العلاج بالصوم محمد المخزنجي

ملف خاص

نتيجة للآثار الجانبية للإفراط في استخدام الكيمياء في الطب، وتفشي النظرة إلى الإنسان كآلة إن عطبت يلزمها ترس هنا وصامولة هناك، يبرز نوع من الطب يسعى إلى إيقاظ الطبيب الحكيم داخل كل جسد إنساني. فهل العلاج بالصوم وسيلة إلى ذلك؟

من هنا وهناك، ومن قرن إلى قرن، ظل الصوم كطريقة علاجية تتناقله أجيال الأطباء، منذ ولد الطب مع الحكمة، وحتى يجدر بالطب أن يظل مع الحكمة.

ففي مرجع طب التبت الكبير "تشجودشي"، في القرن السادس قبل الميلاد، خصص فصل كامل تحت عنوان: "العلاج بالطعام، والعلاج بالصوم". وفي مصر القديمة، وبشهادة هيرودوت (450 قبل الميلاد)، تبين أن المصريين القدماء كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر. كما أنهم نجحوا في علاج مرض الزهري بالصوم الطويل. ولاحظ هيرودوت أنهم كانوا- أيامها، وربما بسبب ذلك الصوم- أحد أكثر الشعوب صحة.

وفي اليونان القديمة صام الفيلسوف الحكيم أبيقور (القرن السادس قبل الميلاد) أربعين يوما قبل أن يؤدي "الامتحان الكبير" في جامعة الإسكندرية، لشحذ قواه العقلية وطاقة الإبداع عنده.

أما سقراط (470- 399 قبل الميلاد) فإنه كان يصوم عشرة أيام كلما طمح إلى حسم أمرٍ يستحق ذروة التفكير.

وأبو قراط، أبو الطب اليوناني القديم (460- 370 قبل الميلاد)، كان يصف للمرضى في أحرج المراحل أن يصوموا. وكان يقول عن عمل الصوم: "كل إنسان منا في داخله طبيب، وما علينا إلا أن نساعده حتى يؤدي عمله".

ثم جاء الروماني جالينوس، في القرن الثاني الميلادي، وأوصى بالصوم كعلاج لكل أعراض "الروح السالبة". وكان يعني بذلك حالات الحزن وفقد الحب وفرط التوتر.

ومن أوربا العصر الوسيط، انتقل مشعل الطب والحكمة إلى ركن في إمبراطورية الإسلام حيث أعلاه الشيخ الرئيس أبو علي ابن سينا (980- 1037 ميلادية)، ولم يتنازل عن الصوم كدواء، بل كان مفضلا لديه، يقول. "إنه الأرخص" ويصفه للغني وللفقير، ويعالج به الجدري والزهري وأمراض الجلد.

والقائمة تطول وتطول حتى تبلغ أيامنا، في هذا- القرن العشرين، قرن الكيمياء الطبية، والفيزياء الطبية.. قرن الهندسة الوراثية، والبيولوجيا الجزيئية.

ففي أمريكا كان "هنريك تانر" وكتابه: "الصوم أكسير الحياة"، ثم آبتون سنكلير- المدافع الصلب عن العلاج بالصوم. (وكلاهما عمّر حتى التسعين). وفي فرنسا كان سوفنير وإيف ففين. أما في الاتحاد السوفييتي- الذي كان- فكان الشهير يوري نيكالايف. وحتى الآن مازال في ساحة العلاج بالصوم أسماء كثيرة: بوشنجر الألماني، وآلان كوت الأمريكي، وشيلتون الإنجليزى، والسوري محمود البرشة.

صوم لاحمية

والصوم الطبي الذي تناقلت مشعله كل تلك الأيادي، لم يكن إلا الشكل الأقرب إلى الصوم الإسلامي، حيث لا يتم الامتناع عن أطعمة بعينها والإقبال على أخرى، بل هو امتناع تام عن كل طعام وشراب غير الماء.

أما الامتناع عن تناول بعض الأطعمة والتفرغ لغيرها فهو شيء آخر اسمه "الحمية" وهي ليست الصوم الطبي الذي نعنيه.

صوم تام عن الطعام، ولا شيء غير الماء.. هل هذا ممكن؟ نعم ممكن. ويؤكد علماء وظائف الأعضاء أن الإنسان يمكنه البقاء دون طعام مدة أربعة وسبعين يوماً، شرط أن يتناول ما يكفيه من الماء.

ولا يعني ذلك أن كل من يلجأ إلى الصوم الطبي عليه أن يصوم هذه الفترة. ففترات الصوم العلاجي تختلف من مريض إلى مريض ومن مرض إلى مرض.

كل ذلك قد لايبدو مطمئناً، ومن ثم.. لا وسيلة إلا إيضاح كنه هذا الصوم الطبي وسلوك الجسد الإنساني خلاله، لعل ذلك يكون باعثا على شيء من الاطمئنان...

فحال الامتناع عن الطعام تحدث عمليتان أساسيتان: أولاهما انتقال الجسم إلى التغذية الداخلية اعتمادا على ما تدخره الأنسجة للحصول على الطاقة اللازمة لاستمرار الحياة. والثانية- وهي الأهم في الدور العلاجي للصوم- استمرار وزيادة نشاط عملية الإطراح.. أي تخلص الجسم من تراكمات الفضلات والسموم خاصة في الأنسجة المريضة.

الانتقال إلى الاحتياطي

في القرن 19 درس "ف. باشوتين" تأثير الجوع على فيزيولوجيا الحيوان. وتبين له أنه حال انقطاع الإمداد بالطعام من الخارج، ينتقل الجسم إلى تغذية نفسه من الداخل، من المخزون في أنسجة الجسم المختلفة، باستثناء القلب والجهاز العصبي.

تماما كما يحدث للجيوش الحصيفة إذا ما اشتد الضغط عليها: تظل محافظة على قيادتها وعلى وسائل الاتصال لديها.

وقد وصف باشوتين تلك العملية بأنها نضال أعضاء الجسد الجائع، حيث يساهم كل منها بالمخزون لديه. ولقد قدّر العلماء أن الاحتياطي الذي يمكن الاعتماد عليه داخل الجسم يصل إلى 40 - 45 % من مجمل وزنه. ولوحظ أنه حتى درجة فقد 20- 25 % من وزن الجسم، لم يتم تسجيل أية تغيرات مرضية غير مرتجعة. وثبت أن الصوم الطبي مدة 25- 30 يوما قد أنقص من وزن الجسم 12- 18 % دون خطر يُذكر.

فكريات الدم الحمراء تنقص في البداية، ولمدة أسبوعين، ثم تبدأ الكريات الجديدة الشابة في الظهور والتكاثر. ومع انهيار الخلايا الشائخة وتحطمها يحدث ميل خفيف إلى الحموضة، لكن "احمضاض" الدم لا يحدث أبداً.

ولا تتغير العظام، لكن نخاع والعظام ينكمش قليلاً نظراً لوفرة ما يحتويه من مواد غذائية مدّخرة يساهم بها في عملية التغذية الداخلية. ويبقى وزن الكليتين ثابتاً تقريباً، أما الكبد فإن وزنه ينقص، لكن هذا النقص يكون على حساب المدخر من الماء والجليكوجين (السكر المختزن)، دون المساس بتركيب الخلايا أو عددها.

وبينما يمكن أن ينقص وزن العضلات بنحو 40 %، فإن عضلة القلب لا تخسر أكثر من 3 %.

وفي الحالتين يعود النقص إلى انكماش الخلايا وليست إلى نقصان عددها.

ومن الجدير بالذكر أن القلب يرتاح كثير عند الصوم، إذ تنخفض ضرباته إلى 60 في الدقيقة.

وهذا يعني أنه يوفر مجهود 28800 دقة كل 24 ساعة.

والقاعدة أن الجسم يعطي من مخزون المواد العضوية، ثم غير العضوية. أي أنه يعطي أولاً من السكريات ثم الدسم وبعض البروتين، لكنه لا يفرط بسهولة في المعادن وما يشابهها. فالحديد المتخلف عن حطام الكريات الحمراء القديمة يتم تجميعه وتخزينه في الكبد من جديد ليؤخذ منه عند الحاجة. لهذا لا يحدث فقر الدم المتسبب عن نقص الحديد في أثناء الصوم.

وبشكل عام، فإن الانتقال إلى التغذية الداخلية يضمن نوعاً من التوازن الغذائي المحكم في حدود ما هو مطلوب حيوياً وحسب. لهذا لا تحدث أبداً أي من أعراض سوء التغذية التي تُلاحظ في المجاعات، بل حتى في بعض حالات الوفرة عند زيادة السكريات على حساب البروتينات على سبيل المثال.

التخلص من الفضلات والسموم

تلك هي العملية الأهم في الصوم الطبي. فمن ناحية يتلاشى مصدر مهم من مصادر السموم داخل الجسم. وهو ناتج تحلل الأغذية في الجهاز الهضمي، فالقناة الهضمية تتنظف تماماً من جراثيمها خلاله أسبوع واحد من الصوم. ولنتذكر أن الحيوانات التي تدخل في السبات الشتوي تخرج منه فاقدة كل الجراثيم التي كانت موجودة في أمعائها الغليظة.

ومن ناحية أخرى تستمر عملية التنظيف لإخراج الفضلات والسموم المتراكمة في الأنسجة، عبر اللعاب والعصارة المعدية والعصارة الصفراء وعصارة البنكرياس والأمعاء والمخاط والبول والعرق.

ورغم أن هذه العصارات قد تقل، إلا إنها لفرط ما تحمله من فضلات وسموم تغدو كريهة الرائحة وكثيفة. لكن مع تقدم النظافة الداخلية للجسم تقل وطأة الرائحة وتخف كثافة الألوان. وتصير هذه علامة من علامات التخلص من ركام الفضلات والسموم.

وقد يبرز سؤال عن العصارة المعدية وما يمكن أن تسببه من ألم كاو وقروح لجدار المعدة الخالية. وهذا لا يحدث على نحو يخيف، فكمية العصارة تقل كثيراً مع الصوم وتقل درجة حموضتها. وفي حالات زيادة الحموضة- الموجودة قبل الصوم- قد يحدث ألم معدي، لكنه لا يستمر إلا في حدود 3- 4 أيام من بداية الصوم ثم يختفي.

والتجدد هو النتيجة

ومن محصلة هاتين العمليتين: التغذية الداخلية المنضبطة بحكمة "الطبيب الداخلي"، وطرح الفضلات والسموم (إضافة إلى عنصر بديهي وهو الراحة الفيزيولوجية التي تُمنح للجهاز الهضمي وملحقاته أساساً ولسائر الأجهزة والغدد بدرجة ما). من كل هذا تعثر عضوية الجسد على فرصة للتجدد، فتعود الوظائف بعد فترة الراحة أنشط، ويصبح الدم أصفى وأغنى بكريات الدم الأكثر شباباً.

هذا التجدد يتبدى أول ما يتبدى على السطح، فتصير البشرة أنقى وتختفى البقع والتجاعيد. أما العيون فإنها تغدو أكثر صفاء وبريقا.

ولقد أشارت تجارب اثنين من علماء الفيزيولجيا بجامعة شيكاغو، وهما الدكتوران كارلسون وكوند، إلى ما يدعم ذلك. فقد أكدا أن الصوم لمدة أسبوعين يكفي لتجديد أنسجة إنسان في عمر الأربعين بحيث تبدو مماثلة لأنسجة شاب في السابعة عشرة من عمره. لكن هذا الأثر غير دائم، ومن ثم يتطلب الأمر معاودة الصوم على فترات للحصول على الشباب من جديد.

كما أظهرت تجارب جامعة شيكاغو أن صوم 30 - 40 يوماً يزيد الاستقلاب بمعدل 5 - 6 %، وحيث إن نقص الاستقلاب يعد مظهراً من مظاهر زحف الشيخوخة، فإن زيادته بالصوم تعني استعادة لبعض من الشباب، أو بلغة أخرى تأجيلاً للشيخوخة.

وعملية تأجيل الشيخوخة هذه عبر الصوم، أكدتها باحثة أخرى هي سوزان سبلجر التي سجلت أن الفئران التي تتغذى على وجبات قليلة البروتين ثم تصوم في اليوم التالي.. عاشت أطول 50 % من أقرانها ذوي التغذية العادية.

بين الخصوم والأنصار

كثيرة هي الاعتراضات التي سجلت ضد هذا الصوم الطبي. منها ما هو معقول بمنطق العلم، ومنها ما هو وليد الخوف من الجوع بكل تراثه المؤلم عبر التاريخ الإنساني. لهذا نعرض لأهم اعتراضات الخصوم وما يتوافر حيالها من دفوع:

الخصوم: الصوم يسبب ظهور أعراض العوز الغذائي ( كالأسقربوط والإسهالات والتهاب العيون التقرحي).

الأنصار: أثبتت تجارب الدكتور "فوستر" التي أجراها على الحيوانات، أن الحيوانات التي غذيت على أطعمة خالية من المعادن تموت أسرع من تلك التي لم تتغذ على الإطلاق- أي التي صامت- لأن التغذية الداخلية تكون أكثر توازناً.

الخصوم: ثمة حالات وفاة سجلت في أثناء العلاج بالصوم الطويل.

الأنصار: حالات الوفاة ترجع إلى السبب الذي صام المريض من أجله، ولقد أشار العالم "ديوي" إلى أن الموت في أثناء الصوم لا يمكن أن يحدث إلا إذا أصيبت الأحشاء والهيكل العظمي. وهو ما لم يثبت بتشريح جثث المتوفين في أثناء الصوم. فمن بين 2500 حالة عالجها الدكتور "هازاد" بالصوم لم تسجل غير 18 حالة وفاة لم يكن الصوم سببها، بل السبب يرجع إلى المرض الذي صام المريض من أجله.

الخصوم: احتراق الشحوم للحصول على الطاقة بعد نفاد السكريات، يكون احتراقاً غير كامل، ومن ثم تتراكم الأحماض ومادة الأسيتون ويحدث، " احمضاض" الدم.

الأنصار: صحيح أن السكريات المخزونة كجليكوجين تستنفد سريعاً - خلال اليومين الأولين- لكن تكوين الجليكوجين لا يتوقف كما أكد ذلك العالمان الفيزيولوجيان "زوهوت" و "توتل" ويرجّح أن مادة الجليسرول التي تأتي من هضم المواد الدسمة تتحول من جديد إلى جليكوجين. كما أن رائحة "الخفون" لم يثبت وجودها في نفس الصائم أو إفرازاته.

ولم تتوقف المساجلة بين أنصار الصوم الطبي وخصومه، لكن الصوم مازال يستخدم كوسيلة علاجية، بدأت لمداواة أمراض الجسد ووصلت حتى أمراض النفس.

من الجسد إلى النفس

لعلنا نتذكر الحكمة الطبية العريقة التي تقول: "الوقاية خير من العلاج". ومن ثم يكون للأصحاء- بداية- نصيب في الصوم الطبي كوسيلة وقائية، يوكل فيها الأصحاء طبيبهم الداخلي ليقوم بتنظيف الجسد وإيقاظ التوازن فيه، ويعيد تجديد الاستحكامات المناعية ضد الغزاة المحتملين من بكتريا وفيروسات، وهذا ما توصي به مدرسة "الطب الوقائي الطبيعي" وعلمها الأشهر "سلفستر جراهام" حيث الوقاية تعني: الهواء النظيف، والماء النظيف، وضوء الشمس، والهدوء النفسي، والراحة الفسيولوجية الدورية (أي الصوم على فترات).

بعد ذلك يأتي الصوم كعلاج في مواجهة الأمراض الحادة، ويكفي أن نلاحظ رفض الإنسان الغريزي للطعام حال إصابته بالمرض، ومن ثم يكون الصوم دعما للغريزة الحكيمة تلك. ومجالات تطبيقه في الأمراض الحادة تشمل: أمراض الجهاز الهضمي (والحمى التيفية والكوليرا مثالان ساطعان على ذلك، وعموماً حيثما كان هناك غثيان أو قيء أو ألم كما في التهابات القولون والزحار).

وفي حالات الالتهابات المفصلية الحادة وهو ما سجله أستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة مونتريال البروفيسور "وود" الذي عالج مرضاه بنجاح عبر 4-8 أيام من الصوم. وذكر أن الصوم في حالات الروماتيزم يحول دون وصول التدهور إلى القلب.

أما في الأمراض الصدرية فقد أشير إلى الصوم كعلاج لشتى أنواع السعال خلال مدة لا تتجاوز ثلاثة أيام. بينما يحتاج الربو الشعبي إلى فترة أطول، وتظهر نتيجة الصوم جلية عندما يستطيع مريض الربو أن يخلد إلى النوم في هدوء.

وفي الأمراض المزمنة، سيدهشنا أن نجد في قائمة ما يمكن معالجته بالصوم: داء الصمم، وطنين الأذن، والسكر، وأمراض القلب، والأمراض الرئوية المزمنة. ولعلنا نتوقف مقتنعين عند مرض الصمم، لأنه ثبت أن عملية الإطراح التي تجري في أثناء الصوم تنظف قناة "استاكيوس". أما مرض السكر فيكفي أن تتذكر وجود طريقة معتمدة لعلاج السكر والصوم تسمى باسم مكتشفها: "طريقة آلان".

ومن أمراض الجسد إلى أمراض النفس ننتقل، ونتوقف أمام علامة مهمة في هذا المجال: الروسي يوري نيكالايف.. وهو أستاذ أمراض نفسية بارز يعتبر أول من أدخل- عام 1945- الأمراض النفسية والعقلية في دائرة الأمراض التي تعالج بالصوم. وسجل نجاحاً في علاج الوسواس القهري والهوس وبعض أنواع الفصام بهذه الطريقة التي كان يسميها "العلاج بالجوع".

عالج يوري نيكالايف بمستشفى معهد موسكو للطب النفسي عشرة آلاف مريض عقلي ونفسي مطبقاً عليهم طريقة الصوم الطبي، تحسن 65 % منهم إلى درجة استطاعة الحياة والعمل خارج المستشفى. وعندما جرت متابعة هؤلاء المتحسنين ثبت أن 50 % منهم لم ينتكسوا بعد مرور ست سنوات.

ولقد اتبع يوري نيكالايف طريقة الصوم لمدة شهر، أعقبه بإفطار يحتوي على القليل من البروتين واللبن المحمّض، إضافة إلى الكثير من الخضراوات والفواكه.

ومن روسيا إلى أمريكا، حيث أجرى الدكتور "آلان كوت"- الطبيب النفسي بمستشفى جراسي بنيويورك- بحثه على 35 مريضاً بالفصام، خضعوا لبرنامج الصوم الطبي. وسجل أن 24 منهم تعافوا ولم تحدث لهم انتكاسات. وكان استنتاج "كوت" أن "الصوم لمدة شهر عمل كمنبه قوي للتحكم في أعراض الفصام، ثم إن الصوم كمنظف للقناة الهضمية مع الحموضة الخفيفة التي يحدثها- معاً- يُلاشيان أثر السموم الداخلية التي قد تكون سبباً من أسباب الفصام.

البداية والنهاية

قبل أي بداية لهذا الصوم الطبي لا بد أن يكون هناك الطبيب. الطبيب المختص في العلاج بالصوم والمشرف عليه والمتدخل إذا ما دعت الضرورة.

أما النهاية- أي قطع الصوم- فإن هناك طبيباً داخليا عجيباً يحددها، وعلى الطبيب الخارجي أن يصغي إلى أوامره ويطيع.. وإلاّ حل الخطر.

فمن عجائب الجسد الإنساني، والحكيم الداخلي الذي أودعه الله فيه، أنه يطلق صفارة إنذار تقول بوجوب انتهاء الصوم قبل الدخول في مرحلة الخطر.

وصفارة الإنذار هذه واضحة غاية الوضوح، فهي: عودة الحس بالجوع بعد غيابه وتلاشيه (إذ إن الحس بالجوع يختفي منذ اليوم الثالث من بدء الصوم على وجه التقريب).

وحتى لا يختلط الحس الحقيقي بالجوع مع الحس الكاذب الذي قد تخلقه النفس ويرتبط بالشهية، فإن هناك علامة جامعة تنطوي تحتها علامات: تمام النظافة من الفضلات والسموم. فعند هذا الحد يعود اللسان نظيفاً، وتختفي روائح الفم، ويصفو الجلد، وتلتمع العينان. وعند هذا الحد يصير الحس بالجوع تظاهرة فزيولوجية كاملة: ضعفا عاما، ورجفانا، وتقلصات مؤلمه في المعدة..

هنا يسلم الطبيب- الحكيم- الداخلى الراية للطبيب الخارجي لعله يكون حكيما بدوره: يأمر بالإفطار، بحذر وهدوء.. خفيفاً خفيفاً في البداية، عصير فواكه وخضراوات، نصف كأس في البداية، ومثله بعد مرور ساعة، ثم كل ساعة. ولا يُسمح ببرتقالة كاملة إلا في اليوم الثالث. أما الوجبة الكبيرة فليست قبل انقضاء أسبوع من قطع الصوم الطبي.

رحلة شاقة، لكنها- بالتأكيد- لن تكون أشق من مكابدة المرض.

ألوان من الصّوم
بقلم: محمود الشرقاوي

تدل الآية الكريمة يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم "البقرة 183" على أن الصوم عبادة قديمة كتبها الله وفرضها على الأمم السابقة. وقد عرف الإنسان الصوم منذ قديم الزمان، إذ عرفه المتدين وسيلة من وسائل التقرب إلى الله، وعرفه غير المتدين طريقا من طرق التهذيب والرياضة. وهو لا يخص طائفة دون طائفة، ولا رسالة دون رسالة، ربما كان شأنا فطريا يشعر المرء بالحاجة إليه في فترات متتابعة أو متفرقة، وإن اختلفت صوره وأوقاته باختلاف العصور والأمم.

صيام الكلام

ومن ألوان الصيام، صيام الكلام، وهو معروف في بعض الديانات، فقد كان مقررا في الديانة اليهودية، ويتضح ذلك من قوله تعالى عن مريم ابنة عمران إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا "سورة مريم 26" فكان صومها يتمثل إذن في الإمساك عن الكلام، ولذلك اقتصرت في تفاهمها مع قومها على لغة الإشارة بدليل قوله تعالى بعد ذلك فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئا فريا. يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا. فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا "سورة مريم 27- 29" أي أنها لم تتكلم حرصا على صومها، واكتفت بأن أشارت إلى قومها أن يتفاهموا مع وليدها، وكانت ديانة مريم وقومها حينئذ هي اليهودية.

وقد عرف العرب في الجاهلية هذا اللون من الصوم ومارسوه، وكان يطلق عليه عندهم اسم "الضرس" بفتح الضاد وسكون الراء.

وتقول المعاجم العربية في شرح هذه الكلمة (الضرس) إنه صوم يوم إلى الليل. وكان من أشد عشائر العرب محافظة على هذا اللون من الصوم عشائر الحمس، وهي عشائر من قريش وكنانة وخزاعة ومن تابعهم على ملتهم في الجاهلية، وقد ظل بعض أفراد من عشائر الحمس يمارسون هذا النوع من الصوم حتى بعد الإسلام.

وقد روي عن أبي بكر الصديق أنه دخل على امرأة قد نذرت ألا تتكلم فقال: إن الإسلام هدم هذا فتكلمي. وفي شرح البخاري لابن حجر عن ابن قدامة أنه ليس من شريعة الإسلام، وظاهر الأخبار تحريمه. فقد أخرج ابن أبي حاتم عن حارثة بن مضرب قال: كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما، ولم يسلم الآخر ثم جلسا فقال القوم: ما لصاحبك لم يسلم؟ قال: إنه نذر صوما لا يكلم إنسيا. فقال ابن مسعود: "بئس ما قلت إنما كانت تلك المرأة قالت ذلك ليكون عذرا لها إذا سئلت، وكانوا ينكرون أن يكون ولد من غير زوج- إلا زنا، فتكلم وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإنه خير لك " الألوسي. روح المعاني ج 16 ص 87 ".

الصيام عن العمل

ومن ألوان الصيام، الصوم عن العمل، أي الامتناع عن الأعمال جميعها أو بعضها، فالشريعة اليهودية تحرم على اليهود القيام بمعظم الأعمال يوم السبت من كل أسبوع، ويقول سفر التكوين وسفر اللاويين، في بيان سبب هذا الصوم، إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع، وكان يوم السبت، فيجب على اليهود أن يحاكوا الرب فيما فعل، وألا يزاولوا الأعمال في هذا اليوم. وقد رد القرآن المجيد على زعمهم هذا إذ يقول الله تعالى: ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب "سورة ق: آية 38" أي لم يمسسنا تعب حتى نحتاج إلى الراحة. ويعد من هذا اللون أيضا صيام اليهود يوم (كيبور) وهو اليوم العاشر من تشرين العبري وهو الشهر الأول من شهور السنة العبرية، وذلك لأن صيامهم هذا اليوم يتضمن الامتناع عن معظم الأعمال.

ولوقوع هذا اليوم في العاشر من الشهر يسمونه يوم عاشوراء، ويشبه هذا اليوم، يوم عاشوراء عند المسلمين في أن كليهما يقع في اليوم العاشر من الشهر الأول من السنة، ويصوم اليهود هذا اليوم للاستغفار وطلب العفو عما اقترفوه من خطايا وآثام خلال العام الفائت، ويصومونه كذلك لإحياء ذكرى العفو عن الخطيئة القديمة التي ارتكبها أجدادهم بعبادة العجل الذهبي، عندما غاب موسى عليه السلام لتلقي الألواح من ربه عز وجل، فهم يزعمون أن الله عفا عنهم في مثل هذا اليوم. ومن أجل ذلك يسمون هذا اليوم يوم كيبور أي يوم الكفارة، ويسمون الصوم الذي يقع فيه صوم كيبور، أي صوم الكفارة، وليس في كتب العهد القديم نص على الصيام في وقت معين غير صيام هذا اليوم، وإلى خطيئتهم هذه يشير القرآن الكريم إذ يقول: وإذ واعدنا موسى أربعين ليلة ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون. ثم عفونا عنكم من بعد ذلك لعلكم تشكرون سورة البقرة: 51 - 52".

صيام الأنبياء

صام موسى عليه السلام أربعين يوما، فقد جاء في سفر الخروج أن موسى عليه السلام (كان هناك عند الرب أربعين نهارا، وأربعين ليلة لم يأكل خبزا ولم يشرب ماء). وفي سفر الملوك الأول أن النبي إيليا (سار بقوة تلك الأكلة أربعين نهارا وأربعين ليلة إلى جبل حوريب) وكان داود عليه السلام يصوم يوما ويفطر يوما ففي الحديث الشريف خير الصيام عند الله صيام داود كان يصوم يوما ويفطر يوما "رواه ابن حنبل". ويدل ظاهر هذا الحديث على أن داود عليه السلام قد التزم هذا مدى حياته، وفي إنجيل متى من العهد الجديد أن السيد المسيح صام أربعين يوما في البرية.

ومن أسرار الصيام أن الباحثين العصريين في القرن العشرين اهتدوا إلى حقيقة ثابتة بالتجربة، وهذه الحقيقة هي أن الإنسان يستطيع أن يعيش على قيد الحياة بدون طعام مدة قدرها أربعة وسبعون يوما إذا لم ينقطع انقطاعا كاملا عن الماء. واستدلوا على ذلك بأن محافظ كورل- تيرنس ماكسويني- قد أضرب عن الطعام من العاشر من أغسطس وبقي مضربا إلى يوم الخامس والعشرين من أكتوبر سنة 1920.

وفي عام 1942 لجأ أحد دعاة السلم إلى الإضراب عن الطعام ستة وأربعين يوما بمعسكر (ماريلاند) وقد قرر طبيب المعسكر بأن حالته الصحية جسدا وعقلا لا بأس بها، وإن كان قد أصابه الهزال.

صيام العجماوات

بعث الله تعالى يونس عليه السلام إلى أهل نينوى، فدعاهم إلى الله تعالى فكذبوه، ولما طال عنادهم أنذرهم أن تنقض المدينة على من فيها إذا هي أصمت مسامعها عن النذر الإلهية، وأولها نذيره المرهوب، وكفى به نذيرا أوقع الخوف والرعب في قلوب الناس، وترددت أنباؤه بعد قليل في جنبات القصور، فارتاع له الملك والعظماء. جاء في سفر يونانا- يونس- من العهد القديم: أن أهل نينوى آمنوا بالله، وتنادوا بالصوم، ولبسوا المسوح الغلاظ، وقيل في المدينة- عن أمر الملك وعظمائه- ( لا تذق الناس ولا البهائم ولا البقر ولا الغنم شيئا، لاترع ولاتشرب ماء، وليتغط الناس والبهائم بالمسوح، ويرجعوا عن الظلم) "يونان 5:3 ص 9 "، وفسر المفسرون أمر الملك والعظماء أن تصوم البهائم وتتغطى بالمسوح قائلين (إن المدينة إذا انقلبت فإنما تنقلب على البهائم كما تنقلب على الناس، وإن الله لا يعجل بعقاب المدينة التي تحتوي فيما تحتوي مائة وعشرين ألفا لا يعرفون أيمانهم من شمائلهم لأنهم أطفال صغار، ومعهم مئات الألوف لا يعرفون أيمانهم من شمائلهم كذلك لأنهم عجماوات).

طقوس غريبة

وقد يرتبط الصيام في بعض الديانات بطقوس غريبة، فمن ذلك ما كان يفعله اليهود إذ يلتزمون الصوم وهم واقفون في الشمس. فقد روي أن الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قام يوما يخطب الناس، فرأى رجلا واقفا في الشمس من دون المستمعين، ولما سأل عنه قيل: هذا أبو إسرائيل يؤدي صومه صامتا واقفا في الشمس فلا يتكلم، ولايقعد ولايستظل. وكان بعض قدماء اليونان يكلفون نساءهم بالصيام فيجلسن على الأرض في حالة اكتئاب وكمد، قياما بآدابه عندهم، والبوذيون في "التبت" لهم نوعان من الصيام، أحدهما مدته أربع وعشرون ساعة لا يذوقون فيها شيئا، حتى أنه لا يجوز لهم ابتلاع الريق فيه، والإفطار يكون على قدح من الشاي، ونوع يكون الإفطار فيه غير مقيد بالشاي.

ومن ذلك أيضا ما ذكره أبو الريحان البيروني في كتابه القيم (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) في أثناء حديثه عن بعض ألوان الصيام عند الهنود البرهميين إذ يقول (كان الصائم يجعل الأرض وطأة من غير فرش ولا ارتفاع عنها بسرير) أي كان يؤدي مدة صومه جالسا على الأرض مباشرة بدون فرش ولا ارتفاع عنها بكرسي ولا سرير. ويذكر المؤلف نفسه في أثناء حديثه عن لون آخر من ألوان الصيام عند هذه الطائفة: (كان الصائم يلوث جسمه بروث البقر وكان يفطر على روثها وبولها).

الصيام في الإسلام

وشهر رمضان قديم الحرمة في الجاهلية، وكان من عاداتهم أن يصوموا أياما منه يبدأونها أحيانا من منتصف شعبان، تيمنا بالصيف، وتقربا إلى أربابهم أن تجعله موسما من مواسم الخصب والرغد.

وقد ذكر ابن إسحق في السيرة في أثناء شرحه لحديث بدء الوحي أن الرسول الكريم كان يجاور في غار حراء شهرا من كان عام، وكان يقضي هذا الشهر صائما عابدا متحنثا يطعم من يفد إليه من المساكين، وأن هذا الشهر هو شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن، وأن صيام هذا الشهر كان مما تتحنث به قريش في الجاهلية. وتدل عبارة ابن اسحق على أن صيام رمضان كان متبعا عند بعض قبائل العرب في الجاهلية وخاصة قريش.

على أن المؤرخين اختلفوا في أصل هذه الشعيرة عند العرب في الجاهلية، فذهب بعضهم إلى أنها من بقايا ملة إبراهيم عليه السلام، وذهب آخرون إلى أن عبدالمطلب جد الرسول عليه الصلاة والسلام هو أول من شرع صيام رمضان وعمل به، وقد أخذ بهذا الرأي الأخير "وليم موير" في كتابه "حياة محمد".

وقد فرض الله تعالى على المسلمين صيام شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة، وقد جمع القرآن آيات الصوم في مكان واحد من سورة البقرة (183- 185) فقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون. أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون. شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون، فالصوم في إيجاز هو الإمساك عن الطعام والشراب، وعن ارتكاب الآثام جميعا، وهو قبل ذلك تطهير للقلوب والعقول من جميع الشوائب المجافية للإخلاص لله في ذاته، والمحبة لخلقه، والسير على سنن دستوره الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم عليم.

فالصوم في الإسلام تكليف إلهي يراد به إصلاح أحوال العباد، كما أراد الله تعالى أن يكون إصلاحها.

وعلى هذا ينبغي أن يفهم صوم رمضان على أنه امتثال لأمر الله تعالى، ونزول على حكمه، وإيمان به واحتساب لثوابه، وعامل أساسي في تقدم الحياة الإنسانية، وفي كفالة التعاون الحر المتكافئ بين الناس جميعا.