قراءة نقدية في ديوان.. حـداء وادي الشجن

 قراءة نقدية في ديوان.. حـداء وادي الشجن
        

           لقد انتظر الشاعر خمسين عاما حتى يجمع قصائد هذا الديوان فهل يدل ذلك  على طول جلد ومعاناة .. أم على نوع من التردد أدخله في محاكمات مع ذاته والآخرين؟

           انتظر رفيق المعلوف، الشاعر اللبناني المنتسب إلى الدوحة المعلوفية العريقة في الشعر والأدب، ما يزيد على خمسين عاماً، حتى نشر ديوانه الأول بعنوان (حداء وادي الشجن)، - وهو في حقيقته جزء أوّل من ثنائية شعرية، يعمل الشاعر على إعداد الجزء الثاني منها للنشر، كما ورد في مقدمته - فانتظار نصف قرن من الزمان، هو النصف الثاني من القرن العشرين، على قصائد نشر بعضها تفاريق في الصحف والمجلات، وطوي بعضها الآخر في ملف صاحبها، لكي تُنشر في ديوان، مسألة تستدعي التأمّل والنظر لناحيتين: الناحية الأولى، اصطبار الشاعر، وطول جلده الذي يظهر وكأنه (جلد جرماني) كما يقول المثل، على ألاّ يظهر له (كتاب) أو (ديوان)، قبل هذا التاريخ، هو المشغول بالشعر وكتابة القصائد، دونما انقطاع، منذ مقتبل عمره في الخمسينيات (يذكر أنه ولد في كفر عقاب، من المتن الشمالي في لبنان سنة 1931، وقرض الشعر في سن مبكّرة) حتى العام 2000، تاريخ نشر الديوان. وانتظار شاعر على شعره هذه المدة الطويلة، التي تشكّل العمر بأكثره، مسألة تفترض أن الشاعر قلّب شعره على نار طويلة هادئة، حتى اختمر عجينه وطاب أكله، فأخرجه للناس، وأنه لاشك دخل في مباهلات ومحاكمات، مع ذاته ومع الآخرين حتى استقام له هذا السمت الشعري، وتحصّلت له، بعد التمحيص والغربلة، حصيلة عمر شعري، يقدّمها في وقت حرج ومأزوم، من أوقات الشعر العربي المعاصر، هو وقت موت الشعر في العالم، في غمرة سلسلة ميتات ونهايات القرن المعلنة (نهاية التاريخ، موت الفلسفة، موت الثقافة، موت الشعر... إلخ)، مما شغلت به ثقافة الحداثة الغربية وما بعد الحداثة، وما وصلت أصداؤه إلى الثقافة العربية، وكان الشعر في طليعة المعنيين بإشكالاته وأسئلته.

نظرية شعرية

          إن ذلك يتطلب شجاعة معدودة من الشاعر، كما يتطلب قناعة إبداعية بالقصائد المنشورة، تسبقها أو تردفها، نظرية شعرية، أو بشكل أدق وأصوب، نظرة نقدية للشعر، قدّم بها المعلوف لديوانه، وشرح فيها نظرته للشعر والشعراء، ولشعره هو بالذات، إذ قدمه على أنه (شعر موزون مقفّى طبقاً لقواعد فن العروض (...)، كل ذلك في نبرة سلفية قلّما اشتط بها النغم عن أوزان الخليل، وعبر مناسبات تتضاءل في حدّ ذاتها، مهما يكن لحدوثها من جلال، إزاء الصور البيانية والألق المعنوي اللذين يتجاوزان الطابع التجسيدي للمناسبة إلى الفلك التجريدي العريض). (ص 2 و 3 من المقدمة).

           ويعود الشاعر فيؤكد التزامه بأوزان الخليل (بحكم السليقة وميل الفؤاد الذي ألف منذ الطفولة هذه الأشكال الموسيقية). (ص 22 من المقدمة)، وكأنه يريد تصحيح (تشويه أساليب التعبير)، فالتزامه عمود الشعر وأصول البلاغة يأتي في زمن (اللكنات واللهجات والطمطمائيات). كل ذلك وسواه، يرد في مقدمة الشاعر/البيان، لديوانه، مع إشارة له سنأتي على مناقشتها، تتعلق (بتجنب الغريب البائد، والبدوي النافر من كلام العرب). وجُمّاع تمجيد أو مديح هذا النهج السلفي الشعري للشاعر، المستدرك مع نهايات القرن، على الحداثة وما بعدها، (وطمطمائياتها ولكناتها...)، ورد في النبذة البليغة التالية، لنصري المعلوف، من تمهيده السابق لمقدمة الديوان، فهو يقول: (... إنه (أي عمل الشاعر، المنتسب للدوحة المعلوفية الأصيلة ذات البيان العربي الأصيل) غوص عميق على لآلئ العربية العرباء، وعصبية قوية للأصالة الشعرية، تنهج منهج الأوائل الذين رفعوا عمود الشعر وأرادوه تنزيلاً لا يقبل الهجانة ولا يتساهل في أي تبديل أو تعديل). فالمسألة إذن، وفي هذا التوقيت بالذات، تظهر وكأنها تثبيت حراسة الأصالة والسلفية الشعرية المحروسة بطبيعتها وكأنها (تنزيل لا يقبل الهجانة)، نظراً لارتباطها (بمنهج الأوائل)، الذين (رفعوا عمود الشعر). في زمن تهدّم الهيكل والأعمدة معاً.. زماننا هذا.. زمان الكسور.

          ويرشح من القصائد والتمهيد والمقدمة، ما يشبه ضغط الأسلاف على رئة الشعر، والعمل في الحاضر، والمستقبل، على أساس ركيزة الماضي المتينة.. كل ذلك، في حين يكتب الشاعر، قصيدة بعنوان (سحر الجاهلية)، في مارس 1980، ينتقد فيها الجاهلية العربية المعاصرة، الممتدة من الأندلس إلى حدود الصحراء، وينهيها بالبيت التالي:

من باب أندلس إلى سُهب النقا للجاهلية أربُعُ ومنازلُ

          لكنه يقدم للقصيدة، بهذه الجملة  النقدية المعبّرة لأوجست كونت:

          (أموات يحكمون مصير الأحياء)، مما يطرح مشكلة حقيقية، حول الأصالة والمعاصرة، وجدل الأزمنة في الثقافة والشعر، ولماذا (يشتد الأسلاف ضراوة) - بتعبير الشاعر والروائي الجزائري بالفرنسية، مالك حداد..؟ وهل الأصول الشعرية حقّاً لا تمسّ، أو ينبغي ألاّ تمس، حرصاً على (النقاء الشعري) المفتقد مع بعض رطانات الحداثة وما بعدها؟

          الناحية الثانية أو الإشكالية الثانية التي يطرحها هذا الديوان، متفرّعة من الأولى، إلا أنها أكثر تخصيصاً، فالشاعر، من خلال تواريخ القصائد، والمقدمة. رافق (وربما حاور) أزمنة الحداثة الشعرية العربية، ابتداء من بدر شاكر السياب وأدونيس والبياتي وأنسي الحاج، وصولاً إلى أيامنا هذه، وهو يظهر من خلال مقدمته، نظرياً على الأقل، أنه يقبل مفاهيم الحداثة الشعرية، من خلال أساليبها ونصوصها المختلفة، آخذاً (بإمكانية انتظام الوحدات الصوتية من أسباب وأوتاد وفواصل، على نسق جمالي آخر مختلف عمّا فعله الخليل بن أحمد الفراهيدي في أوزانه المعروفة). فموسيقى الشعر العربي وإيقاعاته، القديمة والحديثة، لا تخرج عن تنسيق الأسباب والأوتاد والفواصل، على تنوّعها، تلك النويات الإيقاعية المنسّقة بين المدّ والوقف، والشدّ والقطع، وقد لخّصها الفراهيدي بالجملة الرمزية التالية: (لم أر على ظهر جبل سمكة)، وهي جملة طريفة تمنحنا (من دون قصد) مفتاحاً سريالياً جميلاً، لم يستفد منه الشعر العربي حتى مطالع الحداثة... فالمعلوف، نظرياً، مع الاشتقاقات الإيقاعية الحديثة المستلّة من أوزان وجوازات وتفاعيل الخليل، كما ظهرت في قصيدة خليل حاوي (الجسر) الجارية على بحر الرمل ومجزوئه، أو في قصيدة (في المنفى) لعبدالوهاب البياتي وهي جارية على الكامل ومجزوئه، أو في قصيدة (عكاز في الجحيم) لبدر شاكر السياب الجارية على بحر المتدارك ومجزوئه بتفاعيله وزحافاته، إلا أنه، نصّياً، لا يجري على سننهم في قصائده، بل هو من رعيل الكلاسيكية الحديثة، كما ظهرت على أيدي كل من أحمد شوقي وخليل مطران وحافظ إبراهيم، والشعراء الذين جاءوا بعدهم من أمثال الجواهري وعمر أبو ريشة، وبدوي الجبل، ممّن لم يدركوا الحداثة الشعرية، أو أدركوها، وكان لهم منها موقف متحفّظ كـ (الجواهري) أو رافض وفعّال في الرفض كـ (عمر أبوريشة وبدوي الجبل)، وبهؤلاء وأمثالهم يقتضي أن يقارن المعلوف، لا بسواهم، على الرغم من ظهور ديوانه في نهايات العام 2000، فهو ينتمي أسلوباً وطريقة ولغة إلى هذه الكوكبة ، التي غالباً ما يذكرها من خلال أبيات منتخبة يثبتها في مقدمات قصائده، كـتكأة للنظم.

          ويبتعد رفيق المعلوف نظرياً في مقدمة ديوانه، أبعد من القبول بالتوزيعات الحديثة المبتكرة للأسباب والأوتاد والفواصل الخليلية، في اتجاه القبول بقصيدة النثر العربية. واندراجها في (كتاب الشعر العربي)، فيمتدح نموذجاً من نماذجها هو قصيدة (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع) التي ظهرت لأول مرة في ملحق جريدة النهار، وطبعها صاحبها أنسي الحاج في ديوان بمفرده صادر عن دار النهار عام 1975.

الشفاهة والتدوين

          يصعب الدخول المبـاشـر إلى قصـائد ديوان (... وادي الشجن)، من دون المرور ببوابات الديوان والقصائد، وأسيجته - ومن المؤكد أن الشاعر قصد إلى ذلك قصداً، فصدر الديوان بكل المهابة والبذخ اللازمين لديوان ضخم بالغ الاتقان، تتجاوز صفحاته الأربعمائة عدّاً، (405 صفحات كبيرة، محاطة بأطر طباعية، ما عدا التمهيد والمقدمة)، مغلّفاً بغلاف من الجلد المقوّى، يحيط به غلاف آخر أزرق سماوي، عليه صورة عصفور أحمر بمنقار أسود وريش ورأس أسودين، واقف على غصن، وكأنما من منقاره يطلع (حداء وادي الشجن).

          الصفحات مقوّاة والورق فاخم، وأطرافه مذهّبة، والخط معتنى به ومختار، وبعض القصائد/الصفحات، مكتوب بخط يد الشاعر الذي يتقن فنّ الخط على النمط الفارسي، وقد أخذه على يد الخطاط الشيخ نسيب مكارم، ونفّذه في قصائد وصفحات معدودات من الديوان، ظهرت بلون وإخراج مغايرين عن سائر القصائد، مستدقة الحروف ذات زوايا مستديرة، وامتدادات جميلة الشكل، وتظهر وقد غلّفها غلاف شفّاف من ورق مائي، شبيهة بصفحات من بحيرة، يغطيها ضباب خفيف. وللشاعر، إضافة إلى الطباعة، هواجس كثيرة في الشكل والنقط والإخراج، فضلاً عن الشروح للكلمات والمعاني التي تملأ نصف مساحة الصفحات، فهو يرغب من وراء ذلك، في تجاوز مشكلات القراءة، والآلات الطابعة ناقصة الحركات، ويحرص على أن يأتي الديوان بكامله (مشكولاً مع الشرح قدر المستطاع)، وكأنه يرغب في تعليم الناس (من جديد) قراءة الشعر، وصولاً (حتى..) لتعليمهم نطق (هذا) و(لكن)، بوضع الألف الحنجرية على كل منهما لتلفظ ممدودة. كل ذلك بهدف مدرسيّ وتعليمي، يشير إليه الشاعر بقوله، في ورقة مرفقة بالكتاب، إن كتابه (ليس فقط ديوان شعر، إنه رسالة ومدرسة).

          لكن تعاملنا معه سوف يتجاوز هذا المظهر في اتجاه الجوهر، فالشعرية وحدها هي التي تمنح نفسها مبرر وجودها، من أيام عصر الشفهية، وقصائد الإنشاد من الذاكرة، حتى العصر الإلكتروني الراهن، مروراً بعصر التدوين والكتابة.

          ينتمي رفيق المعلوف، وإن ظهر ديوانه في العام 2000، إلى ذلك الجيل الشعري الكبير من مجددي الكلاسيكية الشعرية، الذي ظهر مع نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، على يد الثالوث المصري اللبناني أحمد شوقي وحافظ إبراهيم وخليل مطران، وتواصل من بعدهم على أيدي الجواهري والشبيبي وعمر أبو ريشة وبدوي الجبل، مع نكهة لبنانية خاصة، لغوية فنية لدى أمين نخلة، ولغوية معمارية رمزية لدى سعيد عقل وصلاح لبكي، وتجديدية رؤيوية لدى جبران ونعيمة والريحاني، هؤلاء وسواهم ممن انتشلوا الشعر العربي من الكهولة والترهّل واللفظية الجوفاء والزخرفية البيانية والبديعية الواصلة لحد البهلوانية، وحساب الجمل وشعر بطاقات المناسبات اليومية والإخوانيات، بعد هاوية عصور الانحطاط السحيقة. كان ذلك بمنزلة الانفجار الأول للشعرية العربية، التي ما لبثت أن شهدت انفجارها الحداثي التجديدي الثاني مع أوائل الخمسينيات، على أيدي السيّاب والبياتي وعبدالصبور وحجازي وأدونيس والماغوط وخليل حاوي وسواهم، وصولاً إلى هذه الأيام.

العارف بأسرارها

          والحال أننا مع رفيق المعلوف، أمام شاعر هو أميل للكوكبة الأولى منه للكوكبة الثانية، إنه صاحب نفس طويل في النظم، فيصل ببعض القصائد، دونما وهن أو تكلّف، إلى ما يزيد على سبعين أو ثمانين بيتاً من الشعر على الوزن والقافية  والروي نفسه، فتحسب نفسك معه وكأنك تنساب مع رقراق سلسبيل طويل وهادئ، وتظهر قدرة المعلوف القادرة، على التصرّف باللغة تصرّف العارف بأسرارها، وبالمعاني تصرف المشتمل على انتظامها، فقصيدته الطويلة الجميلة في بلدة (كفر ذبيان) من عمق الجبل اللبناني، على سبيل المثال، لا تبعد كثيراً في السبك وتوليد المعاني، والتصوير الشعري - عن قصائد لابن الرومي، أو قصيدة البحتري في وصف بركة المتوكّل، وهي تجري على البسيط الرقراق المريح:

يا من رأى البركة الحسناء رؤيتها والماء جارية في كفّ مجريها

          فقصيدة المعلوف تجري على المجرى نفسه، ومطلعها:

يا كَفْرَ ذبيانَ هاج البعد ذكراك فالشوق أدناك والهجران أقصاك

          ولعله يستعير باصرة البحتري التصويرية حيث يقول في وصف البركة ليلاً، وقد انعكست على صفحتها النجوم:

إذا النجوم تراءت فوق صفحتها ليلاً حسبت سماءً ركّبت فيها

         وذلك من خلال قوله:

كأنّ صفحته القمراءَ، مُذْهَبَةً والنور يغمرها، أصفى مراياك

          وهو قادر على تقديم الصورة الشعرية، التي تحسب معها، على الرغم من قدمها، وكأنها مخلوقة للتوّ بين يدي الشاعر.. ذلك هو، على وجه التحديد، صنيع شوقي وحافظ ومطران وبدوي الجبل، ممن يعتبرون نموذجهم الشعري الأمثل، في الماضي (الأصالة)، لكنهم يبتعدون أشعارهم، وكأنها كتبت ليومها.

          والخصائص اللغوية لقصائد المعلوف كثيرة، نشير منها لثنتين: الأولى رغبته (وبالتالي قدرته) في الابتكار اللغوي من خلال النحت، والثانية قدرته على التخلص من إرث لغوي سلفي ضاغط على القصائد، يصل به أحياناً إلى السير عكس تجاه التاريخ والوقوع في مأزق الثبات على القديم العائف.. ومتى؟ في نهايات القرن العشرين.

          المعلوف في الكثير من قصائده شاعر سبْك، مطبوع، بليغ الديباجة، أكثر ميلاً إلى الأساليب القديمة، العباسية وحتى الجاهلية أحياناً، منه للأساليب الحديثة، وقد ينحت في اللغة كلمات، من مثل قوله:

          (شيخ تفتّى)، أو قوله (تخيّمت)، و(العالم الذرذريّ) (ويبدو حسنها يوسفيّاً)، نسبة ليوسف، وما إلى ذلك.. ولكنه، على الإجمال، وفي الغالبية الغالبة من قصائده، واقع في شباك السلف، من حيث الصورة واللغة، فصوره تنحو منحى حسيّاً، ومعظم تشابيهه، محسوس بمحسوس حتى لكأنّ غمامة عباسيّة تظلله. وأنموذج ذلك قوله، من قصيدة (يا شقيّ كفى) وهي إحدى غزليّاته:

والثغر قارورة الياقوت صفوتُها راووق خمر تزيل الضيق والشظفا

          ومما يشدّه للسلف، أسلوباً، تغزله بالأنثى، وتكنيتُه بالذكر عنها، كما في قصيدته السينية (شـفاء بالصدود)، ومطلعها:

معصّبُ الجبهة الغرّاء بالآس والفرع يهدل في لألائه الماسي

          فليس ثمة من شذوذ لدى الشاعر (كما يشير هو بنفسه)، بل اعتماد على أسلوب سلفي مطروق (درج على تذكير المؤنث وتأنيث المذكر تحبّباً وتمايزاً).

أي لغة؟

          فإذا وصلنا إلى مسألة اللغة، فإننا نقع على إشكالية كبيرة يقع فيها الشاعر، وتتلخص بالسؤال التالي: أي لغة يستعملها الشاعر في (قصائد) معاصرة؟، ولكي ندرك أبعاد السؤال، يحسن بنا أن نأخذ قصيدة بذاتها من الديوان، ونطرح عليها أسئلتنا، وهي قصيدة (غزو الفضاء)، فموضوعها علمي وشديد المعاصرة، فأين تقع لغتها من ذلك يا ترى؟

          إنّ لغتها تقع في زمن الصحراء، ورعي الإبل، والحطّ والترحال، والظعن.. وهي مفردات الشاعر في البيت التالي:

في زحمة الدنيا على دمن الثرى حطّ الرحال على النجوم ظعينُها

          وفي تفسير البيت، بقلم الشاعر نفسه: (دمن الثرى: المزابل التي ينبت عليها العشب. حطّ الرحال: وصَلَ وأنزل أحماله. الظعين: قافلة المسافرين على ظهور الجمال، ويكنّي بالظعين هنا عن روّاد الفضاء).

          وسائر أبيات القصيدة، وهو طويلة ذات نفس ملحمي، يبلغ عدد أبياتها خمسة وتسعين بيتاً (95)، لا تخرج عن هذه الطللية في اللغة والصورة والأماكن.

          فثمّة ذكر (للرقمتين) في أحد أبياتها، وهما مكانان ذكرهما الشعراء القدامى، أحدهما قرب البصرة والآخر بنجد، وثمة ذكر (لجلامد الخيل) و (راكب المسرد)، كناية عن النازلين على القمر، والتجوال في (الصحصح) وهو الصحراء، والفلاة.. كناية عن أرض القمر، فضلاً عن استعمال كلمات مشتقة من صحراوية اللغة، كالغيهبان، والمنادح والأباطح وأهراء الرمل، فممّا لا ريب فيه، أنّ رفيق المعلوف، يكتب الشعر هنا من الذاكرة، أكثر مما يكتبه من لغة الحياة المتطوّرة، وفي الديوان عشرات الأدلّة على ذلك، وهو مأزقه على ما نعتقد، ونكتفي هنا بالإشارات والأبيات التالية، دون سواها:

"خيّم الهَوْل على وادي الغضا ونبتْ خُطم التعالي بالعواءْ
كيف أرجو مرتعاً في وَجْرة نَفَرتْ من وعرها خيف الظباءْ"
"لا يسهدْكَ أنّ بالجزع داراً نصب الحزن في حماها المضاربْ"
طوى الزمانَ دبيب الوشم في الرجَم هذا رواق الصدى، عوجا على إرَم"

          وهو مطلع طللي لقصيدة (رواق الصدى)، وأدواتها التعبيرية جاهلية، من مثل:

صُكّوا على الخيل فاهتاجت سلاهبها كالدوسريّة في ملتفّة الأجَمَ
ملّ المقامُ وفي الأطلال أخيلة يمشي بها الطين مشي القبر بالهَرّم
أما القلوب فَرَجْع الغيب يقرعها كما تَرَجّع أصداء بذي سلم

          ولا تعوزنا أبيات ومقاطع أخرى من لغة القبيلة، وهي أصيلة بلا ريب، إلا أنها ليست لزماننا، فالشاعر يقول:

تدثّرتُ عزماً لا يكلّ ضرابه إذا العيس كلّت في غروب المنادح

          فإذا كان الشعر لغة، فأين هذه اللغة من هذا الزمان؟

          لكنّ ذلك لم يمنع الشاعر من العثور في معظم قصائده، على جوهرة الشعر أو بيت القصيد، حتى ليظُنّ، وكأن القصيدة بكاملها، مهيأة لضربة السعد الشعرية هذه. ذلك كان أسلوب عمر أبوريشة، وهو أسلوب المعلوف أيضاً، وكلاهما، كالمعلوف والبدوي، متعاصران.

          فأيّ جمال آسر في بيت القصيد التالي:

كلّما جمّعتُ كأساً في يدي
جمّعتني في يد الماضي رياح

          وفي البيت:

وبكى من لواعج الحبّ دهراً فاستحالت دموعه أنهاراً

          - وهو يلتقي مع نزار قباني في ذلك - وقوله:

مُناتي تمنيت لو أحرق فيدفأ من جمر قلبي السرير

          وقوله:

كل ما أفنيت من عمري له كاد ينساهُ كأنْ لم يكُن

          وقوله في هذه الثنائية:

لم تدر أني أهيمْ
وفي الجوى صرْتُ لكْ
خذني بضمّ رجيمْ
إلى عنان الفلك

          وفي مثلها:

أيامنا قبض ريحْ
ودهرنا مهزلهْ
فلنغترفْ كالمسيحْ
من لذّة الجلجلة

          وقوله كحكيم:

وآخر الدهر لا عزّ ولا ضعة
فالكاذبان هباء والقبور مدى

          وقوله في صلاح لبكي:

ترقب الأيام في حفرته
قمراً مطلعه من حيثُ غاب

          وكم هو أخّاذ قوله في مطلع قصيدة (إعمار بيروت):

جمر بيروتَ في الرماد مقيم
حجر ملهم وصمت رخيم
وضمير في حفرة الموت يحكي
سيرة المجد كي يقوم الرميم.

 

رفيق المعلوف   

 
  




غلاف الكتاب