ميانمار (بورما)... في ظلال أبراج (يانجون) الذهبية

ميانمار (بورما)... في ظلال أبراج (يانجون) الذهبية

تصوير: طالب الحسيني

أبراج من الذهب الخالص في معابد الحفاة. وياقوت حقيقي بلون دم الحمام الشفيف. راهبات بوذيات حليقات الرءوس. ومسلمون يتوضأون من حوض تسبح فيه أسماك ملونة. طعام شبه صيني بتوابل هندية حارة. وعصير جوز الهند الطازج لري العطش. إنها (يانجون) التي مكث العالم قرنا ونصف القرن يسميها كما أسماها الاستعماريون البريطانيون (رانجون),وهي عاصمة (ميانمار) التي ظللنا ـ وراء البريطانيين أيضا ـ ندعوها (بورما).

قلت له وأنا أهم بركوب السيارة خارج مطار يانجون الدولي البسيط الفسيح: "لكن ما اسمك?", فقال: "آي كوكو", فعاودت السؤال, وعاود الإجابة: "اي كوكو". وكان "آي كوكو", مع أشجار الشارع الاستوائية الكثيفة الوارفة خارج المطار, أول لمحة عن خصوصية هذا البلد تسنح لي. عمره بين الخامسة والعشرين والثلاثين, نحيف ومتوسط القامة وخفيف السمرة, كسائر الرجال الذين رأيتهم في طريقي, وكسائر الرجال الذين رأيتهم ـ باستثناء العسكريين في ملابسهم الرسمية ـ كان "آي كوكو" يرتدي ذلك الزي الوطني, الواضح تمسك أهل البلاد به, وهو "لونجي" الذي يشبه السارجون الماليزي والكمبودي ويتكون من قطعة قماش واحدة تلف حول الوسط كإزار وتنسدل حتى القدمين, ويرتديها الرجال والنساء على السواء بينما الاختلاف يكمن في الألوان والنقوش والربطة حول الوسط, فالرجال يربطون الـ "لونجي" من الأمام بينما النساء على الجانب. وهو يلبس على "أنجي" أي قميص خفيف ذي ياقة عالية مدورة فوقه جاكيت خفيف دقيق وبلا ياقة يسمى "تونجاي".

"آي كوكو" يعمل سائقا ومرشدا سياحيا لدى شركة خدمات تاكسي المطار, اكتشفته ولعله اكتشفني, بعد أن أطبقت علينا حلقة البنات الجميلات اللائي وقفن في صفين على جانبي باب الخروج من المنطقة الجمركية. ظننتهن في البدء, وهن يرتدين الثياب الوطنية الذهبية والبرتقالية ومعهن باقات صغيرة لزهور طازجة يهدينها للقادمين, ظننتهن يقمن بتقليد خاص لتحية ضيوف بلدهن, لكنني سرعان ما اكتشفت أنهن ممثلات لشركات السياحة الخاصة التي أخذت تتكاثر في ميانمار بعد انفتاحها الأخير على العالم وانتباهها للسياحة كمصدر لجلب العملة الصعبة, وكجزء من هذا الاتجاه توجب علينا أن نغير بعد عبور بوابة الجوازات ثلاثمائة دولار أمريكي هي ما ينبغي على كل "سائح" أن يغيره قبل السماح بدخوله هذا البلد. وبقيمة الدولارات الثلاثمائة يعطونك "كوبونات" على شكل عملات ورقية جيدة الطباعة وخاصة بالأجانب تسمى "فيس", والفيس الواحد يعادل دولارا. وهكذا تنفق دولاراتك دون أن تفقد بنسا واحدا, فالفيس يمكنك التعامل به مع السوق البيضاء والسوداء, أيهما شئت داخل البلد, بينما تكون الدولارات الحقيقية في خزانة الدولة التي بينها وبين الحكومة الأمريكية فجوات وفجوات, إلا فجوة الاقتصاد التي لا تتركها أمريكا للآخرين حتى يملأوها ويمتلئوا بها, فرجال الأعمال الأمريكيون كانوا كثرة على الطائرة التي أقلتنا من بانكوك إلى يانجون, وشركات البترول الأمريكية مستثمر أساسي في الغاز الطبيعي الذي اكتشف في ميانمار بكميات هائلة. أما حكاية مناوأة أمريكا للنظام العسكري الحاكم في ميانمار دفاعا عن الديمقراطية, وحقوق الإنسان, وضغطا لمكافحة المخدرات التي تلوح أمريكا بمسئولية بعض أركان النظام العسكري عنها فهي حكاية أخرى.. ملتبسة, وغريبة, وتفصح, دهاليزها وتاريخها المكبوت عن أن السياسة مصالح, ومصالح, ومصالح. ومادامت كذلك, فقل على الأخلاق السلام, وقل عن الحقيقة ما شئت, فهي ذات وجوه ووجوه. أما وجوه الصبايا اللائي أحطن بنا عند باب الخروج, فقد كانت ولا أحلى, مدورة, دقيقة الملامح ورقيقة, لكن لغتهن الإنجليزية لم تكن كذلك وهن يتكاثرن علينا ويتصايحن ويلوحن بقوائم الفنادق وبرامج الرحلات التابعة لشركاتهن.. كل منهن تدعونا إلى جانبها. وأنقذنا "كوكو" من هذا الزحام الجميل والصخب المصوصىء, إذ كان يتدخل من بعيد لإيضاح ما تقوله ال بنات بإنجليزية أفضل منهن. فشققنا الطريق إلى "كوكو" مدبرين عن البنات اللائي كففن فجأة عن الصخب الجميل محسورات, وعندما استدرت ألوِّح لهن مودعا صائحا بالكلمة الميانمارية التي تعني إلى اللقاء: "ثوا ماي", رددن بخفوت "ثوا".

ماء وأسماء

علمني السفر أن شئون السفر في أي بلد من بلدان العالم هي شبكة صيد متقنة للإيقاع بالزبائن, مقابل خدمة, نعم, لكن بأكبر قدر من المال إن أمكن. لهذا اشترطت على "كوكو" قبل أن نتحرك أن أرى قبل أن أدفع وأسكن في أي من الفنادق التي يقودنا إليها. وفي سيارته اليابانية الصغيرة انطلقنا عبر شوارع العاصمة يانجون, أنا أمسك بالخريطة التي حددت عليها المواقع الأفضل للإقامة والرؤية, وهو يدلني على المتاح من الفنادق في كل موقع. ومضت ساعة ونصف ونحن ننطلق في شوارع واسعة, معتورة نعم, لكنها جميعا مبلطة بأسفلت لابأس به, وعلى أرصفتها من الجانبين أشجار استوائية وارفة تحيل هذه الشوارع إلى "بوليفارات" ظليلة رحيبة, ورقيقة الحال. مضينا من النهر إلى النهر, ومن البحيرة إلى البحيرة, فالعاصمة يانجون شبه جزيرة يحيط بها نهر يانجون الكبير جنوبا وغربا, ويتحلقها من الشرق رافد النهر المسمى "بازونداونج". وفي العاصمة شبه الجزيرة هذه بحيرتان كبيرتان أولاهما بحيرة "إنيا" في الشمال, وبحيرة (كانداويجي) ـ أو البحيرة الملكية ـ في الجنوب الأوسط. هذا إضافة إلى بحيرات صغيرة ولجج لم تكف عن الظهور أمامنا ونحن نجوب المدينة من أقصاها إلى أقصاها. وفكرت في أن ذلك ليس بغريب عن المدينة التي قرأت أنها كانت قرية ساحلية تطل على بحر (اندمان) المفضي إلى المحيط الهندي منذ 2500 سنة عندما شيد بها لأول مرة معبدها البوذي الكبير الشهير "شويداجون". لكن خمسة وعشرين قرنا كانت كافية لإنشاء دلتا واسعة في جنوب البلاد من ترسبات مياه نهري (ايير وادي) وهيلانج وهما في طريقهما إلى البحر, وضمن هذه الدلتا ولدت العاصمة التي وإن صارت بعيدة عن الساحل فإنها تظل ـ عبر ما يحيط بها من مياه ـ ميناء تجاريا نهريا مهما, يقود إلى البحر, ثم المحيط. ويقودني اسمها ـ عبر ثرثرة الطريق مع آي كوكو ـ إلى لغز الاسماء في هذا البلد. فكلمة "يانجون" هي الاسم الذي أطلقه الملك "ألاونجبايا" على قرية استولى عليها عام 1755 من شعب "المون" وكان الاسم يعني "هاية الكفاح" وبمعنى آخر "استراحة المحارب", وعندما جاء الإنجليز واحتلوا البلاد والعباد حولوا الاسم مع أسماء أخرى إلى "رانجون" ليكون يسيرا على ألسنتهم. لكن الاسم عاد إلى أصله منذ سنوات, ففي عام 1989 صدر مرسوم وطني بتغيير الاسم الإنجليزي للدولة (اتحاد بورما) إلى "اتح اد دولة ميانمار" وهو الاسم الذي عرفت به البلاد من قديم, على الأقل منذ أيام الرحالة (ماركو بولو) في القرن 13. وميانمار تدل على البلد بأسره, أما بورما فهي نطق إنجليزي لكلمة "بامار" الدالة على العنصر البشري الغالب واللغة التي يستخدمها. وفي الحقيقة تنطق "ميانما" إذ إن حرف الراء ضعيف في اللغة الميانمارية.

الاسماء لفتة وطنية تثير الدهشة في هذا البلد. لكن الأكثر إدهاشا هو أسماء الناس من الغالبية البوذية. ففي ميانمار لايوجد اسم عائلة, والاسماء لا توضح أبدا من يكون ابن من أو شقيق من, فبعد مولد الميانماري بأسبوع يقام احتفال يسمى "حفل التسمية" حيث يعطى المولود اسما يتكون من مقطع أو اثنين أو ثلاثة, وعادة ما يختار الاسم تبعا لرؤية المنجم أو الوسيط الروحاني أو الراهب البوذي. وبرغم أن التسمية بهذا الشكل ليست تقليدا بوذيا فإنها سائدة في ميانمار, ثم إن الإنسان يستطيع تغيير اسمه متى شاء, إذا اعتقد أنه سيكون ذا حظ أفضل باتخاذ اسم جديد.

وعادة ما يعطى الأطفال اسماء رديئة لدفع الشر والمرض, وعندما يكبرون يمكنهم تغييرها بأسماء أجمل. لكن الاسم مع ذلك يوضح جنس حامله ومرتبته الاجتماعية, فالرجل الذي اسمه "كاو رنج" يمكن أن يصير "أو كاورنج", أو "كو كاورنج", أو "مونج كاورنج" حيث "أو" تشير إلى الرفعة في المكان الاجتماعي أو مكانة كبيرة السن ولعلنا نتذكر اسم "أوثانت" سكرتير الأمم المتحدة السابق, وأونو أول رئيس وزارة في فترة التحرر الوطني وأحد أصدقاء جمال عبدالناصر وزملاءه الخمسة في قيادة دول عدم الانحياز.

أما في داخل الأسرة فإن الزوجات ينادين أزواجهن "إينج جالو", أو "إين ثار" وتعني رجل البيت الطيب, و "ماما" للأم أو الأخت الكبرى. وأسماء التوقير "كوجي" أو "سايا" تطلق على المدرس أو الطبيب, والرهبان "سايا داو", وضابط الجيش "بو". أما المفاجأة الآتية في عالم الأسماء فقد كانت "كوكو" وتعني "الأخ الأكبر", وهكذا اكتشفت أن "كوكو" الهادىء والصبور كان ماكرا أيضا, وربما كان مرحا أو معتدا بنفسه, فقد جعلني أناديه طوال الوقت "يا أخي الأكبر". على أية حال لقد كان له صبر أخ أكبر, إذ درت به العاصمة كلها وصعدت وهبطت لأعاين غرف فنادق كثيرة حتى استقر اختياري على فندق جديد وفاتن, ورقيق الأسعار, يسمى "المركزي العائم" وهو سفينة فاخرة بُنيت في روسيا وأثثت في الدانمرك وعبرت بحر البلطيق إلى المحيط الأطلنطي فالبحر المتوسط فقناة السويس والبحر الأحمر والمحيط الهندي حتى بحر أندمان الذي دخلت منه في نهر يانجون واستقرت عند جنوب غرب العاصمة, ووجدت مستقري بها في غرفة عبارة عن قمرة صغيرة كل شيء فيها دقيق ونظيف. ولقد تعشيت أرزا مطبوخا بالبخار وسمكة نهر مشوية ونمت متعبا في اليوم الأول.. على موعد مع صباح "نهر يانجون" وشوارع مدينة "يانجون".

إخوتنا الطيور

لمست "ماي جي جي مي" "الجرسونة" الجميلة دعوة لم أنتبه إليها موضوع مثلها على كل موائد الإفطار في مطعم السفينة بالطابق العلوي. وقالت تذكرني برقة رصينة (لا تنس إطعام الطيور.. إنه إحساس رائع". وكانت رائعة في صفاء جمالها وأناقتها المحتشمة, وهي سمات فارقة تأكدت يوما بعد يوم وطوال إقامتنا في ميانمار. فالقادم من بانكوك مثلنا يلحظ على الفور مدى الاحتشام والحياء في يانجون, فلا عُرى في الثياب ولا دعارة, وثمة خفر جميل يلازم البكارة التي تسم هذا البلد بيئة وبشرا. وكان ذلك رائعا كله. أما دعوة "ماي جي جي مي" فقد كانت بريئة مثل وجهها المدور الحلو, إذ إن وجودنا في مياه نهر يانجون كان يتيح لنا خبرة ومشهدا فريدين مع النوارس, آلاف النوارس التي اعتادت الاقتراب من الشط في ساعة معينة لتتناول إفطارها من بين أيدي الناس. ولأن خبرة هذه الطيور بالبشر المسالمين طويلة فإنها تقترب حتى تحط على الأيادي والأكتاف وعلى الموائد. وقد كان صباحا خاصا ونقي الروعة ذلك الذي افتتحناه بصحبة النوارس. لكن إطعامنا لهذه الطيور, كما سائر نزلاء فندقنا العائم من السياح, كانت شيئا آخر غير ما يفعله الميانماريون في الزوارق الموغلة في النهر وعلى الجزر وعلى الشاطئين ففيما كنا نفعل ذلك سياحة أو ترويحا أو تجريبا, كانوا هم يفعلونه بيقين ديني, فمن ناحية يتعلم البوذي ألا يؤذي أيا من الكائنات, ومن ناحية ثانية هو إذ يطعم كائنا جائعا يكتسب حسنة تقربه من الإشراق أو الانعتاق من آلام تكرار دورة الميلاد والموت, ومن ناحية ثالثة لأنه يؤمن بدورة التناسخ والميلاد المتكرر في كائن جديد, فكل الكائنات بها احتمال القربى, فربما كانت تحمل روح أب أو أم أو أخ أو عزيز من الراحلين, فإطعام طائر يعتبر برا بقريب أو عزيز من البشر.

ارتفعت الشمس في سماء يانجون فكأنما رُفعت موائد إفطار الطيور التي راحت تبتعد في الآفاق الخضراء البعيدة عند الضفة الأخرى, وصعدت إلى ذروة سطح السفينة أرقب النهر وأطل على العاصمة الميانمارية بنظرة صنعت شاعريتها صحبة النوارس, يا لعظمة النهر الرحيب, ويا لغرابة وضوح ظاهرة المد والجزر في نهر كبير كهذا. ينحسر الماء عن الكثير ويبقى في حوض النهر من الماء كثير. ويانجون هناك في المدى بحر من الخضرة الاستوائية تتناثر فيه البيوت الخفيضة ذات العليات المثلثة, وفوق ذلك كله يطفو برج جرسي الشكل يلمع في شمس البكور ببريق الذهب الخالص. وتستدعي شاعرية اللحظة انطباع شاعر عالمي كبير ـ وإن كان استعماريا بريطانيا قحا ـ هو روديارد كبلنج الذي كتب منذ أكثر من مائة عام, وتحديدا عام 1889, في كتابه "رسائل من الشرق" عن المنظر ذاته الذي كنت أطالعه من قمة السفينة:

"ويصعد في الأفق سامقا لغز من الذهب الخالص, فاتن يلمع في ضوء الشمس, ينهض على ربوة خضراء": يقول عنه مرافقي: إنه (شوى داجون) العتيق. لكن اللغز الذهبي يقول: بل بورما, وستعرف أنها مختلفة تماما عن أي أرض عرفتها من قبل". وأهبط من قمة السفينة إلى جوفها فالممشى المعلق الذي يوصلها بضفة النهر, فأرصفة الميناء الذي تتبدى ملامحه جليه في هذا الجزء الجنوبي الغربي من العاصمة الميانمارية, فسفن نقل البضائع تمخر مياه النهر حاملة أثقالها من خشب الساج الثمين, والأرز الذي تجود الأرض بأفضل أنواعه في العالم, وصنادل نقل الركاب المزدحمة التي تقل آلاف العمال النازحين من القرى إلى ضفاف النهر في الجانب الشرقي من العاصمة حيث تتكاثر الآن الضواحي الصناعية, وكأنها عناقيد الفطر يلد بعضها بعضا. وبين المراكب تنساب في نعومة وسرعة زوارق خفيفة مستطيلة يجذف ملاحوها وقوفا وهي منحوتة من جذع شجرة "التيك" التي يُعرف خشبها لدينا باسم خشب الساج, والذي تنتج منه ميانمار 08% من الإنتاج العالمي. وهو خشب يُسيل لعاب بارونات تجارة الأخشاب والموبيليات فوق الفاخرة في العالم, ويثير شجونا عربية نتبادلها على عشاء في ليل يانجون الناعم, دعانا إليه المستشار الدبلوماسي المصري فوزي العشماوي. فالعرب ليس لديهم تمثيل دبلوماسي في ميانمار غير السفارة المصرية, ولعل من أفضل توصيات الجامعة العربية تلك التي نادت بالإبقاء على السفارة المصرية كتمثيل دبلوماسي عربي في ميانمار.

عبد الناصر مرّ من هنا

بالقرب من فندقنا العائم وفي حي السفارات غربي البحيرات الملكية ذهبنا للقاء السفير العربي الوحيد في يانجون عبد الرحيم شلبي الذي لقينا بسببه ترحيبا جميلا من أحد مسئولي المطار, فالرجل حسن السمعة وجم النشاط ترك انطباعا طيبا عن العرب في هذا البلد. وهو لم يكن الأول, فسفير العرب الأول في ميانمار كان جمال عبدالناصر الذي مر بيانجون وهو في الطريق إلى باندونج وقابل آنذاك "أونو" أول رئيس وزراء وطني بعد الاستقلال مع شوين لاي الذي جاء عبر الحدود الشمالية لهذه البلاد مع الصين وطاروا ثلاثتهم إلى الهند للقاء الزعيم الهندي نهرو. وقد كانت ميانمار إحدى الدول الخمس المؤسسة لمنظمة عدم الانحياز, أو الحياد الإيجابي. وبرغم ابتعاد الزمان فلايزال المخضرمون في هذا البلد يذكرون عبدالناصر بمودة. ولقد أثار تمثاله النصفي الصغير ببهو السفارة العربية الوحيدة في ميانمار حنينا وامتنانا كبيرين في داخلي إذ رأيته هناك لايزال. حنين لرجل جاد, وامتنان لمجتهد كبير, وصلت خطواته إلى هذه الأصقاع البعيدة التي كنت أتصور أن أحدا غيري وغير ابن بطوطة لم يصل إليها.

لم يكن السفير موجودا, وكان يقوم بأعماله المستشار فوزي العشماوي الذي تدفق حديثه عارفا بفرط أهمية هذا البلد الذي يكاد العرب يسقطونه من ذاكرتهم برغم أنه كنز بكر يتسابق عليه العالم حتى الذين يدعون معارضته من القوى الدولية. تركز حديثنا حول الاقتصاد, واستمر مفعما بالنداء تلو النداء للعرب جميعا ألا يتركوا فرص الاستثمار في هذا البلد تفوتهم, للصالح العربي, وللصالح الإنساني, فليس بالغرب وحده يحيا الإنسان. وميانمار قادمة, برغم كل معوقات التنمية بها, لأنها سلة ثروات طبيعية نادرة في شرق آسيا. وليس بمستغرب إن كانت ميانمار المصدر الأول لأفضل أنواع الأرز في العالم, وهي لاتزال تنتجه مع الفواكه وقصب السكر, والسمسم, والتبغ, والجوت, والمطاط, كما تنتج الفحم الحجري والغاز الطبيعي والنفط والزنك والرصاص والتنجستين والفضة. أما الأحجار الكريمة فحدث ولا حرج. وحتى نأتي إليها لنتذاكر ما يمكن أن أسميه "الأخشاب الكريمة". لنفكر ـ نحن العرب ـ ولو في خشب ميانمار وحده, والساج أحد أنواعه, ودعنا من البخور الذي لا مثيل له فيكفينا منه قليل الشظايا. لماذا على سبيل المثال لا يستثمر المال العربي في صناعة أثاث مشتركة بمهارات حرفية عربية وخشب ميانماري وأبواب رزق تفتح لأبناء المسلمين هناك, وفائدة تعم الجميع, وحبل مودة يمتد بين العرب وبين هذا النمر الآسيوي القادم ضمن نمور منظمة شرق آسيا الآخذة في السطوع الاقتصادي المبهر تحت اسم "آسيان".

لقد أسرني خشب الساج حتى أنني طوال فترة الاستطلاع مكثت أدمن نقر الأبواب والأثاث حيثما توقعت وجود هذا الخشب البديع الراسخ. أما عصر اليوم الذي تغدينا فيه طعاما شبه صيني بتوابل هندية حارة في مطعم على شكل طائرين خرافيين عائمين بتلاصق فوق مياه البحيرة الملكية "كاراويك", فقد قادتني خطواتي المتوفزة بحرارة الطعام إلى مكان أسطوري على ضفاف البحيرة يسمى قصر "كانداواجي" وهو مكان يؤمه بارونات التجارة العالمية وبليونيرات السياح الغربيين, لكنه يسمح لخفاف الوزن أمثالي بنزوة احتساء فنجان من الشاي على أنغام أوركسترا صغير لعدد من العازفين على ربوة في ظلال الأشجار الكثيفة بحديقته المسماة "الحديقة الاستوائية", وهي استوائية فعلا, وخرافية أيضا, واستعمارية الفخامة بكل تأكيد, وأرجح أن روديارد كبلنج وسومرست موم وجورج أورويل وكل من لف لفهم في هذه البلاد, لابد زارها, فارتشفت الشاي منتشيا وأنا أغبط نفسي, وفي ثمالة الغبطة, وحيث لا أحد يعرفني, لم أستطع أن أكبح رغبة جارفة في خلع حذائي وجواربي لأستمتع بنشوة السير حافيا في ردهة ملكية أرضيتها من خشب الساج الثمين الثقيل الصقيل اللامع الذي يبعث في الأوصال بردا وسلاما.. ويشع ألقا!!

بوذا بالنيون

مما قيل عن هذا البلد, إنه "إذا كان معبد شويداجون هو روح عاصمتها فإن معبد سولي هو قلبها" ولعلي أضيف بعد التجربة: والطريق إلى معبدسولي يكشف عن أعماق وأحشاء وأوردة وشرايين يانجون. فالمنطقة التي مركزها المعبدهي بؤرة النشاط التجاري والاجتماعي والديني بالمدينة. فالإنجليز حين وضعوا نظام الشوارع ذي الطابع الفيكتوري في منتصف القرن 19 جعلوا المعبد مركز انطلاق هذه الشوارع. ولايزال المعبد المشرئبة أبراجه بارتفاع 48 مترا يهيمن على منطقة وسط البلد لايتجاوزه في الارتفاع أي مبنى آخر حتى فندق "تريدرز" شديد الحداثة والضخامة والفخامة واللغط المتكاثر حول مصادر أموال المساهمين فيه. والشوارع من حول المعبدـ مثمن الأضلاع ـ تتقاطع بزوايا قائمة, وهكذا يظل المعبد العائد بتاريخ بنائه إلى عام 230 قبل الميلاد عالياً في مربضه المكشوف من كل الاتجاهات فوق ربوة "سنجاتورا" ومجسداً لاسمه الذي يعني "الروح الحارسة" وهو روح حارسة لخليط من البوذية الملونة بقوة التأثيرات الهندية وطابع المعتقدات المحلية ذات الظلال السحرية والأسطورية. لهذا لايزال المعبدحتى اليوم مركزا لوجود المنجمين وقارئي الكف الذين أعطيت كفي لأحدهم ليقرأه دون أن أعرف منه شيئا فقد كنت مأخوذا بطرافة الصورة أكثر من انتباهي للغته الإنجليزية المهشمة التي لم أفهم منها كلمة واحدة. ومضيت أتأمل لغط الرصيف الدوار حول المعبدالذي يتزاحم فوقه بائعو العاديات والفواكه والزهور والتماثيل اللازمة للعبادة البوذية, والتي لم تخل من إضافات عصرية فبعضها مزود بدوائر كهربية تصنع هالة من النيون حول رأس بوذا.

إن الدوران في قلب يانجون, حول معبد سولي, يتيح "بانوراما" من الرؤية تكاد تمثل كل مكونات هذا البلد, فعبر التقاطعات تتقاطر الوجوه والملابس كاشفة عن التنوع العرقي الثري لشعوب ميانمار. ومن كل الزوايا تسمق صاعدة أبراج المعابد البوذية, ومنارات مساجد المسلمين الدقيقة, وأبراج الكاتدرائيات الإنجليكانية. ومن هذه الزوايا عينها نرى تدفقات البشر في حياتهم اليومية ذاهبين إلى دور السينما المثقلة بعواطف الأفلام الهندية ومغامرات أفلام "الأكشن" القادمة من الغرب, أو حاملين نذور الفواكه والزهور والأعلام الحمراء الصغيرة للمعابد, وهي ليست أعلاماً سياسية, بل هي أعلام يرشقونها في البطيخ المنذور والذي ينضده العجائز بحيث يكون في جانب والموز ومختلف الفواكه في جانب آخر. وطقوس الزيارة لمعبدسولي تستمر حتى الليل, والدوران حول المعبديكون دائماً في اتجاه عقارب الساعة. لقد اختلطت البوذية "الثيريفادا" بالعقائد المحلية القديمة وصارت سمة خاصة بثلثي شعب البلاد الذين تحس أنهم في حالة تعبددائمة. وبرغم رقة الحال إلا أن النذور لاتنقطع, والإفطار تصنعه ربات البيوت في الفجر ليخرج جزء منه في الصباح الباكر ليوضع في الأوعية التي يحملها الرهبان البوذيون المصطفون هنا وهناك في ملابسهم البرتقالية الداكنة أو التي بلون الزعفران وهو منظر أدهشنا مراراً عندما كنا نراه في الصباح الباكر. هذه الروح المحافظة لدى الأغلبية البوذية انعكست على الأقليات الدينية الأخرى بروح محافظة أيضاً. فالنسيج العام للميانماريين يمكن توصيفه بأنه ديني محافظ. ومن مدهشات معبد سولي أن طبقة الذهب التي كانت تغطي أبراجه قد تآكلت بفعل الأمطار الموسمية العنيفة على مدار السنين, لهذا يجري جمع تبرعات من كل أرجاء البلاد لإعادة كساء المعبد بالذهب, ولا أحد يتخلف عن التبرع الذي تورده نشرات التليفزيون الرسمي, ابتداء من قادة الحكم حتى رجل الشارع البسيط والفقير. فالبوذية الميانمارية لحمة وسداة الحياة المعيشة للناس, منذ الميلاد وحتى الموت. فبعد عيد التسمية المقام على خلفية بوذية ينمو الطفل, وفي الخامسة عادة مايذهب الأولاد إلى مدارس تابعة للمعابد تسمى "كيانج" وفي سن التاسعة يجري ترسيم الصبي للانتقال من مرحلة الطفولة إلى البلوغ عبر فترة من الرهبنة تستمر أسابيع أو شهوراً في احتفال ديني يسمى "شن بيو ". بينما البنات في هذه السن تثقب حلمات آذانهن ليستقبلن مع بركات الرهبان أول الأقراط في احتفال مماثل يسمى "نهتون". وتستمر مسيرة الولاء الديني عبر الزواج والإنجاب حتى الموت. فعندما يموت الميانماري البوذي توضع في فمه قطعة نقود معدنية لإعطائها (للمراكبي) الذي سيعبر به النهر في زورقه المقدس إلى الحياة التالية. وأقارب المتوفى ومعارفه يدعون لاحتفال في منزله حيث يعتقدون أن روح المتوفى تبقى معهم في هذا البيت أسبوعاً قبل أن تنتقل إلى مرحلة أخرى.

ومع حديث انتقال الأرواح الذي يثيره معبد سولي نمشي, وغير بعيد عن المعبد يفاجئنا بناء فيروزي من عدة طوابق تعلوه مئذنة دقيقة مزخرفة الشرفات, بذوق شبه القارة الهندية, إنه "مسجد جامع" أو المسجد الكبير في شارع ومنطقة "بوسن بات". وبينما رحنا ندور في المكان بحثا عن مدخل المسجد اكتشفنا أننا في منطقة كثافة مسلمة, شوارع مزدحمة, ووجوه سمراء أليفة. وقادنا بعض أبناء المنطقة لزيارة المسجد وفي طريق الصعود إلى بيت الصلاة في الطابق الثاني مررنا في زقاق طويل تفتح عليه أبواب الطابق تحت الأرضي من المبنى, وكان عمال نشطون يخرجون أوعية نحاسية "حلل" كبيرة جداً يجلونها بحمية, وعرفنا أنها أوعية إعداد طعام الإفطار الجماعي الذي يقدم في المكان طوال شهر رمضان الذي وقفنا على أبوابه الكريمة في هذا البلد البعيد. إنه الإسلام السمح الذي يتيح لك وأنت في أقاصي الدنيا أن تجد إخوة لك بمجرد أن تلقي بالتحية وكأنها كلمة السر العظيم والحميم: "السلام عليكم", فيتبدد الشعور بالغربة على الفور برغم اختلاف الألوان والملامح وبعض المدهشات, كتلك الأسماك الاستوائية الملونة التي كانت تسبح وادعة في شفافية حوض الوضوء الكبير المبطن بالقيشاني والمحاط بمقاعد مدورة من الرخام يقتعدها المتوضئون.

وعلى جناحي "السلام عليكم" تنقلنا في منطقة المسلمين حتى التقينا بعمدة المكان, رجل نحيف فارع باكستاني الملامح برغم أنه ميانماري تماماً في نحو السبعين عمراً, وفي غاية من النشاط, اسمه سليمان أحمد جنوال. دعانا إلى بيته في شارع "بوسن بات" وصعدنا درجاً نحيلاً قائماً حتى وصلنا لاهثين إلى الطابق الثاني المرتفع بينما الرجل يسبقنا نشيطاً, ودخل باب الدار المفتوح زاعقاً بصوت جهوري "السلام عليكم" فسمعنا صوت تراكض النساء يتوارين عن الأنظار. إنه طابع محافظ للمسلمين الراجعة جذورهم لشبه القارة الهندية. ويحدثنا الرجل بإنجليزية واضحة وصوت مليء, وبالعربية أحياناً. فنعرف أن الإسلام سبق البوذية في دخول ميانمار إذ وصل في أفئدة وسلوك التجار والبحارة المسلمين الذين قصدوا المكان في القرن السابع, أي قبل مجيء البوذية بسبعة قرون كاملة. كانوا يجيئون لشراء خشب "التيك" (الساج) الذي يصنعون منه مراكبهم وأبواب مدنهم ودورهم الكبيرة. عاد منهم من عاد, وبقي من بقى, وظل إشعاع الإسلام الذي تزود برافد آخر بعد سقوط مملكة يونان الصينية ومجيء المسلمين البانديز من الشمال.

المسلمون في ميانمار حوالي 15% من عدد السكان فهم نحو ستة ملايين مسلم. وفي العاصمة وحدها 120 مسجداً وثمة 12 ألف مدرسة ملحقة بالمساجد في كل أنحاء البلاد. وهم ـ باستقراء آراء من التقيتهم وهم شتى ـ لايريدون إعانات, بل يريدون المعرفة ومزيداً من فرص العمل عبر استثمار إسلامي في ميانمار.

أمضينا يوماً كاملاً بين المسلمين في العاصمة الميانمارية, وأكلنا على مائدة "العمدة" سليمان جنوال أطعمة طيبة حريفة المذاق, راق لي منها ذلك السمك النهري المعمول بالصلصة والمطهو في التنور.

أكلت حتى التخمة, وشربت شايا يسمونه "أسود" لأفيق, ولم أفق إلا على اكتشاف أن "العمدة" سليمان جنوال هو بالمهنة والأصل "جواهرجي" وخبير في الأحجار الكريمة, فتمنيت عليه أن يذهب بنا ليرينا الياقوت.. خاصة الياقوت.

أحجار كريمة وخشب عاطر

مضينا على الأقدام إلى أشهر أسواق يانجون أمام زوار العاصمة الميانمارية, واسمه الحالي "يوجيوك أونج سان" وكان سابقاً يسمى "سكوت ماركت" حاملاً اسم مؤسسه الإنجليزي. بناء كولونيالي الطراز ذو أروقة ومداخل عديدة تقود إلى سوق كبير مغطى تحتشد فيه كل أنواع البضائع التي يبحث عنها السائح والمقيم, من التوابل حتى الدراجات, ومن تماثيل خشب الصندل العاطر حتى لوحات "اللاك". ومن اليشب والياقوت إلى خشب البخور الذي يباع بأسعار الياقوت واليشب ولاتقع على صورته العتيقة إلا أعين المحظوظين. وكان لابد أن أزعم أنني سأشتري.. لأحدق في فصوص الأحجار الكريمة التي راح يقودنا إلى دواخلها "العمدة" سليمان جنوال, وكان خبيراً يقلب في فصوص المجوهرات مسلطا عليها شعاع ضوء من كشاف صغير يحمله, عارضا صفاتها, ومترجماً أسعارها التي يعرضها البائعون, "مع خصم خاص لأجل خاطر الرجل". وبرغم كل الخواطر, فإنه لم يخطر بالبال أبداً حلم أو وهم أن أقتني ولو أصغر قطعة مما أراه, فالياقوتة الحقيقية بحجم حبة رمان, وبحمرة لون الرمان القرنفلي وتلقى من الملك رداً للهدية 200 ياقوتة كانت تساوي آنذاك مايعادل مئات الآلاف من الدولارات "بأسعار القرن السادس عشر بالطبع". ذهب دي فاريتا الإيطالي, ومضت ثلاثة قرون, ثم جاء الإنجليز عام 1886, ووضعوا يدهم على شمال بورما التي ألحقوها بكبرى مستعمراتهم في الشرق, الهند, واحتلت إنجلترا مناجم المجوهرات وأعلنت نفسها صاحبة الحق الوحيد في الإتجار بها عبر شركة "ميسير ستريت" بلندن!

إنها قصة مكررة للسلوك الاستعماري, لها نهاية أولى مع نيل المستعمرات لاستقلالها, لكن ثمة بدايات أخرى, ذات فنون وشجون, أما فنون الأحجار الكريمة فهي بلا حدود, تحس ولا يدركها إلا الخبير, ولم أكن خبيرا بالطبع, لكنني خلال الحملقة في قلوب الياقوت الأرجوانية أصابني دوار ساحر كان دليلي الوحيد على أصالة الكنوز الميانمارية التي نلت حظ رؤيتها, مجرد رؤية.

عند بوابة معبد "شويداجون" الباذخة, بين الأسدين الأسطوريين المذهبين, قال لي الراهب العجوز في مئزره الأحمر الزعفراني وابتسامة خجول تتسع على وجهه النحيف المتغضن: "عفواً, لتخلع نعليك". وعندما خلعت حذائي أشار إلى جوربي وهو يقول بابتسامة أوسع وخجل أكبر: "وهذا أيضاً". عندئذ اكتشفت أن كل المتجهين للصعود نحو قمة الذهب يمشون حفاة. وأحسست بحرارة الرخام الذي تدفئه الشمس وبرودته في الداخل الظليل. حملت حذائي وجوربي في "كيس" من النايلون ومضيت أصعد مع الصاعدين نحو الضريح الذهبي الرابض على ارتفاع مائة متر متخذاً شكل جرس أسطوري ينكفىء على أسطورة ويكتنز ذهبا قيل عنه يوماً إنه أكثر من احتياطي الذهب في بنك إنجلترا, يوم كانت بريطانيا إمبراطورية استعمارية لاتغيب عتها الشمس, ومنها شمس هذا المكان. إنه معبدأو مزار "شويداجون" والذي يعتبر الصعود إلى قمته نوعاً من رحلة الحج عند البوذيين في ميانمار. واعتبره كثير من كتاب العالم صعودا باتجاه أعجوبة ومنهم سومرست موم الذي قال عنه: ويسمق "شويداجون" مهيبا, متألقا بذهبه الخالص, كرجاء حار في ظلمة ليل الروح التي كتبت المعجزة فيها شيئاً متلألئا يواجه ضباب ودخان المدينة المزدهرة".

إن باجودة أو معبد "شويداجون" هو مدينة دينية ذات أبراج الذهبية عددها أكثر من مائة يتربع وسطها وعلى قمتها الضريح المكسو بـ 8688 رقيقة من الذهب الخالص يقارب ثمن الواحدة منها 500 دولار, وترصع قمته بـ 5448 ماسة, و2317 ياقوتة, وثمة زمردة ضخمة في الوسط وضعت بحيث تلتقط أول شعاع للشمس المشرقة وآخر شعاع للشمس الغاربة. والشكل الجرسي نفسه يرتفع عشرة أمتار قائماً على سبعة أعمدة من الذهب الخالص مزينة بـ 1065 جرسا ذهبيا و240 جرسا فضيا.

كل هذا الذهب والأحجار الكريمة والفضة إنما يجلسون متربعين سكونا في وضع التأمل, لاتكاد تنم عنهم حركة إلا تمتمة شفاه تردد أدعية صامتة, وأنامل تعد حبات مسابح طويلة من خشب الصندل العاطر. ولاتكف الشموع عن الاشتعال نذورا, وكذلك انسكاب الماء المعطر على التماثيل المسماة صورة بوذا, بينما رائحة البخور القوية تحملها نسائم الهواء الدافىء برغم أن الوقت كان في يناير. وما أن نصل إلى نهاية الساحة حتى يبتدىء النزول بالتكرار نفسه: الرواق المغطى, والعتمة, ثم النور من جديد.

هذه العمارة, شأنها شأن كل التفاصيل التي وقفت عليها في رحاب شويداجون, الأجراس العملاقة التي تدق بأوتاد مطموسة حتى لايكون رنينها صاخباً, والرهبان في مآزرهم البرتقالية لصغار السن والقرمزية للكبار والوردية للنساء, وحلق شعر الرأس للمترهبنين من الرجال والنساء, وتقديم العطايا للرهبان باليدين كلتيهما, وتحاشي وطء ظلال الرهبان خاصة الرءوس التي لها منزلة كريمة, والدوران على اليسار دائما, والتحديق في نقطة متحركة تبعد دائما مترين عن قدمي السائر, والأضرحة المغلقة على ذاتها, وتناوب النور والعتمة والمشقة والراحة, إنما ذلك كله مجرد رموز مجسدة لفلسفة روحية يعتنقها البوذيون خاصة من اتباع "الثيرفادا" المحافظة في معظم بلدان شرق آسيا, فلسفة تقول إن "الدوكخا" أي المعاناة هي قدر الوجود الفاني, و"السامودايا" أو سبب المعاناة إنما يكمن في الرغبات والشهوات البشرية, و"النيروذا" أو كف الرغبات هي حالة الخلاص باتجاه الوجود الأمثل, أما الطريق إلى ذلك فهو "الماجا" ومعالمه: العيش الأخلاقي, وتأمل الوجود, لإدراك الحكمة. أما الأمر الأخطر فلسفيا فهو التدفق الدائم للروح بمعنى عدم ثباتها.

رموز, رموز, رموز, وأوضح تلك الرموز هي التي تكتنزها عمارة شويداجون, فالمدخل المضيء يمثل الميلاد, والرواق الصاعد والمتصاعد عتمة ومشقة إنما يمثل تقدم العمر والمرض والوهن, وباحة النور عند القمة هي الموت الذي يعلن عن ميلاد ثان, لتتكرر القصة, حتى الانعتاق.

ولقد صعدت وهبطت وتعبت, واكتشفت مجدداً أن الحياة حقا "دوكخا", وفي ذروة الدوكخا جلست حافياً على آخر عتبة من درج "شويداجون" وأمامي بحيرة وديعة, تنفست في النور بعد المشقة, ومنيت نفسي ـ بعد إتمام الرحلة التالية إلى لاوس ـ أن تكون هذه آخر رحلاتي الطويلة, فهل تغلبني "السامودايا"? أم تنتصر "النيروذا"? أم أن البشر سيظلون يشقون بما يحبون.. ولا حول ولاقوة إلا بالله.

 

 

محمد المخزنجي