أوراق أدبية: الاستطراف.. والبراعة الشعرية

 أوراق أدبية: الاستطراف.. والبراعة الشعرية
        

 التشبيه المستطرف أداة أثيرة للشاعر الكلاسيكي. فهي ليست دليلا على نزعته العقلية فقط ولكن على براعته الشعرية أيضا.

          أكثر الأدوات البلاغية استخداما في بناء صور الوصف والمحاكاة داخل شعر الإحياء هي أداة التشبيه بوجه عام والتشبيه المستطرف بوجه خاص. والتشبيه عموماً أداة أثيرة في الشعر الكلاسيكي، خصوصا من حيث تناسبها مع طبيعته ودلالتها على نزوعه العقلاني في الوقت نفسه، فالتشبيه يفيد الغيرية ولا يفيد العينية. أقصد إلى أن طرفي التشبيه لا تتداخل معالمهما، ولا يتحد أي منهما بغيره، بل يظل كلاهما متميزا عن نظيره، مهما تعددت صفاتهما المشتركة. والمظهر العملي لهذا التمايز هو أداة التشبيه التي تقف كالحاجز المنطقي الذي يفصل بين الطرفين المقارنين في التشبيه، ويحفظ على كل منهما صفاته الذاتية المستقلة. وحتى لو حذفت الأداة على سبيل الاختصار والإيجاز، أو على سبيل الإبهام والمبالغة، فإن وجود أداة التشبيه يظل مضمرا، والمبدأ الفاعل فيها أو بها يظل قائما، فلا تتداخل الحدود العملية والمنطقية بين الطرفين. ولذلك، لاحظ مؤرخو الأدب أن التشبيه أكثر شيوعا من الاستعارة في العصور الكلاسيكية التي يكون فيها الشعراء أكثر تعقلا في الخيال، أو أكثر انصياعا لأحكام العقل والمنطق، بينما تغدو الاستعارة أكثر شيوعا في المراحل الرومانتيكية أو الرمزية أو التيارات والمذاهب الإبداعية التي يتحرر فيها الخيال ولا يستسلم لنواهي العقل بل يدمرها ويخرج عليها.

          أما التشبيه المستطرف فهو التشبيه الذي يلفت الانتباه بغرابته وندرة مكونات المشبه به أو نفاستها. وينبع استطرافه من نجاح الشاعر في إيجاد علاقة مقارنة بين طرفين متباعدين كل التباعد، يلتقيان في وجه شبه مباغت أو مفاجئ، ما كان يرد على الخاطر عادة. وينبع الاستطراف كذلك من إبراز المشبه المعلوم في صورة المشبه به المعدوم  أو جعل المشبه به نادر الحضور في الوجود أو في الذهن. ويعد التشبيه المستطرف أعلى درجة من كل تشبه عادي لاحتياجه إلى البراعة والموهبة في صنعه أو الوصول إليه. ولذلك ذهب البلاغيون القدماء إلى أن التشبيه إذا قام على عناصر متقاربة كل التقارب كان تشبيها عاديا مبتذلا، وأن التشبيه لا يستطرف إلا إذا جمع بين ما لم يكن يجتمع من قبل في مدى الرؤية أو الإدراك. وقد قال عبدالقاهر، في أسرار بلاغته، إن الصنعة والحذق والنظر الذي يلطف ويدق هو في أن يجمع البليغ بين أعناق المتنافرات والمتباينات في ربقة، ويعقد بين الأجنبيات معاقد نسب وشبكة.

أداة بلاغية

          ولقد حرص شعراء الإحياء على صياغة التشبيه المستطرف في قصائدهم، خصوصا في أغراض الوصف التي كانت تحاكي مشاهد الطبيعة، والتي لم تكن تخلو من محاكاة القدماء في الوقت نفسه. وقد زادهم إلحاحا على التشبيه المستطرف أنه كان يجمع بين المعنيين المرتبطين بالمحاكاة، فقد كان أداة بلاغية ناجعة في التقاط تفاصيل المشاهد الطبيعية أو الإنسانية التي يراد محاكاتها أو إتقان تصويرها من ناحية، كما كان مجالا من مجالات اتباع القدماء ومنافستهم من ناحية مقابلة أو حتى موازية. والمكانة الخاصة التي يحتلها الشاعر العباسي ابن المعتز في ميراث التشبيه مكانة دفعت اللاحقين عليه إلى اتباعه ومنافسته في الوقت نفسه، وذلك في تقاليد بلاغية تتابعت إلى أن وصلت إلى الشاعر الإحيائي الذي بعث التقاليد القديمة وأعاد إليها الحياة.

          وأتصور أن الفارق بين وظيفة التشبيه المستطرف والتشبيه غير المستطرف في الشعر الإحيائي هو الفارق بين استخدام الصور بقصد الوصف المحاكي أو المحاكاة الواصفة واستخدامها لغير ذلك في الشعر الكلاسيكي بوجه عام، وشعر الإحياء بوجه خاص. وينبع هذا الفارق من أمرين اثنين على وجه التقريب. أولهما طبيعة الغاية التي تؤديها القصيدة، وثانيهما نوعية الجمهور الذي يتلقاها. أما من حيث طبيعة الغاية التي تؤديها القصيدة فإن الصور الحجاجية، مثلا في الشعر الإحيائي، ترتبط بالغايات الاجتماعية المباشرة، وتكثر في قصائد المديح والرثاء والهجاء (خصوصا بعد أن تحولت هذه القصائد إلى تعبير سياسي إلى حد كبير في شعر جيل شوقي وحافظ) أو قصائد المناسبات الجمعية المختلفة كالمناسبات الدينية أو القومية، وهي مناسبات كانت تستغلها القوى الاجتماعية أو السياسية المتصارعة وتقيم من أجلها المحافل المختلفة لبث أفكارها والحصول على أكبر قدر من المؤيدين. أما صور الوصف المحاكي، مقترنة بتشبيه الاستطراف، فترتبط بالأغراض غير الجمعية بالمعنى المباشر، أي أغراض الغزل والنسيب أو وصف الطبيعة أو الخمريات، ففي هذه الأغراض لا يحرص الشاعر على التعليم أو الخطابة أو الوعظ، ومن ثم مخاطبة الجمهور على نحو مباشر، بل يحرص على إظهار براعته الحرفية وقدرته على التفوق على أسلافه من الشعراء القدماء عن طريق الصورة التشبيهية المبتكرة والتصوير الدقيق الذي لا يغفل شئيا من جوانب الموصوف.

          يضاف إلى ذلك أن مستطرفات التشبيه في صور الوصف والمحاكاة لم تكن ترتبط في الغالب بمناسبة عامة أو رسمية تفرض على الشاعر، أو تجبره على التسرع في النظم، الأمر الذي أدى إلى تفرغ الشاعر الإحيائي نسبيا لصياغة مستطرفات التشبيه، وصبره على الجمع بين غرائب متباعداته، ومن ثم وصول صنعته إلى درجات اكتمالها. وهذا طبيعي، فلم يكن هناك ما يمنع الشاعر من امتلاك الوقت والفراغ الكافيين للتنقيح والتعديل وتوليد المادة القديمة، فضلا عن أن الجمهور المحدود الذي يتجه إلى الشاعر بهذه المستطرفات جمهور خبير، يطلب الإتقان والبراعة والابتكار، وهي أشياء لا يطلبها جمهور المحافل الصاخبة الذي قد يكتفي ببراعة الإلقاء وجهارة النغمة واتساع مدى الصوت وكل ما يغطي على التشبيه العادي أو القريب. لكن ينبغي ملاحظة أن الفارق بين صور الحجاج وصور الوصف والمحاكاة بوجه عام هو فارق في الدرجة لا في النوع من حيث طبيعة المذهب الشعري، وذلك بسبب أن أسلوب المعالجة يظل واحداً في كل الأحوال، خصوصا في اقترانه بالعقلانية التي تقوم على الوعي الصارم والحرص على تأدية أغراض تبعد في أحيان كثيرة عن مجال الشعر.

إدهاش القارئ

          ويمكن أن نرى مصداق ذلك في استخدام الشاعر الإحيائي لتشبيه الاستطراف، بوصفه الأداة الأثيرة لصور الوصف المحاكي. وأول ذلك تذكر أن الهدف الأول من استخدام الشاعر الإحيائي للتشبيه المستطرف هو إثارة تعجب القارئ وإدهاشه عن طريق الجمع المفاجئ بين شيئين يندر الجمع بينهما. ويمكن القول بوجه عام إن أغلب التشبيهات المستطرفة عند شعراء الإحياء، خصوصا المتبع فيها لميراث التقاليد الخاصة بفن التشبيه، لا تعتمد على ذخيرة عاطفية يثري بها الشاعر تشبيهه، بل تعتمد على التأنق والاجتهاد العقلي في اقتناص أوجه الشبه البعيدة، والحرص على دقة المطابقة بين الطرفين المكونين للتشبيه في وجه الشبه النادر. وأمثلة ذلك مبذولة في شعر البارودي، على الأقل بوصفه ممثلا للجيل الإحيائي الأول، خصوصا في المواقف التي لا يرتبط فيها وصف الموضوع أو المشهد بإحساس عاطفي، وإنما بالحرص على غرابة الصور ودقة التطابق بين أطرافها، وذلك من مثل أبياته المستطرفة في الخمر:

حمراء دار بها الحباب كأنها
شفق بدت فيه نجوم سماء
..........
تشتف من تحت الحباب كأنها
ياقوتة قد رصعت بالماس
...........
إذا شجها الساقون دار حبابها
عليها كما دار الشرار على الجمر
.........
ينزو لوقع الماء در حبابها
نزو المعابل طرن عن أقواس

          وقد حرصت في اختيار هذه الصور التشبيهية من أكثر من قصيدة على أن تدور كلها حول موضوع واحد، هو (حباب الخمر). وهو موضوع كان يستفز الشاعر القديم ويدفعه إلى وصفه وصفا مستطرفا عن طريق نوع التشبيه الذي ترك عليه ابن المعتز بصمات حرفته. ويسهل ملاحظ أن البارودي، في كل الصور التشبيهية السابقة، يشبه الحباب في حالتين: حالة سكونه فوق سطح الخمر حمراء اللون، وحالة حركته، عندما يتطاير الحباب من فوق سطح الخمر بفعل مزجها بالماء مثلا، فيشبهه ـ في الحالة الأولى ـ بالنجوم التي تندى في شفق السماء أو بالماس الذي يرصع به الياقوت، ويشبه ـ في الحالة الثانية ـ بالشرر الذي يدور فوق الجمر أو المعابل التي تطير عن أقواسها.

التقاط التفاصيل

          وليس المهم، في هذا السياق، تأكيد تقليدية هذه الصور فهي شبيهة في تقنيتها بكثير غيرها في الشعر القديم، خصوصا من حيث ندرة حضور المشبه به أو ندرة حضور وجه الشبه، فالأكثر أهمية هو ملاحظة إلحاح البارودي على الاستطراف بمعايير البلاغيين القدماء، حتى لو لم يكشف الاستطراف عن أي إحساس عاطفي إزاء الخمر وما يقترن بها من عواطف وانفعالات كثيرة، بل حتى لو لم يرتفع الاستطراف إلى مستوى الرموز التي اقترنت بها الخمر في الشعر الصوفي مثلا. وكل ما تكشف عنه هذه الصور المستطرفة هو عقل يتأنى في التقاط تفاصيل الصور القديمة في استطرافها ليصوغها من جديد صياغة تمنحها طرافة أكبر، وذلك بهدف توشية القصيدة بأشكال هندسية متوازية، تبعث القارئ على الإعجاب بالبراعة العقلية التي ينطوي عليها هدف الاستطراف. ولذلك يسهل ملاحظة أن الصورتين الأخيرتين لا تثيران الشعور بالحركة التي هي أساس التشبيه بقدر ما تثيران الشعور بالثبات، وذلك بسبب ما يلازمهما من تجريد ذهني صارم يفقد الصورة قدرتها الإيحائية.

          ولا يختلف شعراء الإحياء عن البارودي في ذلك، خصوصا الذين أكثروا في الغزل ووصف الطبيعة والخمر. ففي هذه المجالات تكثر الصورة المستطرفة، ويتفرع من التشبيه الواحد عشرات من التشبيهات. ولقد أحصيت من دواوينهم مجموعة من التشبيهات تدور حول موضوع واحد، هو مشهد تموجات صفحة النهر التي تشبه بثلاثة تشبيهات أساسية: الدروع، وصحائف الفضة أو الذهب، وصحف الورق المليئة بالأسطر. وأتوقف عند تجليات التشبيه الأخير على سبيل التمثيل، وذلك لتوضيح أشكاله المتنوعة عند كل من البارودي وشوقي وحافظ، وتوضيح كيفية حرص كل شاعر منهم على صياغة التشبيه المستطرف بما يكشف عن مدى براعته في الابتكار والتوليد. ويرسم البارودي عشرات التشبيهات من هذا النوع، فيشبه تموج صفحة النهر بأحرف الهجاء في الكتابة، ولكنه لا يكتفي بذلك بل يرشح التشبيه جاعلا من الحمائم العاكفة على النهر قراء لهذه الكتابة، فيقول:

والمح بطرفك ما وحته يد الصبا
فوق الغدير تجد حروف هجاء
من كل حرف فيه معنى صبوة
تتلو به الورقاء لحن غناء

 

إضافة إلى القديم

          وتتكرر هذه التشبيهات في شعر أحمد شوقي الذي يصنع بها تنويعات موازية للصورة القديمة نفسها، طلبا للاستطراف نفسه، فيقول في قصيدة (البسفور كأنك تراه):

وكم أرض هنالك فوق أرض
وروض فوق روض فوق روض
ودور بعضها من فوق بعض
كسطر في الكتاب علاه سطر
سطور لا يحيط بهن رسم
ولا يحصي معانيهن علم
إذا قرنت جميعا فهن نظم
وإن قرنت فرادى فهي نثر
ونون دونها في البحر نون
من البسفور نقطها السفين

          وهو هنا يبدأ بتشبيه الدور بالأسطر التي يتراكم بعضها فوق بعض، وبعد أن يقوم بترشيح التشبيه ينتقل إلى تشبيه السفينة بحرف النون، ثم يشبه البسفور بنون أخرى، ويعود إلى السفينة ثانية ليشبهها بنقطة فوق هذه النون الأخيرة. ولاشك أن هذه براعة يحمدها الذوق السلفي لشوقي، ويشهد له فيها بأنه أضاف إلى القديم الذي أخذ عنه الجديد الذي نسب إليه. ولا تثريب عليه من منظور الخيال التقليدي الذي لن يطالبه بأكثر من براعة التوليد أو الترشيح أو إعادة تركيب صور القدماء بما يؤكد حضوره بالقياس إلى حضورهم الذي هو بعضه. ولكن شوقي لا يكتفي بأمثال الصور التشبيهية السابقة، بل يضيف إليها عندما يقول في قصيدته (منظر طلوع الفجر من السفينة) واصفا السفينة، مخاطبا البدر:

وكأنها والموج منتظم وقد
أوفيت ثم دنوت كالمحتار
غيداء لاهية تخط لأغيد
شعرا ليقرأه وأنت القاري

          وطرافة الصورة في التذوق القديم نابعة من تعليل الأمواج التي تحدثها السفينة في صفحة البحر بأنها غادة لاهية تخط للقمر الأغيد شعرا ليقرأه. وتلك إضافة جديدة لم يعرفها البارودي بالطبع، ولم يستطع الوصول إليها، ومن ثم تشهد ببراعة شوقي في حرفته التي تمرس بها، وأغرم باكتشاف إمكانات تقنياتها وأساليبها البلاغية، وعلى رأسها تشبيه الاستطراف الذي استغله شوقي في صياغة تنويعات مبتكرة تنتسب إليه وحده، حتى لو كان عدد تنويعاته في هذه الصورة بالذات أقل مما هو عند البارودي.

بلاغية تقليدية

          أما حافظ فلم يستطع أن يجاري شوقي والبارودي في مثل هذه الصورة إلا بتشبيه جاء في قصيدة يمدح بها الإمام محمد عبده، وذلك حيث يتحدث عن البحر الذي:

يتجلى كأنه صحف الأبـ
رار منشورة بيوم المآب

          والبراعة التي يمكن أن يحتسبها الذوق القديم لحافظ في هذا التشبيه قرينة الهدف من (البلاغة) التي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال مع فصاحته. ولاشك أن المضمون الديني للتشبيه يلتقي مع طبيعة الممدوح ـ الشيخ محمد عبده ـ من حيث هو رمز ديني كبير، سواء في تجديده الفكر الديني أو توليه منصب الإفتاء أو إشرافه على الأزهر الشريف، وكلها علامات تؤكد الحضور الروحي للإمام الذي يمكن أن تتحول أعماله إلى صحف للأبرار، خصوصا في عيني الشاعر الذي أحبه كل الحب، واقترن به إلى أبعد حد، ورأى فيه نموذجا لصحوة الإسلام وبعث عقلانيته الزاهرة، فجعل من عودته مآبا للخير، أو يوما للمآب الأكبر الذي تنشر فيه صحف الأبرار بكل حسناتها. ولكن مع كل هذه البلاغة القديمة، فإن صورة حافظ لا تتمتع بالدرجة نفسها من الابتكارية التي كانت تتمتع بها تشبيهات البارودي أو تشبيهات حافظ، فضلا عن أن تشبيه حافظ يومئ، إيماء شبه مباشر إلى أصل له محتمل، في شعر الجماني الشاعر القديم، خصوصا في قوله:

وكأنما غدرانها فيها عشور في مصاحف

          ويمكن ملاحظة أن شعر حافظ إبراهيم يختلف عن شعر كل من البارودي وشوقي في هذا الجانب، فقد كان أقل منهما براعة في استطراف التشبيه، كما كان أقل منهما احتفاء بتصوير الطبيعة أو الكتابة في الغزل والنسيب أو الخمر. وأحسب أن إلحاحه على الوظيفة الاجتماعية العامة للشعر أكثر من شوقي والبارودي هو المسئول عن ذلك، فقد خصص شعره للمديح والتهاني والاجتماعيات والسياسات والمراثي والشكوى والإخوانيات، ولم يكتب إلا القليل في وصف الطبيعة أو الخمريات أو الغزل.

          ولذلك انتهت مقارنة طه حسين بين حافظ وشوقي ـ في كتابه عنهما ـ إلى القول بأن شوقي لم يبلغ ما بلغ حافظ من الرثاء، ولم يحسن ما أحسن حافظ من تصوير نفس الشعب وآلامه وآماله، ولم يتقن ما أتقن من إحساس الألم وتصوير هذا الإحساس وشكوى الزمان، لكنه مع ذلك كله أخصب من حافظ طبيعة، وأغنى منه مادة، وأنفذ منه بصيرة، وأسبق منه إلى المعاني، وأبرع منه في تقليد الشعراء المتقدمين. ويضيف طه حسين إلى ذلك أن شوقي اختص بما لم يختص به حافظ، فهو شاعر الغناء والوصف غير مدافع.

          وسواء وافقنا طه حسين على ما ذهب إليه في تقييم كل من شوقي وحافظ في مجال المقارنة الفنية بينهما، فلاشك أنه على صواب في أمرين على الأقل. أولهما تأكيده أن شوقي أبرع من حافظ في تقليد القدماء، وثانيهما أنه شاعر الوصف المحاكي بلا منازع. وكلا الأمرين موصول بالآخر، سواء من المنظور الذي يرد براعة الشاعر المتأخر إلى قدرته على التوليد الذي يضيف إلى الصور القديمة، أو يستخرج منها صورا جديدة تؤكد مكانة الشاعر المتأخر، أو من المنظور الذي يرجع براعة الوصف في جانب كبير منها إلى توليد صور القدماء للطبيعة نفسها، أو استغلالها في تكوين صور جديدة عن طبيعة مغايرة. وحافظ أقل مقدرة من شوقي في ذلك كله.

          ولذلك يمكن القول إن شعر كل من البارودي وشوقي يكشف عن نزعة متميزة لا تكاد توجد في شعر حافظ، وهي الميل إلى التشبيه بالحروف والاتكاء عليها لتكوين مادة الصور المستطرفة. وهما يسيران في الدروب نفسها التي سلكها الشاعر العباسي ومن تلاه من المتأخرين في التشبيه بالحروف والاتكاء عليها، خصوصا في مجالات الغزل. وقد لاحظت من متابعتي أمثال هذه الصور في تراثنا الشعري أن الشاعر العربي القديم ـ إلى ما قبل عصر الإحياء ـ لم يكد يترك حرفا واحدا من أحرف اللغة العربية دون أن يقيم بينه وبين المرأة أو الطبيعة صلة تشبيهية، فالهمزة مثلا تشبه عطفة الصدغ، والألف تشبه القوام، واللام تشبه شعر الأصداغ، والنون الشعر المنحنى على الوجه والحاجب أو أثر العض في التفاح أو قنطرة الجسر أو الهلال، أما الواو فهي من أكثر الحروف دورانا في الغزل، وتقترن عادة بتشبيه ذوائب الشعر المعقوصة. وقس على ذلك غيره من أحرف اللغة في أبواب الاستطراف. ويتصل بهذه الملاحظة ما لفت انتباهي من أن الشعراء القدماء كانوا يزيدون هذه التشبيهات تعقيدا كلما مضى بهم الزمن، فجمعوا في التشبيه الواحد أكثر من حرف طلبا للبراعة والتفنن والاستطراف.

اعلم أيها الشاعر

          ولكن ما القيمة الجمالية لكل هذه البراعة والدقة والتفصيل والاستطراف، خصوصا ونحن نفترض أن التشبيه لابد أن يقوم على أساس عاطفي أو وجداني، ونؤمن أن الشاعر عندما يشبه شيئا بآخر فليس يعنيه، ولا يفترض أن يعنيه، مجرد المظهر الخارجي أو دقة المطابقة بين طرفي التشبيه?! إن الأصل في التشبيه هو كون الإحساس العاطفي الذي يستشعره الشاعر إزاء المشبه به قرين الإحساس الذي يستشعره إزاء المشبه. وقيمة التشبيه، إبداعيا، ليست في تعدد الأشكال والألوان والحركات أو دقة المطابقة أو الاستطراف. بل في الجامع النفسي الذي يربط بين طرفي الصورة التشبيهية من ناحية، ومدى ما تقدمه الصورة للشاعر أثناء محاولته استكشاف تجربته وتنظيمه لها من ناحية ملازمة. ولذلك كان عباس العقاد على حق في نقده الخيال التقليدي بقوله مخاطباً شوقي:

          (اعلم، أيها الشاعر العظيم، أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء لا من يعددها ويحصي أشكالها وألوانها، وأن ليست مزية الشاعر أن يقول لك عن الشىء ماذا يشبه وإنما مزيته أن يقول ما هو ويكشف لك عن لبابه وصلة الحياة به. وليس هم الناس من القصيد أن يتسابقوا في أشواط البصر والسمع وإنما همهم أن يتعاطفوا ويودع أحسهم وأطبعهم في نفس إخوانه زبدة ما رآه وسمعه وخلاصة ما استطابه أو كرهه. وإذا كان كدك من التشبيه أن تذكر شيئا أحمر ثم تذكر شيئين أو أشياء مثله في الاحمرار فما زدت على أن ذكرت أربعة أو خمسة أشياء حمراء تدل على شيء واحد، ولكن التشبيه أن تطبع في وجدان سامعك وفكره صورة واضحة مما انطبع في ذات نفسك، وما ابتدع التشبيه لرسم الأشكال والألوان، فإن الناس جميعا يرون الأشكال والألوان محسوسة بذاتها كما تراها، وإنما ابتدع لنقل الشعور بهذه الأشكال والألوان من نفس إلى نفس).

          وليس من الضرروي أن نمضي مع العقاد في غلوه الوجداني الذي ورثه عن (نظرية التعبير) التي كانت موازيا نقديا للاتجاه الرومانتيكي في الإبداع، ولكن المؤكد أنه على حق في نفيه قصر ابتداع التشبيه على رسم الأشكال أو الهيئات الخارجية، وفي رفضه المضمر للبراعة العقلية الخالصة التي انطوى عليه أغلب ما انتسب من التشبيهات القديمة أو حتى الإحيائية إلى الاستطراف. وكانت حجة العقاد قوية في تأكيده أنه بقوة الشعور وتيقظه وعمقه واتساع مداه ونفاذه إلى صميم الأشياء يمتاز الشاعر على سواه.

          وغير بعيد عن نظرة العقاد التعبيرية في النقد ما نذهب إليه من أن الصورة الشعرية هي الوسيط الأساسي الذي يستكشف الشاعر به تجربته ويتفهمها، مانحا إياها المعنى والنظام اللذين تفتقر إليهما في مراحلها الأولى. ولما كانت الصورة وسيلة للكشف فإن منهجها في ذلك هو مقارنة المجهول بالمعروف، والانتقال من عالم النفس إلى عالم الطبيعة، أو تشكيل عالم النفس عن طريق إعادة تشكيل عالم الطبيعة. واللغة هي الوسيلة التي لا يملك الشاعر إلا هي لتحقيق ذلك، خصوصا حين يخلق بها وفيها علاقات جديدة عن طريق المقارنة أو المناسبة أو مناقلة الدلالة. قد يضع شيئا إلى جانب آخر كما في التشبيه، أو يضع شيئا محل آخر كما في الاستعارة، أو يناقل الكلمات كما في المجاز المرسل، أو يستخدم اللازم بدل الملزوم مع إشارته إليه كما في الكناية. هذه العلاقات الجديدة تستهدف شيئا أساسيا هو اكتشاف شئ بمعونة آخر ومعرفة غير المعروف عن طريق ما هو معروف. والمكتشف هو العالم الداخلي للفنان بكل ما فيه من توتر واضطراب، أو العالم الخارجي الذي يراه الشاعر من منظوره الذاتي الذي يجعل منه عالما للرؤية أو تجسيدا لها.

          ومن البديهي أن الاكتشاف الذي يتم عن طريق المقارنة بين الأشياء لابد أن يقوم على مشابهة تجمع بينها، ولكن هذه المشابهة ليست المشابهة المنطقية التي تجعل المادة الخارجية تنطبق على مادة خارجية أخرى، أو تنتزع وجه الشبه ببراعة عقلية خالصة من عناصر متباعدة كل التباعد، وإنما هي المشابهة النفسية التي توحي بكل علاقات (الما وراء) النفسي للقلب الذي فارقه أحبابه، مثلا في بيتي الشاعر القديم:

كأن قلبي عشية قيل يغدى
بليلى العامرية أو يراح
قطاة غرها شرك فباتت
تعاوره وقد علق الجناح

          حيث أساس المشابهة لا ينتسب إلى أفعال المنطق، أو العقل الذي يؤكد براعة صاحب الحرفة، أو الرؤية التي تحرص على الاستطراف، وإنما هو أقرب إلى أن يكون حلم الشاعر الذي تتجمع فيه الأشياء، لا لأنها تختلف أو تتحد فيما بينها، بل لأن الشاعر فكر فيها أو شعر بها في وحدة انفعالية واحدة.

 

جابر عصفور