الوقوف على شرفة المستقبل محمد الرميحي


حديث الشهر

من يقرأ صفحات التاريخ العربي متعمقًا فيها يستطع أن يخرج منها بمحصلة تكاد تكون شاملة، وإن وجدت بعض الاستثناءات، فتاريخنا مليء بالصراع، وهو صراع فرق وجماعات لا تجد (للآخر) مكانا بينها، فهي على حق دائما وغيرها على باطل دائما. ولعل المثل المشهور - الذي نتداوله - "أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب" يلخص مدى العصبية القبلية، ذات الحد الأقصى من المبالغة في الحب وفي الكره أيضًا. ونحن العرب المسلمين لا نختلف اليوم على أن تاريخنا الحديث يكاد يكون مستودعا للعصبية ولكنها عصبية جديدة. ونقتل الجماعات باسم الأقلية على اعتبار أننا "الفرقة الناجية" والآخرين في النار.. وينسحب ذلك على جميع المستويات وفي كل المجتمعات.


ونقتل الفرد أو الجماعة باسم نزعة معاصرة تروم الانقطاع عن تراثها وتراثنا، أو نقتلهم باسم نزعة سلفية لا ترى في الحداثة والتحديث إلا رجسًا من عمل الشيطان..

عدد كبير منا نحن العرب المسلمين اليوم (مهووسون) بالتطرف، وهو خطيئة ضحيتها شعوب يضيع حاضرها ومستقبلها، ويغلف ماضيها بالتزوير.

لماذا، وكيف يتفق الاثنان المتطرفان يمينا أو يسارا على الخطيئة، رغم تناقضهما؟ يقول المثل الإنجليزي في محاولة للإجابة "إن المغني هو المهم وليس الأغنية".

وبكلام آخر إن "التعصب" هو تعصب، سواء كان ضد فرد أو جماعة، أو مع فرد أو جماعة، فشروره واحدة ونتائجه سلبية، وهو بعيد كل البعد عن قيم الديمقراطية والحوار الحر، وهو نتاج لعمليات معقدة تاريخية واجتماعية وثقافية لا يمكن سبر أغوارها إلا بدراسة تاريخنا دراسة شمولية.

ساحر القبيلة

في كتيب صغير قرأته قبل أعوام أن الحاكم في الكرملين وقتها قرر أن يحارب نظام جنوب إفريقيا العنصري، وأن يساعد على قيام حركة تحرير في "ناميبيا" موالية له تدين بأيديولوجيته، فاستدعى مجموعة من المناضلين الأفارقة المنفيين من ناميبيا ودربهم على مدى سنتين على حرب العصابات، بعد أن طهرهم "أيديولوجيا" من الشعوذة والرومانسية والخرافات، ثم أعادهم إلى ناميبيا كي يعملوا على تشكيل نواة حركة تحرير تحمل السلاح في مواجهة النظام المستعمر والعنصري... وهكذا كان، ولكن بعد مرور ثلاث سنوات، لم يتمكن هؤلاء المناضلون من تشكيل نواة حركة التحرير المطلوبة، بل على العكس، لقد بدأت القبائل المحلية برفع السلاح ضدهم، لأن مطلبهم الأول كان "تصفية" ساحر القبيلة، باعتباره مشعوذًا ومعاديًا للاشتراكية العلمية، وقد اجتمعت القبائل وسحرتها ضدهم، وتركتهم خارج القرى وخارج إطار مجتمعهم، يصارعون في الغابات، لسعات الذباب والعقارب ووحوش الغاب... وليس الاستعمار العنصري.. إلى أن ضمروا.

ويضيف الكتيب أن الصينيين كانوا يتابعون التجربة بانتباه، واكتشفوا مكامن الخطأ في جماعة "التحريفية" السوفييتية، فاستدعوا بدورهم مجموعة من المناضلين المنفيين من "ناميبيا" وحولوهم للتدريب في مزارع الأرز، وحقنوهم بخلاصة "الكتاب الأحمر" ثم أعادوهم إلى بلادهم ليقودوا حركة تحرير شعبية على الطريقة الصينية....

ويقول الكتيب - ولا شك أنه من إنتاج صيني - إنه خلال أقل من عام تشكلت نواة حركة التحرير المطلوبة، والسبب الرئيسي لهذا النجاح هو أن "الدعاة الصينيين" عادوا إلى قبائلهم، وأول ما فعله هؤلاء الدعاة هو أن جندوا ساحر القبيلة، وعينوه قائدا، وأغدقوا عليه من عطاياهم، وصار بالتالي يتحدث إلى قومه بلغتهم وبالأفكار الجديدة والعصرية التي حقنه بها هؤلاء "الدعاة الحمر" من تصنيع ماوتسي تونج، وحققوا نجاحا باهرا...

لا نعرف على وجه الدقة (حقيقة) القصتين، ولكن الرمز واضح للعيان، ليست (الفكرة) أو (النظام) أو (الطريقة) هي المطلوب استجلابها من مجتمع إلى آخر، المطلوب هو استنبات (الفكرة) أو (النظام) أو (الطريقة) في المجتمع ذاته، متشبعة بكل عناصر المجتمع حتى يمكن أن يكتب لها النجاح. سواء أكانت تلك الفكرة نظام تسويق أم نظام حكم.

البلاغ رقم واحد

"البلاغ رقم واحد" يكاد يختصر تاريخ جيلنا، سمعناه يتردد من الجزائر إلى ليبيا إلى مصر إلى سورية والعراق واليمن والسودان. كان البلاغ رقم واحد يعدنا بالمعجزات، ولكن حرصا منه على النزعة العلمية السائدة فقد كان يسميها "حرق مراحل"، وكان مصيبا بالتأكيد، فقد كان يحرقنا جميعا وفي المراحل كلها، قبل أن يسقط أمام زحف بلاغ آخر، ومع هذه البلاغات المتناقضة تم تصنيف الدول والأنظمة والأشخاص، دول تقدمية اشتراكية قومية أو أممية، ودول رجعية متخلفة عميلة للاستعمار والإمبريالية. ولم نعدم تسميات أخرى من نوع الأنظمة الكومبرادورية... وقيل لنا إن الدول التقدمية سوف تطعم شعوبها لبنًا وخبزًا، وتؤمن لها المسكن الصحي، والملبس الناعم، والتعليم الحديث، والعلاج الناجع عبر الصناعات الثقيلة، وإذا لم تتوافر فعبر الزراعات الثقيلة (!) أما الدول الرجعية فإن السجون فيها سوف تمتلئ بينما أمعاء الشعوب سوف تبقى فارغة. أما تحرير فلسطين فليس بغير الكفاح المسلح، وبداية هذا الكفاح مفتوحة ليس أمام الفلسطينيين فحسب بل أمام العرب جميعا، وكل التقدميين في العالم... وهكذا نجحنا حتى في تجنيد الألوية الحمراء وبادر ما ينهوف، واختطفنا طائرات وقتل بعضنا بعضا من الوريد إلى الوريد بينما كانت مساحة الاحتلال تتسع.. ومثلها مساحة القتل والقمع والجوع.

وإذا عدنا إلى أدبيات البلاغ رقم واحد فسوف نكتشف أنها لم تترك مسألة كبرى أو صغرى لم تطرحها وتعد بها... من الدولة القومية الواحدة من المحيط إلى الخليج إلى المشروع الأممي الذي سوف يقبر الرأسمالية في جميع أنحاء العالم، إلى دولة الخلافة الإسلامية ورعاياها سوف يزيدون على مليار مسلم يواجهون الصليبيات الجديدة والجاهليات الحديثة و... ينتصرون عليهما، وها نحن أمام شعارات جديدة تستفيد من حرمان الجماهير وسخطهم بوعدهم بالجنة على الأرض.

الأغاني اختلفت، والشعارات تنوعت، أما المغني فقد بقي واحدا من اثنين: إما مغن يختصم مع الماضي دون أن يتصالح مع الحاضر أو المستقبل، وإما مغن يتصالح مع الماضي كي يختصم مع الحاضر والمستقبل... وفي الحالتين صارت الأغنية مثقلة ببكاء الشعوب وحسرتها.

"الواحدية" القاتلة

هل هي مصادفة أننا، ونحن على عتبات القرن الحادي والعشرين، مازلنا مشغولين بالأسئلة نفسها التي رفعها رواد عصر النهضة، وأننا بعد دورة قرن كامل، مازلنا نسمع الأسئلة التي طرحها الأفغاني وخير الدين التونسي ومحمد عبده والكواكبي، ومن بعدهم رشيد رضا وشكيب أرسلان وعبدالحميد بن باديس وحسن البنا، وعشرات غيرهم، دون أن نستطيع تقديم الإجابة، وأن تصنيفاتنا عن السلفية والقومية والليبرالية والماركسية عجزت عن أن تحدد موقعنا في عالم اليوم، والمستقبل الذي نريد؟

صحيح أن المفردات ازدادت تعقيدا ولكنها - وأخشى أن أقول ذلك - تكاد تكون قاصرة حتى عن تقديم الإجابات المبسطة التي طرحها رواد عصر النهضة. فأولئك، منذ الأفغاني، بل قبله، منذ رفاعة رافع الطهطاوي "في تخليص الإبريز" يطرحون الإجابات ببساطة، وهي بإيجاز شديد أنه لا بد لهذه الأمة من أن تخلع عنها رداء الجمود والبدع والخرافات، وأن تعود إلى نقاء الإسلام الأول، بفطرته وفاعليته وحيويته، وأن تأخذ بأسباب العلم والتقدم الصناعي، وأن تقيم صرح بنائها السياسي والاجتماعي على مبدأ الديمقراطية (الشورى) بمعناها وفلسفتها، لا بمبناها الشكلي، كي تتمكن من مواجهة تحديات العصر الكولونيالي في تلك الفترة، وهي تحديات كانت تبسط سلطانها على رقعتنا المديدة، وكانت المناطق تتساقط في يد الاحتلال واحدة إثر الأخرى، من الجزائر غربا حتى الخليج العربي وخليج البنغال (الهند) شرقا، وكانت الغربة التي تحكم شعوبنا في تلك الأيام، تجاه هذا العالم المتغير والعدواني لا تقل عن غربة شعوبنا في هذه الأيام، وسلوكنا تجاه العالم المعاصر المندفع اليوم بقوة إلى آفاق جديدة تكاد تجرفنا في طريقها دون أن نستطيع اختيار الاتجاه، ونتدحرج مع التيار نحاول التشبث بشيء - حتى لو كان الماضي - دون جدوى.

السبب في هذا العجز عن تقديم الإجابة على الأرض وفي الواقع - دعونا من النظريات - هو أن تيار التحديث، كما عايشه جيلنا في الأقل، وعلى مختلف اتجاهاته وتلاوينه، أخذ بمبدأ الحزب الواحد (الآن) وليذهب الآخرون إلى الجحيم، ومن ليس معي فهو بالتأكيد ضدي تحت أشكال مختلفة من الشعارات، كما أن التيار الذي يطلق عليه مصطلح "السلفي" أو "الأصولي" لا يقدم بدوره نقضا لهذه "الواحدية"، بل يعد بحكم الحزب الواحد على أساس التفويض الديني بالحكم، أي أن البيعة الأرضية المؤقتة (الديمقراطية) سوف تتحول إلى سماوية دائمة، إن تمت بمبايعة هذا الحزب أو ذاك، بها تسقط الشمولية بشكل وتخرج شمولية أخرى بشكل آخر! وهذه الواحدية الاستبدادية في التيارين، تتناقض بالتأكيد مع التراث الإسلامي الذي قام في صدر الإسلام على الشورى والمبايعة (انتخاب أو تصويت مباشر) كما تتناقض مع مؤسسات العصر الحديث الذي توصلت فيه شعوب كثيرة في أنحاء المعمورة إلى احترام تعدد الرأي وإلى التداول في السلطة عبر الانتخاب الحر.

والمشكلة الرئيسية في هذه "الواحدية" هي أنها تجعل من الإنسان وسيلتها وليس غايتها، فالحركات الأصولية مثلا تجعل من الدين - كما تراه - غاية في ذاته وليس وسيلة لإسعاد الإنسان. وتتجاهل أن الله غني عن العالمين، بينما الأشكال التحديثية أو العصرية الأخرى تجعل الحزب - أو الأيديولوجيا - هو الغاية، وفي الحالتين فإن الإنسان يغيب ويحرم من حرياته، أو بالتالي، فإن الأغنية قد تختلف ولكن المغني يبقى "واحدا".

تاريخ "اللحظة الراهنة"

عندما يتحول الإنسان إلى وسيلة تفقد المفردات مدلولاتها، وتقوم هوة كبيرة تفصل بين الواقع والنظرية وبين القول والفعل، ويختفي الجوهر ليبقى المظهر فارغا من أي مضمون، وهو ما يفسر بعض ما نشاهده من مظاهر التحديث التي تمنحنا وهم التقدم والانتماء إلى العصر، وهو وهم لا يكتفي بتدمير الحاضر والمستقبل، ولكنه يرتد على الماضي يريد اقتلاعه، بحيث تصبح "اللحظة الراهنة" هي الحقيقة الوحيدة التي تختصر الكون كله.

منذ منتصف القرن الحالي، ونتيجة لجهود مضنية وهائلة بذلها رواد عصر النهضة للدخول في العصر، عبر الكلمة الواعية، والصحافة التنويرية والعمل السياسي والاجتماعي المضني الذي كان يواجه عقبات كأداة تتمثل في الجمود والجبرية السلفية، وشيوع الطرق الصوفية القائمة على الدروشة وتقديس الشيخ بل وتحويله إلى شفيع وولي قادر على اجتراح المعجزات.. نتيجة لهذه الحركة التنويرية، قطعت بلداننا - وبخاصة منذ منتصف القرن الحالي - شوطا في مضمار التحديث ومحاولة الدخول في العصر، فأقامت دولا وطنية مستقلة، جهزتها بجيوش حديثة، تدريبا وتسليحا، وبنت مدارس وجامعات وأعدت مناهج تعليم عصرية، كما دخلت ميادين الصناعات التحويلية والثقيلة، وزادت اعتمادها على الآلة، وهي تحولات - رغم أنها لا تجاري مقارنة مع إنجازات الغرب - حققت مستوى معقولا من التقدم، إلا أنها كانت الخطوات الأولى التي لا بد منها للتعامل مع واقع يتغير يوما بعد يوم، وللتأثير فيه والمشاركة في صنعه.

ولكن هذا المشروع للتطوير والتحديث اقترن بنظريات سياسية وأيديولوجيات، مما أنتجه العقل البشري، وسعت كثير من الأمم إلى التماسه وتطبيقه باعتباره وسيلة لسعادة الإنسان وتطور المجتمع بجميع أفراده.

ولكن ما حدث في منطقتنا - في معظمها في الأقل - هو أن هذا التحديث مضى في إطار سياسي "واحدي" كان يشكل في جوهره، استمرارًا لقسرية عصور الانحطاط والتخلف التي حكمتنا وتحكمت فينا قرونا، وهي قسرية تجسدت في غلق باب الاجتهاد ووأد حركة العقل وفرض الصوت الواحد باعتباره صاحب الحقيقة المطلقة، الثابتة والخالدة وتقوقعت في أيديولوجيات مشوهة ومختنقة. سلاحها القهر والتصفية والتشويه، بل والاعتداء العسكري الغاشم. وترافقت هذه القسرية الحديثة المتنكرة مع محاولة إهمال - بل واقتلاع - لما في ماضينا وتراثنا من تنوع عقلي وغنى فكري وتسامح عقيدي، فبنت نظامها السياسي على أساس الاحتكار والأحادية، وأغلقت العين عن التكوين الفكري لشعوبنا المرتكز على التراث الإسلامي معتقدا وحضارة، فانفصلت بذلك عن التاريخ في قطيعة موحشة، وبينما فشلت هي في حركة التحديث وقدمتها مشوهة من دون مستقبل، نجحت في كثير من الأحيان في تضييع الهوية الحضارية المميزة لشعوبنا، وتوصلت بذلك إلى اختصار الماضي والمستقبل كله بتاريخ "اللحظة الراهنة"، وجعلت منها سجناً عظيما لنا جميعا. ماتت الأغنية ولكن.. بقي المغني (!).

الهروب من العقل إلى الذاكرة

يقول أحدهم: "عندما يتوقف العقل تعمل الذاكرة" هل هذا يفسر سيطرة "السلفية" على معظم حركات المعارضة في عالمنا العربي والإسلامي اليوم؟ الذاكرة هي ارتداد إلى الماضي ومحاولة هروب من أسر "اللحظة الراهنة"، وفي هذا السياق تبدو خياراً وحيدًا، فإذا كان النظام في "واحديته" المستبدة أقفل باب الاجتهاد وأوقف حركة العقل ذهابا إلى المستقبل وإيابا إلى الماضي، فإن حركة المعارضة سوف تتشكل على صورته ومثاله ومن جماهيره نفسها، هذه الجماهير السجينة قسراً في "اللحظة الراهنة".

وبالتالي وفي مواجهة لا عقلانية حديثة ترتدي "اليونيفورم" مرقعاً، تقوم لا عقلانية سلفية تكسر جدران اللحظة الراهنة وترتد إلى التاريخ، واعدة ببناء المستقبل على صورته ومثاله وربما بصورة أزهى، وما يجمع بين النظام والمعارضة هنا هو غياب "مشروع التنمية" بمعنى أنه خطة تقوم على الأرض وهدفها تحقيق سعادة البشر، فالتصنيع "الأيديولوجي" الذي قامت به الأنظمة الحديثة يواجهه "تصنيع ديني"، وفي الحالتين فإنهما يتعاملان مع الإنسان باعتباره وسيلة وليس غاية، فتحتل النظرية مكان الواقع وتقوم الكلمة مقام الفعل، وتغيب التنمية ومعها الإنسان.

إن حركة التحديث المشوهة دفعت بأكثر من بلد عربي غني وكثير الموارد - الجزائر نموذج واحد - في لجة أزمة مديونية تكاد تشهر هذه الدول إفلاسها نتيجة لها، وتدهور الإنتاج، وتكدس الناس في مدن تفتقر إلى شروط الحياة الكريمة، وخاصة مدن الصفيح التي أخذت تنبت بسرعة قياسية على حواف العواصم العربية، وتحولت دولنا الزراعية إلى مستورد للغذاء، وبات الحديث عن الأمن الغذائي العربي لازمة متكررة منذ ما يزيد على عقدين من الزمان، ورغم الجهود المضنية لبعض الدول في استصلاح الأراضي إلا أن التصحر هو السمة الغالبة، ونزوح سكان الريف إلى المدن الكبرى، بات ملازما لمظاهر "التحديث" من دون أن تتوافر في هذه المدن هياكل إنتاج صناعي وخدمي قادرة على استيعاب "النازحين"، فلا يجدون موقعًا لهم تحت الشمس، ولا يرون مخرجا - وقد سدت الطرق في وجوههم، وحكمتهم هموم الحياة اليومية بحرمانهم من أبسط حقوقهم في الغذاء والكساء والمسكن والدواء والمشاركة في السلطة وحق التعبير وإبداء الرأي - إلا أن يطرقوا أبواب المعارضة، وأن يستبدلوا بالعقل الذاكرة، وهم بهذا المعنى أبناء المعارضة والنظام معا... وإن اختلفت الأغنية (!).

الطبيب و... القرد

الطبيب "مانويل باتاريو" قدمه التلفزيون البريطاني على مدى ساعة كاملة باعتباره صاحب "اكتشاف العصر". الطبيب توصل إلى إيجاد مصل مضاد لمرض الملاريا. هذا المرض الذي يفتك في كل عام بحوالي 20 مليون إنسان في العالم الثالث بينهم مليونان من الأطفال، المدهش في هذا الطبيب أنه من كولومبيا، بلد المافيوزو والمخدرات، وأن رئيس جمهورية بلاده استقبله باعتباره بطلاً قوميا، يعمل في خدمة بلاده ورفض أن يغادرها رغم كثرة العروض السخية. تساءلت عن سر هذا الانتماء لدى الطبيب: الانتماء إلى العصر عبر الاكتشاف المذهل، وإلى البلد "المتخلف" في الوقت نفسه، والتمسك بهذا البلد. عثرت على الإجابة في عبارة قالها الطبيب: "لولا كولومبيا لما استطعت اكتشاف المصل، فقد نشأت وحولي الكثير من القرود، وكان هناك نوع معين يحمل مناعة طبيعية ضد الملاريا، كان القرد الواحد يكلف معهد تنمية الوقاية الذي أعمل به ثلاثة دولارات فقط، بينما يكلف القرد نفسه في أمريكا ثلاثة آلاف دولار. قلت هذا امتياز، وبدأت بالتجارب لأحصل على عنصر المناعة لدى هذا النوع من القردة، واكتشفته.. وقمت بتطعيم عشرات الألوف من الناس في البرازيل وفنزويلا وفي بلدي.. ونجح المصل".

هل نتعلم من حكاية الطبيب "مانويل" شيئا؟ نعم. إن النخبة التي يفترض أن تقود عندنا عملية الاكتشاف على طريق تحديث المجتمع تشاهد المرض حولها ولكنها لا تشاهد القرد، فهي إما أن تهرب إلى الغرب بحثا عن الدواء أو أن تهرب إلى الماضي بحثا عن عصا موسى تضرب بها فتقع المعجزة ويختفي المرض. إن الأيديولوجيا التي تهاوت في شرق أوربا وفي الاتحاد السوفييتي مازالت تجد لدينا أكثر من حصن.

والسبب هو أن أنظمة الحكم كما المعارضة، مازالت تلجأ إلى الأيديولوجيا باعتبارها "براءة ذمة" من كل النقائص والأمراض حولنا، فهي دعوة إما إلى الماضي، وإما إلى المستقبل غير المرئي، وهي في الحالين شهادة تزكية بأننا نسعى إلى تغيير الواقع وتطويره، ولكن ماذا عن القرد؟ إنه بالتأكيد أقل بشاعة من السلوك اليومي الذي تقوم به معظم الأنظمة وحركات المعارضة، وهو سلوك يكشف عن مواقف لا علاقة لها بالأيديولوجيا ويخجل منها حتى... القردة.

وعلى مدى قرنين من الزمن حاولنا كثيراً الاهتمام بالأغنية فازددنا بكاء وشقاء وقهرًا وجوعًا ومرضًا... اختصمنا مع الماضي دون أن نتصالح مع المستقبل، وقد آن لنا أن نهتم بالمغني... وبالإنسان فوق هذه الأرض، لأنه هو الذي يصنع الفرق.

المعركة

المعركة على أرضنا وفيما بيننا بل وفي نفوسنا. المجتمعات كلها تبحث عن السعادة على أرض الواقع، وليس تمنيا في الخيال. والواقع هو قضايا مادية ومعنوية تبدأ بنا نحن ولا تأتي من غيرنا. ومعركتنا معركة شاقة وطويلة لا يحلها (التعصب) من جهة، ولا الهروب من الواقع من جهة أخرى ولوم الآخرين على ما وصلنا إليه، ولن يحلها أن نطعم جماهيرنا شعارات جديدة براقة وغير عملية. فعامل الوقت ليس في صالحنا على الإطلاق. نحن مطالبون جميعا بأن ننظر إلى أنفسنا، إلى واقعنا، إلى تراثنا، ونزاوج بين إيجابيات ذاك التراث ومتطلبات العصر، تلك معركتنا ولن يخوضها لحسابنا أحد.. فهل نستطيع؟!