الواقعية الإيكولوجية... أسطورة ثقب الأوزون

الواقعية الإيكولوجية... أسطورة ثقب الأوزون

على غلاف أحد أعداد مجلة "تايم" الأمريكية قرأ الجمهور في فبرير 1992: "الأوزون يختفي, الخطر سيبلغك في عقر دارك". قبل ذلك بأيام كان الباحثون في نازا قد أعلنوا أن ثقب الأوزون لم يعد موجودا فقط فوق القطب الجنوبي, كما يحدث فعليا منذ الثمانينيات, إنما هو الآن أيضا فوق "مناطق مكتظة بالسكان" في أمريكا الشمالية وأوربا.

بعد إعلان نازا بساعات ألقى آل جور خطابا مشبوبا بالعاطفة في جلسة طارئة بمجلس الشيوخ الأمريكي, أعلن فيه أن نضوب الأوزون يُعد "أخطر ما واجهته البشرية من أزمات".

وقامت حركة "جرين بيس" بشراء صفحات كاملة من الجرائد نشرت بها إعلانا يقول "إن الحياة الطبيعية قد تُعَوق لأجيال تلي, وقد يصبح الخروج من المنزل خطرا في بعض المناطق". وبدأت التقارير الصحفية والخطابات السياسية والتعليقات البيئية تشير إلى أن نضوب الأوزون فوق نصف الكرة الشمالي هو أمر مثبت. لم يقولوا إن طبقة الأوزون تضمحل, وإنما قالوا إنها على وشك الاختفاء. وعندما أطلق مكوك فضاء في أبريل 3991 حاملا دورات لقياس تركيز الأوزون, قالت وكالات الأنباء إن هذه الرحلة ستفحص طبقة الأوزون "التي أوشكت على التلاشي"!

وبغض النظر وكل ما هناك أن ثمة انخفاضا في أوزون الاستراتوسفير قد حدث بنسبة لا تتعدى بضعة في المائة!

وقضية نضوب أوزون الاستراتوسفير هي الأخرى قضية نموذجية للمعالجة بالواقعية الإيكولوجية ـ هي مشكلة حقيقية, لكن تضخيم مخاطرها قد تجاوز كل الحدود.

لقد بدأت نظرية ثقب الأوزون بملاحظة في علم البصريات تقول إن الجزيئات ذات الذرات الثلاث تمتص عادة موجة الأشعة ب فوق البنفسجية, الخطرة بيولوجيا, أما الجزيئات ذات الذرتين فإنها تسمح عادة لهذا الأشعة بالمرور. توجد جزيئات الأكسجين دائما في صورة ذات ذرتين, ويرمزك بالرمز أ2, أما جزيئات الأوزون فتتألف من ثلاث ذرات أكسجين, ورمزها أ3.

تتفاعل الملوثات فوق المدن مع ضوء الشمس لتحول الأكسجين أ, إلى الصورة أ3, الأوزون. والأوزون غاز أزرق باهت سام بالنسبة للإنسان حتى في تركيزاته الضعيفة, وهو عند سطح الأرض يسبب متاعب تنفسية بالغة خصوصا للأطفال وكبار السن. يتسرب الأكسجين أيضا من الطروبوسفير إلى الاستراتوسفير يوفر ضوء الشمس الطاقة لتفاعل طبيعي يحول أ, إلى أ3 على ارتفاع يبلغ نحو 40 كيلومترا من سطح الأرض ـ وتتشكل بذلك طبقة الأوزون. ولما كان هذا الأوزون لا يتنفسه أحد فإن وجوده لا يضير. بل الحق أنه يفيد ـ إذ تمتص طبقة الأوزون هذه بالاستراتوسفير جزءا من الأشعة فوق البنفسجية التي تأتي في ضوء الشمس, وبالذات معظم الأشعة فوق البنفسجية النشطة بيولوجيا (المسماة: الأشعة ب) فلا يصل منها إلى الطروبوسفير إلا القليل. هذه الطبقة من الأوزون تعمل إذن كدرع واق للأحياء على الأرض من الأشعة ب, التي تمتصها المادة الوراثية للكائنات الحية وتسبب ـ على الأغلب ـ أضرارا لها. ولقد افترض الباحثون من زمان بعيد أن الأشعة ب تسبب لفحة الشمس, وتؤدي إلى إعتام عدسة العين (مرض الكتاراكت) لأن ضوء الشمس يدخل العين, وإلى سرطانات الجلد ـ الميلانوما الحميدة والخبيثة ـ لأن الجلد أكثر ما يتعرض لضوء الشمس.

طائرات أسرع من الصوت

بمعرفة العلاقة المحتملة بين الأشعة ب وسرطان الجلد, بدأ في الستينيات الاهتمام بنضوب الأوزون في الاستراتوسفير. في ذلك الوقت كان ثمة سباق بين الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين والسوفييت لإنتاج طائرات أسرع من الصوت. تطير هذه الطائرات في الاستراتوسفير, تطلق محركاتها أكسيدات النيتروجين (نوكس), وقد رأى بعض العلماء عندئذ أن هذه الأكسيدات تتسبب في نضوب الأوزون بالاستراتوسفير, فأوقفت الولايات المتحدة مشروعها, ولم تنفذه إلا بريطانيا وفرنسا, ليتضح في النهاية, علميا, أن أثر الفوكس على نضوب الأوزون أقل بكثير مما كان يُظن.

الفريونات أو الكلوروفلوروكربونات

بعد أن انتهت قصة الطائرات الأسرع من الصوت بدأ بعض الكيماويين يفكرون فيما إذا كان لمركبات الفريونات (أي الكلوروفلورو كربونات: ك.ف.ك) أثر على نضوب أوزون الاستراتوسفير. كانت هذه المركبات تصنّع بكميات هائلة في الستينيات لتستعمل في التبريد بالثلاجات وأجهزة التكييف, وكدواسر في علب الرش ـ بعد أن ظهر أنها صديقة للبيئة حنون عليها: فهي لا تتفاعل مع الكائنات الحية, وهي لا تذوب في مياه المحيطات, ولا تزيلها الأمطار من الهواء ـ هي لا تفعل في البيئة شيئا على الإطلاق, إنما تسبح هائمة حتى تصل في نهاية الأمر إلى الاستراتوسفير. وفي سنة 1973 نشر رولاند ومولينا بحثا نقضا به فكرة خمول هذه المركبات. قالا إنها قد لا تتفاعل حقا مع أي شيء في التروبوسفير, لكنها في الاستراتوسفير ـ حيث الأشعة فوق البنفسجية قوية ـ تتحلل إلى مكوناتها من الذرات ومن بين مكوناتها عنصر الكلور.

سيتراكم الكلور إذن في الاستراتوسفير, ولأنه يعمل كحفّار يحول الأوزون (أ3) إلى أكسجين (أ2), ثم يخرج سالما ليكرر العملية, إذ سيعمل على تآكل طبقة الأوزون. وقد وجد الباحثان أن ذرة الكلور الواحدة يمكنها أن توفر مائة ألف جزء من الأوزون. وكانت النتيجة أن حرمت الولايات المتحدة ابتداء من أكتوبر 1978 تصنيع مركبات الفريون التي تستخدم كداسر في علب الرش, واستبدلت بها مركبات أخرى دون مصاعب. وفي الثمانينيات حذت دول أوربا الغربية واليابان حذو الولايات المتحدة.

نيمبوس 7

بعدما حظرت الولايات المتحدة استخدام ك.ف.ك كداسر في علب الرش (وكانت تنتج آنئذ نصف ما ينتجه العالم من هذه المركبات) انحسر الجدل حول نضوب الأوزون بضع سنوات, فلم تكن لدى البحاث وسيلة تمكنهم من تقدير الأوزون بالاستراتوسفير ـ حتى تمكنت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) عام 8791 من إطلاق القمر الاصطناعي نيمبوس 7 حاملا أجهزة لقياس التركيب الكيميائي للاستراتوسفير. أشارت بيانات نيمبوس 7 إلى أن طبقة الأوزون تتناقص بمقدار ضئيل, أي تخفف قليلا (لا تتبدد!), وأوضحت انخفاضا قيمته بضعة في المائة فوق المناطق المأهولة في نصف الكرة الشمالي خلال الصيف عندما يكون ضوء الشمس أكثر كثافة.

هنا بدأ الجدل يتصاعد مرة أخرى ليصل إلى أقصى حدته بعد أن أعلن فارمان في 16 مايو 1985 أنه وزملاءه قد وجدوا ثقب أوزون فوق القارة القطبية الجنوبية. لم يكن تخفيفا للأوزون, كان ثغرة: لقد تحطم من أوزون الاستراتوسفير أثناء الربيع الجنوبي أكثر من 30%, ووصل تناقص الأوزون في الربيع الجنوبي منذ ذلك العام إلى نحو 50%.

وبدأت سلسلة جديدة من التقارير والبلاغات ترى ـ بعد أن عرف بوجود هذا (الثقب) الذي في السماءـ أن كل تلك الملايين من أطنان الفريونات التي أطلقت في الجو إنما تعني أننا قد جلبنا على أنفسنا الدمار.

بعض التفاصيل المنسية

خلال الضجة العارمة التي ثارت في الثمانينيات عن ثقب الأوزون, تم تجاهل الكثير من تفاصيله. يفتح ثقب الأوزون الجنوبي خلال الربيع الجنوبي فقط (الذي يتزامن مع الخريف الشمالي). في أثناء الشتاء الجنوبي تتسبب التفاعلات الكيماوية في تجمع جزيئات الكلور الطبيعي والاصطناعي (البشري) في استراتوسفير القطب الجنوبي, لكنها لا تأكل الأوزون لعدم وجود ضوء الشمس اللازم للتفاعل. وما إن يأت ضوء الشمس في الربيع حتى يبدأ تفاعل التآكل وينضب الأوزون, ليتناقص فعل الدرع الواقي من الإشعاعات. لكن أشعة ب في القطب الجنوبي عندئذ تكون أصلا منخفضة فعلى سبيل المثال, عندما فتح ثقب الأوزون في ربيع 1990 كانت أشعة ب عند سطح الأرض ضعف ما كانت عليه في عام 1988. على الفور تهيج المعلقون وقالوا إن هذا أمر مرعب للغاية. لكن الحقيقة هي أن قراءة أشعة ب كانت من الانخفاض بحيث لا تسبب مضاعفتها في زيادة تعادل ما يتلقاه أي منا لو سافر من شيكاغو إلى نيوأورليانز. أذيع أن أشعة ب تضاعفت, لكن أحدا لم يذكر أن الزيادة كلها كانت تافهة حقا.

ثمة تفصيلة أخرى لم تذكر: أن هذه الثغرة التي تفتح سنويا منذ أواخر السبعينيات فوق القطب الجنوبي أثناء الربيع الجنوبي, تغلق أيضا سنويا خلال الصيف الجنوبي. أنت تقرأ في جرائد شهر أكتوبر "لقد فتح ثقب الأوزون"!, لكنك لا تقرأ أبدا في جرائد شهر يناير "قد أغلق الثقب"!

قيل في البداية إن الفريون الموجود بالفعل في الاستراتوسفير سيبقى ولن ينتهي تأثيره إلا في نهاية القرن القادم. سنورثه نحن لأحفادنا. نجحت قمة مونتريال في سبتمبر 1987 في الاتفاق على وثيقة تتعهد فيها الدول الموقعة (وعددها 27 دولة) بتخفيض إنتاج الفريونات إلى النصف على نهاية القرن العشرين. لكن الأمم المتحدة أعلنت عام 1991 أن معدل تناقص الأوزون أقل بكثير مما كان متوقعا. وفي عام 1992 قام عدد من كبار البيئيين بعرض خرائط على الرئيس بوش توضح ثقب أوزون فوق ولاية مين, بعدها قال بوش: (بعد أن رأيت هذه الخرائط فإنني أعجب أنني لا أزال حيا)! وأمر بوش بأن تتوقف الولايات المتحدة عن إنتاج الفريونات على عام 1996. وكان الأثر في الحقيقة سريعا. ففي عام 1994 رأت هيئة مستشاري الأمم المتحدة للأوزون (المكونة من 226 عالما) أن الأغلب أن يعود الاستراتوسفير إلى طبيعته في نحو عام 2040 قبل الموعد (المحدد) بأكثر من خمسين عاما. يبدو أن قضية ثقب الأوزون في طريقها إلى أن (تُسد).

ماذا إذن عن الثقب الذي أعلنت "ناسا" في فبراير 1992 أنها قد وجدته فوق نصف الكرة الشمالي? الحقيقة أن "ناسا" لم تعلن بالضبط أنها قد وجدت ثقب أوزون, إنما قالت إنها عثرت على كميات كبيرة من أول أكسيد الكلور ـ الحفار المرتبط بنضوب الأوزون, وهذا في الواقع قد يسبب نضوب الأوزون, لكنه قد لا يسببه. الثقب الشمالي إنما كان اقتراحا ربما تحقق. لم يكن ثمة ثقب أوزون إذن فوق رأس بوش عندما أقنعوه بخطورة القضية. ظهر الثقب فقط في الخرائط التي أطلعوه عليها. ولم يذكر مراسل صحفي واحد أن ذعر الثقب الشمالي عام 1992 قد حدث قبل مرور عام على انفجار بركان مونت بيناتوبو في أبريل 1992, الذي نفث إلى الاستراتوسفير ملايين الأطنان من غازات كبريتية تساعد في تفاعلات تآكل الأوزون!

تقول إحصاءات جمعية السرطان الأمريكية إن ما يُشخص الآن من سرطانات الجلد بأمريكا يبلغ ثمانية أضعاف ما كان يشخص من ثلاثين عاما. ويعتقد معظم الباحثين أن الأسباب الرئيسية في ذلك هي كبر السن, وتحسين إمكانات كشف المرض, بجانب كثرة الخروج من المنازل, وموضة الملابس التي تعرض من الجسم الكثير إلى الشمس ـ لاسيما المايوهات البكيني. وربما كان نضوب الأوزون هو الآخر سببا. فإذا كان مرضى سرطان الجلد قد تضاعف عددهم 8 مرات, فإن المتوقع ـ كما يقول تقدير حكومي أمريكي ـ أن يؤدي هذا السرطان إلى وفاة 3 ملايين من البشر في عام 2075! رقم مخيف مذهل!

التقط البيئيون هذا الرقم واستخدموه لإثارة الذعر ـ فهو رقم (حكومي) موثوق به! غير أن سيتلو نشر عام 1993 بحثا اقترح فيه أن سبب الميلانوما الخبيثة قد يكون هو أشعة أ فوق البنفسجية, لا أشعة ب! وأشعة أ هذه لا توقفها مستحضرات الوقاية من الشمس. عرض سيتلو دراسات تبين أن أشعة أ تسبب سرطان الجلد في الأسماك, ويبقى أن نعرف إن كان هذا صحيحا أيضا على البشر. فإذا كان صحيحا فإن هذا يعني أن مستحضرات الوقاية من أشعة الشمس ـ التي يعتقد معظم الناس أنها تمنع أشعة ب من الوصول إلى الجلد ـ قد لا تحجب أشعة أ, وإنما تعطيهم إحساسا كاذبا بالأمان عندما يعرضون أجسادهم لوقت أطول في حمامات الشمس ـ مما قد يبرر تزايد الميلانوما الخبيثة.

ثمة عدد من البيئيين المتشائمين يتوقعون أن يتسبب نضوب الأوزون في أضرار بالغة تحل بالمحاصيل, التي تمكث في الشمس طول النهار. أجرى أحد العلماء بحثا تبين منه أن محصول فول الصويا ينخفض بمقدار 25% إذا زادت أشعة ب بمقدار 25%. وبدأ على الفور قرع طبول التخويف! لم يذكر أحد أن اختبارات هذا العالم على النباتات الأخرى قد أشارت إلى أن بعض النباتات قد ازداد إنتاجها, وأن معظمها لم يتأثر على الإطلاق!

اقتُرحت نظرية نضوب الأوزون إذن عام 1973, ولم تثبت تجريبيا إلا عام 1985. عُرف أن مركبات الفريون هي السبب الرئيسي, وفي عام 1987 وافقت معظم الدول المنتجة لهذه المركبات على تخفيض إنتاجها منه إلى النصف على عام 2000. وفي عام 1990 تعهدت أمريكا ومعظم دول أوربا بوقف تصنيع هذه المركبات. وفي عام 1992 أمر الرئيس الأمريكي بالتوقف تماما عن إنتاجها في عام 1996. أمكن بالبحث العلمي اكتشاف بدائل لها. كانت أعلى انبعاثات من هذه الغازات في عام 1988, وأخذت تقل بعد ذلك بسبب ضغوط البيئيين. من المستبعد أن يحدث ثقب أوزون فوق النصف الشمالي للكرة الأرضية حيث يقطن معظم الخلق, لأن ظروف الجو في القطب الجنوبي تختلف عنها في أي مكان آخر على الأرض ـ ولقد اعترفت "ناسا" فعلا بأنه من الصعب أن يحدث مثل هذا الثقب.

 

أحمد مستجير

 
 




العلم واللغز