قبس من الشمس يقهر الأمراض الجلدية

قبس من الشمس يقهر الأمراض الجلدية

البوفا
بقلم: الدكتور هراج بلابان

أطل الإنسان القديم من باب كهفه فوجد الشمس تغمر الكون بجمال بريقها, تمس العشب فيخضر, تقبل الثمر فيحلو, تداعب الغزال فيتيه عشقاً, فقرر أن يتكل عليها ويعبدها.

جرب قدماء المصريين دهن آفات جلودهم بنسج بعض النباتات ثم عرضوها للشمس فعاد لجلودهم إكسير الصحة والحياة. وفي بلاد الإغريق وفي القرن الثاني قبل الميلاد ماكان من هيرودس إلا أن قال عبارة حفظتها الأجيال إلى الساعة, قال بأهمية الشمس للحفاظ على الصحة. ثم جاءت الأحفاد تحمل ميراث الأجداد وأخذت تبحث في جماله وترصع ثغراته محاولة ترويض ما أدهش أسلافها فوجدوا في الشمس كنزاً صالحاً للبحث فصنع نيلزفنس عام 1980 ضوءا صناعيا نال عليه جائزة نوبل. ثم وجد اللاحقون أن اتحاد الشعاع مع الدواء أقوى للانتصار على المرض فاستعملت أدوية من عائلة البسور ـ الينات مع الأشعة فوق البنفسجية التي أثمرتها أجهزتهم, ولكن هذا لم يكن ليوصل الباحثين للرعشة العلمية حتى أمكن استلال شعاع خاص من الأشعة فوق البنفسجية في السبعينيات, ذلك الشعاع الذي خرج ليعانق البسورالين فارتعدت الآفات على الجلود وتزلزلت الأدواء في الأبدان لهول ذلك العناق ودوى في العالم صدى البوفا.

ماهي البوفا وكيف تؤثر?

البوفا Puva هي طريقة علاجية كيميائية ضوئية تستخدم لقهر الكثير من الأمراض الجلدية وقد جاءت التسمية من دواء البسورالين (P) Psoralin والأشعة فوق البنفسجية أ (UVA) ultraviolet (A) ولا يؤثر الدواء أو الأشعة كل على حدة بل يتحولان لأداة علاجية فعالة باجتماعهما.

يوجد البسورالين ومشتقاته في بعض النباتات ويمكن الحصول عليه تركيبياً أيضاً ويعتبر 8 ـ ميتوكسي بسورالين 8-MOP الأشيع استخداماً في المعالجة الكيميائىة الضوئىة, أما الجزء الشعاعي لهذه الطريقة فهو الأشعة فوق البنفسجية (أ) بطول موجة تتراوح بين 230 ـ 400 نانومتر, ويمكن الحصول عليها بوساطة أجهزة خاصة تقدمها التقنيات الحديثة من جعبة هداياها لبني البشر.ولكن كيف تؤثر البوفا? لقد ألقى الباحثون الكثير من الأضواء على الآليات والخطط المعقدة التي تحارب بها البوفا الأمراض الجلدية, فقد وجد أن البسورالين المتناول من قبل المريض يتسلل إلى أنوية الخلايا ويتداخل مع الوحدات البيريميدينية للـ DNA وعند التشعيع بالأشعة فوق البنفسجية (أ) فإن البسورالين يمتص فوتونات وتتشكل روابط متصالبة أحادية أو ثنائية مع وحدات البيريميدن تلك داخل جديلة الـ DNA مما يعيق استنساخ الـ DNA وبالتالي يحدث تثبيط في الانقسام الخلوي البشروي, وهذا ما يفسر التأثير المفيد للبوفا على الصداف الذي تتلخص إمراضيته بتسارع الانقسام الخلوي البشروي. وكذلك تؤثر البوفا على الـ RNA وعلى المتوكوندريا الخلوية وتحدث الأكسدة للشحوم الغشائية الخلوية. ومن ناحية أخرى فمن المعروف أن البوفا تثبط بعض الخلايا اللمفية, وكذلك الخلايا المقدمة للمستضد في الرد المناعي (خلايا لانغر هانس في البشرة) وهذا يشرح فائدة البوفا في أمراض المناعة الذاتية الجلدية (بهق, حاصة, حزاز منبسط) فحين يقوم الجهاز المناعي بمحاولة لتدمير الجسم بواسطة ترسانته اللمفية تتصدى له البوفا لتعيد إلى ربوعه جمال النظام وصدى الصحة. ومن الجدير بالذكر أن البوفا تثير تشكل الميلانين داخل الخلايا الميلانينية والميلانين هو صباغ الجلد فتزداد كميته بعد البوفا ويسرع انتقاله إلى الخلايا المقرنة داخل البشرة ويفيد هذا التأثير في استعادة التصبغ الفقيد في البقع البيض عند مرض البهق.

أستطبابات البوفا

لقد توجهت أولى الطلقات العلاجية بالبوفا لصدر الصداف المعند على جلود المرضى وقد قدمت تلك الطريقة فتحاً مبيناً في الصراع مع الصداف الذي يضرب 3% من جلود البشر عامة, ويختار للعلاج بالبوفا الحالات الصدافية المعندة والمنتشرة والتي تشغل مساحة أكثر من 30% من سطح جلد المريض, وتقوم الطريقة على إعطاء البسورالين قبل ساعتين من الجلسة الشعاعية التي يعرض لها المصاب من جهاز خاص. وتقدر الجرعة البدائىة من الأشعة فوق البنفسجية (UVA) أما فوق النمط الضوئى الجلدي أو حسب معطيات جهاز يحدد مايسمى بالجرعة السمية الضوئية الدنيا MPD وتكون الجلسات بمعدل 2 ـ 4 جلسات أسبوعياً, ويتضمن الشوط العلاجي الذي يوصل المريض لبر الصحة حوالي 20 ـ 25 جلسة, وقد تتطلب المحافظة على هجوع المرض جلسات داعمة لاحقة, ثم تحسب الجرعة التراكمية أو الكلية من UVA وذلك لنبقي المريض في حقل الأمان بعيداً عن حدود المخاطر.

ويمكن مشاركة البوفا مع بعض الأدوية للحصول على نتائج أسرع وأفضل, ومن تلك المشاركات التي ذاع حميد سيطها كانت الري بوفا Re PUVA وتتم بإشراك البوفا مع أبناء عائلة الريتنوئيدات الدوائية. هذا ومن الممكن استخدام البوفا بنجاح لقطع دابر بعض أشكال الصداف الخطيرة ومنها الاحمرارية الصدافية أو الصداف البثري بأنواعه.

وتستعمل البوفا أيضاً في علاج الفطار الفطراني, وهو داء خطير وشديد يكون بخبث يصيب الخلايا اللمفية التائية في الجلد, والبوفا فعالة بشكل عظيم في المراحل الباكرة من المرض خاصة, وذلك حين تطال يد (UVA) في نفوذيتها الخلايا الخبيثة فتكفها عن الانقسام بل وتبيدها.

وتفيد البوفا في علاج الحزاز المنبسط حيث تؤمن بديلاً عن الكوتزونات المستخدمة في الكفاح ضد هذا الداء المزعج, وبرغم أن الحزاز أكثر صموداً أمام البوفا من الصداف أحياناً فإن تدعيم البوفا بالرتينوئىدات يزيد حدة ذلك السلاح العلاجي وينقذ المريض من داء شديد الحكة.وكذلك فإن البوفا تبلي بلاءً حسناً في العراك في ساحات التهاب الجلد التأتبي والشري الصباغي والحاصة البقعية والبهق وغير ذلك من بعض الأدواء النادرة.ومن ناحية أخرى يمكن الإشادة بوجه ممتع آخر للبوفا كفائدتها في الوقاية من بعض الجلادات الضيائىة لتصح مقولة أسلافنا (وداوها بالتي كانت هي الداء) فهناك بعض الأدواء التي تثار بالتعرض للشمس كالاندفاع الضيائى عديد الأشكال والحكاك الصيني والحصاف الوقسي, ويمكن قطع الطريق أمام زحف الأمراض الصيفية بزيادة التحمل للضوء بأحداث التصبغ الواقي التي تبثه البوفا في جلود هؤلاء المستعدين, فمثلاً إن شوطاً قصيراً من البوفا مرتين في الأسبوع لمدة ثلاثة أسابيع يمنع ظهور الجلادات الضيائىة تلك طيلة الصيف عند المعرضين للإصابة.

كلمة أخيرة

لن نخوض في التأثيرات الجانبية للبوفا, ولكن نحب أن نؤكد أن استخدام البوفا بأيد خبيرة مع التقيد بحدود الأمان التي رسمتها خبرات الباحثين على مدى عشرين عاماً لايحمل أية مخاطر, وفي الأحوال جميعاً تبقى البوفا من الأركان العلاجية الأساسية التي لاغنى عنها في مراكز العلاج والبحث الجلدية, ويبقى علم المعالجة الكيماوية الضوئية بحراً يحفز الباحثين للخوض في عبابه بحثاً عن مكنوناته الذهبية وتقديمها بلسماً شافياً لجلود المعذبين من المرضى.

 

 

أنور دندشلي

 
  




جهاز بوفا موضعي





جهاز بوفا عام التأثير