نحو هيئة أركان لمناصرة فلسطين

  نحو هيئة أركان لمناصرة فلسطين
        

          أيقظت الانتفاضة الفلسطينية مشاعر التأييد لحقوق الشعب الفلسطيني وأظهرت هذه المشاعر في شكل خطاب أكثر سخونة وحيوية وعلنية، خطاب يجول في شبكات الإعلام الدولي، وفي داخل الدوائر المتنامية للمجتمع المدني العالمي، بعد أن كان هذا الخطاب قد تراجع بسبب انتظار ما قد تسفر عنه المفاوضات المباشرة بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي حول الوضع النهائي.

          لقد انتعشت حركة مناصرة الشعب الفلسطيني في أوربا وأمريكا، ومن المتوقع أن تستمر في التصاعد والانتشار خلال الشهور القادمة. ولكن المظاهر الجماهيرية المباشرة لهذا الانتعاش لا تكاد تقارن مع الحركات الاجتماعية للتضامن مع شعوب مقهورة أخرى وقعت في غضون الأعوام القليلة الماضية. فمن شاهد عن كثب مظاهر المناصرة الأوربية والأمريكية لقضية شعب البوسنة والهرسك، وخاصة في الأعوام 92 ـ 1995، ومن شاهد عن كثب مظاهر المناصرة الأوربية والأمريكية لقضية شعب كوسوفا خلال عام 1999، لأدرك مدى بساطة وضيق نطاق المظاهر التي اتخذتها حركة مناصرة الشعب الفلسطيني في القارتين.

          بل قد يدهش القارئ إذا عرف أن قضية شعب تيمور الشرقية ومطالبته بالاستقلال عن إندونيسيا قد أثارت خلال عام 1999 مظاهر للتعاطف الجماهيري في أوربا الغربية واستراليا ـ مثلا ـ بأكثر مما نجحت القضية الفلسطينية في توليده حتى الآن، هذا كله صحيح، بالرغم من أن تلك القضايا الثلاث ـ على أهميتها ـ لا ترقى إلى مستوى ما عاناه الشعب الفلسطيني من تدمير وانتهاك الحقوق السياسية والإنسانية الجوهرية، وما ارتكبه الصهاينة بحقه من جرائم ضد الإنسانية خلال الأعوام الثلاثة والخمسين الماضية، بل وما لاقاه من ظلم وإجحاف طوال القرن العشرين على يد المشروع الصهيوني.

          لعلنا نعبر عن دهشتنا، ونثير مع أنفسنا هذه المسألة بروح الإصرار على إيقاظ الضمير العالمي ونشر حركة مناصرة الشعب الفلسطيني في أرجاء العالم كله، وتجذير هذه الحركة في الواقع الاجتماعي والثقافي في كل مناطق العالم الكبرى. ولكن الخطوة الأولى هي تفسير لماذا فشلنا كعرب حتى الآن في إنجاز هذه المهمة؟!

أسباب الضعف

          يحتاج تفسير أسباب ضعف حركة المناصرة على المستوى العالمي إلى جولة طويلة في أرجاء النظريات السياسية والثقافية والإعلامية، وأيضا في الحيز التاريخي الطويل للعلاقة بين العرب والغرب والعالم. غير أنه يكفينا الآن أن نرصد الشقين الرئيسيين والمباشرين للمسألة.

          الشق الأول يعنى بالكفاءة السياسية والإعلامية الخارقة للعدو الصهيوني. فنحن نتعامل مع عدو خاص يتسم بكفاءة غير عادية في توظيف أوراق قوته. ولا نقصد هنا قوته الإعلامية فحسب. إذ يجب أن نفهم أن الإعلام هو وجه واحد من وجوه القوة والكفاءة السياسية والاتصالية. فلا مجال مثلا لمقارنة القوة السياسية والإعلامية بين الصرب، أو إندونيسيا مثلا والحركة الصهيونية العالمية.

          لابد هنا من الإشارة إلى أن المآسي التي وقعت لليهود على يد النازي خلال سني الحرب العالمية الثانية ليست بذاتها سبباً كافياً بالمرة لقدرة الحركة الصهيونية العالمية على التأثير على الرأي العام في أوربا وأمريكا. فضحايا النازي من الصرب مثلا يعدون بمئات الآلاف، والفارق بين الحالتين ليس في عدد الضحايا، وإنما في القدرة الهائلة للحركة الصهيونية على تكوين أسطورة كاملة من المعلومات القليلة المتاحة حول جرائم النازي ضدهم، والنفاذ بها إلى العقل الأوربي والأمريكي الجمعي، بل وابتزاز الأوربيين والأمريكيين بخلق عقدة ذنب نحو اليهود تحديداً، وكأنهم هم المسئولون عن هذه الجريمة. أما بقية الشعوب التي افترسها النازي بدرجة أكبر مما افترس اليهود ففشلت في القيام بالأمر نفسه، لافتقارهم للآليات ـ والكفاءة التي وظفت بها الصهيونية هذه الآليات ـ لغرس وتجذير صورة أحادية ثابتة عن معاناة اليهود ومسئولية الغرب ككل عن هذه المعاناة.والواقع أن ما نجحت فيه الحركة الصهيونية العالمية بالنسبة لإعادة بناء رواية ما حدث خلال الحرب العالمية الثانية ليس سوى جزء من عملية أسطورية كاملة طبقت على التاريخ السياسي للغرب طوال ألفين من السنين. فقد نجحت الصهيونية في اجتزاء جانب يسير من هذا التاريخ، وأقامت حوله تاريخا كاملا يدور حول محور وحيد وهو العداء لليهود، الأمر الذي أطلقت عليه الصهيونية (العداء للسامية)، وكان لهذا الإنشاء التاريخي الأحادي والذي يستبعد معاناة عشرات من الأمم والشعوب الأخرى والتمييز المنهجي ضدهم في التاريخ الأوربي دوراً بارزاً في عملية الابتزاز الأخلاقي التي تقوم بها تلك الحركة على امتداد الغرب كله، وتوظيف هذا الابتزاز لصالح إسرائيل.

          ولكن الأمر الأكثر ذكاء بكثير ـ والذي يفسر بدوره النجاح الإعلامي للصهيونية العالمية ـ هو الربط المصطنع بين ما تسميه الكفاح ضد العداء للسامية والشعارات والمطالب التقدمية التي طرحت بقوة في الساحتين الأوربية والأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية. فمن خلال هذا الربط الذكي تمكنت الصهيونية السياسية من نسج تحالفات قوية في القاعدة المجتمعية للسياسات الأوربية والأمريكية. وبفضل هذه التحالفات نجحت الصهيونية في تأسيس قاعدة قوية لنفوذها السياسي داخل تلك السياسات، ونجحت أيضاً في التمويه على طبيعتها العنصرية الخاصة والتي لا تفترق في شيء عن المذهب العنصري للنازية والفاشية، أو حتى العنصرية الكامنة في نزعة العداء للسامية التي تزعم محاربتها.

          فاخترقت الصهيونية بنجاح حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، وجميع الأحزاب الاشتراكية والتقدمية والليبرالية في الغرب كله، وقدمت نفسها باعتبارها طرفاً أو قوة كبرى في إطار الحركات الدستورية وحركات حقوق الإنسان والحركات الاجتماعية العدالية في أوربا وأمريكا. ومالت بهذه جميعا إلى تأييد ودعم إسرائيل بنفس المنطق الذي قدمت به نفسها هناك، أي باعتبارها الطرف الأضعف المسكين الذي تحاول القوى الرجعية والمحافظة تطويقه وخنقه. بينما تم تصوير هذا (الضعيف) وهو إسرائيل باعتباره التجسيد المقبول والناجح للمثل التقدمية والديمقراطية للرأي العام في الغرب. ففي المرحلة التي راجت فيها المثل الاشتراكية، قدم الصهاينة إسرائيل وكأنها نموذج اشتراكي تقدمي. وفي الوقت الحالي الذي تصعد فيه المثل الديمقراطية قدم الصهاينة إسرائيل كمجتمع ديمقراطي حديث وسط محيط من النظم الاستبدادية غير العقلانية والرجعية.

استثناء العرب

          ويتعلق الشق الثاني بصورة العرب والمسلمين لدى الرأي العام الغربي ـ ولاشك أن هناك صورة سلبية عامة للعربي والمسلم في العقل الغربي موروثة عن عهود طويلة من الصراع الاستعماري.

          تلك الصورة أكثر تجذراً وعناداً بالطبع لدى الاتجاهات المحافظة والعنصرية والتي تصر على الحكم على الثقافات والمجتمعات الأخرى من منظور التمركز العرقي والثقافي الأوربي حول الذات. والواقع أنها في هذا القطاع يجب ألا تقلقنا كثيراً. فهذا القطاع من الرأي العام الغربي الذي يتمسك بصورة نمطية سلبية عن الآخرين لم يكن أبداً نصيراً لحريات الشعوب أو لمبادئ الحقوق والعدالة الدولية، بل كان على العكس سنداً وقاعدة للغطرسة الامبريالية، ولكن ما يجب أن يقلقنا هو امتداد وتشوه صورة العرب والمسلمين لدى القطاع التقدمي والديمقراطي من الرأي العام في الغرب وبعض مناطق العالم الأخرى. ويجب أن نبحث أسباب هذا التشوه بعناية وروح من النزاهة والمعرفة العلمية لكي نستنبط المداخل السليمة للتعامل معه وتغييره.

          وخلال العقدين الماضيين تحديداً تتلخص صورة العرب المضمرة لدى هذا القطاع من الرأي العام الغربي في مزيج معقد تكون على عدد من المحاور. فالعالم العربي تحديداً يظهر وكأنه استثناء من الموجة العامة للتحول الديمقراطي في مختلف أرجاء العالم. منطقة يسودها الاستبداد والحكم المطلق حيث تنتهك حقوق الإنسان علي نحو واسع ومتعدد المستويات، ويغيب حكم القانون، ويساء توزيع الثروة بصورة ملحوظة عن أي منطقة أخرى في العالم، ويتصرف الأغنياء فيها على نحو شديد السفاهة والحمق وروح المباهاة والادعاء. وفي الوقت الذي يتغلغل فيه الفساد، تهمل حقوق ومطالب القطاعات المستضعفة من المجتمع، وخاصة الفقراء والأقليات والمرأة. وفي سياق ذلك كله هناك قدر هائل من العنف، يبدو في أشكال متعددة تشمل حروباً أهلية قاسية وممتدة، وحركات إرهاب تهدر حياة المواطنين والأجانب على السواء.. الخ.

          بل إن حركة التحرر الفلسطيني ذاتها لم تكن مطهرة من تلك المظاهر والمثالب. وقد التقطت أجهزة الدعاية الغربية بمكر ودهاء بعض مظاهر الثراء والفساد الظاهر التي أحاط بها نفسه عدد من ممثلي منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج.

بداية.. لنعترف

          ويتعين علينا كعرب الاعتراف بأن العديد من تلك المظاهر والظواهر السلبية صحيحة وحقيقية. بل ويجب أن نذهب في هذا الاعتراف إلى أبعد بكثير مما يرغبه الكثيرون منا. ذلك أن هناك مسافة بعيدة تفصل بين تجربتنا القومية الحديثة، حتى في سياق النضال من أجل التحرر الوطني، والتجربة الوطنية الفيتنامية مثلاً، فلم يكن من الممكن بالمرة على أجهزة الإعلام الغربية كلها ـ حتى لو اجتمعت وكذبت ما شاء لها الكذب ـ أن تخفي حقيقة التواضع والبساطة والزهد الظاهر لدى القيادة الفيتامية التي تزعمت حركة مجتمع متقشف وبسيط ويحقق أعظم مظاهر العدالة والمساواة في سياق نضال وطني مجيد بكل المقاييس. وكانت تلك الصورة بذاتها وراء انبثاق حركة جماهيرية واسعة النطاق لنصرة نضال الشعب الفيتنامي في أوربا، وفي أمريكا ذاتها. ولم تكن تلك الحركة مجرد تعزيز لحق شعب فقير وضعيف يناضل ببطولة، وإنما امتدت لمراجعة كل شيء في التكوين الثقافي ـ السياسي للحضارة الغربية، وللولايات المتحدة بالذات.

          علينا أن نعترف إذن بأن تجربتنا القومية الراهنة حافلة بالسلبيات التي لا يمكن ـ بل ولا يجوز ـ إخفاؤها. ولكن علينا في نفس الوقت أن نفضح روح المبالغة والتشفي والعنصرية الكامنة في التوظيف النفعي والانتهازي لتلك السلبيات لإشاعة صورة جامدة سلبية على نحو شامل للعرب والمسلمين، وللتجربة الوطنية النضالية للشعب الفلسطيني بالذات. فالمظاهر السلبية التي تنمو على سطح التجربة القومية العربية ليست نتيجة صفات أصيلة في الثقافة العربية أو في التشكيلات العربية الاجتماعية السابقة على الاقتحام الاستعماري والرأسمالي للعالم العربي.

نجاحهم وفشلنا

          الأمر اللافت للنظر في ذلك كله هو نجاح الحركة الصهيونية وعملائها في الغرب في التقاط بعض المظاهر السلبية للتجربة القومية للعرب وتكثيفها وإبرازها على نحو يغطي الحقيقة بطلاء مشوه، وفشلنا في إبراز الصورة الحقيقية بسلبياتها، ولكن أيضا بإيجابياتها ـ بل وروعتها ـ في جوانب عديدة. ويرتبط بذلك أيضا فشلنا في فضح الأيديولوجية والممارسات العنصرية واللاعقلانية والبدائية للصهيونية.

          إن السبب الجوهري للفشل يمكن تلخيصه بشيء من التبسيط فيما يلي: لقد عمل الصهاينة بصبر ودأب وبتوظيف أكثر عقولهم ذكاء وأكثر نماذج الدعاية فعالية على المستوى القاعدي للمجتمعات الغربية وصولا  إلى  قمتها. أما نحن فقد اكتفينا بمخاطبة الحكومات والنخب الفوقية، وأهملنا تماما العمل الإعلامي والسياسي في القاعدة الاجتماعية العريضة. ويظهر ذلك أكثر ما يظهر في حالة الاتحاد السوفييتي ودول أوربا الشرقية الاشتراكية السابقة. فقد اطمأن العرب لتأييد الحكومات لحقوق ومواقف العرب وأهملوا العمل في القاعدة ووسط المثقفين والمبدعين وحركات المعارضة والفعاليات الجماهيرية عموماً. وعندما انهارت الحكومات الاشتراكية انهار معها التأييد الفوقي للمواقف والحقوق العربية، وظهر على السطح المحصول الذي بذره الصهاينة بصبر ودأب في القاعدة عبر السنين، ولاشك أن تلك المفارقة تظهر بدرجة أكبر في حالة أوربا وأمريكا الشمالية، بل وبقية مناطق العالم.

          ولم ترسم الدول العربية أي سياسة منهجية ودائمة حيال الجاليات العربية في أوربا أو دول الاستيطان الحديث في الأمريكتين واستراليا. وظلت المحاولات الذاتية لتنظيم هذه الجاليات سياسياً أو مدنياً ـ للنضال من أجل حقوقها وحقوق الشعب الفلسطيني ـ تترنح طويلاً بسبب الخلافات السياسية والمذهبية في الوطن الأم، هذا فضلا عن الظروف المميزة لكل جالية على حدة، والتي شغلتها جزئياً عن العمل النشط من أجل مساندة الحقوق العربية.

          فالمهاجرون العرب الجدد للولايات المتحدة وكندا جاءوا أساسا من صفوف الطبقة الوسطى، من أقطار عربية عاشت ظروف ركود سياسي طويل، ومن ثم فإنهم لم يتلقوا قدراً مناسباً من التدريب السياسي أو حتى الألفة بالأشكال والمستويات المختلفة للنضال المدني. وشغلتهم الظروف الصعبة للاندماج في مجتمعات الهجرة عن تخصيص وقت كاف للتعرف على العرب الآخرين والتواصل مع المنظمات العربية النشطة في هذه المجتمعات.

بداية النهوض

          لقد تغيرت بعض هذه الظروف أو أخذت طريقها إلى التغير على المدى الطويل. فرغم العوائق التي تحيط بتكون مجتمعات مدنية في شتى الأقطار العربية، فإن هناك عدداً لا بأس به من المنظمات التي تشق طريقها بإصرار، وتلتمس أسباب الفعالية والتأثير في العالم الخارجي. وتعد منظمات حقوق الإنسان والمرأة والبيئة والمنظمات الثقافية من أكثرها نجاحا في الوقت الحاضر. كما أن انتشار تكنولوجيا الاتصال بشتى أنواعها في مختلف البلاد العربية ـ وخاصة الإنترنت ـ سهلت كثيرا على الأفراد أن يقوموا بأدوار كبرى لم يكن يقوم بها في الماضي سوى مؤسسات كبيرة. ولدينا أمثلة حية لهذه الحقيقة في اللحظة الراهنة حيث يقوم مناضلون عرب أفراد - مقيمون بالخارج أو بالداخل - بدور تخجل أمام تفرّده وفاعليته مؤسسات إعلامية وصحفية ضخمة وعريقة في العالم العربي.

          وفي الوقت نفسه، ثمة تغيرات عميقة في الأدوار والموازين النسبية بين الجاليات العربية في الخارج من ناحية، والجاليات اليهودية التي توظفها الحركة الصهيونية من ناحية أخرى.

          هذه المتغيرات المهمة تمثل مكونات اساسية لإطلاق  مبادرة استراتيجية مدنية واعلامية عربية جديدة نحو الرأي العام العالمي يمثل نشر حركة مناصرة الشعب الفلسطيني المهمة الأساسية لهذه الاستراتيجية، ويجب أن نطلق هذه التسمية على حملة عالمية كاملة لتحريك الرأي العام في العالم كله، ودعوته لتوظيف كل الآليات المدنية والإعلامية والسياسية المتاحة لوضع نهاية عاجلة لنظام الاحتلال الإسرائيلي.

          غير أن جعل تلك الحملة التي ندعو لها منصة انطلاق لاستراتيجية نضالية مدنية وإعلامية عربية في العالم الخارجي يحتاج لاستكمال المكوّنات والعناصر التي أشرنا إليها بعناصر ومكونات أساسية ومكملة.

          أول وأهم تلك العناصر يتمثل في تعيين الجسم أو الكيان الأساسي الذي ننطلق منه، ولاشك أن وسائل الإعلام العربية بكل أنواعها يمكن أن تسهم بقدر كبير من الفعالية في إيقاظ هذا الكيان للمهمة المطروحة، أي نشر حركة المناصرة للشعب الفلسطيني.

          الكيان الأساسي الذي يجب أن ننطلق منه - في تقديري - هو كل مواطن عربي في الداخل والخارج يتقن التواصل الإنساني بأبسط معانيه ويعرف بعض الأولويات عن وسائل الاتصال الحديثة. فكل مواطن عربي يجب أن يفهم أنه يستطيع القيام بمهمة غالية وثمينة تساهم بفعالية في تحرير فلسطين والأماكن المقدسة - الإسلامية والمسيحية - في القدس الشريف. لم يعد ذلك صعباً على أي مواطن. فكل منا يستطيع إرسال فاكس أو الحديث تليفونياً أو إرسال خطاب بالبريد الالكتروني أو حتى بالبريد العادي إلى كل الفعاليات في مختلف بلاد العالم، لقد صار باستطاعة كل فرد إعداد قائمة بالعناوين الإلكترونية لمئات من الأشخاص والمؤسسات وإرسالها دفعة واحدة عبر الإنترنت في دقائق عدة.

          ولنتصور ما يمكن أن تفعله منظمات مدنية أو سياسية كاملة في هذا المجال الاتصالي وغيره من مجالات النضال المدني، وهنا تكمن الأهمية غير العادية لتنمية وتحرير المجتمعات المدنية العربية، فالالتحام المباشر وغير المباشر مع مثيلاتها في الخارج صار يمثل التيار الرئيسي للعمل الدبلوماسي الدولي، وحتى الآن، لم تفهم الحكومات العربية هذا الدرس، بكل أسف، ولكن المنظمات المدنية العربية بدءا من أصغرها حتى أكبرها - يستطيع انتزاع حريته في العمل، بغض النظر عن موافقة أو عدم موافقة الحكومات، وخاصة فيما يتعلق بنشر حركة مناصرة الشعب الفلسطيني، على الصعيد العالمي.

          إن الواجب الأول للمنظمات والمؤسسات المدنية العربية هو الالتحام ببعضها البعض من خلال تقنية غاية في البساطة وهي التشبيك Networking، وقد صار بوسع حتى أصغر المنظمات المقيمة في أي قطر عربي التواصل بفعالية مع مثيلاتها في الأقطار العربية الأخرى وفي بلاد المهجر.

          إن أهم آليات نشر حركة المناصرة يتجاوز الاتصالات العفوية إلى مستوى أكثر عمقاً، وهو بناء تحالفات اجتماعية، بل ودولية واسعة. وعلى سبيل المثال، فإن الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان - وموقعها الرئيسي في باريس - قد وافقت على أطروحات المنظمات الفلسطينية العربية بالتنديد بالمذابح الإسرائيلية وتقديم المسئولين عنها إلى محكمة جنائية ودولية، وعقد محاكمات شعبية لهم كتمهيد لتقديمهم لمحكمة جنائية دولية، والمطالبة بمد الحماية الدولية للشعب الفلسطيني من خلال نشر قوات دولية على خطوط الرابع من يونيو عام 1967. وبوسعنا تصوّر ما يمكن أن يؤدي إليه اتخاذ اتحادات عالمية لمختلف المهن والنقابات والفعاليات المدنية لهذه المقررات نفسها.

          وهناك خطوة ثالثة يمكن - بل ويجب - اتخاذها من خلال بناء هذه التحالفات، وهي تخصيص أشخاص متفرغين لمهمة بناء حركة مناصرة الشعب الفلسطيني في عديد من البلدان. ويمكن لهؤلاء الأشخاص أن يصبحوا بعد ذلك نواة لمنظمات مستقلة. ويمكن أن نبدأ أيضاً بدعوة جمعيات الصداقة لاتخاذ الخطوات نفسها في مختلف بلاد العالم، حيث توجد هذه الجمعيات.

          ولاشك أن على الحكومات العربية أن تقوم بأدوار جوهرية في هذا كله. غير أنه من الضروري ألا نرهن فعاليتنا كمواطنين ومؤسسات مدنية في نشر حركة المناصرة على الحكومات. فمجرد تثبيت وتنمية الحضور الشعبي العربي في المعترك الدولي سيجبر الحكومات - إن آجلاً أو عاجلاً - على القيام ببعض الأدوار المطلوبة منها.

أهمية المعرفة

          هذا كله فيما يتعلق بآليات ووسائل العمل، وهو بعض من كل أوسع وأثرى وأعمق يجب استكشافه مع أنصار الشعب الفلسطيني في كل مكان. ولكن مضمون الرسالة الإعلامية الدولية هو أمر لا يقل أهمية، بل ربما يزيد، فلدينا آلاف مؤلفة من المواطنين العرب في الداخل والخارج الذين يتقنون التواصل والاتصال بأشكاله المباشرة وغير المباشرة، ولكنهم بكل أسف لا يملكون المعارف أو الثقافة أو القدرة الحوارية اللازمة لإصدار الرسالة المطلوبة، وخوض الصراع الإعلامي ضد الصهيونية وأنصارها بالكفاءة المعرفية المطلوبة. فيجب ألا نتصور الأمر مثلما تتصوّره الحكومات العربية، فالنضال الإعلامي الدولي ليس قصفاً أو إنزالاً لرسائل إعلامية بالمظلات. فالنضال الإعلامي الدولي من طرف واحد صار بائداً وعديم الفعالية، لأن الإعلام الحقيقي صار عملية تفاعلية.

          يجب أن نعي مشكلتنا هنا كمواطنين عرب، فقد عشنا طويلاً تحت التأثير الأحادي للإعلام التسلطي، ولم يتلق أغلبنا أي قدر مناسب من التثقيف السياسي والمهارات الحوارية. أما خصمنا التاريخي، فلم يكتف بنشر عقائده الصهيونية إلى كل موقع يوجد فيه اليهود أو أنصار التفسيرات الصهيونية والتلمودية للتاريخ. بل إنه يتابعهم كل يوم ويمدهم بالمهارات والمعلومات والحجج المبنية على نماذج إعلامية محكمة، بغض النظر عن كونها كاذبة وملفقة.

          لدينا مشكلة، ولكننا لن نستطيع حل المشكلة إلا إذا طرحنا على أنفسنا مهمة حلها. والآن - حيث تدور كما قلنا أوسع وأضخم مناظرة في التاريخ على شبكات التلفاز وخطوط الإنترنت والصحف والمطبوعات - هو الوقت المناسب لحل المشكلة. ولكي نحلها يجب أن يكون لدينا مثقفون ومنظمون يمدون كل مواطن عربي راغب وقادر على المساهمة في إنجاز تلك المهمة بالمعلومات والحجج المنطقية والأدلة الميدانية.

          وبتعبير آخر، يجب أن يكون لدينا هيئة أركان - أو عديد منها - لقيادة الحملة الإعلامية الدولية. ولاشك أن أفضل هذه الهيئات هي المنظمات المدنية وعلى رأسها منظمات حقوق الإنسان، ولجان المناصرة في مختلف الدول العربية، والإعلام الإلكتروني والمطبوع على امتداد الوطن العربي.

          وتمتد مهمة هيئات الأركان العربية هذه من الدفاع إلى الهجوم وبالعكس. إذ يجب أن نفضح الصهيونية كأيديولوجية عنصرية، وممارسات نظام الاحتلال الإسرائيلي كأسوأ نظام استعماري شهده التاريخ المعاصر. إننا نستطيع أن نقدم بالأرقام، ومن خلال السلاسل الإحصائية والرسوم البيانية، جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها هذا الاستعمار بحق الشعب الفلسطيني، ولاشك أننا سنتلقى مقابل ذلك رسائل مضادة تتخذ من بعض سلبيات الحياة السياسية والمدنية العربية، مثل الفساد والقسوة والتسلط السياسي وإهدار حكم القانون...إلخ مادة لها. ويجب أن نكون مستعدين لشرح هذه الأمراض في سياقها التاريخي، وأن نوضح لكل مواطن في أي مكان في العالم فساد المنطق الصهيوني الذي يتخذ من هذه الأمراض والسلبيات ستاراً من الدخان الكثيف للتعمية على جرائمه بحق الشعب الفلسطيني والشعوب العربية. ويجب أن نبين أن النضال من أجل انتزاع حقوق هذا الشعب هو في الوقت نفسه نضال حي ضد سلبيات الحياة السياسية العربية. وأن جانبا مهما من هذه السلبيات قد نتج عن العدوان الصهيوني، وجرائم إسرائيل ضد العرب.

          وعلينا في كل ذلك أن نربط بين نضالنا العربي من أجل تصفية نظام الاحتلال الإسرائيلي ومساءلته عن جرائمه بحق الشعب الفلسطيني، والنضال الإنساني عامة، لجعل حكم القانون الدولي هو الأساس والمرجع في كل ما يتعلق بالعلاقات الدولية.

 

محمد السيد سعيد   

 
  




أطفال الحجارة.. وبطولات تتحدى الغطرسة





ملامح العمال الفلسطينيين في إسرائيل تبووح بواقعهم





السلام مقابل السلام، الأرض لهم.. هكذا يطالب الصهاينة في مظاهراتهم