بعد الاحتلال والحرب والتحرير: تجديد الفكر أم فكر جديد؟ عبدالمالك التميمي

تجديد الفكر دليل حياته وحيويته، فما العقبات التي تعوق تجدد فكرنا العربي، وتدفقه في تيار لا ينفصل عن الماضي، ولا يغفل عن المستقبل؟.

الفكر قيمة إنسانية تنتج الحضارة، وهو جهد ذهني شامل تؤثر في وجوده ونموه عدة عوامل بيئية وثقافية وعقيدية وحياتية.

وعندما نطرح اليوم ضرورة تجديد الفكر أو إيجاد فكر جديد، وبداية ذلك المشروع هو نقد تراثنا الفكري العربي فإننا لا ندعي القدرة على القيام بهذا العمل لكننا ندعو إلى تحقيق ذلك. لأن المدخل إلى هذا المشروع هو في نقد تراثنا الفكري، وقد بذلت في هذا السبيل جهود كبيرة ومهمة نذكر منها: د. زكي نجيب محمود في كتابه "تجديد الفكر العربي"، والطيب تزيني في كتابه "من التراث إلى الثورة"، وحسين مروة في كتابه "تراثنا كيف نعرفه"، ومحمد عابد الجابري في كتابه "نحن والتراث"، وعبدالكريم غلاب في كتابه "الفكر العربي بين الاستلاب وتأكيد الذات"، وغيرهم.

إن القضية الأساسية التي نحن بصدد مناقشتها، أو السؤال الذي ينبغي الجواب عنه هو: هل العرب- بعد تاريخهم الطويل ورصيدهم الفكري- هم بحاجة اليوم إلى تجديد فكرهم أم هم بحاجة إلى فكر جديد، وكيف؟ بداية فإن الذين يطرحون الحاجة إلى فكر جديد قد كفروا بفكر أمتهم وتراثها كاملا، وهذه قضية خطيرة لا نعتقد بأننا من أنصارها، ذلك يعني أن المسألة هنا تتعلق بقضية واحدة هي تجديد الفكر. نعم الرد على من يطرح مقولة "أننا بحاجة إلى فكر جديد" يحتاج إلى وقفة، لكن هذا الموضوع سيركز على ضرورة تجديد الفكر العربي، وسنشير إلى قضية الفكر الجديد في نهاية المقالة.

فراغ فكري أم فوضى؟

الأمر الأساسي والذي لا نختلف فيه أن العرب طوال تاريخهم لم يكونوا يعيشون فراغا فكريا، حتى في مراحل تخلفهم، لكنهم كانوا- ولا يزالون- يعيشون في فوضى فكرية، وضبابية فكرية، فالتجارب التاريخية التي مرت بالعرب كانت معظم نتائجها سلبية، ولم تتم الاستفادة كما ينبغي من تلك التجارب، وضاعت فرص تاريخية ثمينة، فلم نصل إلى صياغة أيديولوجية فكرية تكون أساس تطورنا الحضاري، فالعرب في تاريخهم الحديث والمعاصر تارة يلوذون بالدين والسلفية والتراث، وتارة بالقومية، وتارة بالماركسية اللينينية، وتارة بالليبرالية الديمقراطية الغربية، ولأن فكرنا يعيش أزمة فقد اختلطت المفاهيم وتعارضت الاتجاهات واستطاعت التجارب ذات الأثر السلبي أن تزيد من الاضطراب، وأن تدفع ببعض مفكرينا ومثقفينا إلى الشطط، والموقف الخاطئ الذي ينسف كل جهودهم الفكرية الماضية، فضمن نكسات العرب وتجاربهم المريرة أقدم نظام الحكم في العراق في أغسطس (آب) 1990 على احتلال الكويت، وكان احتلالا من نوع خاص قام به جيش عربي ضد بلد عربي آخر، ومارس القتل والتشريد والتدمير والنهب بشكل يفوق أي احتلال وقع في تاريخنا الحديث، وهنا كانت المأساة التي عاشها بعض المفكرين والمثقفين العرب، حيث ناصر هذا البعض العدوان والظلم. وكدليل على التخبط الفكري تباينت الآراء والتوجهات والاجتهادات لدى المثقفين والمفكرين العرب، فخرج علينا بعضهم من الذين ساهموا في نقد العقل العربي والفكر العربي ليبرروا العدوان على الكويت، ودافعوا عن النظام العراقي المعتدي مثل الدكتور محمد عابد الجابري، وهو بدون شك مثل لأزمة المثقفين العرب الذين كتب عنهم عبد الله الغروي وغيره.

إن القادر على التفكير العلمي لا يمكن أن يتخذ موقفا مؤيدا للعدوان، لكنها أزمة الفكر العربي والمفكرين العرب. إن الأمر الغريب هو أن هذه الأمة تملك تراثا فكريا متراكما، وهو تراث كاف لأن يكون لها دليلها النظري وأيديولوجيتها، لكن المأساة تكمن في المفكرين والمثقفين المعاصرين الذين رغم ثقافتهم ومستوى تعليمهم يفكرون بعقلية القبيلة والعشيرة. وتعجب أكثر حينما تجد المواطن العادي ذا الثقافة المحدودة والتعليم المحدود أقدر على تحديد موقف واضح وسليم من هؤلاء المفكرين الذين أمضوا حياتهم في البحث والتحليل وملأوا الصحف والمجلات تنظيرا لمشاكلنا ومستقبل أمتنا.

صحيح أن الذي حدث للكويت ليس أول ولا آخر النكبات التي تصيب أمتنا العربية، بيد أن ذلك قد حدث بأيد عربية، وأن تكرار وقوع تلك النكبات يقع جزء منه على كاهل المفكرين والمثقفين العرب، إما لتقاعسهم عن القيام بدورهم قبل وقوع تلك الأحداث لتفادي وقوعها، أو لأنهم كانوا قد أخطأوا التقدير والتحليل في أثناء وبعد وقوعها، كذلك قد يكون موقف بعضهم السلبي منها بسبب مصالح ذاتية أو قصور في الوعي وتخلف عن مواكبة تطور الواقع ومستجداته، وليس صحيحا أنهم مصابون بمرض الجهل وإلا لما أصبحوا ضمن المفكرين والمثقفين.

الأمر المهم في هذه المرحلة التاريخية على صعيد الفكر هو ضرورة ظهور طليعة من المفكرين مهمتها التصدي لواقع فكرنا العربي المعاصر ونقده، وحفر طريق جديد هدفه تجديد ذلك الفكر.

إن عملية تجديد الفكر تتطلب قدرة على النقد في ظل الظروف القائمة، كما تتطلب وضوحا لملامح الفكر الإنساني والفكر الاستراتيجي العربي المطلوب، وتوافر ذلك يضمن إحداث التحول الفكري في المجتمع، ويساعد إلى حد بعيد على التنبؤ بالمستقبل، ولن يتحقق ذلك إذا حقق الفكر كثيرا ولم يرتبط بالواقع ويتفاعل معه ويواكب تطوره، ويعش تفاعلاته.

الشجاعة طريق للحرية

إن فكرا لا يقوم على الحرية والنقد فكر مدمر، ومهمش وغير فاعل، لكن ذلك لا يعني أنه لا فكر إلا بتوافر جو الحرية، لأنه من مهمة المفكرين والمثقفين أن يناضلوا من أجل خلقها. لقد شهد تاريخنا العربي عصور الاستبداد والقهر الفكري، وكان لذلك دور في تخلف فكرنا عن مواكبة تطور واقعنا وعدم قدرته على التأثير في التغير والتحول، بيد أن المفكرين والمثقفين العرب يتحملون مسئولية في تردي الأحوال واستشراء الديكتاتورية وغياب الحرية، وعندما تتوافر الجرأة والشجاعة لدى هؤلاء أو غيرهم لنقد الذات أولا ثم الفكر السائد ثانيا ثم الواقع ثالثا نقدا موضوعيا علميا هادفا، نستطيع القول بأننا وضعنا أقدامنا على الطريق الصحيح أو وضعنا أقدامنا على طريق التحول والتغيير، وذلك بتجديد فكرنا. هذه الصورة التي نحاول رسمها وهذا الدور المطلوب الذي نحاول تأكيده ليس المقصود منه خلق حالة من الإحباط وإلغاء كل الإنتاج الفكري لأمتنا فهذا التراكم ثروة قومية وإنسانية هائلة لا بد من نقده للاستفادة منه، وقد لعب فكرنا رغم القسوة في النقد دورا مهما في نهضة شعوبنا في فترات مهمة من تاريخنا. المسألة بوضوح هي تخلف فكرنا وتخلف العديد من مفكرينا ومثقفينا، وعندما تضطلع نخبة مخلصة ومبدعة منهم بمسئوليتها في النقد ستكون الصورة والمضمون مختلفين عما نعيشه في حاضرنا.

حتى الآن نحن نطالب هذه النخبة أو الطليعة بأن تولد وتتقدم الصفوف لتسلم مهمتها الفكرية الصعبة لكن القضية يجب ألا تقف عند هذا الحد، حيث إن المنهج الذي عليها سلوكه في غاية الأهمية.

لدينا اجتهادات فكرية، وإنتاج فكري هائل في الوطن العربي جزء كبير منه مكرر آلاف المرات إلى درجة نشعر معها بأننا لسنا بحاجة إلى المزيد، بل حاجتنا تكمن في تجديد الفكر لخلق الفكر المبدع، ولا يتم ذلك إلا بإعادة قراءة الإنتاج الفكري لهذه الآفة وتنظيمه ونقده بعيدا عن الإرهاب الفكري، وهذا لا يكون إلا بجو ديمقراطي وبمنهج عقلاني يعتمد التفكير العلمي.

من صور الأزمة

دعونا نثر بعض جوانب الأزمة لدى مفكرينا فإلى جانب التكرار والاجترار، وضغط الظروف الاجتماعية والسياسية غالبا ما نبدأ التفكير في قضية أو أكثر ونعتقد في الوقت نفسه بأنه لم يسبق لأحد غيرنا التفكير فيها، وأننا الوحيدون الذين نفكر فيها، ونتصدى لها، وفي أحيان كثيرة نعرف جيدا أن هذه القضايا قد عولجت من قبل، وأن معالجتنا لها لا تضيف جديدا ومع ذلك نستهلك الحبر والورق والجهد والوقت لنكرر ما قام به زملاء لنا قبلنا، ثم يأتي غيرنا بعدنا ليقوموا بنفس ما قمنا به وهكذا. هذا الواقع يصور لنا جزءا من الأزمة، وهناك جوانب أخرى عديدة منها: أن هذا الكم الهائل من الفكر المكتوب والمسموع والمرئي- والذي ربما يملأ مدينة عربية كبيرة بارتفاع أكثر من كيلو متر- لم يأخذ طريقه إلى الغربلة والنقد إلا قليلا. وحتى لو توافر مثل ذلك الجهد أحيانا فإنه لا يخرج عن إطار ما ذهبنا إليه من هدر للجهد والوقت ولا أدل على ذلك من أنك تسمع بين الحين والآخر عن تشكيل لجنة أو فريق عمل بحث مسألة أو موضوع، وتذهل عندما تعلم أنك كنت ضمن فريق عمل قام ببحث هذا الموضوع قبل عشر سنوات دون أن ترى توصياتكم وانتقاداتكم النور، وأنك اليوم تكرر ما سبق، وأحيانا يكون الجهد السابق أفضل، وتلح الأوضاع على بحث ذلك الموضوع أو غيره بعد تلك السنوات دون الرجوع إلى الجهد السابق، وهكذا نحن نجيد الدوران حول أنفسنا ونعيد ونكرر ونجتر ما أنتجنا، وقليل منا المبدعون الذين يناضلون من أجل رسم خيوط فجر جديد، ويقدمون جديدا.

أليس رد الفعل في حياتنا وفكرنا سمة من سماتنا التراثية التي مازلنا نعيشها؟، فالحدث هو الذي يهزنا مؤقتا، ويزول حماسنا وتفاعلنا معه عند ميلاد حدث جديد ونعود إلى ما اعتدنا عليه وهكذا... إن دعوتنا لتجديد الفكر في هذه المرحلة المهمة من حياتنا تحتاج إلى معرفة أسباب الأزمة الفكرية التي نعيشها، عندما نستطيع وضع ملامح تجديد فكرنا كي نتجاوز أسباب الأزمة، ولكي نتمكن من إحداث التحول والتغيير في واقعنا.

إن الفكر العربي في منطقة الخليج جزء من الفكر العربي بصورة عامة، يعاني الأزمة نفسها، لأنه جزء من كل، سواء كان ذلك بعدم الوضوح والسطحية والتذبذب أو التغيير لأغراض سياسية أو غيرها أو بسبب طغيان الجانب العاطفي عليه والمجاملة التي هي قيمة في حياتنا وتراثنا. فلم نتحرر بعد من عقليتنا العشائرية التراثية.

لعل من أسباب الأزمة الفكرية وجود أشباه المثقفين ودورهم في تشويه الفكر في ظل غياب المثقفين المبدعين والجادين والمتميزين بإرادتهم أو رغما عنهم، لذلك استمر العبث الفكري وبخاصة عندما اضطربت واهتزت المفاهيم والقيم بسبب الأحداث الخطيرة التي شهدتها الأمة العربية ومنها عدوان النظام العراقي على الكويت.

جزر فكرية

لعله من المفيد، ونحن نطرح المطالبة بمشروع تجديد الفكر العربي، أن نضيف إلى عناصر أزمة هذا الفكر التجزئة الفكرية المفتعلة. لا بأس من إعطاء أهمية للخصوصية لكن تجزئة الفكر وتحويله إلى جزر فكرية منفصلة في وطننا العربي أحد جوانب المشكلة، لا نقصد المطالبة بالرأي الواحد والاتجاه الواحد، وعدم وجود الاتجاهات المختلفة والحوار بينها، لكن الذي نعيشه على المستوى الثقافي يتجه إلى الانكفاء والخصوصية، ونظرا لطبيعة واقعنا السياسي والاقتصادي والاجتماعي فإن هذه الجزر الفكرية قد لا تلتقي معا على أرضية مشتركة في وقتنا الحاضر وهذا ضرر يصيب الفكر، وعقبة أمام تجديده.

لقد حددنا في البداية أن موضوعنا سيركز على تجديد الفكر رغم ورود عبارة "فكر جديد" في العنوان، وهذا ما نعتقده ونسعى إليه لكننا وعدنا القارئ كذلك بالعودة إلى مسألة الفكر الجديد في الختام، فما هي الكلمة التي نرد بها على سؤال: لماذا تجديد الفكر وليس فكرا جديدا؟.

إن بعض المفكرين العرب يعتقدون أن تجديد الفكر يحتاج إلى فكر جديد، ويرجع اقتناعهم هذا إلى إدراك مدى ثقل سلطان الماضي على الحاضر إلى حد سيطرة يفرضها الموتى على الأحياء، والتكرار والاجترار في تراثنا الفكري، لذلك لا سبيل إلى تجديد فكرنا إلا بالتحرر من هذا السلطان التراثي. لسنا هنا بصدد الرد على هذا الرأي الذي نحترمه ونقدر جهود أصحابه في بلورة فكرنا وتجديده. الأمر المهم هو أن التراث أحد روافد فكرنا الأساسية، وهذا شأن الفكر الإنساني بعامة، وأن التجرد منه كارثة ستصيب فكرنا بكل تأكيد لكن الذي نتفق فيه مع أصحاب ذلك الرأي هو محاربة "السيطرة" التي يفرضها الماضي على الحاضر تحت أي غطاء، وليس محاربة التراث، لأن هذا التراث منبع من منابع الفكر، ولأنه شامل لكل ما حدث في الماضي ولم يثبت أنه إيجابي كله، معنى ذلك أنه ينبغي أن يخضع للنقد والفرز والانتقاء بموضوعية وعلمية، وهذه العملية لا بد منها مع جهودنا الأخرى إذا أردنا لفكرنا التجديد. فليس من المعقول بعد كل الذي حدث لأمتنا في تاريخها، وما يحدث في تاريخنا المعاصر أن يستمر فكرنا في مفاهيمه وقيمه ونمطيته، وهذه معركة فكرية صعبة، لا بد من خوضها كي لا يستمر تاريخنا يعيد نفسه، وتطغى أهواله ومآسيه على تطوره الحضاري وتقدمه.