عالمنا العربي... ومستقبل النشر الإلكتروني

   عالمنا العربي... ومستقبل النشر الإلكتروني
        

حديث الشهر

 مع نهايات القرن الماضي، بدأت ثورة في وسائل الاتصالات والمعلومات أحدثت - ومازالت تحدث - تطورات بالغة التأثير والأهمية على ثقافات العالم. ومن أهم فروع هذه الثورة (النشر الإلكتروني)... فأين يقف العرب من هذه الثورة؟ وما موقفنا من النشر الإلكتروني؟

  • في (طريق المعلومات السريع) الإنترنت مجرد حارة صغيرة

  • ستشهد السنوات الراهنة تطوّرا متسارعاً للنشر الإلكتروني وستفقد الإصدارات الورقية أهميتها.

  • النشر الإلكتروني للثقافة العربية يفتح أمامها فرصة التفاعل مع الثقافات الأخرى.

            مع مثول هذا العدد بين يديك - عزيزي القارئ - تكون أوراق العام الأول من الألفية الثالثة قد سقطت من شجرة أيامنا، وأصبحنا، بكل تأكيد في رحاب القرن الجديد، فلم يعد هناك مجال للخلاف حول اللحظة التي يبدأ فيها هذا القرن الذي أتى إلى زماننا من دون علامة فارقة تميز قدومه أو حدث خاص يقترن بالانتقال إليه من القرن الذي سبقه. فأحداث كبرى كالحربين العالميتين الأولى والثانية، وثورات شعبية هزت العالم كالثورة البلشفية في روسيا، والثورة الصينية، والثورة الإيرانية، والثورات المتلاحقة والمذهلة في مجالات العلم والتكنولوجيا والاقتصاد وقعت قبل قدومه وعلى امتداد القرن العشرين المنصرم، وبقي بزوغه في أفق حياتنا استمراراً واتصالاً لأحداث ومشكلات العقود الأخيرة من ذلك القرن الذي غادرنا، أو هي الأحداث والمشكلات نفسها ولكن في مراحل تالية منها.

          وما أود أن أشير إليه في هذا الحديث -  أو بالأحرى أركّز عليه من بين تلك الأحداث الكبرى التي شهدها العقدان الأخيران من القرن المنصرم - تلك الطفرات المتوالية التي شهدها حقل الاتصال والمعلومات، وفي مقدمتها ثورة الإنترنت ثم ثورة الوسائط المعلوماتية (الإنفوميديا)، وهما الذروتان الثانية والثالثة في مسيرة الثورة المعلوماتية بعد الذروة الأولى المتمثلة في ظهور الحاسب الآلي (الكمبيوتر) الشخصي، فهذه الثورة التي ورثها قرننا الجديد تتصاعد في وتيرة إنجازاتها منذ بداية تسعينيات القرن العشرين، وتتواصل خطاها الآن سعياً إلى قفزة جديدة يمكن اعتبارها هي الذروة الرابعة الكبرى في الثورة الاتصالية المعلوماتية هي (طريق المعلومات السريع)، والذي يعد الإنترنت فيها مجرد حارة صغيرة مقارنة بذلك (الطريق) هائل الاتساع.

ثورة نوعية

          ففي غضون السنوات المقبلة وقبل أن ينتهي هذا العقد الأول من قرننا الحالي، ستكتمل ملامح ثورة نوعية داخل هذا التيار المتواصل من الثورات المعلوماتية المتتالية هي ثورة (النشر الإلكتروني)، ومع أن هذا النوع من النشر أصبح ظاهرة معروفة الآن على شبكة الإنترنت، وواسطة معلوماتية نوعية لها موقعها وحجمها الملموس على ساحة هذه الشبكة، فإن النشاط الذي يشهده ميدان النشر الإلكتروني مازال يحتل هامشاً محدوداً من الحجم الإجمالي لحركة النشر في العالم، سواء في مجالات الصحافة أو المجلات والدوريات أو الكتب والمراجع.

          فالسنوات الراهنة ستشهد تطوّراً متسارعاً تكون إحدى ثماره المباشرة  اتساع رقعة النشر الإلكتروني على حساب حجم النشر الورقي على مستوى الدول المتقدمة في السنوات العشر القادمة، أما في الدول التي يطلق عليها العالم الثالث، فتحتاج من عشرين إلى ثلاثين عاماً حتى يصبح لها نصيب يعتد به في هذا المجال.

          والواقع أن دور نشر عدة في أمريكا وأوربا الغربية واليابان تخوض الآن - بالفعل - غمار مرحلة حافلة بالتحديات، وخاصة ناشري المراجع الكبرى والموسوعات، الذين يواجهون ضغوطاً قوية من جانب الناشرين الذين يستخدمون وسيطاً آخر غير الورق، هو مجال النشر الإلكتروني وتكنولوجيا المعلومات في ممارسة نشاطهم ذاته، أي في توثيق وحفظ المعرفة.

          وقد بدأت هذه الدور في السنوات الأخيرة في الاستغناء عن الموسوعات الورقية ضخمة الحجم ومتعددة الأجزاء، والتي كانت تحتل أرففاً كاملة في كل مكتبة واستبدلت بها الوسائل الإلكترونية الحديثة. ولقي ذلك الإنجاز نجاحاً هائلاً ورواجاً واسعاً، فتلك الموسوعة الورقية مرتفعة الثمن وضخمة الحجم وصعبة الاستعمال، أصبحت تتوافر الآن في الأسواق في صورة بديلة أرخص وأسهل وأقل حجماً بما لا يُقاس، فهذه الموسوعة الضخمة أصبح بالإمكان تخزينها كاملة على اسطوانة مدمجة واحدة (أو أكثر من اسطوانة إذا كانت بالغة الضخامة)، وبالضغط الخفيف على زر في حاسبك الآلي (كمبيوترك) الشخصي، تصل فوراً وبسهولة ويسر إلى أي معلومة تود الوصول إليها داخل صفحات تلك الموسوعة التي تصل إلى آلاف الصفحات. وهكذا أصبح بإمكان مستخدم الحاسب الآلي (الكمبيوتر) الشخصي اقتناء الموسوعة البريطانية - مثلاً - كاملة مخزنة في اسطوانة مدمجة ثمنها بضعة دنانير. وعندما يتم تشغيل (طريق المعلومات السريع) ويصل إلى المنازل في الأعوام القليلة القادمة، لن يصبح الإنسان في حاجة إلى الاسطوانة المدمجة لامتلاك المحتوى الكامل لمجلدات الموسوعة البريطانية، أو لكل أعداد مجلة (العربي) السابقة - على سبيل المثال - إذ سيكون بمقدوره الوصول إلى المعلومات المطلوبة مباشرة من جهازه الخاص، حيث ستربطه شبكة (طريق المعلومات السريع) بمكتبات إلكترونية ضخمة من المراجع والموسوعات والدوريات والكتب ومختلف ألوان المادة المنشورة وغير المنشورة من معلومات ووثائق وغيرها.

التفاعل مع النص

          وما ينطبق على المراجع والموسوعات ينطبق كذلك، وربما على نحو أوضح وأكثر غنى وتنوّعاً، على المجلات والصحف، إذ هنا تأتي إضافة نوعية أخرى - فضلاً عن إحلال النشر الإلكتروني محل النشر الورقي - وهي أنك لن تقرأ النص فحسب، بل ستتفاعل معه أيضاً من خلال الوسائط المتعددة، أي من خلال الصوت والصورة العادية وصورة الشريط السينمائي والفيديو. فيمكنك - على سبيل المثال - وأنت تقرأ موضوعاً في مجلة (العربي) أن تشاهد على شاشة الجهاز في الوقت ذاته فيلماً متحرّكاً حول الموضوع نفسه الذي تقرأ أو رسوماً متحرّكة ومقطوعة موسيقية كخلفية متممة ومعمقة للمعنى الذي تقرؤه. أو تسمع صوتاً جميلاً يقرأ لك القصيدة التي على شاشة جهازك الشخصي. ومع انتشار الحاسبات الآلية (الكمبيوترات) الشخصية المنزلية، ستشهد الحاسبات الآلية المحمولة أيضاً نمواً ضخماً خلال السنوات القادمة، ومن ثم فحتى المجلة أو الكتاب الذي تحمله معك للقراءة خلال سفرك، سوف يمكنك الاستعاضة عنه بالدخول إلى شبكة طريق المعلومات السريع من خلال حاسبك الآلي المحمول للحصول على محتوى الكتاب أو المجلة نفسها، ويجري حالياً العمل على قدم وساق لتصميم أجهزة في وزن وحجم الكتب متوسطة الحجم والوزن، بحيث يمكنك استخدامها وأنت تنتظر دورك في عيادة الطبيب أو مستلقياً على فراشك قبل النوم.

          وهكذا ومع حلول العقد الثاني من القرن، سوف تفقد وسائل الإعلام المطبوعة والإصدارات الورقية بوجه عام جانباً كبيراً من أهميتها ودورها نتيجة لتلك التطورات الهائلة. وبعد أن كنا نواظب ـ ربما حتى عشر سنوات قادمة على الأكثر - على شراء الصحف والمجلات والكتب، فسوف نتحوّل إلى وسيلة جديدة هي الاشتراك في خدمات متخصصة - تقدمها شركات على شبكة الإنترنت الآن وعلى طريق المعلومات السريع مستقبلاً - تغنينا عن شرائها، ومن بين هذه الخدمات - على سبيل المثال - ما يمكن أن توفّره نوادي القراءة والمكتبات على الشبكة، لأعضائها من أحدث ما صدر من أعمال لكتّابهم المفضلين فور ظهورها بطرق إلكترونية، وسيجد عضو مثل هذه النوادي على شاشة حاسبه الآلي (الكمبيوتر) عبارة تقول (أدخل رقم عضويتك، إذا أردت قراءة هذا الكتاب الجديد).

          وعلى الرغم من أن أوجه الاسترسال في ذكر ما يشهده العالم الاتصالي المعلوماتي من مستجدات ثورية، متتابعة ومتنوعة الأصعدة، لاتزال كثيرة على مختلف ساحات هذا العالم ومجالاته، فإنه قد يكون أجدر بنا التوقف قليلاً هنا أمام انعكاسات وآثار كل تلك المستجدات التطورية في راهن ثقافتنا العربية وقادمها، وبخاصة فيما يتعلق بآليات نشر وتوزيع المنتج الإبداعي والفكري والجمالي والعلمي لهذه الثقافة، فبعض الناشرين في أمريكا والغرب، وعددهم يتزايد باطراد، قد تركوا - بالفعل - التعامل مع الورق كوسيط لنقل الأفكار والمعلومات وألوان الإبداع، واستخدموا بدلاً من ذلك النشر الإلكتروني، ليوفّروا بذلك أموالاً طائلة تصرف في شراء الورق، وما يصرف أو يخصم من نسب البيع في توزيع المطبوعات المختلفة في البلدان والمدن. وفي الوقت ذاته، ستنخفض تكلفة الكتاب أو المجلة بالنسبة لمستخدم الحاسب الآلي (الكمبيوتر) في القراءة، وتزداد كمية التوزيع باتساع فرص الوصول إلى الشبكة من جانب مئات الألوف من القرّاء المحتملين، وفضلاً عن هذا القسم من الناشرين الذي دخل بكل نشاطاته (النشرية) إلى ساحة النشر الإلكتروني، هناك العديد من الناشرين التقليديين يعدون الآن أنفسهم للانتقال إلى تلك السوق الجديدة لتداول ما يطرحونه على القارئ من معلومات ونصوص وأفكار.

ماذا عن النشر العربي؟

          فما الحال في عالمنا العربي؟ بالتأكيد لن نجد ناشراً واحداً بين ألوف الناشرين العرب قد انتقل بشكل كامل من استخدام الورق والطباعة وسيارات التوزيع في نشر الكتاب والصحيفة والمجلة إلى النشر الإلكتروني متعدد الوسائط، وإن كان العديد من هؤلاء الناشرين قد بدأ يدخل بالفعل حلبة النشر الإلكتروني، ومن هؤلاء يمكن أن نشير إلى الناشر العربي الذي اشترى حقوق النشر الإلكتروني لكل أعمال الروائي العربي النوبلي نجيب محفوظ مقابل مليون جنيه مصري، أي ما يساوي ثلاثمائة ألف دولار أمريكي تقريباً. كذلك هناك مؤسسات نشر عربية تصدر أو تنشر الآن أعمالاً ثقافية وفنية في اسطوانات مدمجة، وفي مقدمها المشروع الكبير الذي بدأه المجمع الثقافي في أبوظبي بدولة الإمارات العربية المتحدة، وسوف تشهد السنوات القليلة القادمة مزيداً من اتساع رقعة النشر الإلكتروني العربي على شبكة الإنترنت وما يصاحبه من انخفاض في حجم النشر الورقي لمنتجات الثقافة العربية. على أن إيقاع حركتنا في اتجاه التواجد (النشري) على شبكة الإنترنت لايزال أبطأ بكثير من أن يلبي الحاجات المتزايدة إلى (وضع معطيات ثقافتنا وإبداعاتها المختلفة على هذه الشبكة العالمية الهائلة، نروّجها ونسعى لترجمة ما يمكن ترجمته منها والمساهمة في توفير كل السبل لنشر لغتنا العربية في العالم عبر نتاج حضارة البشرية - حضارة الإنترنت - بل وما بعد الإنترنت) كما سبق أن ذكرته في حديثي السابق في عدد يوليو 2000 الماضي، ومازال أقل بكثير من أن يلبي حاجات القارئ العربي في المهاجر المختلفة في أمريكا وأستراليا وأوربا وأمريكا اللاتينية، من الزاد الثقافي والإبداعي لثقافتهم الأم.

          إن الإسراع في دخول النشر العربي الإلكتروني سيحقق لثقافتنا ولغتنا نقلة نوعية هائلة، من حيث وضعهما في موقع مع الثقافات العالمية السائدة الآن، ويفتح أمامهما فرصة التلاقي والتفاعل مع حاملي تلك الثقافات من جانب، ومن جانب آخر يعيد ربط الملايين من المهاجرين والمغتربين العرب والمسلمين في العالم بثقافتهم العربية والإسلامية، وينمّي من خلالهم حركة ثقافية وفكرية عربية في مواطنهم الجديدة، ويؤسس لتلك الثقافة وجوداً جديداً في تلك الأصقاع من العالم البعيد عن ثقافتنا الحالية، ويكسر حاجز الجهل المطبق الذي تعيشه شعوب وأمم الأرض حول ثقافتنا العربية قديمها وحديثها، وربما يعيد لهذه الثقافة وحامليها الاعتبار لدى أمم الأرض المعاصرة.

          والواقع أن هذا التطوّر الكبير، أو الطفرة الهائلة في وسائل وآليات نشر الإنتاج الثقافي والفكري والعلمي والفني يثير شجوناً كثيرة، ومشكلات محيّرة عدة، من أمثلتها: هل يتخلى الناس مستقبلاً عن تفضيلهم للكتب الورقية (ملمساً وشكلاً) على الأقل بداية من أناس الجيل القادم? وهل ستتوافر بالفعل أعداد كافية من أجهزة الحاسب الآلي الشخصي ذات القدرات متعددة الوسائط لتلبية حاجات القطاع الواسع من طالبي الإنتاج الثقافي العربي، في أوطان نراها تزداد فقراً وسكاناً؟

          وأيضاً، يمكن القول من ناحية أخرى إنه في حين يسهل حمل الكتاب أو المجلة المطبوعة، فليس هناك في الأمد المنظور ما يكفي من الأجهزة الحاسوبية الشخصية المحمولة (وخاصة في بلدان العالم غير المتقدم بما في ذلك عالمنا العربي).

          تلك أمثلة وتساؤلات لمشكلات وتحديات بالغة الأهمية وعميقة التأثير يطرحها الواقع الجديد للنشر المتزايد التحقق في الممارسات الثقافية والإبداعية للمجتمعات المعاصرة، أو العائشة في العصر وهي من الكثرة والدقة والتنوع بحيث يصعب تناولها بالمدى المطلوب من عمق الطرح واتساع الرؤية في مقالة أو دراسة واحدة، وربما كان ذلك هو السبب في أننا بدأنا في مجلة (العربي) في الإعداد لتنظيم ندوة فكرية علمية حول (الثقافة العربية والنشر الإلكتروني) يشارك فيها نخبة من مفكّري العالم العربي وخبرائه في مجال المعلوماتية والنشر الإلكتروني لتعقد في أواسط هذا العام، تزامناً مع دخول (العربي) وكل مطبوعاتها في شبكة الإنترنت لوضعها في متناول قرّاء العربية في كل أنحاء العالم مساهمة في بناء وترسيخ موقع للثقافة واللغة العربية في عالم النشر الإلكتروني وعولمة الثقافة. ويبقى سؤال يحتاج إلى مَن لديه الإجابة عنه أن يفكر ويفكر مليّاً في ما يجري في العالم من حولنا، ألا وهو: ماذا ستفعل أجهزة الرقابة على المطبوعات الورقية في هذا السيل المنهمر من عل؟

 

سليمان العسكري