآن، فهي خمسة نصوص منقوشة، تنتسب كلها إلى بلاد الشام. ويعود أقدم هذه النصوص إلى سنة 250 للميلاد والثاني إلى 328 للميلاد والثالث إلى 512 للميلاد والرابع إلى 568 للميلاد والخامس لا يحمل تاريخا ويرجّح أنه يعود إلى القرن السادس الميلادي. ويتبيّن من هذه النصوص أن الخط العربي الأول الذي كتب به العرب قبل الإسلام وبعده، مشتق من الخط النبطي المشتق بدوره من خط بني إرم في بلاد الشام، وأن اللغة تطوّرت من لغة نبطية خالصة في النص الأول إلى لغة نبطية-عربية في الثاني إلى لغة متحررة إلى حدّ كبير من النبطية في الرابع والخامس. ويرى مؤرخو اليونان والرومان القدماء والمستشرقون في هذا العصر الحديث أن النبط هم قوم عرب وأن لهجتهم عربية. 

          إن ماوصل إلينا من شعر جاهلي أبدع في القرن ونصف القرن السابقين على الدعوة الإسلامية يشهد بوجود لغة عربية مكتملة كانت أداة تراث شعري غدا حينذاك واضح الهوّية والخصوصية. وكان تشكُّل اللغة العربية بالصيغة التي نعرفها فيما وصلنا من الشعر الجاهلي وبالشكل الذي ثبّتها عليه القرآن، موضوعا مثيرا للجدل أبرزته الدراسات اللغوية الحديثة، لاسيما تلك التي وضعها عدد من المستشرقين الأوربيين. وتتجه هذه الدراسات إلى رفض نظرية النحويين العرب القدماء القائلة بأن لغة القرآن استمدت من كلام قريش. وتضع في المقابل نظرية تذهب إلى القول بأنه إلى جانب اللهجات القبَلية التي وُجدت قبل الإسلام، كانت توجد لغة أدبية متخصصة تستخدم في الشئون المشتركة ما بين القبائل، وأن هذه اللغة الرفيعة السامية على الكلام العادي حينذاك، هي اللغة التي استخدمها القرآن والشعراء الجاهليون. ومع أن تلك اللغة حسب ما ذهبوا إليه - ضمّت عناصر استعارتها من اللهجات القبَلية المختلفة، إلا أنها كانت لغة أدبية تستعمل في المناسبات الجليلة.

          وقد ذهب معظم الباحثين المستشرقين إلى القول بأن تلك اللغة أوجدها الشعراء. فقد كتب المستشرق الألماني كارل بروكلمان (Carl Brockelmann): «إن اللغة العربية هي لغة الشعراء، أوجدت للشعراء ويفهمها الشعراء أكثر من أي كان». وأكد المستشرق البريطاني غيب (H.A.R. Gibb) أن الشعراء الجاهليين أغنوا اللغة إغناء كبيرا بتوحيد اللهجات المختلفة وأسهموا بذلك في تثبيت استخداماتها وخلق مثال للغة ثقافية أصبحت تدعى العربية. وأيّد البريطاني رينولد نيكلسون (Reynold A. Nickolson) موقف الألماني ثيودور نولدكه (Theodor Noldeke) القائل بأن الشعراء الجاهليين ثبّتوا الاستخدام الكلاسيكي للغة العربية ووضعوا أسس الكلام السليم، وإن كان ذلك حسب تعبيره لا يغضّ من التأثير الاستثنائي للقرآن على تاريخ اللغة العربية.

          وكان تاريخ اللغة اليونانية القديمة مثالا اهتدى به المستشرقون الأوربيون في دراسة اللغة العربية، حتى أنهم اصطلحوا على إطلاق اسم «الكويني الشعرية» (Poetic Koiné) على اللغة العربية الكلاسيكية، وهي التسمية التي تعرف بها اللغة اليونانية التي كانت لغة الكلام والكتابة في بلدان الضفة الشرقية للبحر المتوسط في الحقبتين الهيلينية والرومانية من تاريخ تلك المنطقة. أما وجه الشبه بين اللغتين حسب تحليلهم، فهو التحوّل من لهجة أو لغة محدودة الانتشار يقتصر استخدامها على منطقة محددة أو جماعة معيّنة، إلى لغة سائدة في منطقة أكثر اتساعا. غير أن هذه التسمية تطرح موضوع التطابق بين اللغة المحكية حينذاك وتلك اللغة الأدبية السامية على اللهجات المحلية، وهو موضوع أثار جدلا واسعا بين علماء اللغة من المستشرقين في تلك الحقبة من الزمن.

          يقول المستشرق رابين (Ch. Rabin) في مقالة نشرها عام 1955 : «إن الرأي القائل بأن اللغة العربية الكلاسيكية لم تكن اللغة المحكية للشعراء الذين استخدموا تلك اللغة في شعرهم... أصبح مقبولاً لدى كل الكتّاب الأوربيين الأقرب عهدا الذين بحثوا هذه المسألة». ويضيف: «وفي السنوات الأخيرة أصبح عاديا أن تسمى (أي اللغة العربية الكلاسيكية) بـ «الكويني الشعرية»، وهو مصطلح غير موفّق تماما، لأن «الكويني» اليونانية كانت في الواقع لغة محكية، واللغة العربية الكلاسيكية، حسب هذا الرأي، أقرب إلى وضع اللغة اليونانية الهوميروسية»، أي أنها لغة الشعر والشعراء.

          إلا أن المستشرقين الأوربيين الذين درسوا في أوائل القرن العشرين تكوّن اللغة العربية، وعلى رأسهم نولدكه، كانوا يميلون إلى قبول الافتراض القائل بأن العرب الذين أبدعوا في القرنين السادس والسابع الميلاديين أعمالا كلامية ذات مستوى فني رفيع وأهمية كبيرة، مثل الشعراء الجاهليين، لم يبتعدوا كثيرا عن المصطلح اللغوي الذي ساد في حياتهم اليومية. وهذا ما عبّر عنه نولدكه بقوله: «من المفروغ منه، في رأيي، أن الشعر في تلك الفترة يمثل اللغة التي كان يتكلمها البدو حينذاك، وحتى فترة طويلة لاحقة». وقد تأثر نيكلسون بهذا الرأي حين استبعد الافتراض بأن اللغة العربية الموحدة قبل الإسلام كانت لهجة مصطنعة غير اللهجة المحكية. واستدل على موقفه هذا بأن لغة الشعر لم يقتصر استخدامها على الشعراء المغنين الجوّالين الذين كانوا غالبا على قدر كبير من الثقافة، وعلى المسيحيين العرب سكان الحيرة على ضفاف الفرات، بل شمل على حدّ قوله، رعاة الشاة والصعاليك والبدو الأميين. واستنتج أن ما نقرأ في شعر القرن السادس الميلادي هو اللغة المحكية في طول شبه الجزيرة وعرضها.

          غير أن هذا الموقف المطابق بين لغة عامية محكية كانت تعمّ شبه الجزيرة العربية بأسرها ولغة الشعر، لم يعد مقبولا لدى الباحثين المتقدمين في العهد الذين لحقوا رعيل مستهل القرن العشرين من المستشرقين. ولهذا الموقف الرافض للتطابق بين اللغتين دلالاته، لا على الصعيد اللغوي فحسب بل إلى حدّ أكبر، على الدراسة النقدية لشعر ما قبل الإسلام. ويدعم هذا الموقف ما هو معروف من أن الشعر العربي في الجاهلية كان يستفيد من اللهجات القبَلية المختلفة ويستوعبها ويحوّلها إلى عنصر متكامل في البنية اللغوية العربية. ويُستدل على ذلك بالنسبة الكبيرة من العبارات المختلفة مورفولوجيًا والمتطابقة دلاليًا التي تتميّز بها اللغة الشعرية العربية الكلاسيكية. كما يُعزى إلى اختلاف اللهجات المحكية التي توحّدت في اللغة العربية، ما يُعرف بالأضداد، أي الكلمات ذات المعاني المتضادة، وما يزخر به الشعر العربي من مرادفات وشبه مترادفات تغطي مجالات الحياة المختلفة حينذاك وصورها ونشاطاتها وأحلامها ومخاوفها وأفكارها ومبادئها.

          ويسوق الباحث الأمريكي مايكل زويتلر (Michael Zwettler) في بحثه الشائق عن نشأة اللغة العربية وتطورها في كتابه التراث الشفهي في الشعر العربي الكلاسيكي الصادر عام 1978، حجة مثيرة للتأمل تدعم رأيه القائل بوجود اختلاف بين اللهجات المتعددة المحكية في القبائل العربية واللغة العربية الموحدة، وقد استمرت كلها جنبا إلى جنب قبل الإسلام وخلال فترة الدعوة النبوية. فهو يتساءل: ما هي السمات المشتركة بين السور القرآنية الأولى والقصائد الكلاسيكية أو غيرها من الأنواع الشعرية التي يمكن أن تبرر ظنّ أعداء الرسول من أهل مكة بأنه شاعر، وبأن السور القرآنية هي قول شعري؟ ويشير زويتلر بذلك إلى الآيات التي وردت في القرآن متضمنة نفي كون الرسول شاعرا، وهو ما يستنتج منه في رأيه، أن سامعي تلك الآيات القرآنية ظنوا أنها شعر. ويجيب عن السؤال بقوله بأنه إذا ربطنا مضمون ما أوحي به إلى الرسول في الفترة الأولى من سور مكية وشكل تلك السور بمضمون الشعر المتفق على كونه شعرا سابقا للإسلام وشكله، نتبيّن أنه لا يوجد شبه فيما بينهما، بل إنه لا توجد أسس للمقارنة بين السور القرآنية والشعر في ذلك العصر. فما تتضمنه السور القرآنية من الموضوعات المعقّدة والمركّبة وما تتميّز به من لغة استعارية مجازية وما تزخر به من صور، بعيدة كل البعد عن الموضوعات والصور والاستعارات التي سادت في الشعر، وكل مجموعة من تلك الموضوعات القرآنية مترابطة باتساق وانتظام في سياقها بصيغة ثرية ومتنوعة لا يمكن معها الخلط بينها وبين الشعر. فليس من شبه مهما كان في المضمون ما بين القرآن والشعر. وكذلك فإن الاختلاف في الشكل بين السور القرآنية والأبيات الشعرية واضح تمام الوضوح للسامعين في ذلك العصر الذين يعرفون الشعر ولو معرفة بسيطة. فإلى جانب كون الآيات القرآنية تفتقد وحدة الوزن التي تشكل أساس الشعر العربي، فإن القوافي التي تميّز الوحدات المسجوعة في القرآن بعيدة هي أيضا عن القوافي الشعرية. فالقافية في الآيات القرآنية المتميّزة بالتسكين تعارض، بشكل ملحوظ، الحروف الليّنة الطويلة التي تنتهي بها الأبيات الشعرية. هذا الفارق الجلي لا يمكن ألا يدركه قوم يتحسسون الكلمة المنطوقة إلى ذلك الحدّ الذي يتحسسها به العرب في أوائل القرن السابع الميلادي. ويصل زويتلر إلى الاستنتاج بأن ما يجمع ما بين القرآن والشعر العربي في زمن الدعوة النبوية مما دعا أهل مكة إلى الظن بأن الرسول شاعر وأن الآيات القرآنية شعر، هو أن القرآن جاء باللغة العربية الكلاسيكية غير المحكية التي استخدمها الشعراء، وهي اللغة التي

          ولّدها ونشرها ورسّخها إلى ذلك الحين تراث شعر عربي مشترك متوارث منذ القدم بين سكان المنطقة العربية بأكملها.
---------------------------
* أكاديمية من لبنان.

-----------------

أَبلِغ أَخانا تَوَلّى اللَهُ صُحبَتَهُ

أَنّي وَإِن كُنتُ لا أَلقاهُ أَلقاهُ

وَأَنَّ طَرفِيَ مَوصولٌ بِرُؤيَتِهِ

وَإِن تَباعَدَ عَن مَثوايَ مَثواهُ

اللَهُ يَعلَمُ أَنّي لَستُ أَذكُرُهُ

وَكَيفَ أَذكُرُهُ إِذ لَستُ أَنساهُ

علي بن الجهم

/////////////////////////

ثيودور نولدكه

كارل بروكلمان

ديوان امرؤ القيس

 

ريتا عوض*