... ورابعهم... ابن ماجد

  ... ورابعهم... ابن ماجد
        

في الوقت الذي عرف فيه المغرب الإسلامي فترة ركود في النشاط البحري نتيجة الحصار المحكم الذي فرض عليه من لدن الأساطيل الأجنبية التي هيمنت على الممرات في المنطقة، كان يلوح في أفق المشرق العربي قبس يضيء مجاهيل البحار والمحيطات.

          كنيته شهاب الدين، واسمه أحمد بن ماجد بن محمد، من نسل أبي الركائب النجدي، ميلاده فيما بين عامي 835 و 840 للهجرة النبوية الشريفة، أما تاريخ وفاته فما بعد 906 بقليل. نجد إشارة واضحة إلى عمره في قصيدة (ضريبة الضرائب) حيث يقول:

عام ثمان مائة تسعينا وبعدها ثلاثة وفينا

           ورث ابن ماجد عشق البحر من مصدرين: ماء الخليج العربي وصلب والده صاحب الأرجوزة الحجازية التي نظمها في أكثر من ألف بيت  بل إن جده نفسه كان ملاّحاً، ومما يروى عنه أنه أخذ بمقود السفينة بصحبة والده منذ أن بلغ عمره السادسة عشرة تقريباً، واستطاع بفضل تجاربه العديدة التوصل إلى اكتشاف أساليب جديدة في فنون الملاحة مستخدماً علم الفلك بشكل واسع، بالإضافة إلى البوصلة المائية التي استخدمها لتحديد الاتجاهات والمسارات البحرية. وقضى معظم حياته أستاذاً ومرشداً ملاحياً في غرب المحيط الهندي والبحر الأحمر، وكان يتخذ من (رأس الحد) في عمان مركزاً لنشاطاته الملاحية، وكان ذلك كله سبباً في ذيوع شهرته وتردد اسمه كعلم من أعلام البحر في ذلك الزمان. ووصلت أخباره إلى شواطئ أوربا حيث كان الإسبان والبرتغاليون يحاولون استكشاف طرق جديدة للوصول إلى الشرق - والهند بصفة خاصة - عن طريق الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح الذي كان يسمى آنذاك بـ(رأس العواصف).

          وقد كان ذلك بمنزلة فترة حاسمة في التاريخ البحري، حيث أدى تصادم نفوذ البحر العربي بالنفوذ الأوربي إلى بداية عهد التفوق الأوربي من ناحية، وتدهور النشاط البحري من ناحية أخرى.

العلم في أرجوزة

          لقد كانت أرجوزته التي كانت تحمل اسم (حاوية الاختصار في أصول علم البحار) - وقد ألفها سنة 866 هـ - 1462م وهو ابن حوالي ثلاثين عاماً تقريباً، قبل وصول فاسكودي جاما للمنطقة بسبعة وثلاثين عاماً تقريباً، وتحتوي على أكثر من ألف بيت، وتشتمل على أحد عشر فصلاً في العلامات التي يجب على الربابنة معرفتها استدلالاً على قرب البر، وعن القمر ومهاب الرياح وعن السنة الهجرية والرومية والنبطية، وعن الرياح الموسمية هبوبها وسكونها عن طريق سير السفن، وله أيضاً كتاب (الفوائد في أصول البحار والقواعد) الذي يعتبر مرجعاً من المراجع البحرية النادرة، وقد ألفه في الفترة الواقعة بين سنتي 895-896 هـ/1489-1490م.

دوافع علمية

          طوّر ابن ماجد البوصلة، إذ كانت في البداية إبرة تثبت فوق قضيبين رفيعين من الخشب يطفوان على الماء، ويوضع الكل داخل وعاء متوسط الحجم في هيكل السفينة لأنه أقل ارتجاجاً من باقي أجزائها. فجاء ابن ماجد ووضع تلك الإبرة على محور له ثقب وسطها، وسمح لها بحرية الحركة.

          وهذه هي بوصلة اليوم، ولكن بعد زوال وعاء الماء، وطوّر أيضاً ما سمي بخشبات ابن ماجد أو آلة الكمال: وهي في الأصل خشبة واحدة جعلها ابن ماجد أربع خشبات، وتوضع جميعها على متواز للمستطيلات، وسطها ثقب يمر به خيط مدرج مختلف المسافات، حسب ظل تمام زاوية الارتفاع.

          وينبغي ألا ننسى  أنه أيضاً أرشد قائد الأسطول البرتغالي فاسكودي جاما في رحلاته من (مالندي) (Malindi) على ساحل أفريقيا الشرقية إلى (كلكتا) في الهند عام 1498م، وتشير المصادر العربية إلى أن أحمد بن ماجد تصادف وجوده في ماليندي أثناء زيارة فاسكودي جاما، وأن الملاح البرتغالي حينما التقاه  أعجب بغزارة علمه وشجاعته، وطلب إليه أن يقوده في أول رحلة تتم عبر المحيط بين أوربا والهند. وكانت الدوافع العلمية هي الحافز الأساسي لقبول أحمد بن ماجد هذه المهمة التي فتحت آفاقاً في تاريخ العالم البحري، والتي جعلت منه شخصية تاريخية أسطورية.

رابع ثلاثة

          لقد ظل اسم ابن ماجد على ألسنة البحارة في خليج عمان والبحر الأحمر والمحيط الهندي قروناً عدة بعد وفاته، حتى أن السير ريتشارد برتون (Sir Richard Burton) يذكر في كتابه (الخطوات الأولى في شرقي أفريقيا) (First Foot Steps in East Africa) أنه لما أبحر من عدن عام 1854 تلا البحارة سورة الفاتحة قبل الإقلاع ترحّما على روح الشيخ ابن ماجد!

          ويقول (سيدي علي) المؤلف التركي الشهير عن ابن ماجد: (إنه أفضل ربابنة الساحل الهندي والغربي في القرنين الخامس عشر والسادس عشر مقدرة ونزاهة).

          أما ابن ماجد فيقول عن نفسه: (ونهاية التقدم في الزمن بداية المتأخرين بعده، وقد عظمنا علمهم وتأليفهم، وأجللنا قدرهم بقولنا إنا رابع ثلاثة، وربما في العلم (علم البحار) الذي اخترعناه في البحر ورقة واحدة تقيم في البلاغة والصحة والفائدة والهداية على الطريق والدلالة في مسارب البحر بأكثر مما صنفّوه).

          وأين الخبرة المكتسبة في تلك الحال من خبرة ابن ماجد: لقد انتفخت أشرعة مراكبه في رحلات متكررة طوال خمسين عاماً، إلى زنجبار والسند وملقة، وربما إلى (كانتون) في الصين.

 

إسحاق بن سعود بن راشد البوسعيدي