عمود الأدب الذي هوى

  عمود الأدب الذي هوى
        

علامة عشق التاريخ والأدبا

منذ ارتوى بين أحضان البرود صبا

وسار في دربه العلمي يحمله

عزم أحد من السيف الصقيل شبا

طوى الجزيرة دارات وأمكنة

تلا وحزنا ودوا صهيدا وربى

وراح يسبر أغوار التراث فما

نأى عن البحث يوما أو شكا تعبا

حتى أعاد أباه عمرو وسيرته

والأصمعي وياقوتا وما تحبا

وصار للجيل أستاذا ومعتمدا

وللتلاميذ - مثلي - مرشدا وأبا

          كانت الانجيات السابقة جزءا من تقديم كاتب هذه السطور لشيخه حمد الجاسر رحمه الله - في احتفال تسلم الشيخ لجائزة الملك فيصل العالمية في الادب العربي عام 1416 هـ/1996 م. وكان موضوع الجائزة ذلك العام الدراسات التي تناولت أدب الرحلات.

          وكان فقد الآمة العربية لذلك العملاق في ميدان لغتها، لفظا ومعنى، ومجال تاريخ مهدها، مكانأ وحدثا ونسبا، ومسرح كنوز تراثها، حضارة وفكرا، حزنا عظيما في نفوس كل مهتم بلغتها وتاريخها وتراثها.

          مع إطلالة فجر يوم من أيام عام 1328 هـ / 1910م أطل وجه مولد جديد لأبوين يعملان في الزراعة في قرية صغيرة من قرى إقليم السر النجدي يقال لها: البرود. وبين إطلالة ذلك المولود على الدنيا في قريته الصغيرة وموافاة الأجل له على مسرح العملية الجراحية التي أجريت له في مدينة هيوستن الأمريكية في اليوم السادس عشر من شهر جمادى الآخرة عام 1421 هـ مسيرة حافلة بضروب المعاناة والتحصيل والعطاء. وشاء الله أن يكون آخر كتاب خطته أنامل صاحب هذه المسيرة العطرة دراسة عن الموضع الذي أطل فيه على الدنيا أول مرة: البرود، موقعا وتاريخا وسكانا. ونشرته داره الفكرية العرب، عام 2000 م.

          وما إخال كاتب هذه السطور سيجد أبلغ تعبيرا، وأصدق لفظا، وأدق وصفا، من كلمات أستاذه الدكتور عبدالعزيز الخويطر عندما كتب عن رحيل العلامة الفقيد:

          "مات أستاذنا الشيخ الجليل حمد الجاسر. وما موته موت واحد، ولكنه موت جيل كد وكدح وأنجز.. موته شمس علم كسفت، وقمر بحث خسف وعمود أدب هوى، ومصباح فضل انطفأ. بموته فقد الميدان فارسة كان يصول بسيفه وصولجانه. لم يدانه أحد في حقول الفكر التي اختارها، ولم يجاره كاتب في السباق الذي دخل حلبته.. استجاب لنداء ربه بعد أن أضنى السنين، قراءة وبحثة، وتنقيبا، وسفرا وتوثيقا، وكفاحا، وتأليفا، و تحقيقة، و نقدآ، وتو جيها، وتعليقا و درسا وتمحيصا".

نشأته

          كتب الشيخ حمد عن نشأته قائلا: "في عام 1328 هـ تقريبا ولد حمد بن محمد بن جاسر آل جاسر في قرية البرود لأب فلاح من أسرة قدر عليها رزقها، ونشأ عليل الجسم، وتوفيت أمه وهو في السابعة. وفي مدرسة القرية تعلم مبادىء القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم نظرا).

          كان الملك عبدالعزيز- في العام الذي ولد فيه الشيخ حمد الجاسر- قد نجح في التغلب على مشكلات واجهته من بعض أتباعه داخل نجد ومن بعض خصومه خارجها. وكان ذلك النجاح عاملا من عوامل الأمل في الاستقرار والأمن. ولكن الأوضاع الصحية حينذاك - وإلى أن أصبح للدولة السعودية ما لها من موارد مهمة في طليعتها الدخل من النفط- كانت في حالة يرثى لها. وكان أكثر موت الأطفال في تلك الفترة نتيجة أمراض متنوعة لم تجد من يعالجها. ولقد أشار الشيخ حمد إلى شيء من علة جسمه التي اتسمت بها نشأته قائلأ: "عشت أول حياتي عليلا، فلم أحسن المشي إلا في السنة الرابعة من عمري". بل إن أمراض الطفولة التي لازمته قد أفقدت أسرته الكثير من الأمل في بقائه على قيد الحياة لدرجة أنه حفر له أربعة قبور، لكن الله قدر أن يدفن في كل قبر أعد له طفل آخر، وبقي هو حيا كما شاء الله وقدر.

          وكانت بداية خطوات الطفل العليل- بعد السنة الرابعة من عمره- متزامنة مع بدايات استقرار البادية في مستوطنات، أو هجر، ضمن حركة الإخوان المشهورة التي أقبل فيها أبناء القبائل النجدية على تعلم مبادىء الدين وأحكامه، وأصبح لمدرسي هذه المبادىء والأحكام وللوعاظ مكانة جيدة. ومن هنا كان الجو مشجعا للأطفال- وإن كانوا من أسر توارثت العمل في الزراعة- على تعلم القراءة والكتابة وتلاوة القرآن الكريم، رغبة في التعلم بحد ذاته، أو أملا في الوصول إلى تلك المكانة الجيدة بعد التعلم، أو تحقيقا للرغبة والأمل معا. وما كان موت أم الطفل حمد ليصرف والده عن إرساله إلى مدرسة من أجل تحقيق ذلك الهدف، بل ربما كان دافعة له كي يقوم بإرساله إليها تسلية له، أيضا، عن بعض أحزانه المريرة بفقد  أمه.

مسيرته العلمية

          كانت معرفة الطفل حمد لمبادىء القراءة والكتابة وإتقانه تلاوة القرآن الكريم في مسقط رأسه من الأمور التي سرت أباه كثيرا، وأعطته هو ثقة بقدرته على  اكتساب مزيد من العلم. وما إن بلغ الثالثة  عشرة من عمره حتى بدأت المرحلة المهحة في حياته، إذ بعثه أبوه إلى أحد طلبة العلم من أقاربه في الرياض قاعدة الحكم ومركز التعليم الشرعي في نجد. ولما استقر في الرياض شرع في الدراسة على عدد من علمائها وفق الأسلوب الذي كان متبعا حينذاك، ووفق الأولويات المرعية في اختيار المواد والكتب المدروسة. فدرس الأصول الثلاثة في التوحيد، وآداب المشي إلى الصلاة في الفقه، وكلاهما من تأليف الشيخ محمد بن عبدالوهاب. والأول يهدف، باختصار، إلى أن يعرف المبتدئ ربه ودينه ونبيه محمدا صلى الله عليه وسلم. أما الثاني فأشمل مما يوحي به عنوانه، إذ يتناول، بإيجاز، أحكام الصلوات الخمس وبقية الصلوات الأخرى، كما يتناول أحكمام الزكاة والصوم. وبالإضافة إلى هذين الكتابين المختصرين شرع في دراسة الأجرومية وملحة الإعراب في قواعد اللغة العربية. على أن وفاة قريبه الذي بعث به أبوه إليه جعلته يعود إلى قريته ليجد المرض قد أنهك ذلك الأب. وبوفاة أبيه كفله جده لأمه الذي كان إمام (مطوع) أهل القرية، فصار يقرأ عليه بعض الكتاب. ولضعف بصر الجد أخذ الحفيد ينوب عنه، أحيانا، في الخطابة وتدريس الأطفال. لكن أخاه الأكبر لم يرض حالته، فذهب به إلى الرياض، عام 1346 هـ، ونجح في ضمه إلى صفوف طلبة العلم، فانتظم معهم في الدراسة على كبار مشائخها. وكان من العلوم التي درسها التوحيد والحديث والفقه والفرائض والنحو.

          وفي أثناء ذلك دخلت الحجاز تحت حكم الملك عبدالعزيز، وبدخولها تحت هذا الحكم انفتح ميدان جديد لطلبة العلم النجديين، إذ كان التعليم النظامي، أو المدني، في الحجاز قد خطا خطوات لا بأس بها. وما إن أدى المتحدث عنه حجه الأول، عام 1348 هـ، حتى التحق بالمعهد السعودي في مكة. وتخرج في قسم القضاء الشرعي فيه سنة 1353 هـ.

حياته العملية

          لم يبدأ الشيخ حمد حياته العملية في مجال القضاء، الذي كان تخصصه الدراسي يؤهله للعمل فيه، وإنما فضل أن يعمل مدرسا. وكان أول مكان درس فيه بلدة ينبع. وهو وإن عمل قاضيا بضعة شهور من سنة 1357 هـ إلا أن رغبته في مزيد من التحصيل العلمي كانت ملحة. ووافته الفرصة لتحقيق تلك الرغبة عام 1358 هـ، فانتهزها، إذ سافر في ذلك العام إلى القاهرة، حيث التحق بكلية الآداب. لكن الظروف العامة، التي كان من أهمها هبوب رياح الحرب العالمية الثانية، حالت دون إكماله دراسته هناك. وبعد عودته إلى وطنه درس في عدة أماكن من المملكة، ثم تولى مناصب إدارية تعليمية متعددة، منها الإشراف على مدارس أرامكو في الظهران، وإدارة التعليم في نجد. وكان آخر لا إداري تربوي له توليه إدارة كليتى الشريعة واللغة العربية في الرياض سنة 1376هـ. وهاتان الكليتان كانتا نواة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

صفاته وإنتاجه العلمي

          وهب الله الشيخ الجاسر صفات ذاتية فريدة أهلته لأن يصل إلى ما وصل إليه من معرفة موسوعية عظيمة، وأحلته المكانة الرفيعة في نفوس الباحثين بخاصة بعامة. كان من صفاته الصبر الذي لا حدود له على البحث، والجلد المتناهي فى سبيل الوصول إلى الهدف العلمي، و العشق الخالد أن للكتاب والتدوين. ومن الأدلة على كل هذا ما قام به من أسفار داخل المملكة العربية السعودية للتحقق من دقة المواقع وصفاتها، وما تحمله من مشاق الترحال إلى بلدان كثيرة للاطلاع على خزائن مكتباتها والتنقيب عن تراث الأمة العربية الإسلامية فيها، وما قرأه من كتب مخطوطة ومطبوعة قراءة متدبر ناقد، ما دونه من الكتب، تأليفا أو تحقيقا، ودبجته براعته من المقالات، طرحا لآراء أو نقدا لدراسات، أو تصحيحا لمعلومات جغرافية أو تاريخية أو لغوية وكان عشقه للكتابة والتدوين أقوى من أن يحد من عظمته ما كان عليه من ضعف بصر لازمه أكثر من خمسين عاما بحيث احتاج، أحيانا، إلى استخدام المكبر في القراءة. ولقد نجاوز ما دونه من كتب ومقالات وتعليقات ألفا وخمسمائة عمل.

          وكان من صفات الشيخ حمد الذاتية الفريدة قوة الذاكرة. فكان آية في ذلك: لا يحفظ الأشعار فقط، بل يحفظ العبارات النثرية، ويحفظ أسماء من التقاهم أو عرفهم بأي طريقة عبر السنين الطويلة التي عاشها، ويحفظ عناوين الأمكنة وأرقامها. ولعل من عجائب ذاكرته القوية أنه لم يحفظ الأحداث القديمة التي مرت به- كما قد يحفظ أقوياء الذاكرة الآخرون- فحسب، بل كان يحفظ بدقة الأحداث التي مرت به بعد بلوغه التسعين من عمره.

مكانته وتقديره

          لم يكن غريبا أن يحتل علامة موسوعي اتصف بالصفات العلمية والذاتية التي اتصف بها الشيخ حمد الجاسر مكانة رفيعة بين الباحثين والدوائر العلمية المرموقة في الوطن العربي. ولذلك انتخب عضوا في المجامع العربية اللغوية والعلمية، وأدى من خلالها أدوارا كبيرة لم يكن في وسع غيره أن يقوم بأمثالها، وبخاصة ما يتعلق بتراث جزيرة العرب، شعرا ولهجات وأمكنة وتاريخا وقبائل وأنسابا. فقد انتخبه المجمع العربي العلمي بدمشق (مجمع اللغة العربية فيما بعد)، سنة 1370 هـ، وانتخبه المجمع العلمي العراقي سنة 1374 هـ، ثم انتخبه مجمع اللغة العربية في القاهرة عام 1378 هـ، وهو عضو في مؤسسة ىل البيت التي تعني باحضارة العربية، إضافة إلى عضويته في مراكز ومؤسسات علمية أخرى.

          وإذا كان تقدير الشيخ حمد واضحا كل الوضوح لدى القراء والباحثين بحيث يغني عن التقدير الرسمي من جهات علمية مرموقة فإن هذه الجهات قد رأته، بحق، أهلا للتقدير. ومن ذلك أنه نال جائزة الدولة التقديرية للأدب (في المملكة العربية السعودية) عام 1404 هـ، ووسام التكريم من قادة دول مجلس التعاون سنة 1410 هـ. كما نال جائزة الملك فيصل العالمية في الأدب العربي سنة 1416 هـ، وجائزة سلطان العويس في مجال الإنجاز الثقافي والعلمي ودرجة الدكتوراه الفخرية من جامعة الملك سعود في العام نفسه، ثم نال جائزة الكويت للتقدم العلمي، ووسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الثالثة عام 1417 هـ.

          على أن الجائزة الكبرى التي يرفع كاتب هذه السطور كف الضراعة إلى بارئه أن يمنحها شيخه وأستاذه- وقد رحل إلى دار القرار- هي أن يغفر الله له ويتغمده بواسع رحمته ورضوانه، وأن يجزيه حسن المثوبة على ما قدمه لتراث أمته وحضارتها وقضاياها من خدمات جليلة.

 

عبدالله الصالح العثيمين