التطور المعوق في نظمنا المعاصرة طارق البشري

     لماذا نجد أنفسنا في مراحل انتقال لا تنتهي، ونقفز من عدم اتفاق إلى عدم اتفاق. ونفاجأ بأنفسنا دائمًا في حالة من انعدام الوزن التاريخي. ويقودنا كل ذلك إلى تشوش لا يجدي معه علاج واحد أو محدد. أسئلة عديدة يحملها هذا المقال، فيثير اهتمامنا بظاهرة نحياها ولا نتوقف عندها بما يكفي، وبما ينبغي..

منذ تفتح إدراكنا على الأوضاع والشئون العامة لبلادنا في الأربعينيات من هذا القرن، ونحن نسمع عبارتين تترددان بغير سأم وبغير شعور بالاصطناع، هاتان العبارتان هما:

- في هذه الأيام العصيبة التي تمر بها بلادنا.. إلخ.
- إن سنوات التحول والانتقال التي نحياها.. إلخ.

العبارة الأولى نجدها في البيانات الرسمية وأقوال الساسة ورؤساء الدول والحكومات، وفي خطب الزعماء وغيرهم.

والعبارة الثانية نقرؤها في كتابات المحللين السياسيين والاجتماعيين والمفكرين وقادة الرأي والصحفيين والدعاة على السواء.

مراحل انتقال.. دائمة

وعندما شببنا وطالعنا أعمال الأجيال السابقة علينا من جيل الآباء والأجداد على مدى القرن الأخير، وجدنا هذين المعنيين يترددان لديهم ترددهما لدى جيلنا، وإن اختلفت الألفاظ وتراكيب الجمل.

ونحن نطمئن إلى القول بأنه على مدى الأعوام المائة السابقة، كان هناك شعور طاغ لدينا نتداوله ونتوارثه، بأن الأيام المعيشة أيام عصيبة، وأننا في سنوات انتقال وتحول. وترسب لدينا من ذلك أن أيامنا مؤقتة، وأننا لسنا في ظروف عادية. أكاد أقول إننا جميعا نتفق على أن ما نحياه يمثل شذوذا واستثناء، أو هو نتوء تاريخي، ولكن العجيب أننا مع هذا الاتفاق جد مختلفون حول ما هو العادي من الظروف، ومتصارعون حول بيان ما لا نحياه من الأوضاع وحول تبين ما يجب أن تكون عليه أحوالنا.

نحن نختلف حول ما كنا فيه وما نصير إليه، وحول تقييم أوضاع الماضي الذي نخرج عنه، وتصورنا لأوضاع المستقبل الذي ندخل فيه، ونحن نتصارع حول "تقييم" الماضي والمستقبل، بمعنى أننا نتفق في أن حاضرنا هو مرحلة انتقال من وضع مختلف على تقييمه إلى وضع نختلف على تصوره.

على مدى المائة عام الأخيرة، عشنا مرحلة الانتقال إلى التحرر، وقبل أن تتحقق دخلنا في مرحلة الانتقال إلى نظم التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وقبل أن تتحقق دخلنا في مرحلة الانتقال إلى التعددية. وهذا بالضبط ما أقصده بالنمو المعوق، فهو نمو لا ينكفل له أبدا المجال الزمني الذي يهيئ له المناخ الملائم.

تشوش وانعدام وزن

إننا عندما نتحرك من نظام إلى نظام نفقد بالتدريج الضوابط الحاكمة للنظام القديم، ولا نكتسب الضوابط الحاكمة للنظام الجديد إلا بالتدريج أيضا. والنظم السياسية والاجتماعية كالأجرام السماوية، لكل منها نطاق جاذبية، وتقوى الجاذبية مع القرب من الجرم وتخف وتزول مع البعد عنه. ومرحلة الانتقال تعني التخفف التدريجي من نطاق جاذبية نظام، والدخول التدريجي في نطاق الجاذبية الآخر أو الحاكمية الجديدة، أو الأطر المرجعية التي تستهدي بها الجماعة، وتضبط حركتها ونشاطها ومثلها وقيمها وأنماط العلاقات بين أفراد الجماعة ومجموعاتهم.

والمشكل أمامنا الآن أن مرحلة الانتقال لدينا لا تتسم بالتأقيت الضروري المميز لها والقصر النسبي الذي يعتبر من خصائصها بالتعريف، والمشكل أيضًا أن مرحلة الانتقال وإن كانت لا تفضي إلى مرحلة الاستقرار، إنما هي مرحلة تحول تتلوها مرحلة تحول تتبعها مرحلة تحول.. وهكذا، ومن ثم تتضارب قوى الجاذبية للنظم المختلفة وتتعادل ويترسخ انعدام الوزن للمجتمع والجماعة، أي تتحلل مع الزمان الضوابط الحاكمة في أي اتجاه.

والحاصل أنه عندما يقضى على نظام ويحل محله نظام آخر، لا يمكن أن يحدث هذا فجأة ومرة واحدة، من ناحية التكوين المؤسسي له والضوابط الحاكمة للجماعات والأفراد، والتي تكون صدرت وانجدلت من الأطر المرجعية للنظام. يمكن أن ينقلب نظام معين من رأسه في يوم وليلة، وأن يسقط نظام سياسي في عدد محدود من الساعات، ولكن لا يمكن أن يتغير التكوين المؤسسي وهياكل التشريع والأحكام الضابطة لأوضاع الجماعات والأفراد وعلاقاتهم، لا يمكن أن يتغير كل ذلك بمثل تلك المباغتات، ذلك أن هذه التكوينات والضوابط والأحكام تمتد فيما لا يحصى من التفريعات إلى كل تفاصيل الحياة الاجتماعية وجزئياتها. إن الثورة البلشفية في الاتحاد السوفييتي (1917) مع كل وسائل العنف التي استخدمت معها وضدها، والتي قلبت القيصرية، وألغت النظم الاقتصادية والاجتماعية التي كانت قائمة وأعلنت قيام نظامها، هذه الثورة رغم كل ذلك لم تستطع تغيير التكوينات القائمة والأحكام والتشريعات إلا على مدى بضع عشرة سنة.

ومتى استحالت المفاجأة في هذا المجال، فقد وجب توقع أن يحدث نوع من المعايشة بين النظم خلال مرحلة انتقال يكون فيها لكل من النظامين القديم والجديد أثره في حياة الناس، وانعكاسه في الضوابط والأحكام القائمة، وهذا يعني قيام الازدواج في النظم والمؤسسات والعلاقات، وازدواج وتداخل في الشرعية الحاكمة لكل من النظامين ولأطره المرجعية.

فإذا كنا في تجاربنا التاريخية المعاصرة قد صادفنا تتابعا لثلاثة نظم أو أربعة، وهي نظم غير مكتملة من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فأحرى بنا أن ندرك أن واقعنا المعيش يتمثل في "ثلاثيات" أو "رباعيات" من أشباه النظم والأوضاع الاجتماعية والضوابط، وأحرى بنا أن نتأمل في أثر هذا التتابع على قيام خليط من الشرعيات والمرجعيات المتداخلة والمتضاربة.

لقد صارت عندنا نتف ومزق من أنظمة مختلفة تتعايش أو تتضارب مع بعضها البعض، وهذا الوضع يقابل المشرعين والمصلحين وأصحاب السياسات، ويلقي بهم في صعوبات جمة، لأنهم يتعاملون مع واقع ليس متسقا وليس منسجما، بل هو واقع قد صار على أوضاع شتى بالنسبة لأي مسألة، ولان الواقع ليس واحدًا، فلا يقوم علاج واحد يرتب أثرًا واحدًا وينتج النتيجة ذاتها.

وهذا بالضبط ما أشير إليه بعبارة النمو المعوق.

أفكار بلا تاريخ

في عام 1924 نشر زكي مبارك كتاب الأخلاق عند الغزالي، الذي نال به درجة الدكتوراة من الجامعة المصرية، وأشار في مقدمة الكتاب إلى أنه يتعين أن يتكلم عن عصر الفكر المدروس رغم ما يراه من عدم تأثر الإمام الغزالي بالذات بعصره، لأن عصره كان عصر الحروب الصليبية، فجاء فكر الغزالي بغير الاستجابة الإيجابية لهذا الواقع الذي يستدعي الدعوة للجهاد.

كتب زكي مبارك هذا بفكر شاب ثائر خرج لتوه من ضجيج ثورة 1919 في مصر وشغبها، وغاب عنه ما أنبته فكر أمثال الإمام الغزالي من حركات تصدت من بعد لنشر الإسلام ومقاومة الغزاة.

على أني أشير إلى هذا المثل المضروب لأصل منه إلى تطبيق آخر له، فإن من يقرأ في بلادنا الكتب التي صدرت عن النظم السياسية والدستورية والتنظيمات الاجتماعية - على كثرة هذه الكتب وتنوعها وتعارضها مع بعضها البعض - لا يكاد يستبين أوضاع العصر الحاضر الذي نعيش فيه في بلادنا.

من يقرأ كتب تاريخ النظام الدستوري في مصر منذ ستينيات القرن التاسع عشر، يجدها مصورة كأنماط وأشكال مؤسسية تتعلق بتنظيم هيئات الحكم، دون أن يلحظ أن تتابع هذه الأشكال والتنظيمات كان متواكبا مع تغلغل النفوذ الأوربي في مصر، وأن هذه الأشكال في تنوعها وتغيرها كانت تعكس مقاومة لهذا النفوذ أو تأثرا به. ودستور 1923 في مصر الذي استمر ثلاثين سنة، لا يكاد يلحظ الدارس في النظم أنه تنظيم متصل أوثق اتصال بما أنتجت ثورة 1919 في المجال الوطني، وصيغة الاستقلال الذي حققته مصر وقتها مع التحفظات التي أبقت للبريطانيين نفوذًا واضحًا في تسيير الأوضاع.

ومن يتكلم عن هيمنة النظم الشمولية في الخمسينيات والستينيات في بلادنا، وخاصة في البلاد التي تحيط بفلسطين، لا يكاد يربط بين نشأة هذه النظم وبين ظهور دولة إسرائيل على أرض فلسطين، وما أثارت من قضايا الأمن القومي بالنسبة للبلاد العربية بعامة، والدول المحيطة بخاصة، وما أدى إليه ذلك من علو نفوذ المؤسسة العسكرية. وهكذا نلحظ أن فكر "التنظيمات" عندنا فكر يتصور ويتحرر وهو معزول عن السياق التاريخي وعن التوظيف التطبيقي، ولذلك فإن الخلل الذي يحدثه التطور المعوق في نظمنا المعاصرة لا تظهره الدراسات.

تنظيمات بلا أرض

ولنترك جانبا النظم السياسية المتعلقة بهيئات الحكم، ولننظر في النظم ذات المرتبة الدنيا في التنظيم الاجتماعي، مثل النقابات والشركات والتعاونيات وغيرها من الجمعيات.

إن متابعتنا على سبيل المثال، للحملة الفرنسية التي غزت مصر في 1798 وجلت عنها في 1801، ثم للحملة الإنجليزية التي لم تستطع الاستقرار يوما واحدا في 1807، إن هذه المتابعة للمقاومة الشعبية التي لقيتها هذه الحملات في ذلك الزمان تكشف عن قوة التنظيمات الشعبية التي كانت تضم مجموعات الناس، وكان أهم هذه التنظيمات التي تحرك الناس من خلال قنواتها هي نقابات الحرف التي كانت تضم أهل كل حرفة، وتنظيمات الطرق التي كانت على علاقة وثيقة بهذه النقابات، ويضاف إلى ذلك جماعات العلماء التي كانت تتولى القيادة.

والحاصل أنه على مدى القرن التاسع عشر ضعفت هذه التنظيمات، فذوى منها ما ذوى وجمد منها ما جمد، حتى أنه لما دخل الإنجليز مصر في 1882 لا نكاد نحس لهذه التنظيمات مثل ما كان لها من قوة وحيوية فيما سبق، ثم بدأنا ننشئ نقابات حديثة على نمط التشكيلات الغربية، سواء بالنسبة للعمال أو لأصحاب المهن، وأتت هذه الحركة بطيئة، وهي وإن كانت نجحت بعد مائة عام في تشكيل النقابات المهنية، فإنها بالنسبة لنقابات العمال لم تستطع حتى الآن في بلادنا أن تقوم بالأهمية والفاعلية التي كانت لسابقاتها.

أشير إلى ذلك وأقوله لأصل إلى نتيجة، أرجو أن يوافقني عليها القارئ، وهي أن من أخطر أسباب ما عانينا ونعاني من التطور المعوق، هو أننا لا نعدل القديم ونجدده ونغيره، بل نستبدل به ونحطمه ونلغيه ونقيم بدلا منه هيئات ليست خارجة منه ولا مصنوعة من مادته، وأن تجديد الهيئات والمؤسسات لم يأت بالإحياء والبعث وإعادة التشكيل وإعادة التوظيف، بل جاء بالهدم والبتر والإقصاء. ونحن في ذلك لم نعرف قيمة الشيء إلا بعد أن خسرناه، وهدمنا تراثا كبيرا أنتج من قبل إعمارا وحضارة ومدنية، وهيئات تعلقت بها قلوب المنتمين إليها وأرواحهم، واحتضنت عادات انتمائهم لها.

ومن جهة أخرى، فإن من يتابع ظهور التكوينات الاقتصادية في بلادنا، وهي نظم الشركات المالية، بخاصة شركات المساهمة والجمعيات التعاونية، من يتابع ذلك يلحظ أن تاريخها حتى اليوم لا يسير في اتجاه واحد، بل كل منها يسير في طريق الانتشار، ثم النكوص ثم العودة للانتشار، وكل ذلك على مدى عشرات قليلة من السنين.

لا أريد أن أثقل القارئ بمتابعات إحصائية أو تشريعية لأي من هذه التكوينات، بل أشير فحسب إلى نظم شركات المساهمة والشركات المالية عامة، عندما ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر مدعومة بتنظيم قانوني منظم لها، وكانت بطيئة الانتشار جدا بين المواطنين، وغلب على تكوينها الطابع الأجنبي، ثم زاد انتشارها مع الربع الثاني للقرن العشرين بين المواطنين ثم نقصت حركتها وتقلص وجودها في الربع الثالث من هذا القرن، ثم ها هي تعود للظهور أو إلى "نكوص النكوص" في الربع الرابع من القرن نفسه، ويواكب ذلك حركة تشريعية تشجع وتحض على الوجود المتميز المستقل، ثم حركة ناكصة تقيد وتفرض القيود وتثقل بالرقابة الخارجية، ثم حركة ارتداد ثالثة إلى التشجيع.. وهكذا.

وفي الجمعيات التعاونية، نشهد الحركة نفسها، وإن لم تكن حركتها مواكبة للحركة المثيلة في الشركات، نلحظ البداية مع القرن العشرين، ثم النمو البطيء ثم الانتشار السريع ثم النكوص والجمود والتقلص.

لعلنا نستدرك الأمر

إنني أشير لكل ذلك على سبيل التمثيل، لأجمع للقارئ ما أظنه مظاهر أو ملامح ما أسميته "التطور المعوق"، ونحن عندما نشير إلى موضوع "التطور" ونريد أن نستخلص ملامح هذا التطور، فقد وجب علينا أن ننظر للظواهر والحركات في توجهاتها العامة عبر وحدات زمنية ممتدة نسبيا، وكانت الوحدة الزمنية التي اعتمدتها في هذا الحديث، هي قرنًا من الزمان أو ما يزيد عليه قليلاً في إطار المائة وخمسين عاما.

ومن هذا المنظور نلحظ ما يلي:

- امتداد مراحل الانتقال وطغيانها على فترات الاستقرار، واتصال مراحل الانتقال رغم التنوع والتعارض في الأهداف والتوجهات، وما أدى إليه ذلك من تداخل وتعارض بين الأصول الشرعية الحاكمة، والأطر المرجعية الضابطة.

- انفصال التصورات الخاصة ببناء المؤسسات والهيئات والنظم عن المنظور التاريخي لها، والتوظيف السياسي والاجتماعي لها.

- هدم القديم واجتثاث منابته، وقيام أنماط من النظم والمؤسسات الجديدة تظهر، لا من داخل القديم وبمادته، ولكن من خارجه وبمواد غريبة عنه.

- تضارب التوجهات والتردد الحاد بين السير في طريق بناء هيئات معينة، ثم النكوص عن ذلك، ثم العودة إليها.. وهكذا، والإفساح ثم التقييد، ثم إعادة الإفساح.. وهكذا. وما يتراكم من ذلك من آثار ازدحام الواقع بالأوضاع المتضاربة، والأحكام التي ينفي بعضها بعضا.

هذا ما جد لي بيانه من ملامح التطور المعوق في نظمنا المعاصرة.