الطب النبوي بين الأصالة والمعاصرة

  الطب النبوي بين الأصالة والمعاصرة
        

  اختلفت نظرة المؤرخين حول الطب النبوي، فمنهم من ربط فائدته بصحة العقد الإيماني والتبرك بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، ومنهم من رأى أن هذا الطب النبوي يفوق طب الأطباء من حيث إنه صادر من الوحي ومشكاة النبوة.

          مع أن ابن خلدون يأخذ بحديث النبي (صلى الله عليه وسلم) المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء وأصل كل داء البردة ويجعله مدار بحثه في فضل صناعة الطب وأنها محتاج إليها في الحواضر دون البادية، من مقدمته الشهيرة، إلا أنه يعود ليقرر في نهاية فصل "علم الطب" بأنه (صلى الله عليه وسلم) إنما بعث ليعلمنا الشرائع، ولم يبعث لتعليم الطب ولا غيره من العاديات.

          وقد وقع له من شأن تلقيح النخل وما وقع فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم فلا ينبغي أن يحمل شيء من الطب الذي وقع له في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه، اللهم إلا إذا استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع.

          ولكن ابن القيم يقول: أن طبه (صلى الله عليه وسلم) ليس من أمور الدنيا فقط، كما ذكر ابن خلدون، مثله تأبير النخل، وحفر الخندق، أو غيرهما من الأمور الدنيوية والتي لا يحتم على النبي (صلى الله عليه وسلم) الإلمام بها.

علاجان .. روحي ومادي

          لقد أحصى الإمام البخاري أحاديث كثيرة، بلغت جملتها كتابين في الجزء الرابع من صحيحه.

          الكتاب الأول: كتاب المرضى، صنفه في اثنين وعشرين بابا تحتوي على ثمانية وثلاثين حديثا عن وجوب عيادة المريض والدعاء لهن وما يقال في ذلك، وعن عيادة النساء للرجال، وعن عيادة المشرك، وعيادة الصبيان، والدعاء برفع الوباء.

          أما الكتاب الثاني فهو كتاب الطب يحتوي- في صحيح البخاري - على واحد وتسعين حديثا مجموعة في ثمانية وخمسين بابا، يبدأ الباب الأول منها بحديث الرسول (صلى الله عليه وسلم) ما أنزل الله داء إلا أنزل له شفاء

          فمن الأمراض جاء الصداع والشقيقة، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي (صلى الله عليه وسلم) احتجم وهو محرم في رأسه من شقيقة كانت به.

          وروي عن ابن ماجه في سننه حديثا - في صحته نظر - هو أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان إذا صدع غلف رأسه بالحناء، ويقول: إنه نافع بإذن الله من الصداع

          وقد أشار صلى الله عليه وسلم بالقسط والزيت كعلاج لذلك الجنب، القسط هو نوع من العود الهندي، وعن مرض الطاعون، جاء في الصحيحين، وعن مالك، والنسائين وأحمد أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال الطاعون رجز أرسل على طائفة من بني إسرائيل، وعلى من كان قبلكم، فإذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوا عليه، وإذا وقع بأرض أنتم بها فلا تخرجوا منها فرارًا منه

           وعن عائشة أنها قالت للنبي (صلى الله عليه وسلم) الطعن قد عرفناه فما الطاعون؟ قال: "غدة كغدة البعير تخرج في المراق والإبط

          ومن ذلك يتضح أن ما أمر به (صلى الله عليه و سلم) في شأن هذه المرض من عدم الدخول أو الخروج من أرض وقع فيها يتفق تماما مع ما هو معمول به الآن في الطب الحديث فيما يعرف بالكردون الصحي حول المنطقة التي يظهر فيها المرض. فيمنع دخول أو خروج أي شخص إلا الأطباء، هؤلاء الذين يتخذون كل الإجراءات الوقائية من تعقيم وخلافه. وبذلك يتم حصر المرض وعدم انتشاره إلى أماكن أخرى، فيسهل مراقبة المرضى وعلاجهم.

          وعن الحمى وعلاجها قال (صلى الله عليه وسلم) ما ثبت في الصحيحين إنما الحمى، أو شدة الحمى من فيح جهنم، فأبردها بالماء وهذا العلاج الذي أوصى به النبي (صلى الله عليه وسلم) للحمى يتفق مع ما قال به فاضل الأطباء "جالينوس": ولو أن رجلا شابا حسن اللحم، خصب البدن في وقت القيظ وفي وقت منتهى الحمى وليس في أحشائه ورم استحم بماء بارد أو سبح فيه لانتفع بذلك، ونحن نأمر بذلك بلا توقف". ويتفق هذا الكلام أيضا مع ما قاله جالينوس العرب بعد النبي (صلى الله عليه وسلم)، وهو أبوبكر الرازي، حيث ثبت في كتابه الحاوي: "إذا كانت اللقوة قوية والحمى حادة جدا - والنضج بينا، لا ورم في الجوف، ولا فتق - ينفع الماء البارد شربا. وإن كان العليل خصب البدن، والزمن حارا، وكان معتادًا استعمال الماء البارد من خارج فليؤذن فيه".

          وإذا ما قابلتنا هذه الحقيقة، والتي مؤداها: أن الطب الحديث يأخذ بالعلاج النبوي للحمى، لأدركنا ما ينطوي عليه هذا الطب - الموحى به - من أمور جد عظيمة ومفيدة.

          فمازال علاج الحمى بالماء البارد ساريا لتهبيط درجة حرارة الجسم المرتفعة والعلاج على طريقتين:

          خارجيا: ويكون على هيئة مكمدات مثلجة تلطف بها أجزاء الجسم وخاصة الدماغ، وفي بعض الحالات مثل ضربات الشمس ينصح بوضع المصاب كلية في الثلج حتى تنخفض درجة حرارته المرتفعة التي من الممكن أن تودي بحياته إذا لم يفعل ذلك.

          داخليا: ويكون بتعاطي الماء البارد بكثرة عن طريق الفم.

          وعن الرمد، وأمراض العين، وعلاجها قال سعيد بن زيد: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: الكمأة من المن وماؤها شفاء العين وقد روي في حديث مرفوع علاج الرمد تقطير الماء البارد في العين وهذا الحديث وإن كان هناك شك في صحته عند ابن القيم، إلا أنه ينفق مع ما يقول به الطب الحديث من حيث أن غسيل العين المصابة بالرمد بالماء المغلي المعقم، يعمل على إزالة الإفرازات الالتهابية الصديدية.

          وعن مرض الجذام الخطير قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) ... ولا هامة، ولا صفر وفر من المجذوم فرارك من الأسد

          وعن جابر بن عبد الله أنه كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي (صلى الله عليه وسلم) ارفع فقد بايعناك وفي الطب النبوي يورد ابن القيم هذين الحديثين عن النبي (صلى الله عليه وسلم) لا تديموا النظر إلى المجذوم وكلم المجذوم وبينك وبينه رمح أو رمحان

          وللنبي (صلى الله عليه وسلم) آثار عظيمة في علاج الكثير من الأمراض، وبعض الأدوية المفردة ومنافعها، فوائد الأطعمة، ولاسيما التمر، والأشربة، ولا سميا العسل واللبن. كذلك أشار (صلى الله عليه وسلم) بالرقي بالقرآن والمعوذات للمرضى، ولمن أصابته العين، وللسعة الحية والعقرب، ونهي عن السحر.

          وقد أجمل النبي (صلى الله عليه وسلم) التداوي والشفاء في ثلاث، حيث قال: إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شربة عسل أو شرطة محجم أو لدغة من نار، وما أحب أن اكتوي

          وقد كان النبي (صلى الله عليه وسلم) مداوما على شرب العسل - كلما تيسر له - وقد احتجم على كاهله تارة، وفي رأسه تارة، وعلى ظهر قدمه تارة أخرى. فكان يستفرغ مادة الدم المؤذي من أقرب مكان إليه.

العلاج النفسي .. أولا

          يحث الإسلام على النظرة العلمية للأمور، ومنها المرض الذي يحتاج إلى دواء وعلاج لكي يسترد المريض صحته التي اعتلت بسبب هذا المرض. وتتميز النظرة النبوية للعلاج بالدقة والعمق، وذلك بناء على الحديث السابق، والذي رواه أحمد ومسلم بهذا اللفظ لكل داء دواء، فإذا أصيب دواء الداء. برئ بإذن الله عز وجل بمعنى إذ قبل جسم المريض الدواء، حصل له الشفاء - بحول الله - وإذا لم يقبله، استمر في سقمه، وهذا ما يعرف في الطب الحديث بما يسمى بالحساسية للدواء.

          وهذا الحديث له جانب نفسي عظيم، لا للمرض فقط، بل وللطبيب أيضا، فإنه متى استشعر المريض أن لدائه دواء، ارتفعت روحه المعنوية MORAL تلك التي يعلق عليها الطب أهمية كبيرة في البرء. أما الطبيب، فإنه متى علم أن لهذا المرض دواء، جد في طلبه والتفتيش عنه.

          فقد وصف النبي (صلى الله عليه وسلم) العسل كدواء لرجل أصابه الإسهال نتيجة لما أصاب المعدة من أخلاط لزجة تعمل على عدم استقرار الطعام فيها. وينحصر الدواء فيما يستطيع أن يزيل تلك الأخلاط، ويجلي المعدة، وأصلح الأدوية لذلك، العسل، ولا سيما إذا اضيف إلي ماء ساخن.

          وفي تكراره (صلى الله عليه وسلم) سقيه العسل معنى من أبدع المعاني الطبية، وهو: أن الدواء لابد وأن تقدر كميته حسب حال صاحب الدواء، فلا تنقص، ولا تزيد على المقدار المطلوب. فما زال (صلى الله عليه وسلم) يأمر بشرب العسل، وتكررت الشربات حتى وصلت إلى المقدار المقاوم للداء، فبرئ المريض بإذن الله. وفي قوله (صلى الله عليه وسلم) صدق الله وكذب بطن أخيك دلالة عل نفع العسل كدواء، وأن استمرار الداء ليس لعيب في الدواء، ولكن لكثرة المادة الفاسدة في البطن مما يتطلب تكرار الدواء.

          وعلى ذلك، بدأ الطب الحديث يدرك القيمة الغذائية العلاجية العظيمة للعسل لأنه يحتوي على معظم العناصر اللازمة للجسم، فيه مقادير من المعادن والفيتامينات والسكريات والماء، كما تعطي كل مائة جرام من عسل النحل ما يقرب من 294 سعرا حراريا، ورغم أن العسل له حلاوة تبلغ ضعفي حلاوة السكر العادي، فإنه يعتبر  أقل ضررا للمصابين بالسكر من السكر العادي، وذلك لأن العسل يتحول في جسم النحلة إلى سكر بسيط سهل امتصاصه لا يحتاج إلى عملية هضم طويلة داخل جسم الإنسان، وهو بذلك يعتبر ملينا خفيفا، ومهدئا جيدا للأعصاب.

          ومن هنا بدأ العمل في العصر الحديث داخل أروقة المعامل وقاعات البحث، وكان من نتيجة ذلك أن توصل العلماء إلى العديد والعديد من التراكيب النافعة لعسل النحل تدخل في علاج كثير من الأمراض، كالتبول في الفراش، والجروح المتقيحة والزكام والجيوب الأنفية، والتهاب الحلق، وقرحة المعدة، والاثنى عشر، وزيادة الحموضة.

          وللعسل فوائد للكبد، والقلب، والأعصاب، والعيون، والتسمم الكحلي،والسعال (الكحة). وله أيضا فوائد للبشرة والجلد. ويفيد العسل وخاصة غذاء الملكات (الرويال جيلي) في علاج حب الشباب، والدمامل التي تظهر بالوجه. كذلك ينفع المرضى الذين يشكون من عدم القدرة على التركيز الذهني، وسرعة الشعور بالتعب. هذا بالإضافة إلي "الضعف الجنسي، وانقطاع الدورة الشهرية في السيدات اللاتي بلغن سن اليأس مبكرا".

          وهذا قول مختصر في عسل النحل، أردت وضعه كمثال لما ينطوي عليه الطب المحمدي من فوائد عظيمة. وصدق ربنا جل وعلا إذ يقول: يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون. وصدق رسوله الكريم (صلى الله عليه وسلم) حينما قال: عليكم بالشفاءين العسل والقرآن

البركة في حبة البركة

          وفي الطب العلاجي النبوي، هناك أيضا الحبة السوداء، أو حبة البركة، والتي تعالج عددا كبيرا من الأمراض المعاصرة لما تحتويه من مواد وقائية مضادة لمعظم الأمراض مثل الفوسفات، والحديد، والفسفور، والكربوهيدرات، والمضادات الحيوية. وبها هرمونات جنسية مقوية ومخصبة ومنشطة ومدرة للبول والصفراء. وتحتوي على إنزيمات مهضمة ومضادة للحموضة وبها مواد مهدئة ومنبهة معا. وتحتوي الحبة السوداء على النجللون التي تستخدم لعلاج الربو الشعبي والنزلات المزمنة من شدة البرد والسعال الديكي. ويفيد الزيت الطيار في القضاء على بكتيريا التعفن المعوي، فهو مادة مطهرة للفلورا المعوية الضارة.

          وتستخدم حبة البركة في علاج جميع الأمراض تقريبا، وأشهرها: الكحة وأمراض الصدر إذا أضيف من زيتها 3-5 نقط إلى الشاي أو القهوة. والزيت مسكن معوي طارد للرياح، ومدر للطمث واللعاب. وقد استخلص بعض أطباء كلية الطب بجامعة الإسكندرية من حبة البركة مادة تستعمل في علاج مرض الربو أسموها Nigellone.

          وأمام هذه النتائج الباهرة التي توصل إليها العلم الحديث من الأبحاث التي أجريت على الحبة السوداء، لا نملك إلا أن نقف في إجلال وتعظيم عند قول النبي (صلى الله عليه وسلم): الحبة السوداء شفاء من كل داء، إلا السام" قالت عائشة: وما السام؟ قال: "الموت".

.....وغير المسلمين

          وهذه أمثلة قليلة لما يزخر به الطب النبوي من مواد علاجية مفيدة في الوقت الحالي. وهي تعتبر بمنزلة الدليل الواضح الذي يخالف رأي ابن خلدون السالف الذكر والقائل بأن الطب النبوي لا ينبغي أن يؤخذ إلا من جهة التبرك وصدق العقد الإيماني.

          ومما يخالف هذا الرأي أيضا أن معظم المشتغلين بالأبحاث الحالية على بعض المواد العلاجية المذكورة في الطب النبوي هم أناس من غير المسلمين لا يعنيهم التبرك بالنبي (صلى الله عليه وسلم)، وليس لديهم أدنى صدق إيمان به يحقق لهم الشفاء من الأمراض إذا ما تعالجوا بمثل هذه المواد.

          وعلى ذلك، فيجب ألا نستهين بأمر بعض الممارسات الطبية التي ظهرت في عصر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، وأثبت الطب الحديث اليوم صحتها، ولا سيما التطبيب بالأعشاب وعسل النحل، واللبن، والحبة السوداء، وغير ذلك، خاصة أن العالم ينادي اليوم بالعودة إلى العلاج بالمواد والأعشاب الطبيعية، والطب النبوي يقوم في مجمله على العلاجات الطبيعية، والتي ثبت صلاحيتها للكثير من الأمراض المعاصرة، اللهم إلا بعض الأمراض الخطيرة التي ظهرت في زماننا - بلاء من الله نتيجة لمعاصينا، وما أكثرها وصدق معلم البشرية حينما قال: .. لن تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا عنها إلا فشي فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن قضت في أسلافهم الذين مضوا

 

خالد حربي