الجولان .. أرض عربية ما زالت أسيرة أنور الياسين تصوير: حسين لاري


الجولان .. أرض عربية ما زالت أسيرة

لو لم تكن دمشق لشقّ عليّ السفر .. ولو لم يكن الجولان لصعبت عليّ الكتابة، فلدمشق -أقدم مدن العالم وأعرقها حضارة- نكهة شديدة الخصوصية تمنح الزائر نفس الدهشة في كل عصر. وللجولان، إقليم البراكين والثلوج والعواصف ألقٌ يفضح عشق القمم للريح .. ألقٌ يصرخ بالعابرين أنهم عابرون ويحطّ بثقة ولا مبالاة على جباه أبنائه الشامخين.

طوال الوقت من المطار إلى المدينة كان المطر يغسل هذا البهاء اللا منتهي من الخضرة المستريحة على جانبي الطريق والتي كأنما ما زالت في الهيئة التي خلقها بها الله .. فتذكرت الوصف الشاعري والدقيق -بآن واحد- لهذه المدينة الخالدة، الذي كتبه الفنان الإنجليزي "ادوارد لير" في رسالته للسيدة وولد جريف منذ مائة وخمسة وثلاثين عاما:

"تخيلي ستة عشر عالما مليئا بالحدائق الغنّاء داخل شقة، ونهرا جميلا تترقرق مياهه وسطها، هذه هي دمشق التي أشاهدها".

ولا تترك كتب الأسفار الكثيرة التي خلفها لنا الأقدمون مجالا للشك بأن دمشق كانت كذلك على الدوام.

كتب القلقشندي "أحمد بن علي بن أحمد الفزاري" منذ ستمائة عام: "وغوطتها، أحد مستنزهات الدنيا العجيبة المفضلة على سائر مستنزهات الأرض وكذلك "الربوة" وهي كهف في فم واديها الغربي، عنده تنقسم مياهها" وقد ورد ذكر دمشق باسم "جلّق" بجيم مكسورة ولام مشددة مفتوحة في قصيدة لحسان بن ثابت يمدح فيها بني غسّان ملوك العرب بالشام:

لله درُّ عصابة نادمتهم

 

يوما بجلّقَ في الزمان الأول

وفي الروض المعطاء سميت "جيرون" وفي موضع آخر منه سميت "العذراء". وقيل إن الذي بناها "ذو القرنين" عند فراغه من السد (!) ووكل بعمارتها غلاما له اسمه دمشقش، فسكنها ومات فيها فسميت به، وهي مدينة عظيمة البناء، ذات سور شاهق ولها سبعة أبواب: باب كيسان، وباب شرقي، وباب توما، وباب الصغير، وباب الجابية، وباب الفراديس، والباب المسدود. ومما روي عن الحافظ بن عساكر عن أبي القاسم تمام بن محمد أن بانيها جعل كل باب من هذه لكوكب "من الكواكب السبعة وصور عليه صورته".

إذن.. استقبلتنا المدينة بالجمال والمطر الذي كان يهمي، فيغسل شوارعها، ساحاتها، شجرها وعقد الطرف الحديثة فيها والتي تبدو من الجو، لوحة فنية رائعة وسط طبيعة تنبض بالخضرة والحياة.

كنا كلما تقدمنا نحو قلب المدينة، غالبتني دهشة الزيارة الأولى، الدهشة من اكتشاف متجدد بأن هذه المدينة ليست حجارة.. ليست كتلا من الأسمنت والزجاج والحديد.. بل جسدا حيا، كبيرا ورقيقا، يتنفس، يخطو ويتعالى نحو قاسيون لتعانق روحه الشهب.

في الأيام التالية كانت دمشق تكافئنا على حبنا لها فتهدهد تعبنا، وتمسح برقة جبروتها وصبرها أحزاننا ونحن نرى مأساة "النازحين" الذين اقتلعهـم الاحتلال الصهيوني من ديارهم في الجولان.. أحزاننا ونحن بين حطام مدينة القنيطرة وأنقاضها، أحزاننا ونحن نصغي إلى النداءات الجريحة، لكن الثائرة لعشرين ألفا من المواطنين العرب السوريين في مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا وعين قنية والفجر، يحاول الاحتلال احتواءهم- دون جدوى في محيط متنام من المستوطنات والقرارات الجائرة، خرقا لكل الأعراف والمواثيق الدولية.

ودمشق في التاريخ ليست المدينة وحسب.. فمنذ القدم اعتبرت "جندا" من أجناد الشام (الشام هي الاسم العربي لسوريا عند الجغرافيين العرب) وقاعدة أولى لها، تتبعه "جملتان": الجملة الأولى في حاضرتها والثانية في نواحيها وأعمالها وما يدخل تحت حكم الولايات.

جبل الثلج

ومن أعمال "دمشق" في الصفقة القبلية عمل "بانياس" وهي "مدينة من جند دمشق، على مرحلة ونصف منها من جهة الغرب بميلة إلى الجنوب، قال في العزيزي: "وهي في لحف جبل الثلج، وهو مطل عليها والثلج على رأسه كالعمامة، لا يعدم منه شتاء ولا صيفا" وقال في "مسالك الأبصار": "وهي مدينة الجولان وبها قلعة الصبيبة، من أجل القلاع وامنعها"!

ومن أعمال دمشق أيضا عمل "الشعرا" وهي عن بانياس المتقدمة الذكر شرق بجنوب وطوله ما بين بانياس إلى جبل الثلج (حرمون). والولاية تكون تارة بقرية (حان) وتارة بقرية (القنيطرة)- تصغير قنطرة.

أشياء كثيرة تغيرت منذ كتب القلقشندي كتابه ... لكن الجولان ظل عربي الوجه واللسان برغم موجات الغزاة الذين عبروه كغمام صيف!

جاء الصليبيون... ومضوا، كما مضى قبلهم الرومان والعبرانيون و... وسيمضي هؤلاء المحتلون كما مضى الذين من قبلهم.

لم تعد "القنيطرة" قرية. فقد أصبحت مركزا إداريا مستقلا (محافظة) بعد ضم منطقتي (فيق) و"القنيطرة" في الجمهورية العربية السورية التي نالت استقلالها عن الاستعمار الفرنسي في 17 إبريل "نيسان" 1946 إثر ثورات دامية، كان أهمها الحرب الوطنية التحررية- كما يسميها المؤرخ الروسي "الوتسكي" في كتاب بنفس العنوان- والتي انطلقت من جبل الدروز أو ما يعرف بجبل العرب، باسم الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان باشا الأطرش عام 1925 وشارك فيها كل الوطنيين السوريين.

وامتدت العمليات العسكرية للثوار إلى الجولان حيث شكلت طبيعته وعمق الانتماء العربي والوطني لأهله غطاء للثورة ضد المحتلين الفرنسيين فكان الثائرون يتنقلون مهاجمين وفق أرقى نظريات التكتيك العسكري الحديث من "القريا" في جبل العرب حتى "راشيا" اللبنانية مرورا بمجدل شمس ومسعدة وغيرهما من مناطق الجولان.

وعلى أرض الجولان أريق من أجل سوريا واستقلالها دم كثير.. واستشهد هناك أحمد مريود.

وعلى مر التاريخ كان الجولان خط الدفاع الأول عن دمشق فقد لعبت قلعة بانياس أثناء الحروب الصليبية دور الدرع الواقي لهذه المدينة العريقة ولم تسقط بيد الصليبيين إلا أثناء الحرب الطائفية ضد الإسماعيليين 1127- 1132 وكانوا حماة القلعة آنذاك.

والجولان عربي أصيل، وإذ ورد اللفظ في مادة (جول) فقد ذكر ابن منظور أن (الأجول) هو جبل ومثله (الجول) و(جولي) و(الجولان).

ومنذ العصر الجاهلي ورد ذكره في أشعار العرب سواء مرتبط بدمشق أو دونها ومن ذلك قول الراعي النميري:

روين ببحر من أمية دويه

 

دمشق وأنهار لهن عجيج

أنحن لجوارين في مشمخرة

 

بنيت، ضباب فوقها وثلوج

كذا (حارث الجولان) يبرق دونه

 

دساكر في أطرافهن بروج

وقول النابغة الذبياني:

بكى حارث الجولان من فقد ربه

 

وحوران منه موحش متضائل

طبرية التي حررها صلاح الدين

في مطلع القرن الثاني عشر كانت طبرية أهم مدن أطراف الجولان وقد تعرضت لاحتلال الصليبيين هي والمنطقة الممتدة حتى " فيق" أو "الزوّية" إلى أن حررها صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين الشهيرة.

ومن النافل الحديث عن العلاقة المميزة بين الجولان ودمشق. فهو إكليل غارها ودرعهـا الحصين منذ فجر التاريخ ويورد الأصفهاني وابن خلدون والمسعودي أخبار المعارك الكبيرة التي خاضها الأراميون ضد العبرانيين القدامى دفاعا عن منطقة الجولان وقهرهم نهائيا بطردهم بين عامي 879- 842 ق. م. وفي لقاء مع مثقفين من الجولان أوضحوا أن الجولان أصبح أول ولاية عربية في العهد الروماني البيزنطي يديرها الغساسنة العرب الذين تصدرا بدورهم لهجمات العبرانيين عليها وتمكنوا من دحرهم والانتصار عليهم بقيادة القائد الغساني (عبّاد).

وعلى أرض الجولان أيضا حقق العجب المسلمون نصرهم التاريخي ضد جيوش هرقل الروم في معركة اليرموك سنة 636 م وعرفت بـ "يوم الواقوصة".

لا يحتاج المراقب إلى كثير عناء ليدرك أنه من الجولان تبدأ الحروب ومنه ينطلق السلام فهو عقدة مواصلات مهمة بين دمشق لبنان وفلسطين؟ وشرقي الأردن.

إضافة إلى أن هذه المرتفعات المبركنة والمليئة بالتشققات تعد مصدر حياة لأطرافها، فهـي تمنحها عبر الأودية التي يعزى منشؤها إلى تشققات عرضانية في الركيزة السورية (وادي اليرموك وبعض الأودية العمودية على وادي الأردن) كمية هائلة من مياه الهطولات السنوية التي تزيد في أقل ارتفاع عن سطح البحر منها على أربعمائة متر مكعب.

وينحدر الجولان من الشمال نحو الجنوب فـ (بيت جن) ترتفع عن سطح البحر 1150 مترا فيما تهبط القنيطرة إلى 935 مترا وتتبعها الخشنين إلى 700 متر بينما يبلغ ارتفاع فيق آخر قضاء في الجولان من الجنوب 330 مترا.

أما مدينة القنيطرة- عاصمة الجولان- فهي تقع في سهل، سطحه الطوبوغرافي أفقي تماما، تشكل من لحقيات بركانية قذفتها فوهتا تلي "أبو الندى" و"العرام" البركانيتان لتغمر بحيرة كانت إلى الشرق منهما.

وتلعب الينابيع الغزيرة المعلقة في شرقي المدينة دورا مهما في تغذية ودي الرقاد الأعلى. الذي يصب مياهه في نهر اليرموك فيقوم هذا بدوره بصبها في نهر الأردن وبهذه الصورة تماما يهب الجولان كل مياهه للأودية التي تنحدر من السفح الغربي كما يذهب مخزون جبل حرمون (الشيخ) من المياه في شكل ينابيع تغذي أنهار: بانياس، والجولان، والحاصباني التي تشكل نهر الأردن.

وسكان الجولان الأصليون عرب، من قبائل غسان والأزد ومنهم من قبيلة لخم من اليمن تسربوا من الجزيرة العربية قبل الإسلام بقرون، أما الذين ينتمون منهم إلى قبيلة "طي" فقد استوطنوا الجولان بعد الإسلام.

وقد حافظ هؤلاء وهم الأغلبية العظمى على لغة عربية صافية ليس فيها أي تأثير غريب خاصة أن غير العرب الذين تسربوا فيما بعد إلى الجولان بفعل عوامل سياسية، وفي فترات مختلفة مالوا إلى حياة منعزلة في البداية لكن المصالحة المشتركة وتفاعلات التموضع والشروط الطبيعية والتعريب السريع والعميق ذوبت كثيرا من التباينات لصالح الأكثرية العربية سواء في اللغة أو في اللباس أو في العادات والتقاليد.

لكن العامل الذي لعب الدور الحاسم في تحويل الموزاييك العرقي (أكثرية عربية وشراكسة وتركمان وأكراد وسود ذوو أصول أفريقانية) إلى موزاييك اجتماعي هو ظهور الحركات الوطنية لتوحيد الجهود وتحسين العلاقات بين مختلف فئات الشعب السوري وفي الجولان بشكل خاص.

لقد حاول الاستعمار الفرنسي ترسيخ أسطورة أخلاقية مفادها "إذا كان الشعب السوري على هذا القدر من عدم التجانس فعلى فرنسا بموجب الحقوق والواجبات الملقاة على عاتقها منذ قرون ألا تتيح الفرصة للأجناس والطوائف المختلفة لتنقض على بعضها، ومن مظاهر توظيف هذه المقولة استغلال المحتلين الفرنسيين لبعض الجراكسة بإحياء الأحقاد القديمة وتحريكهم لمضايقة الدروز في "الحرمون" وحتى في جبل الدروز الذي أعلن الثورة وخسرت فرنسا على صخوره خيرة جيوشها وقادتها.

لكن ومنذ الصدام المسلحة في القنيطرة في 9 سبتمبر (أيلود) 1936 بت شراكسة مؤيدين للعروبة وشراكسة آخرين مؤيدين للانتداب في الوقت الذي تولى فيه الوطنيون حكم سوريا "جرى تغير حاسم في الاتجاه العام للمجتمع الشركسي وموقفه من القضية الوطنية" كما يقول الدكتور أديب باغ في كتابه "الجولان"، فانتصرت العروبة نهائيا في صفوف ذلك المجتمع وانضوى تحت لوائها بطيب خاطر.

وباستقلال سوريا وانتشار التعليم وبروز الصراع الصهيوني كان الشعور القومي المشترك يتنامى في منطقة ليست مجاورة للعدو فحسب بل وله فيها أطماع كبيرة.

عن هذه الأطماع تحدث الدبلوماسي المخضرم الذي عمل مع إدارات أمريكية عدة وشغل منصب سفير الولايات المتحدة في المملكة العربية السعودية "جيمس ايتكن" فروى القصة الحقيقية لاحتلال الجولان وفضح النوايا الصهـيونية المبيتة والمعتمدة على تضليل الرأي العام وخداعه بتصوير (إسرائيل" حملا بين ذئاب فقال: أشاعت إسرائيل دوما أنها بلد مسالم بين دول عربية تحاصرها وتريد الانقضاض عليها ورمي مواطنيها في البحر وهذا غير صحيح إذ تظهر الوثائق ونتائج التحقيق التي، كانت تجرى إثر قيام المنازعات العسكرية بين إسرائيل وجيرانها قبل سنة 1967 أنها كانت هي المعتدية دوما. وفي عام 7 6 19 وإثر الاستفزازات الإسرائيلية اجتاح المنطقة توتر شدة د فلجأ عبدالناصر إلى تحريك قواته في سيناء وتحدث عن إغلاق مضائق تيران ولكنه لم يفعل.

ويتابع السفير إيتكن: سرعان ما شنت "إسرائيل"، هجومها فدمرت بصورة مفاجئة السلاح الجوي المصري كله تقريبا".

ولأن الأردن كان يرتبط بمعاهدة دفاع مشترك مع مصر آنذاك فقد اضطر لدخول الحرب وهذا ما كانت "إسرائيل" تطمح إليه، حيث تمكنت بعد دخول الأردن الحرب من التوغل في ما تبقي من فلسطين.

وجرى احتلال القدس والضفة الغربية وغزة وكل سيناء.

لكن سوريا ظلت خارج الحرب (يؤكد ايتكن) ولم تكن إسرائيل لتتركها وشانها فهي تضمر للسوريين حقدا دفينا لأنهم مناضلون أشداء يدافعون عن القومية العربية. إضافة إلى أنها تنظر إلى الجولان بعين الجشع فهي تطل على الجليل.

ويتابع السفير ساخرا: "لقد أوهموا العالم أن (وحوشا سورية) تختبئ في الجولان وتهدد حياة المستوطنين الآمنين في الجليل".

إسرائيل ونظرتها للجولان

ومن وجهة النظر العنصرية الصهـيونية فإن الجولان أرض لا بد منها فهو، جزء لا يتجزأ من أرض إسرائيل الكبرى، من جهة ومن جهة ثانية فإن إشرافها على معظم الأراضي السورية من الجهة الشرقية والفلسطينية من الجهة الغربية (ارتفاع حرمون 2814 م) يعطيها قيمة استراتيجية استثنائية. وليس أدل على تلك القيمة الاستراتيجية من اضطرار الولايات المتحدة لشحن معدات وأسلحة الوحدات العسكرية الأمريكية المرابطة في ألمانيا إلى مناطق القتال عام 1973 لنجدة إسرائيل عندما أطبق الجيشان السوري والمصري عليها بهدف تحرير الأراضي العربية المحتلة.

ويميل السفير "ايتكن" إلى ما يعتقده العرب من أنهم لو كانوا يحاربون ة "إسرائيل" بمفردها لكانوا استعادوا أراضيهم المحتلة وحققوا أهدافهم.

من جانبها أقامت إسرائيل وجهزت على قمة جبل الشيخ مرصدا ضخما اعتبرته "عينها" ليس على سوريا فقط بل على المنطقة برمتهـا.

هنا على صدوركم ... باقون

في عام "1967" كان عدد سكان الجولان قد بلغ (154) ألف نسمة توزعوا على مساحته البالغة (1860) كم2 وفي حين تجمع في مركز القنيطرة (54) ألفا من السكان فإن المائة ألف الآخرين توزعوا على ما يقارب (310) مراكز عمرانية.

وفى نهاية عدوان الخامس من يونيو (حزيران) من نفس العام كان قد وقع تحت الاحتلال (1150) كم2 فيها (150) بلدة وقرية و(90) مزرعة، وقام المحتلون بتشريد (140) ألف نسمة بإرغامهم على مغادرة قراهم نازحين إلى قرى ومدن محافظتي درعا ودمشق مخلفين وراءهم منازلهم وذكرياتهم وقبور الأجداد.

لكن أهالي قرى (مجدل شمس- مسعدة - عين قنية- الفجر) لم يغادروا قراهم ومثلما تمسكوا بأرضهم تمسكوا بانتمائهم العربي السوري بطريقة بطولية كانت تتعمق وتتجذر كلما ازدادت محاولات المحتلين عنفا إلى أن بلغت في النهاية درجة العقيدة لإفشال محاولات الاصطياد الإسرائيلية في مياه الطائفية العكرة.

"العربي" التقت بعض الذين نزحوا وزارت المناطق التي يسكنونها في محاولة للوقوف على أوضاعهم وأحلامهم بعد ثمانية وعشرين عاما على انتزاعهم من أرضهم وبعد حربين وثلاث سنوات من "السلام" لم توفق في إعادتهم وإحقاق حقوقهم.

* نرجو أن تعرف قراء "العربي" بك، وبالمكان الذي نحن فيه الآن ومن أي مكان أنت في الأصل، وتعطينا لمحة عن السكن هنا؟

- أنا خليل أسعد من محافظة القنيطرة مواليد 1955، من قرية اسمهـا (الممصية) جنوب القنيطرة. بعد النزوح سكنا في البداية في مخيم دوما للنازحين- المخيم مشكلته مشكلة!!- لذلك انتقلنا إلى هنا يعد أن أعطتنا الدولة هذه البيوت. أنا اسكن في غرفتين وجاري بجواري يسكن في غرفتين. وكل منا يستعمل الغرفة الأولى للنوم والثانية كمطبخ!!

*ماذا تعمل يا خليل؟

- كنت أعمل عسكريا وأصبت بمرض في. ظهري فسرُحت.

* ما هذه المساكن؟

- إنها مساكن برزة- تجمعات النازحين- هنا يوجد ست عشرة بناية وهناك بنايات أخرى تسمى البنايات العمالية... في الشقة الواحدة قد توجد ثلاث عائلات... فيما يتعلق بالخدمات، نحن ندفع رسوم الكهرباء والماء لكن السكن مجاني.

* في أي عام خرجتم من الجولان؟

- في العام 1967. قريتنا تبعد عن القنيطرة (15) كيلو مترا.. وقد خرج منها كل الناس عندما دخل الجيش الإسرائيلي كيف لا يخرجون وقد شاهدت بأم عيني الإسرائيليين يقتلون من يمسكون به بعد تعذيبه؟ كان نزوحنا في البداية إلى حوران ثم بعد ذلك إلى المخيمات حيث قدمت الدولة كل ما تستطيع.

وعن تشتت شمل العائلة قال خليل:

صحيح أن لي أخا يسكن معي في الدور الأول ولكن أقربائي وجيراني توزعوا على تجمعات مختلفة بل ومدن مختلفة. لي منهم في درعا ولى منهم في حمص.

* هل تقوم الدولة بمنحكم مساعدات مالية؟

- الدولة تعطى كبار السن (رواتب عجزة) وهي بمثابة إعانة. أما الشباب فعليهم أن يعملوا لأنهم يستطيعون.

نزلنا الدرج.... في الشارع تلفت حولي، كان كل شيء يوحي بالكآبة والانتظار سوى عيون الأطفال التي يمتزج فيها الفرح بالتحدي والبؤس بقوة الحياة.

***

* أتعرف قراءنا بك من فضلك؟

- حسن جاسم. (32) عاما من القنيطرة.

* في أي عام نزحت؟

- في العام 1967 منذ ذلك العام لم يعد أحد إلى هـناك. عندما نستعيد أرضنا سوف نعود إليها. هناك بيتي وحقلي الذي سوف أقوم بزراعته. أنا متأكد من أننا سنعود سواء بالسلم أو بالحرب فما مات حق وراءه مطالب.

* وأنتم ماذا تريدون بالضبط؟

- نريد حقنا. نريد أن نعود إلى أرضنا وبيوتنا.

* يعني تريدون سلاما مع إسرائيل؟

- نحن نريد حقنا. ومن ناحية السلام فهذا أمر يعود للقيادة.

* لو وقع الصلح مع إسرائيل وعادت إليك أرضك وجاء "إسرائيلي"، هل تستقبله؟

- لا. لأنه لا يوجد بيت في القرية إلا وقدم شهيدا. هذا غير ممكن.

* هل ممكن أن تزور إسرائيل؟

- أبدا.

* هل كل الناس هنا كذلك؟

- أنا أتحدث عن نفسي. صحيح أن ديننا دين تسامح ولكننا لا نأمنهم لقد شاهدت وحشيتهم بعيني.

هذه الجراح الحارة مازالت تنتضي دمها من الأعوام العتيقة والكالحة، من عذابات الطفولة البريئة على مدى القتلة... ومن الرئة الأخيرة التي يطبق عليها ليل الاحتلال.

ولا يبدو في عيون السوريين أو في عقولهم أن السلام قاب قوسين أو أدنى منهم، يرون بالعين المجردة ما يجرى في فلسطين المحتلة ويرون مناورات الالتفاف على الشرعية الدولية وقراراتها. بشأن أراضيهم المحتلة، ويتعاملون معها بصبر لكن بوضوح فهم "ليسوا في عجلة من أمرهم"

اجتذبتنا رائحة المعاناة فتوجهنا نحو بلدة "البطيحة" في ريف دمشق والتابعة إداريا لمحافظة القنيطرة والتقينا الأستاذ (صاتي طعمة الأحمدي) رئيس مجلس البلدة الذي أوضح لنا أن كل بلدة يكون عدد سكانها ما بين عشرة آلاف وعشرين ألف نسمة ينتخب فيها مجلس بلدي كل أربع سنوات يقوم خلالها بتقديم الخدمات للمواطنين ومن بين أعضاء المجلس يعين الوزير رئيسا، لأن رئاسة المجلس لا يلزمها ترشيح.

* وكم عدد سكان البطيحة؟

- العدد في حدود عشرين ألف نسمة، معظمهم من الجولان المحتل، وهناك قسم من بعض المحافظات الشمالية (!)

* ماذا يفعلون هنا؟

- يشتغلون في المعامل الموجودة حوالينا.

* ماذا تقدم الدولة لهؤلاء؟

- أولا فرصة العمل. وثانيا الخدمات الأساسية كالتعليم والرعاية الصحية مجانا والخبز ومياه، الشرب والكهرباء.. برسوم رمزية. كما نقوم كمجلس بلدي بتعبيد الشوارع وتزفيتها. وإنارتها....

* كيف تتعاملون مع موضوع السكن بالنسبة للنازحين؟

- أقام النازحون بداية في خيام، ثم قامت الدولة ببناء هذه البيوت السكنية. وعندما زاد عدد العائلات تبع ذلك توسع عشوائي قبل 1983. لكن بعد ذلك وبإحداث البلدية قدمت الدولة الأرض وأقمنا عليها هذه المباني التي تراها، ثم اشترينا أرضا مجاورة وأصبحت فيما بعد حيا جديدا.

* لماذا يشتري من لديه الإمكانات هنا، بينما بإمكانه الشراء في مناطق أخرى؟

- الناس يعرفون بعضهم بعضا وهم أبناء بلد وكل منهم يريد أن يكون قريبا من أهله. إضافة إلى أنهم يتعاملون على أن سكنهم هنا مؤقت بانتظار العودة إلى الجولان... بلدهم الأصلي.

* هل هناك مشكلات تواجه الناس هنا؟

- لا مشكلات بالمعنى الدقيق للكلمة. الأوضاع بشكل عام جيدة والحمد لله العلاقات بين الناس طيبة وعميقة لذلك فالمشاكل قليلة. يسهر الناس مجموعات، يشربون القهوة المرة ويتسامرون. هذا بالنسبة للكبار. أما الشباب فيسهرون أحيانا لكن طبيعة عملهم تضغط عليهم.

* أين يعملون؟

- أغلبهم يعمل في معامل مدينة دمشق والشركات الموجودة بجوارنا الشباب القادر على العمل لا يواجه أية مشكلات... (!) بل إننا لا نجد العدد الكافي من الشباب ليشغل كل أماكن العمل!! ا

* هل هناك زيارات للناس إلى الأماكن المحررة؟

- أهلنا ما زالوا في القطاع الشمالي من الأرض المحتلة في مجدل شمس وبقعاثا ومسعدة والفجر.

* هؤلاء في أرضهم، وأرضكم أنتم من يعيش فيها؟

- أقام الإسرائيليون مستوطنات في أرضنا الزراعية وسمعنا أنهم "ماسحين البلد مسح" لا يتركون بيوتا أ بدا.

* عسى أن تعودوا إلى أرضكم في القريب العاجل ماذا تريد أن تقول أخيرا؟

- نحن نرحب بكم. ونعتز بالأهل في الكويت. قلوبنا كانت معكم أثناء الاجتياح.

الأستاذ إبراهيم البرجس مدير ثانوية عمر خالد قال: "طلابنا (950) طالبا وطالبة وهم يتوزعون على مستويين، إعدادي وثانوي و 95% منهم من أبناء القنيطرة".

وفيما إذا كانوا يدرسون منهاجا مميزا أو مواد مميزة عن المراد التي يدرسها الطلاب في المحافظات الأخرى قال: نحن نتبع مديرية تربية القنيطرة وهي إدارة فرعية تتبع إدارة مركزية هي وزارة التربية والتعليم في الجمهـورية العربية السورية وجميع الطلاب السوريين يدرسون منهاجا واحدا.

لقد حافظت الدولة في سوريا على الهياكل الإدارية لمحافظة القنيطرة التي احتلت عام 1967 واستمرت في المحافظة عليها بانتظار تحريرها وإعادة سكانها الذين شردهم الاحتلال.

قرار الضم

في جو من التشجيع الأمريكي أقدمت "إسرائيل" على ضم الجولان. ففي وثيقة خالية من جيرالد فورد لإسحاق رابين رئيس الوزراء (آنذاك) يلتزم الرئيس الأمريكي بأن الإدارة الأمريكية، "لن تنسف الموقف الإسرائيلي المطالب بالبقاء في هضبة الجولان حتى لو التقت إسرائيل وسوريا حول طاولة المفاوضات، وكان نيكسون قد صرح للصحافة عام؟ 1973 بأنه لو كان رئيسا لحكومة "إسرائيل" لما تنازل عن هضبة الجولان بأي شرط حتى مقابل السلام وفي محاولة لفرض سياسة الأمر الواقع قام الصهاينة ببدء عملية الاستيطان منذ 15/ 1967/7. فأنشأوا نقطة "ماروم هاغولان" وحاولوا جر المزيد من المستوطنين إلى الجولان خاصة بعد حرب أكتوبر (تشرين) 1973 ودفعوا بالجيش للمساعدة في إقامة مستوطنات جديدة وتوسيع القديمة منها، خارقين- كما فعلوا من قبل ويفعلون الآن القوانين الدولية الخاصة بالأراضي المحتلة وبخاصة أحكام ميثاق جنيف الرابع الذي يمنع الدول المحتلة من نقل جزء من سكانها المدنيين إلى الأراضي التي تحتلها.

وفي مثال صارخ الدلالة على عمق الأطماع الصهيونية في الجولان، استنكر (!) حاييم هيرتزوغ قرار الأمم المتحدة الذي صوت عليه (131) دولة ضد الاستيطان "الإسرائيلي" في الجولان قائلا: "أتصوتون على نورنبرغ أخرى حيث تمنعون اليهودي من الاستيطان في أرضه؟

نعم نورنبرغ جديدة

قالت المراسلة الصحفية الأمريكية الشابة بدهشة وحزن: "يتعين على المرء أن يرى بنفسه، ليصدق ما جرى).

وفي الحقيقة فإن جرائم الصهـاينة في الجولان لوحدها تحتاج إلى محكمة دولية لمجرمي الحرب كتلك التي شكلها الحلفاء لمجرمي الحرب النازيين في نهاية الحرب العالمية الثانية ودعيت بمكان إقامتها (نورنبرغ).

ولا أدل على ذلك إلا هذا الحطام الذي نقف فوقه وبين أجزائه الآن.

فما كان قبل عام 1967 عاصمة إقليمية (مركز محافظة) وسوقا تجارية كبيرة وملتقى طرق سوريا وفلسطين ولبنان والأردن، المدينة التي كانت مليئة بالبشر والمدارس والحدائق والكنائس والمساجد.. هو اليوم أنقاض!!

إنها القنيطرة التي تبعد عن دمشق 40 ميلا في الطريق التي كانت تؤدي إلى القدس، هذه المدينة غير موجودة عمليا الآن إلا كعبرة ليس على فظاعة الحرب فقط لكن على وحشية الغزاة.

لقد دمر الصهـاينة ومن أدنى مبررات عسكرية منذ عام 1948 (395) مدينة في فلسطين.. لكن ماذا عن سوريا؟

الأستاذ حسين البارودي، مسئول العلاقات العامة في محافظة القنيطرة قال: "أنا من قرية كفر جاربي التي لا تزال "محتلة وهي تبعد عن القنيطرة 60 كلم. ولقد شهدت كيف دمرت مدافع الاحتلال (244) قرية ومزرعة تدميرا كاملا وأزالت معالم العمران ليعطي الصهاينة للرأي العام العالمي انطباعا بأنهم دخلوا هذه المنطقة (الجولان) وهي خالية من السكان. وعن القنيطرة قال: "لا يزال خمس المدينة محتلا مما لا يسمح بإعادة إعمارها لا أمنيا ولا اقتصاديا الآن".

سألناه ونحن ذاهلون عن هذه المدينة الأنقاض.. فقال: كما ترون لقد دمر الصهاينة المدينة تدميرا شاملا ومركزا بالبلدوزرات أولا وما كان يصعب على البلدوزر تقويضه كان يعمد إلى تفجيره بالديناميت وقد كثفوا من وحشيتهم هذه في الفترة ما بين توقيعهم لاتفاق فك الارتباط والانسحاب من المدينة، كانوا قد دمروا قسما منها تدميرا جزئيا لبناء ملاجئ.

لقد دمروا بيوت العيادة (ثلاثة جوامع وثلاث كنائس واحدة لكل طائفة) كما دمروا أي شيء آخر. بعد أن نهبوها تماما من أواني المطبخ حتى المذابح المرصعة بالأحجار الكريمة مرورا بثريات الكريستال والنواقيس والأيقونات. فكوا هيكل القربان وسرقوه مع فسقية التعميد!! أتتصورون أنهم نبشوا القبور؟!

النازحون

وحول النازحين قال الأستاذ البارودي: "القد توزع النازحون على دمشق وريفها ودرعا وحمص ويعيش هؤلاء في مخيمات تقدم الدولة خدماتها إضافة إلى المساعدات التي تقدم للعاجزين عن العمل من موازنة خاصة بالدولة. وبالنسبة للمنطقة التي تحررت فنحن نقوم بإعادة إعمارها، حتى الآن نفذنا بناء عشر قرى واستصلحنا أراضيها الزراعية وأقمنا السدود السطحية وشبكات الري المختلفة حتى الموظفون في المحافظة أنشأنا لهم مدينة صغيرة لتأمين استقرار، دائرة المحافظة". وعندما انجرف الحديث نحو الاتفاقيات التي أبرمتها إسرائيل مع الأردن والفلسطينيين والآمال بسلام قادم تتمخض عنه المفاوضات المتعثرة على المسار السوري بدا محدثنا متشككا وقال: "نحن نريد السلام العادل، أن يعطى كل ذي حق حقه، بينما مازالت  إسرائيل تماطل في تنفيذ القرارات الدولية وتشيح عن مبدأ الأرض مقابل السلام".

الدكتور "وليد البوز" محافظ القنيطرة الذي التقيناه أوجز وجهة نظر شعبية ورسمية في سوريا ترى أن تضحيات كبيرة قدمتها سوريا وهذه التضحيات ليس من أجلها فقط بل من أجل كل العرب ونيابة عنهم وقال: "يندر أن تغيب قصة بطولة عن شبر من تراب الجولان، فأرض النار هذه تمثل تربة خصبة نما فيها العنفوان العربي والإرادة العربية ليس فقط لتحرير الأرض المغتصبة بل ولوقف مسلسل ما يسمى بـ "التطبيع" الذي يفتت العرب ويصب الماء في طاحونة العدوان الصهيوني. على أرض الجولان. سفح دم غزير.. شهداء كثيرون سقطوا من سوريا ومن أقطار عربية شقيقة شاركتنا في حرب أكتوبر (تشرين)".

ويستطرد د. وليد: "هذه المشاركة جسدت مقولة الوحدة العربية والتضامن العربي. نحت نتذكر هذا دائما ونعلم أجيالنا درس الجولان... نحن نعلم أطفالنا دروس صمود مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا وعين قنيا والفجر".

وتابع : "نحن ننظر إلى 62 يونيو (حزيران) 1974 اليوم الذي رفع فيه رئيس الجمهورية العربية السورية حافظ الأسد العلم العربي فوق القنيطرة المحررة منطلقا لتحرير كامل الجولان والأراضي العربية المحتلة".

وفي ما يبدو أن سوريا تركت أنقاض القنيطرة لتظل وخزة في الضمير العربي أو كما قالت السيدة وداد "أن العرب سرعان ما ينسون الأحقاد والشرور. يجب أن تبقى القنيطرة على وضعها لتذكرهم ألا يغفوا مرة أخرى" كما أن الدكتور وليد أشار إلى قرى تسع كانت مهدمة ومدمرة تماما جرت إعادة إعمارها بإيعاز من الرئيس حافظ الأسد. كما قدمت الدولة كل ما يلزم لدعم صمود السكان في أرضهم واستكمال دورة التنمية في القسم الذي ينعم بالحرية من الجولان، إذ جرى بناء خمسة سدود سطحية وشبكات عديدة لري واستصلاح واسع للأراضي.. كما جرى بناء مدرسة ومستوصف ونقطة ثقافية في كلى قرية. الدولة تعمل أقصى ما يمكنها، لكن تناثر النازحين يلعب دورا مثبطا ففي خلال 27 عاما أصبح عدد سكان الجولان حوالي نصف مليون يعيش منهم على الأرض المحررة منه 65 ألفا إضافة إلى 20 ألفا في القرى الخمس المحتلة. وعن فظاعة العدوان قال: جميع القرى والمزارع التي كانت موجودة في الجولان والبالغة 244 مزرعة وقرية دمرها الصهاينة تماما وأقاموا بدلا منها 40 مستوطنة.

وعن وجود زراعة متطورة في الجانب المحتل و"ضحالة الغطاء النباتي" في الجانب المحرر قال د. وليد: "إن الجانب المحتل هو أرض زراعية أصلا فالتربة ذات الخصوبة العالية تبدأ من القنيطرة باتجاه الغرب. أما الجانب المحرر فهو أرض رعوية كثيرة التحجر وغير مستصلحة (!) عدا منطقة "خضر"، التي تعتبر مثالا رائعا للنشاط البشري في الاقتصاد   الزراعي".

لقد استعمل الصهاينة كل أنواع الوحشية لتهجير الفلاحين العرب السوريين من قراهم ونجحوا في معظم أنحاء الجولان لكن وصول قوات الأمم المتحدة المبكر إلى المنطقة التي تضم قرى مجدل شمس ومسعدة وبقعاثا وعين قنيا والفجر حمى سكان هذه القرى من التهجير وساعدهم على التمسك بأرضهم والبقاء شوكة في حلق الاحتلال ورمزا للصمود العربي السوري الجولاني في وجه التهويد والقمع.

وبالنسبة للجيل الجديد من النازحين فهو في معظمه من المثقفين والمتعلمين الذين تهيأت لهم كغيرهم من المواطنين فرص التعلم ونيل الشهادات العليا. أما عن سكناهم فقد كانوا يعيشون في تجمعات خاصة لكن وبفعل التطور اللاحق اندمجوا م القادمين من محافظات أخرى (هذا بشكل عام) إلا أن بعضهم مازال يعيشه في تجمعات خاصة.

الجولان والسلام "الإسرائيلي"

الدكتور زهير مشارقة نائب رئيس الجمهورية العربية السورية أكد لبعثة "العربي" أنه ليست الأهمية الاستراتيجية والجغرافية للجولان هي ما تمنحه قيمته فأي جزء من أجزاء الوطن له المكانة والأهمية القدسية التي للجزء الأخر وحيثما كان. والأمر ببساطة أن لنا أرضا محتلة، شرد أصحابها وهم بعشرات الآلاف وينتظرون العودة إليها بعد انسحاب "إسرائيل" منهـا.

وعن المسار التفاوضي الذي تخوضه سوريا قال: إن تعثر عملية السلام في المنطقة يعود في التعنت الإسرائيلي والعراقيل المصطنعة التي تضعها إسرائيل في طريق العملية السلمية، عبر رفضها الالتزام بالشرعية الدولية وقراراتها وخاصة القرارات 242 ، 338، 425 منها. ففي الوقت الذي نادت سوريا فيه بالسلام المرتكز على مقررات الشرعية الدولية منذ العام 1973 وسعت إليه عبر جميع المبادرات المطروحة كانت إسرائيل تتصرف بخفة وترفض ذلك السلام.

وهي لا تزال تفعل ذلك إلى الآن من خلال مراوغتها ورفضها الإعلان عن استعدادها للانسحاب من الأرض العربية المحتلة عام 1967 وعدم اعترافها بأن الضفة والقطاع أراض عربية فلسطينية محتلة وإصرارها على أن تكون القدس "عاصمة أبدية لإسرائيل" بالرغم من أن القدس جزء لا يتجزأ من الأراضي المحتلة عام 1967.

إن السلام جزء أساسي من سياسة سوريا. فقد أكد الرئيس حافظ الأسد أن السلام خيار استراتيجي لسوريا، ولكن أي سلام؟ إنه السلام العادل والشامل والمرتكز على قرارات الشرعية الدولية، فمن دونه ستبقى هذه المنطقة ومناطق أخرى من العالم مهددة بعدم الاستقرار. شاركنا في مؤتمر مدريد عام 1991 في إطار المبادرة الأمريكية للسلام في المنطقة وشاركنا في المحادثات المنبثقة عنه.. وها قد انقضت ثلاث سنوات ونيف على هذا المؤتمر دون أن يتقدم السلام قيد أنملة بسبب رفض إسرائيل المبادئ التي قامت عليها المبادرة والقرارات التي ارتكزت عليها، ومع ذلك وافقت سوريا على الاستمرار بالتفاوض عبر الوسيط الأمريكي، أملا في الوصول إلى سلام عادل وشامل يضمن انسحاب إسرائيل من جميع الأراضي التي احتلتها على الجبهة السورية في هضبة الجولان والعودة إلى ما وراء خطوط الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967 وكذلك الانسحاب من جميع الأراضي اللبنانية في الجزء المحتل من جنوب لبنان.

وإن حصل مثل ذلك فسوف تلتزم سوريا بالمتطلبات الموضوعية للسلام.

أما فرض "سلام" يكون على حساب طرف لصالح أخر فإنه لن يوفر الأمن والاستقرار لأنه سيبقى الطرف المغلوب علي أمره في حالة من التوتر والشعور بالظلم مما لن يجعل بقاء مثل ذلك السلام ممكنا.

إن ما نشهده اليوم في الأراضي الفلسطينية المحتلة يشكل دليلا قاطعا على أن سلام الإذعان لن يوفر الأمن للقوي برغم قوته ولا للضعيف على ضعفه.

لقد كانت وجهة نظر سوريا منذ السبعينيات أن يواجه العرب قضية السلام مجتمعين بموقف واحد وإرادة واحدة، لان الانفراد لا يمكن أن يوفر للمنفرد فرصا تمكنه من الوصول إلى الحد الأدنى من حقوقه ويعطي القوى الإمكانات لفرض إرادته وإملاء شروطه وتحقيق أهدافه. كما أننا سعينا قبل مؤتمر مدريد في 30/10/1991 وأثناءه وبعده للعمل على تنسيق الموقف العربي لتمكين الأطراف العربية من الاستفادة من عناصر القوة المتوافرة في الموقف السوري ومن إمكانات وطاقات سوريا وقدراتها. ولكن هذه المساعي تعطلت بسبب الانزلاق نحو الانفراد.

ويتابع الدكتور مشارقة: بالرغم من استمرار سوريا في مسيرة السلام العادل والشامل فإنها لتؤكد استحالة التفريط بشبر من الأرض أو شيء من الحقوق لأن ما تسعى إليه هو إعطاء كل ذي حق حقه.

توقيت غير مناسب

لقد كان الجولان ولايزال لب استقرار المنطقة أو قلقها، الأرض التي تدور حولها المفاوضات و"السلاح" الذي تدار به تلك المفاوضات.

ويدفع السوريون في الجولان الثمن الباهظ لمعاهدتي كامب ديفيد حيث تتيح مبادرة السادات للصهـاينة إمكانات جديدة للضغط على سوريا. فإضافة إلى ثلاثين مستوطنة سابقة يبادر مناحيم بيجن إلى إقامة أربع مستوطنات دفعة واحدة في الجولان بعد ثلاثة أيام من تسلمه الحكم.

ولم يكتف بذلك ففي الرابع عشر من شهر ديسمبر (كانون الأول)1981 اتخذت حكومته قرارا سرعان ما وافق عليه الكنيست بالأغلبية بضم مرتفعات الجولان السورية المحتلة هذا نصه:

1- إن قانون الدولة الإسرائيلية وصلاحياتها وإداراتها ستطبق على مرتفعات الجولان.

2- يعمل بهذا القانون فور موافقة الكنسيت (!)

3- يكلف وزير الداخلية تنفيذ هذا القانون.

ولكن مجلس الأمن أصدر صباح يوم 19/ 12/ 1981 قرارا بالإجماع نص على بطلان القرار الإسرائيلي المتعلق بالجولان والطلب من- الدولة القائمة بالاحتلال- إلغاء قرارها فورا ودون إبطاء والإعلان أن كل أحكام معاهدة جنيف الموقعة في 12 أغسطس (آب) 1949 المتعلقة بحماية الأشخاص المدنيين في أوقات الحرب، لاتزال سارية على الأرض السورية التي تحتلها إسرائيل منذ عام 1967.

في تلك الفترة الحرجة، أعرب الرئيس رونالد- ريجان عن "مفاجأته" بالقرار الإسرائيلي لكنه رفض في الوقت نفسه الإجابة عما إذا كان على إسرائيل الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة بما في ذلك الجولان مكتفيا بالقول: "إن ذلك متروك للمفاوضات المرتكزة على القرارين: 242، 338".

عرب .. سوريون

كنا ومازلنا وسنظل مواطنين سوريين ولن تغير بضعة قرارات يصدرها الكنيست من انتمائنا لوطننا الأم، سوريا.

هذه الكلمات القليلة ولكن العميقة التعبير والتي قالها الشيخ سلمان أبوصالح في قريته الصامدة "مجدل شمس" شكلت جوهر الموقف الذي اتخذه المواطنون السوريون في الجولان المحتل الذين أشعلوا الأرض تحت أقدام المحتلين محتملين الاعتقال والملاحقة والتعذيب.

بل لقد أرخ الأدب السوري هذه الوقفة البطولية في رواية "الرجل والزنزانة" للروائي وهيب سراي الدين الذي يصف بدقة ممارسات الاحتلال في الجولان والشعور الوطني العارم لأهله عبر قصة حقيقية لمناضل من مجدل شمس.

لقد اعتقد المحتلون أن هذا القرار سيريحهم، لكنه وبالرغم من أنه ينتمي إلى (سياسة الأمر الواقع) التي يحاول الصهاينة فرضها إلا أنه خلق للاحتلال متاعب لا نهاية لها، لقد أشعل الروح الوطنية إلى مالا نهاية حتى "بدت الطرق في الجولان ملأى بالدبابات والسيارات العسكرية وناقلات الجنود، إضافة إلى الأعداد الكبيرة من الشرطة التي نقلت من الجليل إلى الجولان". وظل الجولان يغلي. في إضراب إلى إضراب ومن انتفاضة إلى انتفاضة.. ومن موقف إلى موقف حتى قام شمعون بيريز بزيارة مجدل شمس بمناسبة صدور قرار ضم الجولان.. عند ذلك رفع صمام الغضب ولم تنفع المحتلين وسائل احتلالهم فتمت محاصرة بيريز ومرافقيه وتخضبت المواجهة بالدماء عندما قام الصهاينة بقتل المدرسة الشهيدة غالية فرحات.. سفر الزائر غير المرغوب فيه- من الباب الخلفي.

لقد كان موقف رفض الهوية الإسرائيلية جماعيا. فمنذ الأيام الأولى لقرار الضم أصدر المواطنون العرب السوريون في الجولان وثيقة وطنية سموها "الوثيقة الوطنية لكافة المواطنين السوريين في المرتفعات السورية المحتلة" هذا نصها: "نحن المواطنين السوريين في المرتفعات السورية المحتلة نرى لزاما علينا أن نعلن كل الجهات الرسمية والشعبية في العالم اجمع ولمنظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها وللرأي العام العالمي والإسرائيلي من أجل الحقيقة والتاريخ وبصراحة ووضوح تأمين عن حقيقة موقفنا من الاحتلال الإسرائيلي ودأبه المستمر لابتلاع شخصيتنا الوطنية ومحاولته ضم الهضبة السورية المحتلة حينا وتطبيق القانون الإسرائيلي علينا حينا آخر، وجرنا بطرق مختلفة للاندماج بالكيان الإسرائيلي والانصهار في بوتقته وتجريدنا من جنسيتنا العربية السورية التي نعتز ونتشرف بالانتساب إليها ولا نريد عنها بديلا والتي ورثناها عن أجدادنا الكرام الذين تحذرنا من أصلابهم وأخذنا عنهم لغتنا العربية التي نتكلمها بفخر واعتزاز وليس لنا لغة قومية سواها وأخذنا عنهم أرضنا الغالية على قلوبنا، ورثناها أبا عن جد منذ وجد الإنسان العربي في هذه البلاد قبل آلاف السنين... أراضينا المجبولة بعرقنا ودماء أهلنا وأسلافنا حيث لم يقصروا يوما في الذود عنها وتحريرها من كل الغزاة والغاصبين على مر التاريخ والتي نقطع العهد على أنفسنا أن نبقى ما حيينا أوفياء ومخلصين لما خلفوه لنا وألا نفرط بشيء منه مهما طال زمن الاحتلال الإسرائيلي ومهما قويت الضغوط علينا لإكراهنا أو إغرائنا لسلب جنسيتنا ولو كلفنا أغلى التضحيات. وهذا موقف بديهي وطبيعي جدا أن نقفه وهو موقف كل شعب يتعرض كله أو جزء منه للاحتلال. وانطلاقا من شعورنا بالمسئولية التاريخية الملقاة على عاتقنا تجاه أنفسنا وأبنائنا وأجيالنا القادمة أصدرنا هذه الوثيقة:

ا- هضبة الجولان المحتلة جزء لا يتجزأ من سوريا العربية.

2- الجنسية العربية السورية صفة ملازمة لنا، لا تزول، وهي تتنقل من الآباء إلى الأبناء.

3- إن كل مواطن يسمح له ضميره في بيع أو التخلي عن بوصة واحدة من ارض الوطن للإسرائيلي المحتل فإنه بذلك يرتكب جريمة كبرى وخيانة وطنية لن تغفر له.

4- لا نعترف بأي قرار تصدره إسرائيل من اجل ضمنا للكيان الإسرائيلي ونرفض رفضا قاطعا قرارات الحكومة الإسرائيلية الهادفة سلبنا شخصيتنا العربية السورية.

5- لا نعترف بشرعية المجالس المحلية والمذهبية (!) لكونها عينت من قبل الحاكم العسكري الإسرائيلي وتتلقى تعليماتها منه ورؤساء وأعضاء هذه- المجالس لا يمثلوننا بأي حال من الأحوال.

6- إلى الأشخاص الرافضين للاحتلال من خلال مواقعهـم الملموسة والذين هم من جميع قطاعاتنا الاجتماعية هم الجديرون والمؤهلون للإفصاح عما يختلج في ضمائر ونفوس أبناء مجتمعهم.

7- كل شخص من هضبة الجولان السورية المحتلة تسول له نفسه أن يستبدل بجنسيته الجنسية الإسرائيلية يسيء إلى كرامتنا العامة ولشرفنا الوطني ولانتمائنا القومي ولديننا وتقاليدنا ويعتبر خائنا لبلادنا.

8- قررنا قرارا لا رجعة فيه وهو: كل من يتجنس بالجنسية الإسرائيلية أو يخرج عن مضمون هذه الوثيقة يكون مجحودا مطرودا من ديننا وترابطنا الاجتماعي ويحرم التعامل معه أو مشاركته أفراحه وأحزانه أو التزاوج معه إلى أن يقر بذنبه ويرجع عن خطئه ويطلب السماح من مجتمعه ويستعيد اعتباره وجنسيته الحقيقية.

لقد اعتمدنا هذه الوثيقة مستمدين العزم من تراثنا الروحي والقومي والإنساني الأصيل، الذي يحضنا على حفظ الأخوان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والوفاء العميق للوطن".

ومنذ ذلك اليوم وحتى الآن يترجم المواطنون العرب. السوريون هذه الوثيقة ممارسه سلوكية ترفض الاحتلال ومنطقه وتسعى لتعزيز الشخصية الوطنية في مواجهته.

ولكن الترجمة الاحتفالية لهذه الوثيقة تتجلى في السابع عشر من إبريل (نيسان) حيث يقيمون، برغم فرض منع التجوال والتجمع من قبل سلطات الاحتلال، احتفالا ضخما بمناسبة عيد استقلال وطنهم الأم سوريا ويكللون "نصب الحرية" الذي يمثل القائد العام للثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش ورفاقه بالزهور.

وفي ذلك اليوم يتوجه الآلاف من المواطنين السوريين إلى المنطقة المتاخمة لـ "مجدل شمس" وأخواتها المحتلات ليشاركوا الصامدين احتفالهم وتنطلق الأغاني الوطنية والهتافات الحماسية عبر الحناجر ومكبرات الصوت وخاصة الأغنية الشعبية الشهيرة للفنان سميح شقير:

يا جولان ويا اللي ما تهون علينا
ردّادينك من إيد المحتل انطرينا
لا بد الشمل يلتم
رخّاصين فداك الدم
سامعينك يا ما أطول ليلك وانت تنادي علينا
مجدل شمس ويا عزتنا
أخبارك يا ما هزتنا
يا اللي ما ارضيت الهوية..
إلا: عربية سورية
حرة حرة وما ترضى الهوانا

ستعود الجولان إلى السيادة السورية، لا لأن النظام العالمي الجديد يرتكز إلى مبدأ إعادة الحق إلى أصحابه الشرعيين، ولا لأن الولايات المتحدة لم تعد تحتمل جرائم ربيبتها إسرائيل، ولا لأن حزب العمل حزب حمائم.. بل لأن سوريا متمسكة بحقها وبكرامتها ولأن، كل عروسين في القرى المحتلة لا يعتبران متزوجين إلا إذا مرا بنصب الحرية ووضعا أزهارهما عليه.

 

أنور الياسين 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




صورة الغلاف





الجولان أرض عربية ما زالت أسيرة





إحدى القرى السورية المحتلة في هضبة الجولان وتظهر الأسلاك الشائكة الفاصلة بين الطرفين





برج مراقبة تابع لقوات الأمم المتحدة





مستشفى الجولان في مدينة القنيطرة وقد دمرته القوات الإسرائيلية تدميرا كاملا





حتى المساجد والكنائس لم تسلم من التدمير الإسرائيلي في القنيطرة





المدن البديلة لنازحي هضبة الجولان في محيط مدينة دمشق





أطفال الجولان يلعبون في أحد التجمعات السكنية خارج دمشق





دبابة إسرائيلية معطوبة تركت في هضبة الجولان يلعب حولها الأطفال





المدير الإداري لقوات حفظ السلام التابعة للأم المتحدة فيهضبة الجولان أنطونيو بوتيسيا وجين غراهام رئيس الإمداد والتموين





نائب الرئيس السوري د. زهير مشارقة ومدير التحرير لقاء حول التوقف السوري من مسألة السلام العربي الإسرائيلي





موقع عين الزبوانة التابع للأمم المتحدة حيث يتم تنقل القوات الدولية بين إسرائيل وسوريا





حقول الألغام التي نشرتها القوات  الإسرائيلية المحتلة في المنطقة المحرمة بين الطرفين





محافظ القنيطرة وليد البوز





مدير ثانوية عمر خالد إبراهيم البرجس





مسئول العلاقات العامة في محافظة القنيطرة حسن البارودي





أحد الفصول الدراسية التي أقامتها الحكومة السورية لتعليم أبناء الجولان خارج دمشق





طالبات من أبناء الجولان يتلقين أحد الدروس في مدينة ثانوية خارج دمشق





وادي الصراخ كما يطلق عليه أهالي الجولان





طلبة مدينة الثورة في إحدى المدن  الثلاث التي أقامتها الحكومة السورية حديثا في هضبة الجولان





تفاؤل أم ضرب في المجهول على ملامح تلميذ من أبناء الجولان





مرصد إسرائيلي يراقب هضبة الجولان