بنجلاديش بشر وأنهر وقحط

بنجلاديش بشر وأنهر وقحط

تصوير: حسين لاري

عندما زارها الرحالة العربي ابن بطوطة في القرن الرابع عشر قال عنها إنها أغنى بلاد الدنيا وأفقرها. فقد هالته عظمة الأنهار وخصوبة الأرض وأحزنه بؤس الناس الذين يسكنون الضفاف. كما يجوس في أرض الآلآم كما يعني اسمها بلغة أهل التبت. ولكنها أيضا يمكن أن تصبح سلة طعام جنوب آسيا كلها إذا وجدت منفذا من دائرة التخلف وتوصلت إلى حل يخفف من قسوة الطبيعة عليها.

في إحدى الصحف التي تصدر بالإنجليزية - وما أكثرها في بنجلاديش - قرأت أنا وزميلي المصور خبرا عن عرض للباليه يقام في مركز الدراما في "دكا". خبر مدهش. وسط زحام الريكشا وبيوت الصفيح ومستنقعات البعوض والأطفال العراة يقام عرض للباليه. أصررت على الذهاب وقال لي زميلي المصور بلهجته الكويتية "يا معاود.. هل تصدق هذه الخرابيط؟".

في الفندق الذي كنا نقيم فيه لم يكن أحد قد سمع عن شيء اسمه مركز للدراما. ظللنا ننتقل من موظف لموظف حتى كتب لنا رجل يبدو من مظهره أنه نصف فنان اسم شارع قال لنا إنه يعتقد أن فيه شيئا اسمه مركز للدراما وهكذا بدأنا رحلتنا غير المتوقعة في أغوار مدينة "دكا".

منذ أن خرجنا من الفندق وقد ظل ولد صغير يلاحقنا عارضاً خدماته. في العادة كنا نتجاهل هذا النوع من الملاحقات. فلا أحد يتركك هنا تسير في حالك دائما يوجد من يسير خلفك هاتفا في إلحاح: هل تريد شيئا؟ كل شيء، نساء، مخدرات أي شيء. ولكن هذا الولد الصغير كان مختلفا. لم نكن نرى في جسده النحيف وجلده الداكن إلا عينين متألقتين. بدا من جفاف شفتيه أنه لم يأكل منذ أيام. وبرغم ذلك كان يعرض علينا خدماته بنوع من الاعتداد بالنفس. وعلى ثقة بأننا أحوج إلى خدماته منه إلينا. قال بكلماته الإنجليزية القليلة: "أنا دليل للأجانب، من دوني يمكن أن تضيعوا في الشوارع.. سوف أتكفل بحمايتكم" كان من الغريب أن يقدم لنا صبي كهبة الريح كل هذه التأكيدات. فور أن لمح صمت القبول على وجوهنا أسرع يستدعي "ريكشا" ليأخذنا إلى مراكز الدراما الذي أكد لنا أنه يعرفه مثل كف يده (تبين لنا فيما بعد أنه لا يعرف أي شيء).

ثم جاءت الريكشا. ولعلكم لاحظتم شكلها في الصور المصاحبة لهذا الاستطلاع. دراجة عادية مركب على جزئها الخلفي مقعد يجلس عليه الركاب بينما يقوم قائد الريكشا الذي لا يملك ساقين قويتين بقيادتها وسط أوعر الطرق وأكثرها ازدحاماً. نظرت أنا وصاحبي المصور إلى أجسامنا التي تبدو غير طبيعية وسط أجساد المارة البالغي النحافة وهم يتقافزون فوق الأرصفة المحطمة مشغولين بمضغ أعشاب "اللبان" وبصق اللعاب الأحمر. أشفقنا على السائق وساقيه النحيفتين وطلبنا من إبراهيم - دليلنا - أن يبحث لنا عن تاكسي ولكنه أكد لنا أن الريكشا تحمل أي شيء، وكل شيء. وهكذا ركبت أنا وزميلي بصعوبة. وكانت المفاجأة أن إبراهيم تعلق هو أيضا من خلف وبدأنا السير متأرجحين على وشك الانزلاق في أي لحظة.

الريكشا بالفعل تحمل أي شيء، أحيانا تحمل عائلة بأكملها. وأحيانا تحمل سيقانا من غاب البامبو تكفي لصنع سقف بيت. وأحيانا تحمل من البضائع والسلال ما يصل ارتفاعه إلى الطابق الأول من المنازل التي تحيط به. لا حصر لأعداد الريكشا التي تملأ الشوارع والأرصفة. الآلاف منها ومع ذلك مازال كل بنغالي يحلم بالحصول على واحدة. وهو يحيطها بعناية كأنها فتاة، يرسم على ظهرها كل شيء من نباتات وأزهار وحيوان. برج لندن وتاج محل وسور الصين، صور نساء جميلات، ممثلين مشهورين. وعلى ذكر الممثلين فصناعة السينما هي صناعة محلية مزدهرة يشهد على ذلك الزحام الدائم الذي نراه دائما في مداخل دور العرض فالجمهور شغوف بتلك الميلودراميات الطويلة التي تمتلىء بالرقص والغناء والدموع مثل بقية أهل القارة الهندية، ودور السينما لا تعرض إلا الأفلام البنغالية أو الأمريكية فقط. لا مجال للأفلام الهندية لأن صناع السينما يقفون لها بالمرصاد خاصة أنها تنتج نفس نوع الدراما. كما أن المزاج الإسلامي الذي يسود البلاد لم يكن يحبذ الثقافة الهندوسية كثيراً. أدركنا ذلك حين استوقفتنا المظاهرة الأولى.

كانت صاخبة. أوقفت سيل عربات الريكشا والسيارات وارتفع هديرها الغاضب فوق أصوات أبواق الاحتجاج. خليط من الشباب يحملون لافتات مكتوبا عليها باللغة البنغالية. خط مستقيم في الأعلى تتدلى منه بقية الحروف الملتوية كأنها غسيل منشور. بصعوبة أدركنا من إبراهيم سبب المظاهرة. كانت ضد عودة الثقافة الهندوسية إلى البلاد مرة أخرى. وذلك بمناسبة الأسبوع الثقافي الذي أقامته الهند في مقاطعة شيتاكونج. وهي مقاطعة في الشمال تسكنها أغلبية هندوسية. إن المزاج مازال حساساً تجاه كل ما هو هندي. ومع وصول حكومة الشيخة حسينة إلى الحكم وهي ابنة زعيم حزب عوامي المشهور. فمن المتوقع أن يزداد التأثير الهندي في البلاد ولعل حدة هذه المظاهرة كانت تحسبا في مواجهة هذا الأمر.

الكثيرون قد تحفزوا مع مجيء الشيخة حسينة، فقد كان أبوها مجيب الرحمن هو الذي استدعى القوات الهندية للدخول إلى الحرب حتى تساعدهم على الانفصال من باكستان. ولم يساهم هذا كثيراً في رفع اسهم الهند. فعندما سألت الدكتور أثير الرحمن، وهو اقتصادي ومتخصص في دراسة الكوارث وتأثيراتها الاقتصادية، عن سبب قسوة الكوارث الطبيعية في بنجلاديش ولماذا تخلف كل هذا القدر من الدمار، أجاب على الفور: "الهند". لم يتحدث عن أن بنجلاديش واحدة من أشد الأراضي انخفاضاً في العالم حتى أن الماء يغمر 20% من أراضيها طوال العام. ولم يتحدث عن أنظمة الري البدائية وافتقار البلاد إلى سدود حقيقية تنظم تدفق المياه. قالت فقط الكلمة، التي تلخص الشعور الشعبي الدفين تجاه تاريخ طويل من الاضطهاد الديني والعرقي. قال موضحا: "في الشتاء عندما تقل المياه وتتوقف الأمطار الموسمية تغلق الهند كل سدودها فتصاب أراضينا بالجفاف. وفي الصيف عندما يهطل المطر وتذوب الثلوج فوق قمم الهيمالايا تفتح الهند كل سدودها فتغمر المياه كل أراضينا المنخفضة وتدمر كل شيء".

لا أحد يتحدث عن باكستان بخير أو شر. لقد انتهى الصراع الذي كان قائما وأصبحت الآن مجرد جار بعيد. تداعيات حرب الاستقلال وما صحبها من آلام مازالت حية برغم مرور أكثر من ربع قرن عليها. رئيسة وفد نسائي بنغالي كتبت أنها اشتركت في أحد المؤتمرات وجلست بجانبها رئيسة الوفد الباكستاني التي قالت لها.. "إنها لا تزال تشعر بالخجل لأن باكستان لم تعتذر بعد عن إغتصاب الجنود البنجاب لآلاف النساء البنجلاديشيات". العلاقات كلها بين أجزاء شبه القارة التي قسمت إلى خمس دول مصبوغة كلها بالدم، والثارات لا تنسى بسهولة.

في الطريق إلى بلدة "مين ماتي" شمالا نحو شيتاكونج أتيح لي أن أشاهد بضعاً من شبكة الأنهار العظمية التي تعبر أراضي بنجلاديش. كان بعضها بالغ الاتساع. فالمسافة بين ضفتي نهر برهما باتورا جامونا لا تقل أبداً عن خمس كيلومترات وتصل وقت الأمطار الموسمية إلى حوالي عشرة كيلومترات. وعلينا أن نفهم لماذا تغرق عشرات القرى كل عام. ويمثل نهر الجانج المشكلة الرئيسية مع الهند فهم عاجزون حتى الآن عن الوصول إلى اتفاقية لتقسيم مياهه. النهر العظيم الثالث هو "المخبا" وهو يقابل الكانج في أحد أجزائه قبل أن تصب جميعا في خليج البنغال. وهكذا تبدو بنجلاديش الدولة الوحيدة في آسيا التي تنام على ضفاف ثلاثة من أكبر أنهار العالم. وبرغم كل ذلك فإن إغلاق نهر الجانج عن سد فاركا يهدد الجزء الشمالي الغربي من بنجلاديش بالخراب ويقف بحوالي 40 مليون فلاح على حافة المجاعة. من هنا نرى أن الصراع مع الهند - برغم كل العلاقات الجيدة - لا يبدو على وشك الانتهاء.

مأساة كاتبة

مأساة الكاتبة البنجلاديشية تسليمة نسرين جاءت من الهند أيضا إذا جاز لنا أن نقول هذا.

عندما سألت أحد رجال الدين عن هذه الكاتبة، هتف على الفور"الفاجرة"، قلت له إن كان قد قرأ روايتها "العار" أو "لاجا" كما هو اسمها البنغالي أجاب بامتعاض "أنا لا أقرأ تلك الروايات الفاجرة" وخشيت أن أتمادى في السؤال وإلا ثارت إحدى المظاهرات الصاخبة التي تثور لأي سبب في شوارع دكا.

إنها بعيدة الآن، هاربة في إحدى البلدان الأوربية ربما النرويج وربما ألمانيا. ولكن الحكم الذي أصدرته محكمة دكا في يونيو 1994 وادانتها فيه بالكفر والإساءة للإسلام لم يسقط. وكذلك فإن الجائزة التي تبلغ 2500 دولار والتي رصدها أحد رجال الأعمال البنغاليين لمن يأتي برأسها مازالت قائمة أيضا.

وقد بدأت مأساة هذه الكاتبة التى تعمل أيضا طبيبة أطفال حين استفز مشاعرها حوادث العنف التي اشتعلت في بنجلاديش بين الطائفتين الإسلامية والهندوسية. ففي ديسمبر عام 1992 هدم المتطرفون الهندوس في مدينة "أيودها" مسجد "بابري" الذي يعود تاريخه إلى 500 عام بحجة أن هذا المسجد يضم رفات "راما" أحد آلهة الهندوس.

وعندما انتقل الخبر إلى باكستان وبنجلاديش نهضت الطائفة الإسلامية في البلدين وصبت غضبها على الأقلية الهندوسية في كلا البلدين. وهذا هو ما دفع تسليمة.. لكتابة "العار". لم تكن تهدف إلى الهجوم على الإسلام. ولكن علي التصرفات العنصرية التي قام بها بعض المسلمين في بلدها. وهي لم تدن التطرف الإسلامي فقط ولكن أدانت كل أنواع التطرف الديني.

والرواية تحكي بإيقاعها السريع عن أسرة هندوسية من بنجلاديش تعيش وقت هذه الاضطرابات وهي تحس أنها محاصرة بكل مشاعر الغضب والاضطهاد وهي تنعي على بنجلاديش الدولة التي ولدت عام 1971 كدولة علمانية تضم المسلمين والهندوس قد تغيرت لتصبح فريسة للمتعصبين الذين يهاجمون جيرانهم ويحرقون معابدهم. وقد كتبتها المؤلفة في سبعة أيام فقط كتعبير عن غضبها إزاء ما يحدث. وكلمة "لاجا" تعني العار باللغة البنجالية. وقد قالت عن هذه الرواية "برغم أنني لست هندوسية فإنني شهدت اضطهادهم الشديد. وعندما أحرقت معابدهم انتقاما لتدمير مسجد "بابري" شعرت بمدى محنتهم."

وفور أن صدرت هذه الرواية القصيرة بيع منها ستون ألف نسخة قبل أن تصدر حكومة خالدة ضياء الدين قراراً بمصادرتها لأنها تسيء إلى الوحدة الوطنية. ولم يجعل هذا تسليمة تتراجع عن إرادتها، ترجمت الرواية إلى الإنجليزية وانتقلت إلى الهند التي اتخذت منها الجماعات المتطرفة مثل حزب "بهاراتيا جاناتا" دليلا على الأعمال اضطهاد المسلمين للهندوس في بنجلاديش، وبرغم وزاد الأمر سوءاً عندما أجرت صحيفة هندية حديثا مع المؤلفة قالت فيه "إن القران يحتاج إلى مراجعة شاملة.

وثارت الدنيا على تسليمة مرتين، مرة لأنها قد مست أعز كتاب مقدس. ومرة أخرى لأن هذا الأمر جاء في صحيفة هندية. وقد نفت تسليمة نصر الدين ما قالته وأكدت أن الصحفي الهندي لم يفهم ما قالته. ولكنها بدلا من أن تصلح ما قالته وتعتذر عنه زادت من درجة الحدة في هجمومها حين صرحت: "كنت أقصد القرآن والفيدا والإنجيل، كل هذه النصوص الدينية التي أصبحت خارج المكان والزمان".

واشتعلت المظاهرات. ودافعت الهند والدول الغربية عن تسليمة فازدادت درجة الغضب عليها. وانتهى الأمر بهروبها ولجوئها سياسيا حيث حصلت على جائزة "نادي القلم" السويدية عام 1994 .

ولا تزال المظاهرات تعصف بشوارع دكا من كل صنف ولون.

حائكات من الباطن

أخيراً انتهت المظاهرة ونحن مازلنا أسرى عربة "الريكشا". بدأت المواصلات في التدفق في سرعة. لا أحد يعبأ بإشارات رجال المرور وهم يحاولون القيام بمهمتهم المستحيلة وسط الزحام والعادم والغبار.

امتلأ الشارع فجأة بالنساء والبنات الصغيرات. نحيفات. منكفئات. كأنهن أعواد من البامبو لا يلف أجسادهن إلا سار باهت الآن، بلا زيادة ولا بروزات. اسأل دليلنا الذي يشبههن في النحافة، هل هي مظاهرة نسائية أخرى؟ يهز إبراهيم رأسه نافيا: كلا إنة موعد خروج العاملات من "الجارمس".

كان علي أن أبقى في "دكا" بضعة أيام لأعرف ماذا يعني "الجارمس" وأن أبحث عن واسطة أحد المعارف حتى أتمكن من دخول إحداها والحديث مع العاملين فيها. إنها أماكن محاطة بسرية ولا أحد يريد أن يفصح عن أعماله أو الجهة التي يتعامل معها لأنها مرتبطة بواحدة من أكبر الأسواق العالمية وأعني بها صناعة الملابس. والجارمس بنايات عالية. ربما كانت من أعلاها في "داكا"، معتمة، نوافذها ضيقة عليها قضبان وأسلاك ولا ينطفىء فيها الضوء ليلا أو نهاراً أو تتوقف آلاف الماكينات التي تدور على مدار الساعة. منكفىء عليها المئات من النساء والبنات والأولاد الصغار. يعملن ويأكلن وينمن أحيانا في نفس المبنى. أما المنتجات النهائية فهي بالغة السرية ولا يراها أحد بعد أن يتم تغليفها. فالأقمشة تأتي من أوربا وأمريكا واليابان ومرفق معها التصميمات التي تقوم بها أرقى بيوت الأزياء في هذه البلاد. وليس على هاتي الحائكات إلا تنفيذ أوامر هذه الدور بكل دقة. وبعد ذلك تلصق الماركات العالمية التي تحمل أسماء هذه الشركات ليعاد تصديرها مرة آخرى حيث تعرض في واجهات العرض بأرقى شوارع العواصم الأوربية وبأعلى الأسعار. إن بيوت الأزياء العالمية تستغل وفرة الأيدي العاملة ورخصها كي تنفذ كل ما تريده. وهكذا فإن كل ما يعرض في شوارع لندن وباريس ونيويورك مصنوع في هذه "الجرامس" البائسة. بواسطة أنامل نساء وأطفال لا يكفي أجرهم في عام واحد لشراء كم قصير من فستان من الفساتين التى يقمن بصنعها. ولا أدري ما هي مشاعرهن وهن يتحسسن نسيج تلك الأقمشة والأبرة ترتفع وتهبط لتكمل الثنيات وترصعها بالتطريز والنقوش. ولا أدري كيف يتم تخليص هذه الثياب بعد ذلك من رائحة عرقهن وعوزهن وأحلامهن العاجزة. تذكروا وأنتم تشاهدون عارضات الأزياء البارعات الجمال وهن يسرن بخطواتهن الأنيقة المدروسة أن على ثيابهن جزءاً مهدراً من إنسانية فتاة بنجلاديشية لم تتلق مقابل كل ما صنعته سوى الفتات.

مازلنا نواصل سيرنا - أقصد جلوسنا على الريكشا - والسائق منتصب على ساقيه النحيفتين على بدالة الدراجة. أو يهبط أحيانا ليدفعها بيده ثم يرتفع الطريق قليلا. والمدينة تكشف لنا محلاتها الصغيرة البالغة الضيق. والشوارع المليئة ببيوت الصفيح ومستنقعات المياه.

في كل بلاد العالم تحيط هذه البيوت بالمدن الكبرى كالحزام. ولكنها هنا مكون أساسي من نسيج المدينة. بل أنها تعتبر رفاهية بالنسبة لأكواخ البوص التي لا يغيطيها سقف. وللأخرى التي لا تتكون إلا من خرق قماش متهرئة لا تمنع رياحاً. تبدو أيضاً الأبنية الحكومية بالغة القدم. معظمها تم بناؤه منذ أيام باكستان. وربما أيام الحكم البريطاني. لم يضف الاستعمار شيئا أكثر أهمية من المشاكل المتتابعة. المبنى الحديث هو مبنى البرلمان. متميز في معماره برغم أنه يبدو غارقاً وسط المياه الراكدة. ويبدو أن هذا الموقع قد تم اختياره خصيصاً حتى لا تحاصره المظاهرات التي لا تهدأ. ولكن بينما كنا نقترب من مبنى وزارة الإعلام رأينا المظاهرة الثانية. لكنها مظاهرة نسائية. كان من الواضح أنهن قد طفن أرجاء المدينة يحملن اللافتات ويرددن الاحتجاجات قبل أن يفترشن الشارع ويرغمن وسائل المواصلات على تغيير مساراتها.

كانوا قد بدأوا يعدون منصة للخطابة، وسارية خشبية تحمل مكبر الصوت. ولم تكن المظاهرة تخلو من الرجال. أولهم كانوا رجال الشرطة الذين يجلسون على مبعدة متحفزين بالعصي والدروع. وثانيهم كانوا بائعي الحب والفول. وكانت النساء غاضبات، أشد صخبا وجلبة، ربما لأنهن يعانين أكثر من حرقة الجوع وشدة الحاجة. كن يلوحن بقبضاتهن في وجه عدو مجهول، ربما هو الرجل.. وربما هي السلطة التي تعتلي قمتها امرأة.

المرأة في بنجلاديش تحتل مكانا متدنيا إلى حد بشع، فهو توأد وهي صغيرة برغم أن الشريعة الإسلامية تحرم ذلك. وتأخذ أقل ومن حقها في الطعام والأجر والمكانة. إن الرجل البائس الذي لا يملك أي سلطة، يملك سلطة واحدة فقط هي التحكم في المرأة.

المرأة الريفية واحدة من أفقر نساء العالم. لا تحصل على 2000 سعر حراري فقط يوميا. أي ما يقل عن نصف احتياجات الإنسان ولا يعفيها هذا من أشق أعمال الفلاحة والري حيث يتم كل شيء بطرق بدائية. وفي المدينة تشارك في أعمال البناء وحفر الطرق وتكسير الأحجار. وبرغم أن الزواج يتم وفق الشريعة الإسلامية فإن العادات الهندوسية لا تزال غالبة. فالمرأة يجب أن تدفع "دوطة" لرجل حتى يقبل الزواج منها. وقد أصدرت الحكومة قراراً بتحريم هذا الأمر ولكن قوة العادة أكثر انتشاراً فالرجل لا يسعى إلا للمرأة التي تملك شيئا يطمع فيه. وهكذا تعمل الفتاة ساعات عمل متواصلة لعلها تظفر بعريس يكون أقل طمعاً من الآخرين. وحتى بعد الزواج تتحول المرأة تدريجيا لتكون عائلا للأسرة ويصبح الزوج كسولا ومتعطلا وزائغ العينين خلف غيرها من النساء.

رجل الاقتصاد الوطني محمد يونس حاول أن يحسن هذا الوضع غير الإنساني للمرأة فأنشأ بنك "جارمن" الذي يهدف إلى منح قروض صغيرة يتقاضى عنها فوائد بسيطة ليساعد المرأة على إيجاد رأس مال لعمل متواضع تقوم به، صنع سلال، حياكة، بيع طعام. أشغال يدوية. أي شيء. ولكنه كان يهدف في الأساس إلى منح المرأة القدرة على أن تكون مستقلة اقتصاديا. وكان شعاره أن البنك يساعد من يرغبون في مساعدة أنفسهم. وقد نجحت التجربة وانتشرت في القرى الفقيرة خاصة أنه لا يطلب أي نوع من الضمان تقريبا لأن المتعاملين معه لا يملكون أي نوع من الضمانات. وقد أشاد بهذه التجربة العديد من دول العالم. وأثناء زيارتنا كانت الملكة صوفيا ملكة إسبانيا تزور البلاد وقد أصرت على زيارة أحد فروع هذا البنك. وبرغم ذلك فهو يلقى هجوماً كثيفا من بعض المتطرفين دينيا. وقد أكد لنا أحد رجال الدين غاضباً. "لقد ساهم هذا البنك في إفساد الأسرة فقد قوى من مركز المرأة على حساب الرجل وجعلها قادرة على الاستغناء عنه."

كانوا هم أيضا يريدون أن تبقى المرأة في نفس وضعها المتدني. ولكن.. أليس من الغريب أن تكون المرأة بهذا الوضع في أسفل الهرم الاجتماعي ومع ذلك تتوالى النساء على قمة السلطة في نفس البلد.

سألت الفنانة زكية هذا السؤال. كنت قد شاهدت معرضها في إحدى قاعات الفندق الذي نقيم فيه وبدت لوحاتها وهي تعبر عن الريف في البنغال في ألوان ذائبة بين الواقع والحلم. لم تكن الأشخاص ظاهرة في لوحاتها ولكن بقايا هؤلاء الأشخاص أو ظلالهم الملونة. كأنها تستحضر ذكريات مطمورة.. قالت: "توجد طبقة أنا أنتمي إليها. نالت حظها من التعليم وكان من حسن حظها أن الزواج لم يطمس موهبتها أو يقتل طموحها. المرأة في البنغال بالغة القوة. ولو أوتيت قليلا، من الدعم لفعلت الكثير.. ولكنى أعتقد أن وصول المرأة للسلطة هنا فيه كثير من الثأر الشخصي".

كان الشيء الحقيقي الذي حافظ على موهبتها برغم أنها لم تجعله سببا رئيسيا في حديثها هي أنها رحلت بعيداً واستقرت في أمريكا. أتاح لها هذا الفرصة أن تنمي موهبتها وأن تشارك بلوحاتها في المعارض العالمية.. ولكن كلماتها الأخيرة لاتني تطن في رأسي.. عن تلك العلاقة الحميمة بين السلطة في بنجلاديش والثأر الشخصي. كل الذين سألتهم أكدوا لي هذا الأمر بشيء أو بآخر.. فحتى الشيخة حسينة التي لم تصعد إلى قمة السلطة إلا منذ أشهر قليلة كان أول اهتماماتها هو البحث عن الذين قتلوا أباها مجيب الرحمن.

الثأر الشخصي

في بيت مجيب الرحمن الذي تحول إلى متحف يحمل اسمه شاهدنا بداية الثأر الشخصي وأسطورة الدم. بيت صغير في شارع ميربور بجانب بحيرة واسعة من المياه الراكدة. أخبرنا مدير المتحف أن التصوير ممنوع. ولما أخبرناه أننا نتفهم ذلك وسوف نكتفي بأخذ بعض الملاحظات، قال لنا أيضا إن أخذ الملاحظات ممنوع.

كان البيت صغيرا متواضعا. يحيط به سور واطىء. ولعل هذا السبب في أنه لم يمنع زعيم حزب عوامي من الاغتيال. في هذا البيت بدأ مجيب الرحمن معارضته لتحكم الجزء الغربي من باكستان في الجزء الشرقي. كانوا يشكون من الإهمال ومن قلة الاستثمارات فأثناء الاتحاد لم يستثمر إلا 6% منها فقط في البنغال. وبرغم أنها تمد باكستان بمعظم حاجتها من الغذاء فإن أسعاره في دكا أعلى بكثير من لاهور. وتفجرت شرارة الاشتعال من رفض باكستان الاعتراف باللغة والثقافة البنغالية. لقد قاد مجيب الرحمن رحلة الانفصال. وارتكبت باكستان العديد من الأخطاء. ودخلت الهند الحرب. وتم القبض على مجيب الرحمن ونقل إلى السجن في لاهور. وعندما هزمت باكستان وأعلن 30 ألف جندي استسلامهم فى دكا لم يعرف بالأمر. فقد أمر الرئيس ضياء الحق الذي تولى السلطة بنقله على متن طائرة خاصة في رحلة سرية من السجن إلى لندن. وعرف هناك أنه قد انتصر وأن عليه أن يشكل الحكومة الجديدة بواسطة الهاتف.

ولكن رحلة الاستقلال لم تكن سهلة. فقد أحاطت به المتاعب الاقتصادية. لم يرحمه خصومه ولا أنواء الطبيعة. فبعد سنوات خمس فقط كانت البلاد تقف على حافة الكارثة. وأعلن هو بنفسه أن الفيضانات قد تسببت في موت 270 ألف مواطن من شدة الجوع. وأصدر أوامره بفتح مخازن الجيش لإطعام الجوعى فتدفقت الملايين منهم على العاصمة. وبدأ الجيش بحملة مضادة لإعادتهم إلى قراهم سقط فيها القتلى وأدخل الآلاف إلى معسكرات تجميع مثيرة للرعب. تحول حلم مجيب الرحمن إلى كارثة. وتدهورت العلاقة بينه وبين المؤسسة العسكرية التي كانت تتحفز للوصول إلى السلطة. وهكذا في ذات ليلة من عام 1975 تجمع 120 رجلا مسلحاً تحت قيادة عقيد يدعى فاروق الرحمن وهجموا على المنزل الصغير. في البداية قتلوا الحرس الشخصي الذي كان نائما عند الأبواب ولم يصدق مجيب الرحمن أذنيه وهو يسمع طلقات الرصاص وخرج ليقف أمام المهاجمين بملابس المنزل وهو يهتف بهم لن تستطيعوا قتلي، الجيش الباكستاني لم يقدر على ذلك.

كان يحاول خداعهم أو كسب الوقت، لأن الرد على ذلك كان عمليا حين اخترقت الرصاصات جسده. وكانت زوجته وبقية الأولاد والخدم في غرفة النوم الصغيرة فاقتحم عليهم المسلحون الباب وقتلوهم جميعا. لم ينج أحد إلا الشيخة حسينة التي كانت فتاة صغيرة في هذا الوقت تستكمل دراستها في لندن.

لقد ظل لغز القتل غامضا برغم القبض على القاتل، لأنه كما يحدث في العديد من القضايا السياسية تم قتله في السجن هو أيضا قبل أن يستكمل التحقيق معه.

وهكذا دخلت السيدة الأولى في مجال السياسة. ابنة الزعيم التي جاءت تبحث عن العدل. وبعيداً عن منزل مجيب الرحمن. في مواجهة مبنى البرلمان توجد الحديقة الوطنية في دكا وفي وسطها تماما يوجد النصب التذكاري للرئيس ضياء الرحمن الذي تولى حكم البلاد بعد فترة مضطربة من موت مجيب الرحمن.

لم يكن هذا الضريح الخالي من الأبهة يوحي بالأسطورة التي كان يمثلها ضياء الرحمن. مجرد دائرة رخامية في المنتصف تحيط بها جدران من القرميد الأحمر. يسير حولها بائع الحب والعشاق الصغار دون أن يأبهوا بالنظر إليها. مضى ذلك الزمن الذي كان هذا الديكتاتور بطلا قوميا أنقذ البلاد من حرب أهلية بعد أن قبض عليها بقبضة من حديد. اكتشف الجميع أنه لم يكن إلا مجرد ديكتاتور من العالم الثالث. صنع الانتخابات على مقاسه، وقدم حلولا سريعة الأجل وتحول وجوده إلى رعب مقيم.

عندما قام ضياء الرحمن بزيارة السادات في القاهرة عام 1977 فوجئ بالمخابرات المصرية وهي تحذره من انقلاب ضده سوف يقوم به سلاح الطيران أثناء استعراضهم في اليوم الوطني. ومن الغريب أن السادات لم يفلح في تحذير نفسه. وعاد ضياء الدين إلى بلاده منتبها وحذراً. عندما حدث انقلاب الطيران بعد 3 شهور كان مستعداً له تماما وفشل الانقلاب. ولكنه لم يستطع النجاة حين اصطاده المتآمرون في وقت قيلولته عندما كان يزور مقاطعة "شيتا كونج" فقد قتلوه وهو يلبس "البيجاما". ويبدو أن هذا هو أسلوب الاغتيال الشائع في بنجلاديش. ولم تكن البيجوم خالدة ضياء معه هذه المرة ولكن بعيداً في "دكا" وقد تولت بعد ذلك هي نفسها رئاسة الحزب ثم رئاسة الوزراء ودخلت معترك السياسة من أجل الثأر الشخصي.

توجد أيضا سيدة ثالثة. برغم أنها ليست بشهرة الشيخة حسينة ولا البيجوم خالدة. لأنها لم تتول الوزارة بعد وإن كانت تقوم بإدارة أحد الأحزاب المهمة. ولا أحد يعرف ماذا يحمل المستقبل للسيدة "روشن" زوجة الدكتاتور السابق أرشاد. على عكس الاثنين السابقين لم يمت إرشاد بعد ولكن انقلاب العسكر ضده عزله من السلطة وجاءت خالدة ضياء لتتهمه بالإفساد السياسي ووجهت إليه 19 تهمة ووضعته في السجن.

ومن الغريب أن إرشاد رشح نفسه للانتخابات النيابية وهو داخل السجن. ولأن القانون يسمح بالترشيح في أكثر من مقعد فقد فاز إرشاد بالمقاعد الخمسة التي رشح نفسه فيها. وجاء الشيخة حسينة لتسقط عنه كل التهم ثم تفرج عنه نهائيا ربما لتغيظ خالدة من ناحية.. وتكسر شوكة "روشن" من الناحية الأخرى. شغل ستات كما يقولون.

جذور المغول

ولكن.. اللعنة.. اللعنة.. كما يقولون في الروايات المترجمة. فالسياسة تجرنا رغما عنا إلى أوحالها اليومية. ولكن المشكلة في بنجلاديش أن كل موضوع يقود إلى الآخر حتى أنه أنسانا أن نلقي الضوء على العاصمة التي نتجول في شوارعها. إنها عاصمة مغولية بالميلاد. ومازال هذا الطابع المغولي موجوداً في بعض مزاراتها المتفرقة. قلعة.. ومساجد.. ومزارات. أقيمت في القرن الحادي عشر على ضفاف نهر البورجانج. وقد عرفت دوما أنها مدينة المساجد. فقد كان فيها 800 مسجد البعض منها يستحق الرؤية.

وبرغم أن بنجلاديش دولة حديثة فإنها موجودة على أرض بالغة القدم. كان طاغور شاعرها العظيم يعتقد أن طين الخلق الأول قد أخذ من ضفاف أنهارها. فقد شهدت كل الحضارات القديمة. وكانت دائما هي البوابة الأولى التي يعبرها كل من يريد الوصول إلى جنوب آسيا. وشهدت تراجع جيوش الإسكندر عن الهند قبل أن تهاجمه جيوش الكانج راديا. وإن كان قد أصيب بالحمى فيها.

ولكن شخصية البنغال لم تأخذ إهابها الفعلي إلا تحت الحكم الإسلامي. وكما يقول البروفيسور خير الدين أستاذ التاريخ بجامعة دكا.. كانت العصور الوسطى في حياة البنغال هي عصور الحكم الإسلامي الذي استمر حوالى 550 عاما، في الوقت الذي لم تبق فيه تحت حكم دلهي أكثر من 200 عام وهناك 350 عاما أخرى كانت البنغال فيها مستقلة. أي أن الحكم الإسلامي هو أطول حكم عرفته. وهو الذي كون الجزء الرئيسي في شخصيتها.

مر الحكم الإسلامي في البنغال بأكثر من مرحلة، توتر واضطراب، ثم ازهار واضمحلال. حكمها ملوك مستقلون مثل الملك جانيشا وحسين شاهي. ثم أصبحت جزءاً من إمبراطورية المغول الكبرى التي تحكم الهند واستطاعوا أن يقاوموا قراصنة البرتغال التي انتشرت سفنهم كالطاعون بحثا عن طريق البهار.

وعلى عكس حكامهم السابقين من الهنود الذين كانوا يعتبرون اللغة السنسكريتية هي لغة الصفوة. شجع الحكام المسلمون اللغة والأدب البنغالي ووحد هذا بين أجزاء البلاد لأنه خلق لغة متجانسة بينهم. كذلك فعلى عكس المتوقع لم يكن انتشار الإسلام مرتبطاً بهؤلاء الحكام. فهم لم يكونوا دعاة بقدر ما كانوا مغامرين يريدون توسيع رقعة ملكهم. بل إن تفوق الإسلام كان واضحاً في المناطق التي لم يصل إليها نفوذ هذا الحكم. فقد ظل المسلمون - على سبيل المثال - أقلية في دلهي برغم أن المغول قد حكموها أكثر من 600 عام. ولكن الانتشار الحقيقي للإسلام كان على أيدي الدعاة النشطين الذين واصلوا التجول في أنحاء البلاد من القرن الرابع عشر حتى السادس عشر. وقد غاص الإسلام في وجدان أهل البنغال لأن البيئة الاجتماعية في ذلك الوقت كانت مهيأة لديانة جديدة.

وقد تم انتشار الإسلام بشكل تدريجي من خلال عملية التفاعل وليس الصدام بين المسلمين والهندوس. وقد تعود رجل الشارع على احترام رجال الدين من الفئتين. ويبدو هذا غريبا بالنسبة للمذابح التي شهدتها ومازالت تشهدها القارة الهندية حتى الآن. ولكن هذا يبين لنا مدى الشقاق الذي وضعه الاستعمار البريطاني الذي حكم هذه القارة ومازالت آثار سياسته باقية حتى الآن.

والمشكلة أننا لا نستطيع أن نلمح هذا القناع المغولي وسط أكداس المساكن والعشش والأبنية العشوائية. وحتى الوصول الى أهم هذه المعالم وأعني بها قلعة "لالاباغ" يتطلب جهداً شاقاً وقدرة خارقة على النفاذ عبر شبكة متداخلة من زحام البشر وعربات الريكشا.

ولكنها قلعة مدهشة وتستحق الرؤية بالفعل. فأنت تخرج فجأة من عشوائية الحاضر لتجد نفسك وسط مساحة رائعة من الخضرة والأبنية المغولية بقبابها الصغيرة الغنية بالنقوش والزخارف تحيط بك من كل ناحية. إنها لمسة فجأة من رومانسية الماضي البعيد. لقد أتم بناء هذه القلعة الأمير المغولي غرام شاه ابن السلطان أورانج. ويبدو أنه كان مغرما بالجميلة بابي بار التي ماتت أثناء هذه القلعة وأعتقد لحظتها أن القلعة لن تتم والحياة لن تتواصل.. الحياة تواصلت وما بقي من الذكرى موضوع في متحف صغير، أهم ما فيه ذلك الحجر المنقوش عليه آيات قرآنية كان ملوك الهند يتوارثونها ملكا بعد ملك. تفاؤلا بدوام الملك وعز الدنيا. ولكن الدنيا لا تدوم لأحد. وهذا هو الحجر راقد وراء واجهة عرض زجاجية. وهناك أيضا طبق من الخزف كان الملك عظيم شاه لا يأكل إلا فيه لأنه كان يسخن ويحمر إذا وضع فيه طعام مسموم ويعطي الملك إنذارا مبكراً.

معلم آخر مخفي من معالم دكا. مرحلة أخرى من تاريخ هذه المدينة العتيقة. كان "إحسان منزل" على ضفة نهر "بوي كانج" تحيط به حديقة بهية الجمال. لقد بنى القصر إبان الاحتلال البريطاني للمنطقة وسكنه كل النواب الذين حكموا البنغال. ومن الغريب أنه برغم الاضطرابات التي عمت هذه المنطقة فقد تمت المحافظة على هذا القصر بما فيه ومن تحف وآثار ولوحات فنية. لقد زال التاج البريطاني، وذهب حكم الباكستان، وظلت الآثار باقية.

الكويت في بنجلاديش

ها هي عربة الريكشا تواصل السير. تخترق الميادين والشوارع المزدحمة. نصل إلى الحي الراقي في المدينة. حي رجال الأعمال والسفارات. نمر أمام السفارة الكويتية. حيث توجد طوابير لا تهدأ من العمال. زحام السفارة لا يتوقف في أي يوم. يقول حارس السفارة ضاحكا، حتى في أيام الإجازات لا نعدم وجود الطابور. ويقول القائم بالأعمال الكويتي عمر القناعي: "يوجد في الكويت فقط 100 ألف عامل من بنجلاديش". ولكن الكويت موجودة أيضا هنا بفاعلية. لقد ساهمت الكويت بدعم شبكة الكهرباء بمعونة قدرها 22 مليون دولار. فقد كانت الكهرباء تنقطع يوميا عن العاصمة "دكا" وقد حلت هذه المشكلة الآن. كما أن الكويت تقيم الآن الطريق السريع من سهلت إلى دكا وسوف يسهل هذا من حركة النقل في بلد يفتقر إلى شبكة الطرق. هناك أيضا مشروع "مستشفى الكويت" وهو أكبر مستشفى من نوعه في العاصمة وسوف يتسع لـ 200 سرير فيه كل التخصصات ومن المتوقع أن يتم افتتاحه في نهاية هذا العام. كما أقامت الكويت قرية لضحايا الفيضانات في مقاطعة فيني. الكويت ليست موجودة فقط من خلال العمل الرسمي. ولكن إنجازات أهل الخير أيضا. فهم لم ينسوا أبدا أن بنجلاديش هي بلد مسلم يعاني من ظروف بالغة الصعوبة وأن تقديم العون إليه هو فرض عين. بدأنا جولتنا في صحبة الشيخ فالح المطيري مدير مكتب اللجنة المشتركة للإغاثة فى بنجلاديش. أخذنا في رحلة إلى أعماق القرى لنرى مشاريع أهل الخير في مناطق نائية لم تعرف ترف أي خدمة يمكن أن تقدم إليها. وكما قلت من قبل فإن هؤلاء المتبرعين الخيرين قد وجهوا أموالهم لأماكن لم يسمعوا بها وأناس لم يعرفوا عنهم أي شيء سوى أنهم من أهل الإسلام وفي حاجة إلى المعاونة. لم نستطع أن نلم بكل المشاريع لأنها كثيرة. ولأنها تغطي مساحة واسعة ومقاومة في أماكن نائية. كانت زيارتنا الأولى إلى منطقة "ملبور" الكثيفة السكان حيث يوجد المركز الإسلامي الذي أشرفت اللجنة على إنشائه وهو يحتوي على مستوصف ومدرسة لتعليم الأطفال ومشغل لتدريب السيدات المعوزات على الحياكة بالإضافة إلى مسجد لتعليم سكان المنطقة أصول الدين. كان هذا المركز بمنزلة لمسة إنسانية وحضارية وسط منطقة تعيش تحت حافة الفقر ويقدم خدماته الصحية والتعليمية بالمجان. ولكن المركز عاجز عن التوسع إزاء الإقبال الشديد عليه. فهو يفتقر إلى التمويل حتى يستطيع الوفاء بكل ما عليه من التزامات. وقد قدمت اللجنة طلبا لبيت الزكاة من أجل القيام بهذا الغرض.

مشروع مماثل قمنا بزيارته إلى قرية أمين بازار قامت اللجنة بإنشائه بتبرع من المرحوم عبد العزيز الراشد. وهو أيضا يقدم خدمة متكاملة في تلك المنطقة الريفية شبه المنعزلة وسط البحيرات وهو يتكون من مدرسة ومستوصف ومسجد، ومازالت بنيته الأساسية غير مكتملة ولم يعمل بعد بكامل طاقته لنقص التمويل.

أما مستشفى الكويت فقد انفقت عليه اللجنة من أموال المتبرعين من أهل الخير في الكويت وقد بلغت تكلفة المباني حتى الآن 2.5 مليون دولار دون التجهيزات الطبية. ويمكن أن ندرك مدى الطفرة الصحية التي يمكن أن يحدثها هذا المستشفى إذا رأينا الأبنية الطبية المتداعية التي تقدم الخدمات الصحية لملايين من المرضى المزمنين.

ولكن المشروع الطموح بحق هو ذلك المجمع التجاري الضخم الذي أوشك بناؤه على الانتهاء على أطراف مدينة دكا ويصل ارتفاعه إلى 21 طابقا. لقد كان هذا المبنى إحدى ثمار المؤتمر الإسلامي الذي أنشأه بنك التنمية واتخذ من جدة مقراً له. لقد قام البنك بتمويل هذا المشروع وأشرف على إنشائه وكلف لذلك أحد المهندسين العرب هو حمدي أبو سيدو. الذي اكتسب خبرته الأساسية في البناء بطرق معاصرة في الكويت على حد تعبيره. وهذا المبنى نفسه أنشئ بنفس التصميم الذي قام عليه بيت التمويل الكويتي. وسوف يحتوي هذا المجمع البالغ الحداثة على مكاتب ومحلات وشقق إدارية و قاعات للمؤتمرات للاجتماعات وخدمات للترفيه ومطاعم وأحدث مركز للاتصالات بأي مكان في العالم.

ومن المقرر أن يدير هذا المشروع مجلس من الأمناء من أبرز الشخصيات البنغالية وممثلين من بنك التنمية. وقد بلغت تكلفة الإنشاءات حتى الآن 13 مليون دولار وتبرعت الحكومة بالأرض وأعفت كل معدات المشروع من الضرائب. ومن المتوقع أن يصل دخل المشروع من تأجير الوحدات فيه وتشغيلها إلى حوالي مليوني دولار في السنوات الأولى ثم يزيد إلى 5 ملايين. وسوف يكون كل هذا العائد عبارة عن وقف إسلامي ينفق على الطلاب والدارسين البنغاليين إما عن طريق الإنفاق على تعليمهم وبعثات دراستهم إلى الخارج أو إنشاء المدارس والمعاهد الضرورية للتنمية. ويقول المهندس حمدي أبوسيدو إن تكلفة المشروع الحضارية لا تقدر بثمن فقد أدخلنا تقنيات جديدة للبناء وأساليب وآلات متطورة لم تكن موجودة ونحن نقوم بالبناء قمنا أيضا بتدريب الكوادر الوطنية وأعتقد أنهم قد اكتسبوا خبرة سوف تساعدهم في إعادة بناء بلادهم.

مشاريع إسلامية كثيرة وكلها تستحق الإشادة لأنها تساهم في تنمية البنية التحتية وتصل بالخدمات إلى أماكن لا تستطيع الحكومة المركزية الوصول إليها. وفي يوم ما إذا أحسنت إدارة هذه المؤسسات فسوف تتمكن من الاعتماد على نفسها وأن تقوم بالتمويل الذاتي وتتحول إلى معالم بارزة في المجتمع المدني.

أما الأمور الأخرى الموسمية التي تنفق فيها أموال أهل الخير مثل حفلات إفطار الصائم أو ذبح الأضاحي وحتى التبرعات المالية التي تدفع لبعض الأسر والأشخاص فهي لا تعطي إلا فائدة مؤقتة. بل إن ضررها أكثر من نفعها لأنها تعلم المنتفعين منها التواكل وانتظار المنة والصدقة. إنني أؤمن بالمثل القائل أن تعلم الإنسان الصيد خير من أن تعطيه سمكة. فكل هذه الأموال تضيع متفرقة دون أثر. وكل درهم أو فلس يجب أن يوجه من أجل إنشاء شيء دائم. مشروع أو مؤسسة أو صناعة ولو كانت بسيطة. فإن ما يبقى في الأرض سوف يثمر. وإذا احتاج أي فرد إلى معونة أو مساعدة فليأخذها على سبيل القرض الذي يجب أن يرد مهما طال أجله. إن هذه المشاريع التي ستنشأ هي التي سوف تنفق على الأيتام والمعوزين فلا يستطيع أحد ويجب ألا يعيش على الإحسان إلى الأبد.

من الرقص بدأ العالم

ها هي عربة الريكشا تتوقف أخيراً بعد طول بحث وسؤال ودليلنا الصغير إبراهيم يشير بفخر وهو يقول "دراما سنتر". مجرد منزل متساقط الطلاء. نوافذه مغطاة بألواح من الخشب والمعدن. لافتة من الورق موضوعة على المدخل. مكتوب عليها بنفس الحروف المتدلية إلى أسفل. يفشل دليلنا في قراءتها ولكن الجالس على الباب يؤكد أن هذا هو فعلا مركز الدراما وأن الليلة سوف يقدم عرض للباليه. رائحة غير مريحة. جمع من الشباب يصفقون ويرقصون في صخب وقد لبسوا أقنعة تنكرية من الورق. عربات تبيع البيض والفلفل الملتهب والبطاطس المهروسة. تخلط كل هذه الأشياء في أطباق وتقدمها للملتحقين حولها. صالة المسرح تشبه أحد جراجات السيارات المعتمة. خشبة مسرح صغيرة متراص أمامها صفوف من المقاعد البلاستيكية. بدأت دقات الطبول وارتفع صوت المزمار البنغالي الحزين يدوي وسط الصالة المظلمة . مثلما يدوي في الفلوات والغابات المطيرة وعلى ضفاف الأنهار. صوت حزين مثقل بالشجن. نفس إيقاعات الناي على ضفاف النيل. ويبدو أن كل الحضارات القديمة التي نشأت على ضفاف الأنهار تعاني من نفس الدرجة من الحزن والانكسار. فالنهر يبذل الحزن والفرح في نفس الوقت. ويحمل في كل موسم سره الغامض. كل يهبهم موسما للحصاد. أم موسما للقحط. من بنجلاديش خرج واحد من أعظم شعراء العالم وأكثرهم حزنا هو ربندرانت طاغور الذي فتح فراديس قلبه كي يرى العالم ما فيها من بهجة وحزن. ومنها أيضا خرج أهم الموسيقيين والمغنين الذين عرفتهم القارة الهندية.

فتح الستار وأضيئ شعاع صغير كأنه صادر من نجم ضائع. وبدأت الخطوات الأولى في رقصة التكوين. كما تقول الأسطورة في البدء كان الرقص. ليس له صلة بالبالية كما يدل التعبير الغربي ولكنه رقص بنغالي خالص. نابع من طقوس أبدية. ذات لحظة كان الكون فارغا لا يوجد فيه الا الماء الساجي العميق. واجتمع تسع من الآلهة "لاي بونج" وسبعة من الآلهات "لاي نورا". وبدأت الآلهات في الرقص فوق الماء على إيقاع ناي مجهول. وصفق الآلهة من كثرة الإعجاب وبدأو يأخذون حفنات من التراب ويلقونها على الآلهات الرقصات تعبيراً عن نشوتهم. ومع إيقاعات الرقص تساقط التراب على الماء وتماسك لتتكون منه أرض البنغال. الرقص في الثقافة البنغالية فعل مقدس. فمنه ولد العالم. وهو يقام من أجل الفرح بهذا العالم. ولم يتخذ الرقص مظهراً دينيا فحسب ولكن إحدى مهارات الملوك كانت أيضا الرقص. وكان عليه أن يؤدي 40 خطوة متتابعة.

وللرقص ثياب خاصة. مستوحاة من تقاليد قديمة. في تصميمها خليط من أزهار اللوتس ونحل العسل. وهو مازال يؤدي في مقاطعة شيتاجونج تعبيراً عن كل الأساطير التي لا تريد أن تموت.

عندما خرجنا من العرض كان الظلام يسود المدينة. وضباب العادم ينام على كل شيء. خف الزحام قليلا ولكن المدينة، كانت لا تزال مستيقظة. يجلس الباعة وقد أوقدوا سراجاً وشعلاً صغيرة. وبدت وجوههم الداكنة متألتقة قليلا في العتمة. برغم كل شئ كانت الموسيقى لا تزال تملأ روحي ورأيت ضوءاً لا أدري مصدره.. ربما لاح قليلا عندما تذكرت أن هذه الحكومة الثانية التي تشهدها البلاد تأتي عن طريق انتخابات ديمقراطية، بل إن الشيخة خالدة التي أجرت الانتخابات قد سقطت وفازت غريمتها. لمحة من الديمقراطية تحسدها عليها معظم بلدان العالم الثالث. إذ هدأ العسكر قليلا وكفوا عن تدخلهم في السلطة وعن عنفهم الدموي ربما بدأ طريق الخلاص. رأيت ضوءاً آخر في وفد رجال الأكاديمية العربية للنقل البحري حين تقابلت معهم في المطار وحدثني الدكتور رفعت نصار عن مشروع النقل البحري الذي يموله البنك الدولي. لقد أعلن البنك مناقصة عالمية فازت بها أكاديمية الإسكندرية متقدمة عن السويد واليابان وجاء وفدها كي يعلم الكوادر الوطنية كي تستثمر أنهارها في النقل كبديل عن النقص الفادح في الطرقات البرية. ورأيت ضوءاً من النور في محصول البلاد الضخم من الجوت الذي يمثل أكثر صادرات بنجلاديش والذي يعمل في صناعته أكثر من 25 مليون فرد ويوجد لإنتاجه أكثر من 3 ملايين مصنع صغير وكبير. ورأيت ضوءاً في صناعة الدواء التي تعدو واحدة من أهم صناعات آسيا لأن بنجلاديش من أغناها في الأعشاب الطبية. الأهم من ذلك كله أن يستمر الدرس الذي تواصل تقديمه لنا.. إن التخلف لا ينفي الديمقراطية، بل ربما كانت هي السلاح الوحيد للخروج من دائرة اليأس التي يصنعها.

 

محمد المنسي قنديل

 
  




صورة الغلاف





الريكشا





المرأة تؤدي مختلف الأعمال الشاقة





النهر عنصر أساسي في الانتقال بين أجزاء البلاد





زحام السيارات





نصيب الفرد من الغذاء أقل من نصف معدله في العالم





تؤدي المرأة مختلف الأعمال الشاقة





المسئولة الأولى عن الأسرة هي المرأة





مظاهرة نسائية صاخبة احتجاجا على اوضاع البؤس





الجماعات الأصولية بدأ صوتها يعلو في بنجلاديش





آلاف الفتيات يعملن داخل " الجارمس"





الفنانة زكية بجانب إحدى لوحاتها





قلعي لالاباغ التي شهدت مجد الحكم الإسلامي المغولي





منزل النواب الذي شهد الحكم البريطاني





نهر البوري - يسبب أزمة دائمة بين الهند وبنجلاديش





بنجلاديش من أكثر اراضي العالم انخفاضا





المبنى الذي يقيمه بنك التنمية الإسلامي يساهم في تنمية البيئة





تقول الأساطير البنغالية إن العالم قد ولد من خلال رقصة على سطح الماء





الريكشا وسيلة الانتقال الأساسية داخل كل مدن بنجلاديش