تعدد العوالم عبر التاريخ

تعدد العوالم عبر التاريخ

ملف خاص:
عن الحياة في كواكب أخرى.. لسنا وحدنا

الحس البشري بوجود عوالم أخرى في الكون الواسع، لم ينتظر العلم ليبرهن له على ذلك، فقد أرقه الموضوع منذ فجر التاريخ حتى يومنا.

يعود التساؤل حول وجود كائنات حية خارج الأرض إلى زمن قديم نسبيا، غير أنه لم يطرح بحدة إلا بعد جملة المعلومات العلمية التي اكتسبتها الإنسانية. فإذا كانت انشغالات الإنسان بما وراء الطبيعة تعود إلى غابر العصور، فإن مسألة تعدد العوالم لم تطرح بإلحاح إلا بعد أن ارتقى الإنسان إلى مستوى" معين من المعرفة بالمحيط البعيد للأرض.

وقد بدأت أولى الدراسات العلمية للسماء ببلاد مابين النهرين وسامر، حيث لوحظ انتظام حركة الأجرام. إلا أن الأساطير القديمة ظلت تشكل تفسيرات للأحداث السماوية. ومن البديهي أن الإشارات الأولى لهذه الاهتمامات في المراجع والكتابات كانت متعلقة بأقرب جرم للأرض- القمر- الذي كان طابعه الصخري لا يكاد يدرك. وبخد أثرا لذلك في شعر أورفي Orphee (يعتقد أن قصائده دونت حوالي 1400 قبل الميلاد) ومما قاله هذا الشاعر الأسطوري:

وخلق (الله) أرضا شاسعة
التي يسمينها الخالدون سلني (القمر)
ويسميها البشر قمرا، والتي بها الكثير.
من الجبال والمدن والقصور.

ونفس الأفكار نجدها ابتداء من القرن الرابع قبل الميلاد عند كل من كسنوفان وأنكسغور. كما اعتقد الفيثاغوريون بأن القمر خصب، عامر بالحيوانات. وتطورت خلال هذه الفترة الثرية أولى النظريات حول طبيعة الكواكب، وأعطي أول التفاسير المختلفة للظواهر السماوية. فقد أيد الفيثاغوريون فكرة كروية الأرض. وذكر أنكسغور أن القمر يستمد نوره من الشمس وقدم شروحا صحيحة عن الكسوف والخسوف. وقد اعتبر هذا الأخير أن الأرض والقمر والكواكب التي تعرف حركتها " السريعة"، عبارة عن صخور كبيرة. ومن جهته، أقر أفلاطون أن الأرض مركز العالم، وزعم أن الكواكب والنجوم لابد أن حركتها مثالية، أي دائرية. ويعود تركيب العلوم الإغريقية إلى أرسطو (322- 384 قبل الميلاد)، الذي أعطى للعالم تصورا ساد لعدة قرون. وينقسم عالم أرسطو إلى قسمين: عالم تحت قمري (دون مدار القمر) وعالم علوي، هو عالم الكمال. فالأول، عالم تغير وفساد، بينما الثاني كامل وثابت. وتحتل الأرض في ذلك كله مركز العالم. ويوافق بذلك أرسطو التصورات البابلية والمصرية القديمة التي تقسم العالم إلى مستويين، إلا أن تصوره عقلاني أكثر منه أسطوريا.

ومن البديهي أن يكون لهذا النموذج تأثير في موضوعنا. فهذا أنكسغور يعتقد أن كل الكواكب آهلة بالسكان وكذا أفلاطون. وكتب لوكريس (55- 98 قبل الميلاد) الشاعر الروماني الكبير: "يجب الاتفاق على أن المناطق الأخرى (للسماء) تحتوي كذلك على عوالم وشعوب مختلفة وحيوانات من شتى الفصائل".

ومن جهة أخرى، افترض عدة علماء أن ظهور الحياة على كوكب ما مرهون ببعض الشروط ففيثاغورس (480-570 قبل الميلاد) يرى أنه من الممكن أن تولد كائنات على كواكب ما إذا كانت هذه الأخيرة تتلقى حرارة. أما بالنسبة لـ بلوترك (50- 125 قبل الميلاد)، "فالقمر عذراء وعقيم، حارة في النهار، والهواء بها نادر وشفاف، خال من السحب ". نلاحظ إذن عند هذا الكاتب الأخلاقي اليوناني أنه لا يمكن وجود أي نوع من الحياة على القمر. وربما أدرك أن هناك بعض الشروط والعناصر الأساسية التي هي ضرورية لاستيرار الحياة على سطح الأرض، فكان بذلك موقفه موضوعيا ومتقدما بالمقارنة مع أفكار الذين سبقوه بعدة قرون.

ونود التذكير أخيرا بأن مسألة عمارة الشمس لم يتطرق لها القدماء إطلاقا. وذلك مدين باعتبار أن هذا الأمر لم يرتبط بالحرارة العالية للشمس. وقد حظيت الشمس بمنزلة خاصة في تصورات القدماء، فاعتبرت جرما مثاليا يهب الحياة. وظلت هذه المعتقدات القديمة حية قرابة الألف عام، فقد رفض مثلا وجود البقع السوداء على سطح الشمس، رغم إمكان رؤيتها بالعين المجردة في الظروف المناخية الملائمة.

من القروق الوسطى إلى القرق العشرين

لقد تفتح الفكر الديني بشكل كبيرفي العصور الوسطى وحاولت المدارس الفلسفية إعطاء تفسيرات لإشكالات كثيرة طرحها الفكر الأرسطي على الدين، أو با لأحرى إدماج المعرفة الأرسطية في الدين. ومن البديهي أن مسألة تعدد العوالم لم تكن (كما هوالشأن اليوم) حكرا على العلماء. واختلفت الطريقة المتبعة هنا عن تلك التي تبناها الفلاسفة الإغريق لأن الاعتبارات الدينية كان لها شأن كبير.

المعتزلة: ولنبدأ أولا بتفحص المسألة في عهود الإسلام (من زاوية الفكر البشري الذي يصيب ويخطىء) بداية بالمعتزلة الذين يعتبرهم البعض أول مفكري الإسلام الناشىء. ظهر المعتزلة (حوالي 750 م بالبصرة) في عالم متحضر واهتموا بكل المسائل سواء كانت لاهوتية أو ميتافيزيقية، حتى الفيزياء وعلم النفس. ولا يتعرض المعتزلة مباشرة لمسألة تعدد العوالم فهم ينفون هذا الإمكان، وإنما اتخذ النقاش طابعا لاهوتيا: هل الله قادر على خلق عوالم أخرى أم لا؟ ويلخص الجاحظ (المتوفى سنة 869 م) رأي المدرسة التي ينتمي إليها قائلا: "لقد كان الله قادرا على خلق عالم آخر عندما خلق هذا العالم، لكن لو فعل لكان هذا العالم مشابها لعالمنا ولاختلط به ". ويعني العالم في قول الجاحظ جميع الخلق، أو بالمعنى العصري " الكون ". ويظهر من ذلك عدم ضرورة وجود عالم آخر عند المعتزلة لأن عالمنا هذا كامل. وفيما يخص عمارة الكواكب لا يظهر أن المعتزلة تعرضوا لها. وفي الحقيقة لا نعرف شيئا كثيرا عن نظريتهم للسماوات، الأمر الذي قد يبدو مدهشا في حد ذاته.

ونلاحظ في الأخير أن الروح ليست مرادفة للحياة عند المعتزلة. وقد كتب أبو الهذيل (749- 845) قائلا: "تختلف الروح عن العقل، والعقل مختلف عن الحياة، فالحياة عرض". ويوافقه في ذلك النظام (776- 846) والجبائي (850- 916)، لأن وجود كائنات عاقلة يحتاج إلى تدخل إلهي ينفخ فيها الروح اللازمة.

إخوان الصفا: ويعرض إخوان الصفا في رسائلهم (893- 1 94) نظرتهم للكون بالتفصيل. وهم يتبعون من الناحية الفيزيائية رأي أرسطو في النواميس، حيث يقسمون الكون إلى طبقات كروية مركبة الواحدة في الأخرى. ولا يوجد في العالم العلوي برد، ولا حرارة، ولارطوبة، فهو كامل ويكون بذلك العالم العلوي ميتافيزيقيا محضا عندهم. ومن جهة أخرى، فهم ينسبون لكل كوكب كرة تسكنها الأرواح التي تؤثر في العالم السفلي (تحت مدار القمر). بالتالي فإن زحل كوكب نحس، المريخ شرير، المشتري والزهرة خيران. وتسكن كرة المشتري الملائكة التي تنزل إلى الأرض لتدبير حركة الهواء وضمان توازن العناصر الأربعة. فلا يوجد إذن عند أخوان الصفا مكان الحياة عضوية خارج الأرض.

القرآن والتفاسير: وقد تدفعنا قراءة معاصرة للقرآن للاعتقاد بأن بعض الآيات تبين حقا وجود كائنات حية خارج الأرض. وعند بعض المفسرين المعاصرين فإن القران لا يدع مجالا للغموض في هذه المسألة. وحسب رأيهم فإد عدة آيات تدعم هذه الفرضية، ومنها الآيات التالية:

سورة الإسراء آية 70ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير من خلقنا تفضيلا الإسراء7.

سورة مريم الآيات 91-95أن دعوا للرحمن ولدا. وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا. إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا. لقد أحصاهم وعدهم عدا. وكلهم آتيه يوم القيامة فردا مريم 91-95

سورة الشورى آية 29ومن آياته خلق السماوات والأرض وما بث فيهما من دابة وهو على جمعهم إذا يشاء قدير الشورى، 29

ويجدر بنا الآن الاطلاع على التفسيرات الأولى لهذه الآيات. تعتبر تفاسير كل من الزمخشري (1075- 42 11)، القرطبي (توفي 1273)، وابن كثير (توفي 1344) مراجع مهة في تفسير القرآن. فعالم خارج الآرض بالنسبة لهؤلاء المفسرين الثلاثة هو عالم الكائنات الغيبية كالملائكة والجن موافقين بذلك رأي إخوان الصفا.

ويلخص في الحقيقة رأي المفسرين المسلمين في العصور الوسطى أفكار علماء اللاهوت حول تعد العوالم. ويجب القول إن علماء اللاهوت لا يوافقون غالبا فكرة تعدد العوالم (سنرى فيما بعد أن الكنيسة الكاثوليكية في العصور الوسطى رفضت تماما هذه الفرضية). يرجع ذلك إلى طبيعة الدين، فهو ينزل الإنسان منزلنة رفيعة. فالإنسان خليفة الله على الأرض، وقد سخر له الله ما في الكون ليتصرف فيه كيف يشاء. وللدين طابع أنثروبي (أي يعطي للإنسان مكانة مركزية) إلى حد بعيد وبالتالي يرفض علماء اللاهوت وجود كائنات حية أخرى في السموات، وإلا فماذا مكانتها (بالنسبة للإنسان والكون)؟ وإن إحدى أقوى الحجج المدعمة للمبدأ الأنثروبي الحديث هي موافقة نهاية الإنسان لنهاية الكون كما تصفه الكتب المقدسة. فإذا زال الإنسان لم تبق للكون ضرورة للاستمرار في الوجود. فالكون بذلك موجود لأجل الإنسان. صحيح أن هذا لا ينفي وجود كائنات أخرى ولكن من المحتمل أن تكون منزلتها أدنى من منزلة الإنسان والله سبحانه أعلم.

الصوفية: وتتجلى هذه الأفكار بوضوح أكثر عند المذاهب الباطنية الإسلامية. فني اعقتاد الصوفية يوجد لدى كل إنسان قدرات نفسية قد تسمح له بتحقية كل حالات الذات، ويصل الإنسانا بها إلى درجة الكمال مفهوم "الإنسان الكامل" الذي جاء به عبد الكريم الجيلي ("1365-1428")

ولنطو هذا الباب بتوضيح نقطة مهمة، وهي أن علماء الكلام والمفسرين يرفضون فرضية تعدد العوالم لأنها، في نظرهم، لم ترد في القرآن الكريم، ولأسباب عقائدية (كما هو الشأن بالنسبة للمعتزلة) بينما يرفضها غالبا الصوفية بسبب تفكير عمية في أسماء الله الحسنى وصفاته.

ويرفض ابن رشد (1126-1198) فكرة خلق الكون من أجل الإنسان، مناقضا فكرة علماء اللاهوت. وبالنسبة لهذا الفيلسوف، فلا يمثل الإنسان قمة العقل في الكون. فهل كان يؤمن ابن رشد بتعدد العوالم؟ من الصعب الفصل بذلك، خاصة مع تبنيه لتصور أرسطو، من حيث وجود الأرض في مركز العالم.

ويظهر أن مسألة تعدد العوالم كانت في عهود الإسلام الفكرية محل جدل ونقاش واسع ومفتوح. ومن الواضح أن العلماء المسلين كانوا أقل جزما من سابقيهم اليونان، لأن إطار التفكير كان مغايرا ويسمح بتحليل أكثر تعمقا للمضاعفات النفسية للمسألة.

النصارى: وبالنسبة لعلماء اللاهوت النصارى في العصور الوسطى فإننا نجد بعض الأفكار التي تخالف الاعتقاد الذي ترضاه الكنيسة الرومانية، مثل رأي الكاردينال دوكوزا (1401- 1464) الذي افترض عمارة الشمس. لكن الحدث الأكثر مأساة والذي كان له أثر بالغ في التطور الثقافي في الغرب وقع سنة 1600. ففي هذه السنة حكم بالحرق على الراهب برونو جيوردانو (1548 - 1600) بسبب كتاباته التي اعتبرت ردة. فقد كان هذا الراهب مؤيدا متحمسا لتعدد العوالم. وكان يقول إن "الكون غير محدود"، عامر بعوالم لا حصر لها كعالمنا". وفندت الكنيسة بشدة تأكيد الراهب لأسباب لاهوتية.

ويعتبر الصراع الذي واجه غاليليو (1564 - 1642) و الكنيسة الرومانية عقب الحكم المفجع على جيوردانو بمنزلة منعطف حاسم في تطور الأفكار في الغرب. وواكبت هذه الفترة كذلك منعرجات علمية حاسمة. لقد اكتشف جاليليو بمنظاره الطبيعة الصخرية للقمر، وأهلة الزهرة وأقمار المشتري (التي ستحمل اسمه فيما بعد). ولم تزد هذه الاكتشافات إلا تدعيما لنظرية مركزية الشمس للعالم التي جاء بها كوبرنيك (1473 - 1543) من قبل. ثم جاء دور كبلر (1571 - 1630) ليضع قوانينه الفلكية التي اتخذها نيوتون (1643-1727) فيما بعد مرجعا لتكوين نظرية الجاذبية العامة. وتحقق هكذا انتصار مركزية الشمس، بل إن هؤلاء الفلكيين الفيزيائيين: جاليليو، كبلر، ديكارت (1596- 1650)، نيوتون، ولبلاس (1749 - 1827) كانوا كلهم يقبلون بتعدد العوالم في الكون فيما بعد. وفي سنة 1686 كتب فونتنال (1657-1757) مناقشات حول تعدد العوالم، بل إن هرشل (1738 - 1822) كان يعتقد أن الشمس آهلة بالسكان. أما الفيزيائي هويغنس (1629 - 1695) فقد كان يعتقد أن سكان العوالم الأخرى مشابهون لنا.

وفي نهاية القرن التاسع عشر ترسخت تماما فكرة تعدد العوالم، وذلك استنادا إلى الإرصادات التي أجريت على المريخ في ذلك الوقت. وبالفعل كان الكوكب الأحمر، يظهر تغيرات مرحلية لطابع لون تربته كما هو الشأن بالنسبة للأرض خلال الفصول (ويرجع ذلك إلى تغير الغطاء النباتي). ولم يكن ذلك عند العديد من علماء ذلك العصر سوى دليل على النشاط البيولوجي على سطح المريخ. وكتب فلامريون (1842 - 1925) سنة 1862 ما نصه: "إن الحياة تتطور في الزمان والمكان بلا نهاية، فهي كونية سرمدية، وإنها تملأ الفضاء اللامحدود بتناغمها، وستسود لقرون طويلة في الأزل".

وفي الأخير خلص تطور المعرفة بالمجموعة الشمسية في ذلك العصر إلى أنه لا يمكن وجود كائنات على الكواكب التي ليست بها ظروف مناخية ملائمة لذلك، كالمشتري وزحل مثلا. فالمريخ فقط، وبدرجة أقل الزهرة، بإمكانهما احتضان الحياة على سطحيهما. فالحياة في الكون نادرة، ولكن محتملة.

وقد شهدت بداية القرن العشرين نتيجة لذلك محاولة وضع أسس علمية لدراسة المسألة، غير أنها مهدت الطريق مع مرور الزمن لطريقة موضوعية حقيقية بغية دراسة تعدد العوالم.

 

كريم مزيان