الشوف .. تراث عريق فوق ذرى الجبال

الشوف .. تراث عريق فوق ذرى الجبال

تصوير: فهد الكوح

وتغفو الشوف في أحضان الجبال وعلى ذراها، هادئة بعدما توقفت الحروب في لبنان وتفتح سجلها لتحكي أوابدها قصص تاريخها منذ عهود البيزنطيين والصلبيين، وتقف بنيتها شامخة تسرد تاريخ المعنيين الشهابيين. وفي الشوف تتجلى الطبيعة في قمة سخائها ، وهذا مما جعل الشوفي القديم يتحدى الصعاب ويعتلي قمم الجبال ليشيد حضارته التي لا تزال تحكي عظمته

تمضي بنا السيارة صاعدة نحو قرى الشوف وبلداتها التي تتوزع بشكل غير منتظم على سفوح الجبال وبرغم أنني كنت أعاني كثيراً من حركة السيارة في الصعود والهبوط والمنعطفات الكثيرة فإن جمال الطبيعة سحرني وجعلني أغبط السكان عام تلك الحياة الهادئة وذلك الصفاء الذى يتغلغل في ثنايا النفس، ولا شك أن ذلك ما جعل الشاعر الفرنسي لامارتين يتردد إلى الشوف بين الآونة والأخرى ليجود بأبدع قصائده.

خرجنا من بيروت متجهين إلى الشوف عن طريق خلدة- الدامور، ومع بداية الطريق الجبلي الذي يبدو وكأنه مشقوق في الصخر، حيث يحاذي الجبل من جانب والوادي من الجانب الآخر، وتقف أشجار السرو والصفصاف لتفصل الطريق عن الجبل وكأنها تعيش في ظل جبروته وهيبته، ولا تمتد الرؤية لأكثر من عشرات الأمتار ليرتد البصر خاسئاً أمام جبل أشم يصده، على سفحه تتناثر المنازل قديمها وحديثها، وبجمال طبيعتها وتضاريسها الجبلية تمتد بلاد الخوف من جنوبي المتن حتى جزين، أي أنها تقع إلى الجنوب من كسروان.

وبعد أن قطعنا أكثر من أربعين كيلو متراً من بيروت وصلنا إلى بعقلين أكبر بلدات الشوف وأقدمها، كان الوقت عصراً والجو بين غائم وماطر، ولكننا لم نطق صبراً على الجلوس للاستراحة فخرجنا نستطلع ملامح هذه البلدة التي لا تزال الأبنية التاريخية تكثر في أرجائها حيث لعبت أدواراً مميزة في التاريخ منذ ما قبل الميلاد. فقد عثر بعض الفلاحين على قطع نقدية في أراضيها مضروبة بالحرف الإغريقي، وبعد ترجمتها تبين أنها تعود إلى الانحلويوخس آخر قواد الإسكندر المقدوني الذين توارثوا الحكم من بعده، وتعود هذه النقود إلى سنة 2000 قبل الميلاد.

وأبنية، بعقلين الأثريه تعود إلى المرحلة التي ازدهرت فيها البلاد في ظل حكم المعنيين سيما أن الأمير فخرالدين المعني من أبناء بعقلين، ولا تزال هذه الأبنية مأهولة من قبل السكان وتحتفظ ببعض المحتويات التراثية، وبعض المباني التراثية تؤدي أدواراً معاصرة 11 كالمكتبة العامة التي يديرها أسعد الملاك، ويعود بناؤها التاريخي بهندسته المعمارية، والجديد بشكله إلى 1897 وقد شيد على أنه سرايا لبعقلين في عهد المتصرفية أيام السلطان العثماني عبد الحميد، ومن ثم صار مقراً لقائمقامية الشوف، وكان يتناوب على هذا المنصب الأميرمصطفى أرسلان ونسيب جنبلاط، وبعد انتهاء الاحتلال الفرنسي للبنان 1943 شغلت البناء محكمة (1 متحن! اك صلحية ومخفر للدرك وسجن، وأهمل المبنى بعد اتقاد الفتنة الطائفية حتى مارس 1987.

ؤحين أحس الوزير وليد جنبلاط بحاجة أبناء المنطقة إلى الثقافة بادر إلى إنشاء هذا الصرح الثقافي الذي يلبي حاجة الأجيال، وهكذا تحول مبنى السجن إلى معين فكري بعد أن تم ترميمه والمحافظة على معالمه، ولا يزال صاحب المبادرة متكفلاً بمتطلبات المبنى كاملة.

وبجانب المكتبة تقبع كلية الشوف الوطنية التي تأسست سنة 1957 م بغية استيعاب الطلبة في المرحلتين الإعدادية والثانوية وتخليصهم من أعباء السفر لإكمال التعليم، ومبنى هذه المدرسة اشتراه الشيخ سعيد حمادة من أملاك الإرسالية الإنجليزية وتأسس مجلس أمناء أشرف على هذا المشروع والمشروع لا يزال قائماً على تبرعات الأهالي، وتشتمل الكلية العريقة هذه على مجالات للأنشطة الرياضية ومدرسة تعلم منهاج المدارس الفرنسية للصفوف الثلاثة الأولى للطفل.

ولو توقفنا هنيهة مع الجديد بشكله ومضمونه لتوجب علينا الوقوف أمام المؤسسة الصحية للطائفة الدرزية "مشفى عين وزين "، التي يديرها الدكتور مروان أبو شقرا، والتي بدأت بدار للعجزة تحنو على خمسة وسبعين عاجزاً، ونظراً لتكامل العمل في هذه الدار اتخذتها منظمة الصحة العالمية مركزاً نموذجياً في الشرق الأوسط.

ثم اكتمل المشفى بجهود ومساهمات الأهالي إضافة إلى مساعدات الدول الخليجية كالسعودية والكويت، وبدأ يقدم خدمات صحية منذ أواخر 1989 وهو لا يقل شأناً عن مستشفى الجامعة الأمريكية.

وألحق به فيما بعد فرع لكلية الصحة يمنح الطلبة فيه شهادة بكالوريوس أو ثانوية في مجال التمريض، وكان هذا بعدما عانت الشوف كثيراً من قلة المراكز الصحية، حيث لم يكن فيها إلا مشفى دير القمر بإشراف راهبات دير الصليب ثم تبعه مشفى العرفان ومركز بعقلين الطبي وتوج الجانب الصحي في الشوف بمستشفي عين وزين وتوابعه.

المرأة الشوفية لم تعد ربة منزل فقط

ويستقبل الشوفي ضيوفه مرحبا ومؤهلا برغم أن حياته لا تتجاوز حد الكفاف في أغلب الأحيان حيث يعتمد غالبية السكان في تأمين مواردهم المعيشية على الزراعة سواء زراعة الخضراوات أو الأشجار المثمرة والمعمرة، والزراعة عمل يمكن لجميع أفراد الأسرة المشاركة فيه، حيث يستوعب جهوداً جماعية جمة، وأما القسم الآخر فهو الذي نزع إلى الوظيفة الرسمية حيث يتقاضى الموظف راتباً شهرياً لا يكاد يفي بالمصاريف ومتطلبات الحياة التي تبدو مرتفعة الأسعار ارتفاعاً مطرداً دون تمهل، وهذا ما حدا بالمرأة لمشاركة الرجل في العمل ولا سيما في الأعوام الأخيرة، حيث أصبحت تشغل منزلة وظيفية لا يمكن تجاهلها، وإن لم تشغلها الوظيفة أو الزراعة فإنها تحترف مهنة تكسب منها ما يساعدها في دفع عجلة الحياة، وهذا هو الحال في مشغل الشوف في بعقلين الذي يعتبر من المشاريع العريقة التي ساعدت في الانتعاش الاقتصادي لبعض الأسر، وقد أسسته السيدة جمال تقي الدين انطلاقاً من قناعتها بأن للمرأة دوراً يجب ألا يتوقف، فأخذت تقدم للنسوة المواد اللازمة كالخيوط وبعض الآلات اللازمة لتأخذ منهن نتاجاً من الدانتيل والنسيج المطرز يوشك أن يكون نادراً في أيامنا هذه، إذ لا تزال هذه الصناعات متمسكة بتراثنا العربي من حيث الشكل والحرفة، ولكن السيدة مؤسسة المشغل بدت حزينة على ذلك الإنتاج الرائع الذي يلاقي صعوبة في التسويق من جهة ومنافسة من صناعات بعض الدول كالصين وغيرها من جهة أخرى برغم وجود الفروقات بين الصناعتين (ولكن يبدو أن الإنسان يبحث عن الأرخص). بجانب مشغل الشوف ذي البناء الذي صار أثرياً قبة تفصله عن الطريق الرئيسي في بعقلين وهذه القبة مشيدة على حوض ماء بني في عهد السلطان عبدالحميد خان من مال بلدية بعقلين سنة 1308 ويحيط بالحوض! أحواض صغيرة حجرية للمياه لتشرب منها الدواب وبجانبها أعمدة تربط فيها الدواب، وكم هي كثيرة قصص الحب التي نسجت خيوطها الأولى عند ذلك الحوض، وكم من المواعيد بين العشاق شهدها ذلك المكان، ولا يزال أبناء المنطقة يتندرون بقصص حب أجدادهم تلك.

ونظراً لظروف الحرب التي عاشها اللبنانيون فإن الصناعة لم تشهد ازدهاراً كما يجب في هذه المنطقة ولو عدنا إلى وضع المرأة الشوفية لوجدناها مكافحة على صعد كثيرة وهمها دائما مساعدة الرجل في بناء البيت، ولا تزال تمثل أمامي أمور بعض النساء اللواتي يعملن في المطاعم، وليس أي عمل إنما ترتكز حيوية المطعم على وجودهن، مع أنهن لسن مالكات بل عاملات بأجر معين، وكثيرا ما شاهدنا امرأة تعد رقائق اللحم بالعجين أو الزعتر أو الجبنة وتخبزها بالفرن لتقدمها للزبون طازجة ساخنة، ومصنوعة بعناية.

وحين زرنا منزل الصديق أكرم الغصيني لاحظنا أن الشوفي يعتمد على نتاج أرضه الجبلية كثيراً في طعامه ، حيث الزيتون والزيت من جهة والفاكهة الطازجة من برتقال وتفاح وغير ذلك من جهة ثانية. ولعلني وجدت طعم ثمار الجبل وريحها في فنجان "المغلي " الذي اجتمعت فيه جوزة الطيب مع القرفة والسكر وامتلأ حتى منتصفه بالجوز والصنوبر، وكذلك هي الأكلات أيضاً تشمل المكسرات والسكر، وتقدم هذه الأطباق في الشتاء لتساعد الإنسان الذي يتناولها على مقاومة البرد.

ومما هو واضح تماماً أن الشباب في الشوف ينزعون للهروب من الزراعة لما تحتاجه من عناء حيث يصعب تخديمها بالآلة ولكي يتمسك الشبان بأرضهم كان قسم الزراعة بمعهد الشوف التقني الذي بادر سماحة الشيخ بهجت غيث بإنشائه إثر الحرب، ففي سنة 1984 بعد الحرب " اللبنانية/ اللبنانية واللبنانية/ الإسرائيلية " بدأ مشروع آل غيث في مؤسسة رعاية اليتيم بفرعه الأول وهو روضة أبناء الشهداء ثم جاءت الخطوة الثانية متمثلة بمدرسة الوفاء التي لم تعد وقفاً على أبناء الشهداء، وخدمات هذه المؤسسسة ليست حكراً على طائفة معينة إذ أنه لا هدف لها سوى الإحسان والإحسان ليس من حق أبناء طائفة أو مذهب دون غيرهم.

وتوجت المؤسسة بذلك المعهد الذي يضم أقساماً أولها قسم الزراعة الذي يساعد في تمتين ارتباط الشاب الشوفي بأرضه المعطاءة والتي تحتاج معاملتها إلى صلابة من الفلاح وصبر من المزارع إذ تتكاثف الأشجار المثمرة بأنواعها على مدرجات شكلت على سفوح الجبال وعلى كل صف تتناسق الأشجار ويسمي أبناء المنطقة هذه المدرجات "الجلول"، ولا يزال يكثر الاعتماد على الوسائل القديمة في الزراعة.

وأخذت العمارة الشوفية من تركيا نظام الحمامات التي تسمى في أيامنا هذه "الساونا" ولقد بدت الحمامات والمشربيات كأجمل ما تكون بقصر الشعب في بيت الدين، ، وقصر الشعب يحكي أمجاداً مضت، ففي كل موطىء قدم أحداث جرت وقصص نسجت، وفي كل قاعة اجتماعات عقدت ومحادثات حيكت وبداية وقفتنا كانت في قاعة عامة الشعب التي كان الأمير بشير الشهابي يستقبل فيها عامة الشعب، وامتازت قاعات القصر بهندستها وتصميمها الإيطالي وعمارتها اللبنانية وزخرفة سقفها الدمشقية، وذلك التمازج صنع رائعة معمارية، تمثلت في القصر الذي شيده الأمير بشير شهاب الثاني الكبير سنة 1800 عندما انتقلت الإمارة الشهابية من دير القمر إلى بيت الدين تحاشياً لفتنة قد تودي به وهو الذي أوقد نارها حيث قضى على جريس باز في دير القمر وأرسل من يقضي على عبدالأحد باز في جبيل، كما دبر نهاية الشيخ بشير جنبلاط وانفرد بزعامة البلاد قرابة 52 عاماً وحين وصل الأمير بشير شهاب إلى بيت الدين لم يكن قد بنى من القصر سوى بيت الحريم " الحرملك" ثم بنيت الدار الوسطى عام 1829، ومع حلول 1840 اكتمل القصر، ويحكى أن الأمير بشير قد تزوج من الست شمس التي خلص لها ورثتها فى حاصبيا وقدم بها وبأموالها، الأموال التي بنى منها القصر، وبعدها تزوج ثانية من "حسنجيهان " التركية، وبقي القصر حتى 1812ومن دون ماءءإلااعيننالمعجن،،عندهاااقترح البعض على الأمير أن يصف عسكره من نبع الصفا مع أهالي القرى ليحفر كل واحد ساقية تعادل طوله، ووصلت الساقية التي تعادل أطوال الشوفيين القدامى من نبع الصفا إلى القصر خلال 22 شهراً ولم يكن طولها بأقل من 16 كيلو متراً. وفي 1860 بدأعهد المتصرفية حيت تدخلت كل من فرنسا وإنجلترا والنمسا وروسيا مع تركيا وقررت أن يكون الحاكم في جبل لبنان مسيحياً أو عثمانياً غير لبناني، وبناء على ذلك كان داود باشا أول متصرف على الجبل، وكان قصر بيت الدين المقر الصيفي له وبقي القصر هكذا حتى 5191 بداية الثورة العربية الكبرى ومنذ 1918 وحتى 1943 بقي القصر تحت سيطرة الفرنسيين وبعد 1943 سنة حصول لبنان على استقلاله وخروج الفرنسيين أصبح القصر مقراً صيفياً لرئيس الجمهورية واستمر كذلك حتى عهد الرئيس اللبناني إلياس سركيس.

ومن الويلات التي شهدها القصر ذلك الاجتياح الاسرائيلي الذى أفقده أكثر من 90% من موجوداته، ولكن التفاتة تداركته من الوزير وليد جنبلاط في 1984 فوضع في بهوه الخارجي شعلة الشهداء. وأمامها نصب المعلم الشهيد كمال جنبلاط، وفي الوقت نفسه نقل آثار كنيسة الجية البيزنطية إلى القصر ليجعل من اسطبلات الخيول متحفاً للوحات الكنيسة، يعتبر من أهم متاحف الشرق الأوسط حيث تحوي لوحات فسيفسائية ترمز إلى معتقدات الديانة المسيحية جيء بها من قرية بورفيريون الشهيرة بزيتونها.

وفي معظم قاعات القصرصممت حجرة العتبة على شكل فروع خمسة ترمز إلى كف الإنسان المبسوطة ترحيباً بالزوار "أهلاً وسهلاً" وتتوسط باحة القصر الداخلي بركة الماء التي تخفف الحرارة صيفاً وتلطف الجو وأما الأخشاب المزخرفة في قاعات القصر فهي من خشب آرز الباروك.

وباب قسم الحرملك يبدأ بمدخل ضخم في وسطه مدخل صغير يدعى "البهلوطة" والغرض منها هو أن ينحني الداخل إلى الأمير بشكل إلزامي، ولكي لا يستطيع أحد الدخول إليه إلا راجلاً وأعزل.

ويستقبل الأمير الوفود الرسمية كالأمراء والضباط في قاعة "السلاه صلك" المشتق اسمها من "السلام عليكم" وتزين هذه القاعة ثريا أهداها نابليون للقصر عندما كان في عكا وقد كانت تنار قديماً بالشموع بدل الكهرباء وقبل قاعة السلاملك قاعة صغيرة تدعى قاعة التأمل أو الانتظار وفيها يعيد التفكير بما يريد قوله في حضرة الأمير، وحين وقفنا فيها كنت أتأمل ذلك الصرح الذي تحكي كل زاوية فيه صفحة من صفحات التاريخ بغض النظر إن كانت ناصعة مزدهرة أم مؤلمة بمآسيها.

وفي القصر خلوة " مكان عبادة المسلمين الموحدين" لعائلة أبو علي نايف بيتدينى، وقد كثرت الخلوات في هذه البلدة العريقة حتى حملت اسم بيت الدين ويقطنها قرابة 3000 نسمة وتبتعد عن ديرالقمر كيلومترين ترتفع عن سطح البحر 850 متراً، ولقد استحدث في القصر سنة 1991 متحف الشهيد كمال جنبلاط الذي يحكي مسيرة هذا الرجل وفي 1987 كان متحف رئيس الوزراء رشيد كرامي وفيه أسلحة قديمة مع قاعة خاصة بمجاهدي ثورة 1958 ضد حلف بغداد ويحتوي أيضاً مجموعة من الزجاج الروماني القديم والحلي الذهبية الرومانية وغيرها، وأما القسم الثالث الجديد فهو متحف الفسيساء البيزنطية والحدائق المحاذية للمتحف وهو الذي يحتوي آثار كنيسة الجية، وقد عرف هذا القسم بقاعة الأمير والقائد السياسي عادل أرسلان وفي القصر قاعة خصصت سابقاً للاجتماع مجلس الوزراء وسميت باسم الشهيد حليم تقي الدين، وفي الجزء الشرقي من الحرملك الحمامات التركية الباردة والحارة والبخار، والمياه الحارة والبخار يأتيان من خزان المياه الجاثم فوق مخبز القصر وبذلك كانت الفائدة مزدوجة، وفي الحديقة المحاذية للقصر يرقد الأمير بشير في ضريحه رقدته الأبدية.

وقد شيد الأمير بشير قصوراً لأبنائه تشكل هلالاً يتوسطه قصره، وقد أضحى قصر الميرأمين مطعما وفندقا، أما قصر المير قاسم فهو ثكنة عسكرية، فيما صار قصر العائلة كنيسة، وقصر المير خليل يشمل بعض الدوائر الحكومية.

قلعة موسى.. جهد فردي كالأسطورة

ولو قطعنا كيلو مترين ووصلنا إلى دير القمر التي كانت عاصمة للمعنيين لا ستوقفتنا قلعة قديمة بطرازها حديثة ببنائها، إنها قلعة موسى ذلك الرجل الأسطورة القادم من مدينة حمص السورية، وقد تأثر كثيراً بقلعة الحصن التي شيدها أجداده، فجاء إلى الشوف ليبني قلعة طالما صورها علىصفحات خياله أو على صفحات دفتر رسمه وهو تلميذ ولتكون باهرة في جمالها المعماري حيث لا توجد حجرة تشابه الأخرى من حيث النقوش. شيد موسى قلعته ليعيد الاعتبار لنفسه بعد ما سخر منه الأطفال زملاء المدرسة حين رسم قلعة على دفتره في حصة الرسم التي طلب فيها المعلم أنور عرنون منهم أن يرسموا مايشاءون، وحين شاهد المعلم التلميذ قد رسم قصراً أو قلعة استشاط غيظا إذ كان يريده أن يرسم منظراً عادياً فحمل عود الرمان وانهال على الطفل ضربا حتى كاد يقضي عليه، وباشمئزاز كان يقول له: إنك ترسم قصر أبيك حينئذ تخلص موسى من بين يدي مدرسه ليهرب وملأ نفسه الإصرار على بناء قلعته، وزادته تصميما "سيدة" الفتاة الجميلة التي أرادتها أمه لد عروسا، فما كان منها إلا أن سألته هل يملك ذهباً أم هل لديه قصر؟، وإن لم يكن هذا ولاذاك فلماذا يخطبها؟ فقال لها إنه سيكون صاحب قصر عظيم في المستقبل، وتضافرت ردة فعله تجاه معلمه مع حبه ذي القطب الواحد ليجعلا من إرادته ما يفل الحديد ويطوع الصخور، ومع بدايات مشواره وقفت إلى جانبه زوجة مخلصة، فكان هو لا يترفع عن عمل، وبدأ الزوجان رحالة تحقيق الحلم الكبير الذي استغرق من موسى المعماري 52 عاماً، وما بداخل القلعة ليس أقل جمالاً من مظهرها حيث تضم في طوابقها الثلاثة مئات من التماثيل معظمها متحرك تؤدي عملها كما لو كانت الروح قد نفخت فيها، وفي الطابق الأسفل لا يزال تجسيد المعلم الذي يهوي بعود الرمان عام التلميذ، وبعد أن مرت السنون وشيد البناء العظيم سافر موسى المعماري ليأتي بمعلمه فيريه أن ذلك الحلم الذي تسبب بخروجه من المدرسة قد أصبح حقيقة، لكنه فوجىء بجموع المعزين بين خارج وداخل والمعلم قد انتقل إلى جوار ربه، ولم تتحقق أمنية موسى. وتمثل القلعة بروعتها وشوخها وروعة محتواياتها جهداً فردياً عجيباً يعجز موسى عن إحصاء التكاليف، ولا يزال يؤكد للزوار أن حبه كان وراء ذلك الإبداع وأن وراء كل رجل عظيم امرأة، ومما يزيذ ذلك الإبداع روعة تلك الطبيعة الساحرة التي تحتضنه.

دير القمر.. عاصمة المعنيين

وبعد قلعة موسي بمئات قليلة من الأمتار تبدأ بلدة دير القمر، ورويدا ورويداً تطل عظمتها مشرئبة العنق قادمة من عمق التاريخ، ويقال إن دير القمر بنيت بحجر أصفر جلب إليها من عكار، ويحكي لنا صاحب ورئيس تحرير جريدة صوت الشوف المتوقفة حالياً عن الصدور "سليمان لطفي" قصة جلب الحجر الأصفر، حيث كانت شقيقة فخر الدين المعني الثاني متزوجة في عكار وكانت تتفاخر أمام أقارب زوجها تتفاخر أمام أقارب زوجها برجولة أخيها وهيبته وسلطانه، وحين زارها في عكار، وكان صغير الجسم قصير القامة سخر أقرباء صهره أمام أخته من شكله قائلين: هذا الذي تحدثيننا عنه، إنه لو وقحت البيضة من عجيزته ما انكسرت، وحين بلغه ذلك تضايق وأقسم على أن يعمر الدير من حجر عكار، واستطاع أن يبر بقسمه حيث تغلب علي عكار، واصطف جنوده من عكار إلى دير القمر، وشرعوا ينقلون الحجارة وبدأت القصور. تشاد، ويتول الأستاذ جان إزة مدير ثانوية دير القمر المعروف باهتماماته التاريخية والفنية إن دير القمر بقيت عاصمة للمعنيين والشهابيين حتى عهد الأمير بشير الذي انتقل إلى بيت الدين بعد أن قضى على عبد الأحد وأخيه جريس باز بعد أن تمادى في سلطته، كما قضى على الشيخ بشير جنبلاط بواسطة "الجزار" والي عكا، وفي عام 1900 كانت أسواق دير القمر تجمع الصناعات حتى غدت الدير مقصد المناطق الأخرى ولاسيما أثناء تجهيز الأعراس، ومنذ عام 1920، بدأت دير القمر تتراجع حيث صارت بيروت مركزاً للتجارة والأماكن الاقتصادية والحيوية، وتضم دير القمر حالياً معهد الفنون - الفرع الرابع من الجامعة اللبنانية كما تضم ثانوية خاصة للرهبنة المارونية المريمية ومدرسة خاصة لراهبات مار يوسف الزهور ومهنية دير القمر العالية وفيها سيتم لراهبات الصليب ومستشفى أيضاً وفي الدير سوق تجاري ضعيف إلى حد ما تغطي محلاته حاجة الأكل والشرب، ولا يقيم في الدير شتاء أكثر من ألفي نسمة.

ويضم الدير ومجمع آثار مهما تتقارب آثاره من بعضها حيث جامع فخر الدين المعني الثاني وبالقرب منه سوق الحرير قديما وسوق الخرج "مخزن الحبوب" وكلاهما يشكلان المركز الثقافي الفرنسي اليوم الذي يقدم خدماته لأبناء المنطقة على طريق دورات تعليم الفرنسية ومن خلال مكتبته الجوالة وما تحتويه من تجهيزات مماثلة لتجهيزات المركز من كتب وصحف ومجلات وأجهزة كمبيوتر وأجهزة سمعية وبصرية. وقرب المركز الثقافي الفرنسي قصر الأمير فخر الدين الأول، وقد هدم حين هاجمه العثمانيون ليقتادوا صاحبه أسيراً، وبقي منه بيت حرس الأمير وفي أحد أقسام القصر متحف الشمع لصاحبه سمير باز الذي استقبلنا في المتحف الجديد الذي يضم 35 تمثالاً لشخصيات لبنانية وعربية وغربية لعبت دوراً فعالاً في تاريخ لبنان منذ عام 1512 ولا تزال 22 شخصية في طور الإنجاز، ويتم صنع التماثيل في فرنسا بمتحف "غريفا" من الشمع.

وتكررت شكوى سمير باز من ارتفاع تكاليف التماثيل، وأن مشروعه قد زادت كلفته على المليوني دولار، وفي المتحف شخصيات نسائية كان لها أثرها في تاريخ لبنان مثل الأميرة نسب والدة الأمي فخر الدين الثاني والأميرة أمون شهاب والدة الأمير يوسف شهاب التي أسست مدرسة في دير القمر الأبناء الفقراء والأغنياء على حد سواء وللسيدة نظيرة جنبلاط والدة الشهيد كمال جنبلاط.

فالفكرة لا تزال حديثة المنشأ بدأت مع مطلع 1996 واجتهد في تنفيذها مستملك القصر وقد بني هذا القصر في القرن السادس عشر عندما اتخذت دير القمر عاصمة للمعنيين.

وبجانب قصر الشمع قصر الأمير أحمد شهاب الذي شيده لزوجته الست خنسا أم دبوس "عرفت بالاسم هذا لأنها كانت تزين صدر ثوبها بدبوس مميز" وفي الناحية الثانية من التجمع كنيسة سيدة التلة التبي تعود إلى القرن الخامس عشر.

يقول المؤرخون إن دير القمر معربة عن تسمية سريانية، ويسميها البعض في أيامنا هذه بدار القمر. وفي دير القمر إذاعتان خاصتان تبثان الأغاني والإعلانات فقط من الصباح وحتى منتصف الليل، وعلى صعيد الشوف هناك إذاعة ثالثة من النمط نفسه في بقعاتا، وتبتعد هذه الإذاعات عن كل ما هو سياسي أو نقدي.

ويبدو أن لبنان بلد العجائب المختبئة والتي تكشفها الصدفة، ففي دير القمر نبع عرف بالشالوط، يقال إن ذلك الاسم جاء نسبة إلى كلب كان يحرس الغنم، وكان هذا الحيوان يبتعد عن صاحبه بين الحين والآخر ليعود وفمه ويداه مخضبة بالتراب الأحمر، وعندما لاحظ الراعي ذلك تتبع أثر الكلب فشاهده يكشف التراب بيديه فيظهر الماء تحته فيشرب ويرتوي فأخبر أهل البلدة بالنبع، وقد أمتدح بعض الشعراء مياه النبع فقال أحدهم.

ويا حبذا الشالوط في الدير جاريا عليه نشا أهل النباهة والباس
فيعتز من يروى به فتخاله خليا ملياً وهو في حال إفلاس

ويا لأسفي فقد مررت قرب الشالوط ولم أرتشف من مانه، أذ لم أكن ظمآن، ولم أكن قد قرات عنه هذه الأبيات، وكما اكتشف الشالوط بالصدفة اكتشفت مغارة كفر حيم تلك الأعجوبة الجديدة للطبيعة اللبنانية، فبينما كان الأولاد يلعبون بالكرة تدحرجت إلى أسفل الجبل لتستقر في ثقب متسع، وفوجىء الأولاد بحفرة كبيرة ولما ونزلوا إلى تحت الجبل أدهشهم المشهد الأسطوري حيث الشموع تتدلى من السقف وعليها تسطع أشعة الشمس، هذا ما كان في عام 1974 وقد قدر الخبراء عمر هذه المغارة بحوالي 4 ملايين سنة، وتبعد المغارة 30 كم عن بيروت وترتفع 650 متراً عن سطح البحر، وقد تابع الزحف فيها شفيق أبوحزام وأخواه حتى خمسين متراً حيث المناظر المذهلة المختبئة تحت الأرض، ولا تزيد حرارتها على 22 درجة في الشتاء والصيف، وفوق المغارة أقيم معرض حرفي دائم ومطعم، لقد شدني منظرها حين تجولت في سراديب المغارة الملتوية وقد زادتها الإضاءة جمالا ورومانسية من خلال انعكاسها على الشموع المتدلية والتي تشكل سقف الممر، وتتكون نقط الماء شيئاً فشيئاً لتنزل من بين الشموع التي تمنح سراديب المغارة شكلاً أسطوريا، وتنسكب نقاط الماء في المجرى أو أمكنة أخرى يتجمع فيها الماء فيشكل بصوت سقوطه أنغاما موسيقية هادئة تجعل الإنسان ينسلخ عن واقعه وكأنه يعيش عالماً من الأحلام.

وفي معاصر الشوف بشكل خاص وباقي بلدات الشوف تتوزع بأرجائها معاصر الزيتون التي تكثر مع أنتشار هذه الشجرة المباركة على سفوح المرتفعات، وعلى أبواب المعصرة تقف شاحنات المزارعين مملوءة بأكياس الزيتون فيهرع العمال لينقلوا الأكياس إلى أحواض بحيث ينظف من الأوراق والأتربة ثم يندفع الزيتون إلى التكسير سالكا طريقا حلزونيا ويوضع على الخلاط مطحونا ثم يفرش على الخوص، دوئر سميكة مثقوبة الوسط ومركبة على الآلة بطبقة متساوية من كل الجهات، بعد ذلك تنتقل الخاصر على عربات نحو المكبس فيخضع الزيتون للكبس بقوة 400 طن/ سم3 والضغط هذا بقوة الماء، فينزل الزيت والماء معاً، وفي المصفا "الفرازة" ينفصل الماء عن الزيت ليجري الأول إلى خارج المعصرة فيما ينسكب الثاني في الصفائح المعدنية والأواني البلاستيكية وأما عن البقايا "البيرين" فيصدر إلى سوريا ليتم عصره بالحرارة وتصفيته ومنه يصنع الصابون وما ييقى يستهلكه المزارعون وأبناء المناطق الباردة في التدفئة، ونعاني من قلة الأهتمام بالمزارع، كما نعاني من صعوبة تسويق الزيت حيث نسكبه في أوان فخارية "خوابي" ليبقى أكثر من سنة بعدها لا يصلح إلا للصابون ويتدهور ثمنه ويكمل الشيخ صالح صاحب المعصرة: أن نسبة الحمض في الزيت الشوفي المخصص للطعام لاتزيد على 5.1 من محتوياته، وهذا. ما جعل روسيا تطلب مني مائة صفيحة زيت صاف توزعها على الصيدليات كدواء.

وليس هذا بغريب على أرض الشوف التي تفيض عطاء وتكثر المياه فيها لتجمل معظم الأماكن، فنبع مرشد في المختارة ينقسم إلى قسمين الأول نبع من الأرض لا ينقطع طوال شهور العام والثاني من مياه الأمطار والثلوج التي تنسكب من الباروك ومعاصر الشوف، وتلتقي الينابيع مع مياه الأمطار والثلوج لتصب في نهر الأولي.

وكذلك النبع الذي تتدفق مياهه مخترقة قصر المختارة الأثري الذي يسكنه الوزير وليد جنبلاط وفيه يستقبل المواطنين أسبوعيا لقضاء حوائجهم وتسيير أعمالهم.

وأما نبع الصفا الذي تتدفق مياهه بقوة لتروي قرى عديدة كبيت الدين وغيرها، فإن منظرها يمنح البلدة منزلة تجعل السياحة تكثر فيها ربيعا ومصيفاً، وليس بعيداً عن نبع الصفا تتدفق مياه الباروك أيضاً.

وبرغم برودة الشتاء وأمطاره وأعياد الميلاد التي واقتت أسبوع إقامتنا فقد أسعفنا الحظ بأن تعرفنا الكثيرين أثناء المعرض التشكيلي الذي افتتححته السيدة نورا جنبلاط عقيله الوزير وليد جنجلاط وقد التف المثقفون من أبناء بعقلين وكأنهم أسرة واحدة ليشجعوا الفنان مأمون النجار الذي عكس لنا صورة موطنه على لوحاته، وفي المعرض هذا عرفنا الأستاذ غسان الغصيني الذي زودنا بمعلومات جمة عن بعقلين. والجميل أن الأزهار ونباتات الزينة التي وزعت على جنبات المعرض كانت طبيعية من أراضي بعقلين، وهذا ما كان في العرس الشوفي أيضاً الذي شاهدنا بعض مراسمه، وهذا ما كنا نعتقد أنه نادر الحدوث في الأيام التي تسبق عيد رأس السنة الميلادية، وبعد انتهاء العرس وزفاف العروسين رمزي غصن وفريال معطي من قرية جون الشوف، تحدث لنا بعض الحاضرين عن عادات العرس، إذ بعد أن يعجب كل من الطرفين بالآخر تتم الخطبة ويلبس العروسان الخواتم، وأثناء الخطبة بقدم العريس هدية لعروسه تكون من الذهب على الأغلب، ويسجل في عقد الزواج مبلغ من المال على أنه مهر ويبقى حبرا على ورق، ويحدد الزفاف بعد عقد القران بأكثر من سنة وقبل الزفاف يجهز العريس المنزل كاملا مع ثياب العروس التي يزيد ثمنها على 5000 دولار وتقام الحفلات في منزلي أهل العروسين، ويأتي العريس ليأخذ عروسه وحين يتقدم منها يدوس على رجلها "دليل علو مرتبته" ويحرص أهل العريس على سرقة غرض من بيت أهل العروس ليبقى ذكرى وحين تصل العروس بيت الزوجية تلصق عجينة على واجهة البيت للتفاؤل، وتستمر الرقصات أثناء موكب الزفاف سواء كانت العروس تمتطي صهوة حصان إذا كان منزل العريس بعيداً أو تمشي مع عريسها، وحين يجتمع العروسان تنعقد حلقات الدبكة "الدلعونا" ويرقص الشباب مع العروسين في الوقت الحاضر على موسيقى الأغاني الحديثة.

ولم يعد الشوف مغلقا على جماعة محددة وإنما شهد انفتاحا معيناً بحيث امتلأت الشوارع والمحلات بمظاهر الفرحة بعيد الميلاد حتى أن شجرة الميلاد وصور بابا نويل كانت تزين معظم الأماكن، وفي سهرة عيد الميلاد حللنا ضيوفا على أسرة الدكتور منير عطا الله "اللبنانية - البولندية" وبرحابة صدر عرفنا الدكتور منير على تقاليد سهرة الميلاد ومائدته الخاصة، وتناولنا معهم الطعام الخالي من اللحوم إلا الأسماك، وبدأنا بأكل رقاقات الخبز والعرف أن يأكل كل واحد من خبز الآخرين ويأخذوا بدورهم من خبزته، وسراً يتمنى لمن يأكل من خبزته، وأذكر أنني تمنيت للأخ المصور شفاء عينه التي احمرت والتهبت وصارت تسكب الدموع إثر لفحة برد أعقبت الخروج من جو حار، وتمنيت للصديق أكرم الغصيني أن يجمعني الله به في فرصة أخرى على أن تكون في الربيع أو الصيف، حتى تكون الشوف بكامل حيويتها البشرية وزينتها الطبيعية، وتمنيت لمضيفنا أن يعاد عليه العيد وعلى أسرتها وهم بخير وسعادة.

وبين ذرى الشوف ووهادها كنا نتنقل حتى وصلنا إلى باتر التي تعتبر آخر قرى الشوف وطولها 5 كم وهي معروفة بأشجارها المثمرة كالزيتون والعنب والتفاح والخضار. وقد خربها الزلزال في 1956 فعاد السكان للبناء ولكن غيروا الأمكنة، فانقسمت باتر إلى قسمين قديمة وجديدة وجاء القسم الثالث من جراء التوسع، وعلى إحدى قمم الجبال في باتر زرنا مقام نبي الله أيوب عليه السلام الذي عرف بالصبر على البلوى مهما عظمت حتى أن الله جل جلاله أورد ذكره في سورة الأنبياءسورة الأنبياء، الآية: 83 وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين وفي سورة صسورة ص، الآية: 41واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب ، وقد كان ابتلاء هذا النبي في جسده وفي أولاده وماله، حتى أن مصابه أضحى تحمله فوق طاقة البشر.

وبعد وقفتنا في مقام "أيوب " عليه السلام خرجنا نتأمل جبال نيحا والباروك التي تفصلنا عن البقاع، واستغرب الأستاذ عادل خطار الذي اصطحبنا إلى هناك بأن ذرى الجبال ليست مغطاة بالثلوج، مؤكداً أن ذلك لم يحدث منذ زمن بعيد.

وفي الطريق من بعقلين إلى باتر مررنا بالسمقانية وبقعاتا والجديدة والمختارة وعين قنا وعماطور وحارة جندل التي تعتبر أصغر قرى الشوف ثم نيحا وباتر، وفي نيحا التي تحتضن في خراجها "قلعة طيرون " التي التجأ إليها صلاح الدين أثناء مواجهته الصليبين توقفنا في مقر سماحة الشيخ بهجت غيث الذي امتدح دور مجلة "العربي " في نشر الثقافة غير المتحيزة لأحد.

ثم تأسف على ما آلت إليه أحوال العرب من تمزق سببه السياسة الاستعمارية بشكلها الجديد "فرق تسد" وهذا التمزق جعل الصهاينة يخترقون الأمة العربية ويسلبون بعض أراضيها.

وقال: بالنسبة للشوف يؤسعفنا أنه لا يزال يعاني من آثار الحرب ومخلفاتها ويؤسفنا أيضاً أن إعادة الإعمار التي أعقبت الحرب لم تطل الخوف، إذ لانزال نعاني من قلة المؤسسات وقلة فرص العمل والمشاريع الإنمائية، وكأن التاريخ وقف عند فترة ما قبل الحرب، نحن نعلم أن وهو يعاني من ديون وفوائد باهظة نتمنى أن نخرج منها سالمين، ونعتب كثيراً على سياسة الدولة من حيث الاهتمام بقضاء الشوف، فالمواطنون يعانون من الرسوم المعيشية المرتفعة كرسوم التعليم وما إلى ذلك، و نحمد الله على نعمه حيث حبانا بالهواء النقي والطقس الجميل والطبيعة الرائعة ومنح الشوفي التحمل حيث لا يشكو شظف العيش.

إننا ننظر للمستقبل بتفاؤل لأنه يجب ألا نفقد الأمل، وننظر إلى لبنان نظرة وطنية بعيدة عن الطائفية المتقوقعة، فنحن والعالم نقف على مفترق خطير وإذا لم يتم لجم الغطرسة الصهيونية، فإن حرباً كونية ستحصل ولا مفر منها

وتمنى سماحة الشيخ بأن يسود السلام العالم أجمع وأن تكون النوايا من قبل أعدائنا نوايا سلام وليست نوايا عدوانية كما هو واضح بالنسبة للعالم.

واختتمنا رحلتنا بزيارة أخيرة إلى دير القمر وبيت الدين وقلعة موسى التي تغفو في الوسط تحكي قصة تحد كبير لموقف حصل بين معلم وتلميذه، وموقف آخر حصل بين قلب شغفه الهيام وآخر لا طريق إليه إلا إذا كان معبداً بالذهب والفضة.

وحين كنا نسير في بيت الدين قرب قصر الميرأمين الذي يعتبر من أرقى الفناق والمطاعم الشوفية التراثية توقفت عند جذع شجرة ضخمة كانت قد قضت نحبها ولكن أنبثث في وسط جذعها المتآكل المتفسخ والمقعر أزهار برتقالية جميلة، بجانبها شجرة أزهار أخرى لم يئن الأوان لكي تقدم أزهارها الحمراء بعد ويا له من منظر أخاذ لو هبت عليه نسائم الربيع الساحرة، ويتجوف الجذع الخشبي الذي لا روح فيه ليحنو كأم رءوم أيبس الكبر جنبيها على وليد لا يزال في رونق شبابه، إنها ثنائية متضادة، ثنائية الموت والحياة.

وعلى طريق العودة إلى الفندق كان برفقتنا جورج حايك المعروف بالزغلول لجمال صوته الجبلي وكان يضع يده على خده و "يرندخ" أغاني جبلية أبرزها "الميجنا"، وحينها كانت الشمس تودع الأفق لترقد خلف الجبال والسيارة تنهب الأرض وزغلول دير القمر يتغزل بشعر محبوبته الأسود الذي يشبه الليل.

 

 

جمال مشاعل