العدواني شاعراً أصيلاً جابر عصفور

أحمد مشاري العدواني (1923- 1990) أول الشعراء الكويتيين المعاصرين الذين جاوز صوتهم الشعري حدود الكويت الصغيرة إلى آفاق الأمة العربية الواسعة، وذلك لما انطوى عليه صوته الشعري من خصائص باعدت بين ملامحه الحادة المتميزة والملامح الباهتة الشاحبة لأصوات غيره، فهو صوت حملت مكوناته كل ما تطلع إليه إبداع وطنه من إسهام في الدائرة الكبرى للإبداع القومي.

لم يكن الشعور بالخسارة في فقده مقصورا على وطنه الكويت بل جاوزه إلى كل الأقطار العربية التي عرف قراؤها ومبدعوها إسهام العدواني في القصيدة الجديدة من ناحية، وجهوده في خدمة التواصل الثقافي بين أقطار الأمة العربية من ناحية ثانية.

والحق أن كلتا الناحيتين لا تنفصل عن الأخرى، فإسهام العدواني في الشعر هو الوجه الآخر لإسهامه في الثقافة القومية، وكلا الوجهين دلالة على وعيه القومي الذي ظهرت ترجمته العملية منذ أن أسهم في حلقات الحوار القومي منذ الأربعينيات، حين كان طالبا في الأزهر بالقاهرة (1939-1949)، ومنذ أن عمل في مجال- التعليم ثم الإعلام بالكويت، وحين أسهم بالكتابة في المجلات التي كانت قائمة والمجلات التي أسهم في إنشائها، وحين تولى الإشراف على سلسلة "من المسرح العالمي" التي صدرت عام 1969 ومجلة "عالم الفكر" التي صدرت عام 1970، ومنذ أن أسس سلسلة "عالم المعرفة" عام 1978 ومجلة "الثقافة العالمية" عام 1981، وغيرهما من إصدارات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في الكويت. وقد أصبح أمينا عاما لهذا المجلس منذ إنشائه عام 1979. وظل المجلس في عهده، ونرجو أن يظل كذلك، تجمعا قوميا للمثقفين العرب الذين يعملون على تطوير الثقافة العربية ووصلها بآفاق العصر المتقدمة.

بعيدًا عن الانغلاق

وعندما نتحدث عن الوعي القومي للعدواني، من حيث هو شاعر مبدع ومخطط للثقافة، فإننا لا نتحدث عن وعي مغلق، يربط صاحبه ربطا أحادي الجانب بحزب من الأحزاب، أو عاصمة من العواصم، أو شخصية من الشخصيات، فالوعي القومي للعدواني لم يعرف تقديس العاصمة العربية الواحدة أو الزعيم الأوحد أو الحزب القائد، بل كان وعيا منفتحا على العواصم كلها، ويفيد من إنجازات الأحزاب والتجمعات جميعها، وينفر كل النفور من غلبة صفة الأحادية على كل المستويات السياسية أو الاجتماعية أو الفكرية، ويؤمن بالحوار الذي يفتح أفق المستقبل، وبالإبداع الذي يتمرد على أباطرة كل العواصم وزعمائها الأشاوس، وبالثورة التي تغسل العفن المتسرب في شروخ الحاضر العربي كله. وما أكثر ما كان العدواني يشير إلى أن تخلف الأمة العربية يرجع إلى ما تنطوي عليه من عبادة للأوثان السياسية والاجتماعية والفكرية، وأنه لا تقدم ولا مستقبل للأمة العربية كلها ما ظلت عبادة الأوثان منسربة كالداء الذي لا برء منه ولقد قال:

مادام لنا وثن

في دولة الأوثان

فما لنا ثمن

ومالنا أوزان

وبقدر ما أسهم الوعي القومي المنفتح في تأسيس الملامح المتميزة لإبداع العدواني، فإنه خلف بصمته على هذا الإبداع شعورا حادا بالغربة. الغربة التي تفصل المبدع عن الحاضر المتردي لواقعه، والتي تنتهي إلى الإيمان بان حلم المستقبل لا يرفرف على هذا الحاضر إلا بواسطة "أجنحة العاصفة" التي تلقي ببذور التمرد على كل النفوس التي تعشق قيم الحرية والعدل والجمال في هذا الحاضر، والتي تعاني- بدورها- غربة لا تقل عن غربة المبدع نفسه، فتجتمع وإياه لا أرض الغربة التي أشار إليها هذا المقطع من شعر العدواني:

تسألني الغريبة عن دياري
وما علمت دياري أرض غربه
فقلت لها دياري حيث ألقى
غريب هوى يبادلني المحبه

الغربة والتمرد

هذه الغربة التي ينطقها المقطع السابق يرادفها شعور متمرد لا ينقطع، في كل شعر العدواني، منذ بداياته الأولى في أواخر الأربعينيات إلى نهاية الثمانينيات. وإذا كان هذا الشعور المتمرد هو الذي جعل من "أجنحة العاصفة" عنوان المجموعة الشعرية الوحيدة التي صدرت للعدواني في حياته (حين قام خالد سعود الزيد وسليمان الشطي بالإشراف على إعدادها وطبعها عام 1980) فإن هذا الشعور نفسه هو الذي يتفجر في القصائد اللافتة من هذه المجموعة، حيث يتحول الشاعر إلى مؤبن للعصور المنحدرة، وثائر على الوطن الذي تنحل أيامه في بالوعة الزمن، والذي يتحول إلى سفينة تائهة تعيش في مأساة الضياع في أضاليل الغيوم، أو يتجلى هذا الوطن في هيئة مدينة، في فلك مهجور، سكانها رعاع الدود، تعشش فيها عناكب الخراب، ويحلق الموت بها، وتغلق دون أهلها الأبواب، فهي "مدينة الأموات" التي سقوف شوارعها من الحجر الذي لا ينفذ من خلاله الضياء والهواء، وفي مثل هذه المدينة - الوطن، تتحول الأفكار إلى دجاجة والناس إلى قطيع، والسكين خلف الستار تلمع، والنيوب كالحراب تشرب، وترتدي الذئاب والخفافيش أقنعة الحداة والحجة. ولا يقتصر حضور "مدينة الأموات" هذه على أمة واحدة بل يمتد ليغدو دلالة على الحاضر العربي المتخلف كله، الحاضر الذي ظل العدواني يحلم بيوم تقدمه، والذي ظل يؤرقه بوصفه مدنا ممتدة متكثرة للأموات لا بد من تحويلها إلى مدن للحياة والأحياء. وما من سبيل إلى ذلك إلا بالتمرد على كل أشكال الموت في كل مدن الموتى التي نعيشها حضورا داخليا وخارجيا، ففي مثل هذه المدن ليس لنا سوى أمرين لا فكاك منهما:

أن نقلع الحياة من كياننا
ونختفي في غيهب القيود
أو أن
نثور ونعلن الحرب على الأموات

ومن أجل هذه الثورة، وفي مواجهة "مدينة الأموات"، انطلق شعر العدواني متسلحا بنبرة السخرية ومراوغة الرمز. السخرية التي تبرز المفارقة المأساوية التي يقوم عليها الحاضر، والتي ترسم أوصافها المنتقاة الابتسامة المرة على الشفاه، وتخاتل الأراقم التي لا يطاق لقاؤها فتنالها من خلف بأطراف البنان. السخرية التي نقرؤها في أوصاف هؤلاء الذين يركبون الطائرة إلى منازل السلف، ويخطبون الخلف عند المرأة العاقر. وهي السخرية التي تؤكد أننا نعيش في عصر الفكاهات، وأن الفكاهة التي تنطوي عليها السخرية، أو التي تنطوي هي على السخرية، سلاح في مواجهة هوان الحاضر، لكن إلى وقت معلوم، تنقلب فيه البسمة إلى غضبة، بالمعنى الذي تنطقه هذه الأسطر:

ابتسمي إذا رأيت أعرج الرجلين
يرقص فوق مسرح العميان
والصم والبكم تغني له
وحوله الأمساخ
تلعب بالدفوف والعيدان
فابتسمي على فكاهة للزمان
ابتسمي حتى يحين الجد
وعند ذاك فاغضبي
وحطمي
كل مشوه يفسق بالحياة.

والموازي لهذا النوع من السخرية في شعر العدواني هو الرمز الذي يتحول إلى وسيلة تشبه في فعلها وتأثيرها فعل الصفحة الصقيلة للدرع الذي واجه به بيرسيوس "الميدوزا" في الأساطير اليونانية، وذلك حين أجبر بيرسيوس الميدوزا علي أن تنظر إلى وجهها في صفحة الدرع الصقيلة. وقد يغدو الرمز في شعر العدواني مراوغا ساخرا، ماكرا في إثارته للابتسامة، إلى الدرجة التي نقرأ معها:

على جناح نمله
نام جبل
وسهرت غابه
وفي ضمير رمله
دمع همل فاغتسلت
سحابه

أو يغدو رمز العدواني قريبا من الرمز الصوفي في إشاراته، ولكن بعيدا عنه في أهدافه، وذلك من السياق الذي نقرأ فيه:

يا أنت يا من لا أسميها
تقاصرت قلائد الأسماء كلها
دون معانيها

وقد يتحول الرمز إلى "أمثولة" تستبدل بالمشار إليه في الواقع دالا عليه من دنيا الأمثولات، فنقرأ عن "حفار القبور"، و "سيد الربابنة" و "وضي المقابس".

وقد تتخلل الأمثولة القصيدة، تحتل مقطعا أو مقاطع منها، وقد تتحول القصيدة كلها إلى أمثولة، على نحو ما نقرأ في قصيدة "معزتنا العجفاء" التي نشرها العدواني في ديسمبر 1973 والتي تبدأ على هذا النحو:

معزتنا العجفاء تكره الناطور
تزعم أنه ذئب عقور
يلبس صورة الإنسان
فليبتعد إذن عن ساحة البستان
ويترك الأمر لها
تلعب بالبستان مثلما تشاء.

الحلم بالبطل المنتظر

وإذا كانت مشاكسة السخرية ومراوغة الرمز تشير إلى موضوعاتها على سبيل التلميح، فإن شعر العدواني كله يشير إلى أهدافه على سبيل التصريح، خصوصا حين تخاطب القصيدة شاعرها بقوله:

اضرب بجناحي نسر
في أفق الشعر
....
ستظل غريب الأبدية
ما دمت تغني للحرية

هذه المخاطبة تقرن بين "الغربة" و "النسر" في دلالة واحدة، هي دلالة الشاعر المغترب عن قومه وفيهم، والذي يظل حاله معهم حال النبي الذي ينكره ذووه. هذه الدلالة - بدورها - انسربت من المدرسة الرومانسية التي نضج العدواني في ظلها، منذ أن أخذ ينشر الشعر عام 1947 على وجه التحديد، حين كانت الرومانسية لا تزال هي الصوت الإبداعي الغالب على الأدب العربي في ذاك الزمان. ولقد اتصلت هذه الدلالة طوال عطاء العدواني، بعد أن احتجبت الرومانسية نفسها عن الأفق الشعري العربي، فظلت دلالة متجاوبة مع حركات المد المتعاقبة للمشروع القومي، حتى بعد انكساره، في صيغه التي تنبني حول شخصية الزعيم البطل - المنقذ المخلص. وبقدر ما انعكست هذه الصيغ على الشعر، بطرائق مباشرة وغير مباشرة، فإن بنيتها أكدت (في شعر جيل الخمسينيات الذي ينتمي إليه العدواني) حضور صورة الشاعر البطل المنقذ - المخلص الذي هو مجلى إبداعي يوازي مجلى الزعيم المتفرد، الذي تدور حوله صيغ المشروع القومي كلها. وهكذا، غدت صورة الشاعر البطل - المخلص المنقذ - في شعر جيل الخمسينيات، موازية لصورة القائد البطل - المنقذ المخلص التي تصاعدت مع المد القومي وظلت باقية لدى شعرائه حتى بعد انكسار المشروع نفسه في العام السابع والستين، فكانت الصورة الأولى انعكاسا للثانية، في الدلالة التي جعلت "الشاعر" وخلصا آخر أو منقذا موازيا لبطل الأمة المنتظر.

وإذا كانت الأصول الرومانسية لهذه الدلالة تصل إبداع الشعر بالألم والوحدة والعزلة عن الآخرين الذين نجافيهم لنعرفهم، ونلعنهم لنطهرهم، والتي تجعل الشاعر نقيض الأحياء الموتى التائهين في "مدينة الأموات"، فإن تجاوب هذه الأصول مع الصيغ السائدة من المشروع القومي جعلت العلاقة بين "أنا" الشاعر و "الآخرين" مجلى مغايرا للعلاقة بين الصوت الصارخ في البرية والقطيع الغارق في المعصية، وذلك على النحو الذي بدت معه "الأنا" الخاص بالشاعر نورا هاديا، أو طائرا يحمل علامة، وتجلت دائما وراء أقنعة الأبطال المنقذين.

العلاقة بين ذات الشاعر والآخرين

في هذا السياق يبدو معنى المنقذ - المخلص في قصيدة "خطاب إلى سيدنا نوح" لافتا، وتنطوي قصيدة "دعوة" على مغزى خاص للعلاقة بين "الأنا العليا " للشاعر الذي يخالفه أحباؤه الذين يخاطبهم خطاب الأنبياء، رمزا وإشارة. ولا تتباعد عن هذا المغزى قصيدة "وقفة على طلل" حيث نواجه المخلص - المنقذ الذي يزرع النور في حقل الظلام فيثور عليه. ومثلها قصيدة "من أغاني الرحيل" حيث يرتحل المخلص - المنقذ عن ذويه الذين أبوا عليه أن يقول كلمته التي يشرح فيها دعوته، فتركهم إلى ما هم فيه. ودلالة "السفر" و "الارتحال" المتكررة الرجع في قصائد العدواني ذات صلة وثيقة بهذا السياق إلى ما تحمله "أجنحة العاصفة" الواعدة للشاعر المخلص. إن "السفر"، في هذا السياق، ليس طلبا لبعد الدار حتى يقرب من فيها فحسب، بل هو مظهر للتمرد على من في الدار نفسها، وعلامة على بحث عما يوجد في دار أخرى يمكن أن تحمل وعدا بعاصفة ربيعية تهب على مدن الموتى.

لكن العلاقة بين "أنا" الشاعر المخلص و"ذوات" الآخرين الذين تسعى الأنا إلى خلاصهم ليست دائما علاقة الأعلى بالأدنى في شعر العدواني، فهي تتحول إلى علاقة بين مرايا متوازية أحيانا، وذلك بالمعنى الذي يجعل من الشاعر المخلص مرآة لقومه، تساعدهم على أن يروا ما في داخلهم. وإذا كانت رمزية المرآة التي تعلمها العدواني من الشعر الصوفي هي التي جعلته يقول:

حدقت في مرآة نفسي
فدار رأسي

فإن هذه الرمزية هي التي تقرن المرآة بدلالة اكتشاف النفس وتعرف ما فيها، وذلك حين تتسع النفس وتتحول من صيغة المفرد إلى الجمع، حيث الأهل الذين لا بد أن يتعرفوا عالمهم إذا نظروا في مرآتهم، كما يتعرف المخلص عالمه إذا طالع مرآته، فالعلاقة بين الطرفين علاقة متبادلة الوضع، بالمعنى الذي تنعكس به صورة المخلص على الآخرين. وعندئذ، قد يتعرفون مخلصهم بالمعنى الذي تنطقه خاتمة قصيدة "اعتراف":

يا أنتم يا أهلي
عودوا إلى أنفسكم
وحدقوا فيها
لعل من بين ظلالها ظلي
فأنتم يا أهلي واأسفا مثلى.

وأحسب أن هذا الجانب الذي تنطوي فيه صورة الشاعر على معنى المنقذ المخلص، والذي تنطوي فيه صورة المخلص على دلالة الغربة، وفي الوقت نفسه تتضمن القصيدة معنى المرآة المقترنة برمزية المعرفة الذاتية، أحسب أن هذا كله هو الذي جذب العدواني إلى التصوف، حين قارب التجربة الصوفية في قصائد لافتة من شعره، من مثل "مناجاة" و "إشارات" و"رؤيا حلم" و "ياليتها كانت معي"، و "شطحات على الطريق". ولكن هذه القصائد لا تنقلنا إلى عالم التصوف بمعناه المفارق للواقع المادي، ولا تدخلنا إلى قدس أقداس حلوله أو كشوفه، فقصائد العدواني تظل مرتبطة بالواقع المادي الذي يواجهه الشاعر في النهاية، وتظل قرينة نزوع عقلاني انتقادي لا يكف عن السخرية من ناحية ثانية، وتحافظ على العلاقات التي تتناص فيها بالواقعي المتعين لا المثالي المفارق من ناحية أخيرة. كل ما في الأمر أن هذه القصائد تستعير من التصوف بعض مفرداته الدالة، وبعض رموزه الأثيرة، وتقوم بتوظيف هذه المفردات وتلك الرموز في خدمة مجالها الخاص الذي تكشف عنه خاتمة قصيدة "رؤيا حلم" التي تنتهي بهذا المقطع:

قلت لها: أيتها الحورية
صمتي طبيعة لي
ألمح فيها راية الحرية
في ساعة التجلي
صمتي قضية
كنوزه الخفية
ما عرفت خزانة قبلي
ولو كشفت عن أشيائها السرية
قتلني أهلك أو أهلي

والمقطع لافت في دلالته التي تتباعد عن العالم الذي يقال فيه: "إذا اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة" إلى العالم المناقض الذي تتشح فيه العبارات المباشرة بأسمال الرمز حتى تقي نفسها من الشرور المادية الملموسة للعالم الواقعي تعيشه "مدينة الأموات". هذا العالم الواقعي المناقض بما يلازمه من تضاد هو ما تكشف عنه قصيدة "شطحات في الطريق" بوجه خاص، حيث نرى مفارقة التضاد التي تفصل هؤلاء الذين يزينون الليالي سيرة وعقيدة، وأولاء الذين غدوا دروعا للطغاة. إنه التآخي الذي يكشف عن طبيعة العالم الذي نعيشه مع العدواني فعلا، والذي نسعى إلى تغييره بأجنحة العاصفة. وعندما يرفع الشاعر ستار الأمثال عن هذا العالم، وتبرع "الحقيقة" الكامنة من وراء تمثيلات الرموز، تبدو "الحقيقة" في هيئة "الأمة" التي ينوشها شعر العدواني في أبياته:

من يملك الدينار يملك أمرها
فزمامها في خدمة الدينار
وتبيت تحفر قبرها وتظنه
قصرا وتكبر همة الحفار
وتهش للنجار يصنع مجدها
والنعش بعض صناعة النجار

الحلم القومي والحلم الإنساني

لنقل إن العدواني يفيد من التصوف ما يدعم به صورة الشاعر المنقذ - المخلص، ويعمق مفارقة التضاد التي ينطوي عليها الواقع الذي يواجهه، ومفارقة التضاد التي تباعد بين المنقذ - المخلص والواقع المتخلف في ان. وبمثل هذه الإفادة يتباعد العدواني عن الجانب السلبي للتصوف ويقترب من الجانب الإيجابي الذي أكده الشعراء المعاصرون من أمثال صلاح عبدالصبور وعبدالوهاب البياتي. وأحسب أن هذه الإشارة الأخيرة تعود بنا إلى بعض ما يميز العدواني الشاعر عن غيره من الشعراء الذين انغلقت على شعرهم حدود الكويت، فهو شاعر استبدل بالانغلاق الانفتاح، وبالخنوع التمرد، وبالمحافظة التجديد، وبأسر التقاليد آفاق التحديث. وكانت رحابة وعيه القومي قرينة اتساع أفق إبداعه الذي لم يكف عن الحوار مع كل التجارب الجديدة في الإبداع العربي، وذلك إلى الدرجة التي جعلت من شعره صورة للتغيرات التي طرأت على القصيدة العربية منذ نهاية الأربعينيات.

إن أهم ما يميز شعر العدواني أنه بالقدر الذي يغوص في أعماق واقعه الخاص، ليستخلص منه رموزه المميزة وأمثولاته الدالة، على النحو الذي يجعلنا نشعر بخصوصية معنى "الجمل" و "النخلة" و "الصحراء" أو نشعر أننا إزاء "صفحة من مذكرات بدوي" أو إزاء معنى خاص جدا لأمثولة "معزتنا العجفاء"، فإن هذا الشعر يستشرف الآفاق المتجددة للشعر العربي كله، ويصل الحلم القومي لهذا الشعر بالحلم الإنساني الذي ينطوي على معنى الانتقال من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية. ومن هنا انسرب في شعر العدواني هذا النوع من "التناص" الذي يكشف عن حوار دائم بينه وبين الإبداع العربي الموازي، وذلك بالمعنى الذي يصل قصيدة "الناسك وشكوى الشيطاني" و "ترجمة شيطان" للعقاد مثلا، أو يصل بين مفتتح "تأملات ذاتية" ومختتم "سفر ألف دال" لأمل دنقل، وذلك على سبيل المثال لا الحصر. ولا أقصد بالتناص المعنى السلبي للتأثر بل إلى تفاعل قصيدة العدواني وكل أشكال القصيدة العربية وأنواعها في المجال الخلاق للحوار وليس المجال السلبي للتكرار.

وإذا كان هذا الحوار هو الذي نقل شعر العدواني من وعي القبيلة التقليدية (الذي أغرق بعض معاصريه من شعراء الكويت) إلى وعي المدينة الحديثة، حيث الآفاق المتجددة للتحديث والتجريب، فإن هذا الحوار هو الذي جاوز بشعره قيود المحافظة بمعناها العرقي (الذي ينغلق على الشعر العربي وحده) إلى العوالم الرحبة للشعر العالمي. ولم يكن من قبيل المصادفة أن ينطلق العدواني من جدران "الأزهر" الذي أنهى دراسته فيه بالقاهرة عام 1949 ليدخل عوالم الإبداع العالمي عام 1950، فيستوحي قصيدة للشاعر الإنجليزي توماس هاردي، مؤسسا بذلك ملمحا ثابتا لم يفارق شعره قط، أعني ذلك الملمح الذي وصفه العدواني نفسه بقوله:

دياري فكرة كالنور تسري
وما احتبست على علم وتربه
تركت سواكن الأوطان خلفي
لمن ألف الحياة المستتبه
وسابقت الرياح بكل أفق
فلي والريح ميثاق وصحبه.