حكاية بيت من الشعر

  حكاية بيت من الشعر
        

هل دخل المديح إلى الشعر العربي فأفسده، أم أن الذاكرة العربية تبدل أشعارها حسب تبدل أهوائها؟

          كان في رأسي بيت شعري، يستقر في ذاكرتي هكذا:

ولولا خلال سنها الشعر ما درى

بناة العلا من أين تؤتى المكارم

          وهو لأبي تمام وقد احتجت يوما لتوثيقه، فرجعت للديوان، وهالني أن وجدته هناك مختلفا اختلافا خطيرا يمس النسق الثقافي من جذوره، ليس مجرد تبديل كلمة بكلمة، و هذا نصه في الديوان (3/178)

ولولا خلال سنها الشعر مادرى

بغاة الندى من أين تؤتى المكارم

          وهي نقلة جذرية  من (بناة العلا) إلى (بغاة الندى) ولا يصح هنا أن نقول: إن طلب العلا وطلب الندى سيان، وأن كليهما طلب لشرف ومجد. لا.

          إن في الأمر ما هو أخطر من ذلك بكثير، ذلك لأن مقولة (بغاة الندى) تكشف عن نسق ثقافي سلبي يضرب خطره في أعماق الشعر العربي الذي هو ديوان العرب ودفتر مآثر الأمة - حسب المقولة الراسخة.

          هنا نتحول من العلا إلى الندى،

           فالعلا مجد وارتفاع، أما الندى فمذلة وشحاذة، وسوف أوضح مقصدي في الفقرات التالية

الشعر والابتزاز

          إن كان الشعر ديوان المآثر، وفيه تتوالد الخلال وتسن التقاليد، فإن هذا الديوان تعرض لمؤامرة خطيرة أفسدت صفحاته وشوهت مآثره. وذلك منذ أن أصبح الشعر وسيلة للتكسب والمديح وبالتالي صار أداة للابتزاز، ولننظر في أقرب قصيدة إلينا وهي قصيدة أبي تمام نفسها، يقول في البيتين التاسع والعاشر:

ينال الفتى من عيشه وهو جاهل

ويكدي الفتى في دهره وهو عالم

ولو كانت الأرزاق تجري على الحجا

هلكن إذن من جهلهن البهائم

          هذا كلام حسن ولكن باطنه قبيح، فالشاعر يقول البيتين في سياق مديحه لأحمد ابن دؤاد - الوزير العباسي - والموقف هنا يقوم على أن أبا تمام فقير ماديا وثري عقليا. والقاعدة التي يقولها البيتان هي أن العاقل فقير والجاهل غني. وعلى هذه القاعدة، وبما أن أبا تمام عاقل فقر، بينما الممدوح ثري، فلابد إذن أن أبي دؤاد جاهل لأن الفتى ينال من عيشه وهو جاهل، ويكدي وهو عالم.

          وهذا تلميح خطير يفضي إلى الممدوح،وكأنما يقول له إن لديك المال ولدي العقل ولذا عليك أن تعطيني بعض مالك لكي أعطيك بعض عقلي.

          وهذا ما حدث فعلا في القصيدة، ولذا نقرأ في البيت الثاني عشر قوله:

فلم يجتمع شرق وغرب لقاصد

ولا المجد في كف امرئ والدراهم

          إنه يخيره بين المجد أو الدراهم، ومع هذا الخيار يأتي شيء من الإغراء مع شيء من التهديد والتحذير. ولنقرأ:

ولم أر كالمعروف تدعى حقوقه

مغارم في الأقوام وهي مغانم

ولا كالعلي ما لم ير الشعر بينهما

فكالأرض غفلا ليس فيها معالم

وما هو إلا القول يسري فتغتدي

له غرر في أوجه ومواسم

يرى حكمة ما فيه وهو فكاهة

ويقضي بما يقضى به وهو ظالم

          هذا هو الشعر وحكمه الظالم نافذ، وهزله جد لأن فكاهته حكمة وهو قول يسري ويعم وليس للعلياء والمجد من وزن إذا لم يتلبسهما الشعر.

          إذن ما على ابن دؤاد إلا أن يدفع ما في الجيب لكي يدافع ما في الغيب الشعري. وعلى الممدوح أن يعلم أن مغارمه هنا ليست مغارم، ولكنها مغانم لأنه إذا أعطى سلم له مجده. أما إذا لم يعط، فالويل له من حكم الشعر وهو حكم ظالم - بلا شك - ولكنه نافذ، وسوف يكون الممدوح في وبال من أمره إن هو قصّر في العطاء. والأبيات تشير إلى ذلك، وهي بمقدار ما تعد بالمجد والعلياء فإنها تهدد بالويل والثبور من وجه آخر. ولا شك أن تجربة الزبرقان بن بدر مع الحطيئة تؤكد ذلك حيث ضاع شرف الرجل ومجده - مع أنه سيد بني تميم - بسبب غضبة الشاعر عليه. ومثله جرى لكافور الإخشيدي مع المتنبي.

والمساومة أيضا

          ولا يكتفي أبو تمام ببعض أبيات، ولكنه يكثف القول ويحاصر الممدوح في مساومة واضحة فيقول مخاطبا ابن أبي دؤاد:

إلى سالم الأخلاق من كل عائب

وليس له مال على الجود سالم

جدير بأن لا يصبح المال عنده

جديرا بأن يبقى وفي الأرض غارم

وليس ببان للعلي خلق امرئ

وإن جل إلا وهو للمال هادم

          في هذه الأبيات، تتكرر كلمة (المال) بتركيز شديد وهي الكلمة المركزية التي يدور عليها الشعر. وهي الغاية طبعا من الموقف الشعري هذا. ولذا يربط الشاعر بين العيب وبذل المال، ويشير إلى انتفاء العيب عن الممدوح بسبب بذله المال. مما يعني أن عدم بذل المال سيؤدي إلى ظهور العيوب.

          ويصر الشعر على تكبير فكرة (بذل المال) وأنها هي السبب في العلا والمجد والرفعة، وهي السبب في انتفاء العيوب.

         ويختم الشاعر قصيدته قائلا:

ولولا خلال سنها الشعر ما درى

بغاة الندى من أين تؤتى المكارم

          في هذا البيت (الخاتمة) يتباهى الشاعر ويمن على الممدوح من حيث إنه قد دلّه إلى طريق السلامة من العيب.

          ولولا هذه الخلال التي أسسها وسنها العشر، لما عرف أحمد بن دؤاد طريقه إلى الندى وإلى المكارم، ولو جهل هذه الطريق لوقع في الخطر القاتل وصار معيبا مذموما.

          ولذا، فإن معروف الشاعر على الممدوح كبير جدا، ومهم جدا، وليس له جزاء إلا العطاء الجزل والمزيد من هذا العطاء. وعلى ابن أبي دؤاد أن يحمد الله إذ صادف هذا الشاعر الذي دله على طريق السلامة.

          هنا يعرض الشاعر بعض عقله مقابل بعض مال الممدوح. وهذه هي أطروحة القصيدة، حيث جرى استخدام الشعر كحيلة تجارية لابتزاز الممدوح وجره للبذل، مع تخويفه المستمر من المنع.

هل فعلها العقاد؟

          من هذا؟ نعرف أن الصيغة الملائمة للنص هي أن نقول (بغاة الندى) لأن البيت جاء في سياق ابتزازي لا يعبأ بالعلا. ولكنه معني - فحسب - بصفقة مالية في مقابل تلميح الشعر وتحذيراته من مغبة المنع لأن العطاء يستر العيوب، وحينئذ فإن عدمه يؤدي إلى حكم شعري يسري ويثبت حتى وإن كان ظالما.

          وبما أن الصيغة الملائمة هي (بغاة الندى) فإنني أعود لتصحيح ذاكرتي وأشطب منها عبارة (بناة العلا). وأعود أيضا إلى كتاب العقاد (اللغة الشاعرة ص 98) لأقف متحسرا على منظر البيت بصيغته الأشرف حيث يتصدر مقالة العقاد عن (ديوان العرب) و ينص على:

ولولا خلال سنها الشعر ما درى

بناة العلا من أين تؤتى المكارم

          وأقول: لعل العقاد كان مسئولا عن حفظي للبيت بصيغته هذه، أو لعل رغبة عميقة في النفس كانت وراء تعديل الرواية، وذلك من باب المحافظة على شرف ديوان العرب وعلى شرف الشعر، ولكن لا نقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل، لقد دخلنا المديح إلى شعرنا فأفسده وأفسد أخلاق الأمة . ولم تفلح ذاكرة طفل صغير في تصحيح الغلط.  

 

عبدالله الغذامي