معجزة اليد الإنسانية
معجزة اليد الإنسانية
إن اليد التي تمتلك خمسة أصابع يتميز فيها الإبهام بتفرد خاص لاتتشابه معه بقية المخلوقات, بما فيها القردة البارعة بالقفز والشد والإمساك, مع هذا تبقى (راحة) يد الإنسان لاتقارن بقبضة القرد, فمع كل اقتراب القرد منا في بنائه الكروموسومي, بحيث إن الجينات بيننا وبينه تشترك في حوالي 99% من تشكيلاتها, فإن هذه الإضافة البسيطة خلقت الإنسان من نوع مختلف وخلق متباين, { فتبارك الله أحسن الخالقين}, ففي الـ 1% تراكم (كم) الخلق فحدث انعطاف في تشكيل ( النوع) وهو قانون عجيب في الطبيعة, فالماء يبقى كما هو حتى الدرجة (99.99) فلا يغير طبيعته, ولكنه عند الدرجة مائة وعندها فقط, يحدث انقلاب كامل في طبيعته, فينقلب من ماء سائل إلى بخار سابح في الملكوت, وعندما بني كيان الإنسان على هذه الكيفية, فقد طار فوق كل الكائنات ليصبح من نوعية مختلفة. تمتلك يد الإنسان خمسة أصابع, وكل أصبع مكون من ثلاث سلاميات إلا الإبهام, فهو مكون من سلاميتين فقط, وهنا السر فعلى السلامي الثانية يرتكز وتر قابض طويل (Flexor Pollicis Longus) يطوي السلامي الثانية فيعطي الإبهام رشاقة ودقة خاصة, يتفوق بها الإنسان, وهو مالاتمتلكه بقية المخلوقات, بما فيها القرود. وبواسطة دقة بناء اليد انطلقت تؤدي مهام لانهاية لها, ولعب الإبهام الدور المحوري في ذلك, فمفصله الكروي يعطيه مرونة فائقة, وسلاميتاه الاثنتان مزودتان بما لايقل عن خمسة أوتار تمنحه الحركة في كل الاتجاهات برشاقة, في البسط والقبض, والتبعيد والتقريب والدوران والإمساك والمقابلة, يمكن أن نفهمها إذا نقلناها إلى قانون الحركة, فالضارب البارع على الكمبيوتر, يضرب إبهامه في المتوسط مالايقل عن عشرة آلاف ضربة في اليوم الواحد, وهذا يعني بكلمة ثانيةإذا نقلناها إلى حركة الساقين, فيما لو افترضنا حركة الساقين بدلا من قرع الإبهام, فسوف يترجم هذا الجهد إلى مسيرة أربعين كيلومترا في مدة ست ساعات. وهكذا بواسطة الإبهام استطعنا أن نعزف على البيانو, ونداعب أوتار الجيتار, ونخيط الشرايين الممزقة, ونصب الأفكار المبدعة في الكتابة, وننفخ في الناي, ونلعب الشطرنج, ومن دون اليد لم يكن لنا قدرة صقل العدسات التي فتحت أمامنا العوالم, فيها عولج حوالي خمس سكان الكرة الأرضية من العيوب البصرية, وبواسطتها أطللنا على القمر, وانكشفت أمامنا الميكروبات المجهرية, واخترقنا أجواز الفضاء فرأينا المجرات السابحة في الملكوت.قال اسحق نيوتن في يوم: هذا الإبهام العجيب هو الذي فتح لنا هذا العالم العجيب, فزاد معرفتنا بوجود الله {ربنا ماخلقت هذا باطلا} إن هذه الأداة المذهلة (اليد) تتضافر لإنجاز العمل فيها مجموعة من العظام والأوتار والعضلات والأعصاب والشرايين والأوردة والعروق اللمفاوية, في سيمفونية تعزف أعذب الألحان وأرقاها, في حركة 72 عظماً, ترقص وتهتز وتتوتر على حواف 82 مفصلاً, يمطها ويرخيها, يبسطها ويوترها 33 عضلة, وحذاء رسغ اليد تجلس سبع عظام صغيرة الحجم, عظيمة الأهمية تأخذ أسماء شاعرية وهندسية, مثل عظم الزورق والقمر وشبه المنحرف والمربع وعظم حبة البازلاء. إن كسراً في العظم الزورقي يكلف صاحبه جبيرة جبسية لمدة ثلاثة أشهر, واليد في وضع القبضة تذكيراً لصاحبه في الإمساك والمحافظة على صحة هذا العظم الذي لايتجاوز جرمه أنملة الأصبع, وبين هذه الأوتار والعظام تمر شبكة سقي وتروية دموية من أبدع ماخلق الله, تصبان من نهرين في حافتي الرسغ, في شلالين متعانقين متضافرين, وأما منظم هذه الحفلة فهي شبكة عصبية محكمة, متدفقة من ثلاث كابلات عصبية (أعصاب المتوسط والزندي والكعبري) تستقبل الحس وتوحي بالحركة, مربوطة بقوسين من التوترات العصبية, الأول إرادي وهو القادم كأوامر لاترد من القيادة العليا المرتبطة بالإرادة والوعي, والثاني يعمل بشكل لامركزي, وهو القوس المنعكس الشرطي (Condition Reflex ) فلا يلجأ البدن إلى كل حركة في استشارة المركز, بل يتصرف بما يناسب ويرسل خبراً إلى الحكومة المركزية, بما تصرف به للإحاطة, كما في لمس القطعة الساخنة, فإن اليد تنسحب فوراً دون تفكير. وهكذا فالبدن يعمل كأحسن دولة في العالم بين النظام المركزي واللامركزي, وعلينا أن نتعلم الحكمة البالغة من البيولوجيا. تزودت نهايات الأصابع بجسيمات حسية مختلفة, منها المختص بالحر والبرد, فيتمطط الجلد ويتوسع مع تغيرات درجات الحرارة (جسيمات روفيني وتومسا) وأخرى في معرفة الاهتزازات (جسيمات باسيني) وثالثة للألم بانضغاط هذه النهايات ونقل حس الألم (جسيمات لانغرهانس) ورابعة لمعرفة الحس العميق (جسيمات واغنر) أو حس المفاصل والأوتار (جسيمات غولجي مازوني). إن الحس العميق مهم في رشاقة الحركات وتوازنها المرتبطة بشكل رئيسي ومعقد مع الدماغ, ولايعرف نعمة التوازن إلا من ذاق مرارة الدوران وفقدان التوازن في يوم ما. إن أجهزة التوازن تعمل حتى لو كنا نائمين, وقد يستيقظ المرء يوماً, ليس على زقزقة العصافير, بل على دوار مجنون, عندها يدرك مدى دقة عمل هذه الأجهزة الحساسة المغروسة في دماغ كل منا. إن أهمية الشبكة العصبية تأتي من وظيفتها وليس من حجمها, ولذا فإن المفاتيح العصبية في الخارطة الدماغية تعطي المكان الرحب للعضو ذي الوظيفة الحيوية, مثل الفم واليد, وتنكمش أمام سطوح كبيرة فتضن عليها بالمكان وتبخل, وهكذا فالخارطة العصبية ومكان مفاتيحها لليد, هي أكبر من البطن والجذع معاً. اليد الشافية اعتمد اليونان أسطورة مؤداها أن هيجيا (Hygieia) ابنة اسكليبيوس (Asklepios) كانت إلهة الصحة وكانت قوة تأثيرها باللمس, فيدها لاترتفع عن مريض إلا وعاد للصحة, كما نقل في تراثنا من أثر قراءة الأدعية للمريض ولمسه, ومع الوقت لعبت الشعوذة الدور الكبير في إساءة سمعة هذا النوع من التأثير, حتى وقعت حادثة في الستينيات من هذا القرن لفتت الأنظار, هذه المرة لم تكن من عالم الإنسان بل من عالم النباتات. فقد لفتت علماء الكيمياء النباتية ظاهرة تعرفها النساء المهتمات بتجميل بيوتهن بالأزهار والزروع الجميلة, بقوة النمو وازدياد اخضرار النباتات, بزيادة محتوى اليخضور فيها (الكلوروفيل) التي تتعرض لملامسة أيادي النساء الناعمة في حنان وحب فقامت السيدة (D. Krieger) تزعم وجود مثل هذا الأثر في البشر, فعدد من الأمراض تتحسن وتميل آلام للانكسار ويتحسن الوضع النفسي فتزداد المقاومة, من خلال أثر لمس اليد. وأخذت مؤسسة أمريكية الموضوع مأخذ الجد, وأخضعت هذه الظاهرة للدراسة العلمية الإحصائية, في مشافي نيويورك فوصلت إلى نتائج غير متوقعة, منها ارتفاع قيمة خضاب الدم, وارتفاع موجات ألفا في المخطط الدماغي الكهربي (موجات الارتخاء).لقد تم في الوقت الراهن تطوير أطراف صناعية إلى درجة التجاوب مع الحر والبرد فضلاً عن الحركة الإلكترونية المعقدة, ووصل الروبوت إلى مستوى لعب البيانو وشرب كأس العصير, ولكنها ليست أكثر من لعب الأطفال أمام عمل اليد الإنسانية, مثل الفرق بين الدماغ والكمبيوتر, أو الفرق بين من يبصر وجهاً غريباً وبين أعمى يريد معرفته باللمس, وتركت هذه الفكرة ظلالها على الجراحة, حيث يعمد الجراحون في الوقت الراهن, إلى تطوير أذرع خاصة في جراحة المناظير, تدخل البطن وتتصرف مثل اليد, وهو المشروع المعروف بالمنظار اليد. في عام 1993 بدأ الجراح الألماني فولفجانج ـ داوم (Wolfgang Daum) في التفكير بتجاوز مشكلة تعاني منها جراحة المناظير الجديدة المستعملة في جراحة البطن الداخلية, فالجراح في العادة يبقر البطن بفتحات صغيرة, بعد أن يكون البطن قد نفخ مثل الطبل العظيم, ويدخل من هذه الثقوب أعمدة ممددة, في داخلها ومن نهايتها تقفز الأدوات الجراحية من المقص الباتر, والكاوي الحارق والقاطع, والشفاط الماص للمفرزات المتدفقة, وهذه الأدوات مع كل نفعها وأهميتها فهي لاتعادل يد الجراح السابقة, التي كانت تقتحم هدوء وقدسية البطن, فتجس وتمس كل شيء فيه, وما فكر فيه الجراح الألماني وقام بتطويره, كان في إدخال عمود الثقب ذي قطر عشرة ملليمترات, مسلحاً في نهايته بمايشبه اليد بثلاثة أصابع, فيها قدرة مس وجس أعضاء البطن الداخلية, وهو يعكف اليوم على تطوير هذه اليد الصغيرة (Minihand ) لتعمل بشكل إلكتروني, كما أن مشاكل التعقيم التي تتطلب إدخال الجهاز إلى درجة حرارة 143 أمكن التغلب عليها بتقنيات جديدة. ولكن الدكتور فولفجانج يعترف بعبقرية اليد وأنها شيء لايضاهى, وأن كل عمله لايزيد على محاولة متواضعة لتقليد عمل اليد.إن الدراسة التي قام بها البروفسور الألماني زورجاتس (Sorgatz) في المعهد النفسي العالي للتقنية في مدينة دارمشتات (Darmstadt) أفضت إلى أن الكثير من الأجهزة الحديثة التي نستخدمها لاتلائم اليدين الإنسانيتين الرائعتين, ومنها الكمبيوتر الذي صممت حروف اللوحة فيه, على نسق حروف الآلة الكاتبة التي تم اختراعها قبل 120 سنة, ويعاني ضاربو الكمبيوتر من جراء هذا الخطأ الفني من الجهد المتكرر والأذية الدائمة, إذا تصورنا كمية الضرب اليومية بالأصابع التي تبلغ حصة الإبهام منها مالايقل عن عشرة آلاف ضربة في المتوسط, كله بسبب استخدام الأصابع والجسم غير المناسبين وهي الظاهرة المعروفة بأذية الإجهاد المتكرر(Repetativ Strain Injur). ولذا فهو يقترح ثورة شاملة في إنتاج أدوات (عالم اليد) الجديد بدءاً من فتاحات علب السردين, وكبسات لوحة الكمبيوتر, وأقلام الرصاص وانتهاء بآلات العزف الموسيقية, وهو يرى أن معظم الأدوات المستخدمة حالياً لاتتناسب مع تشريحية اليد, وهي أقرب لأن تكون أدوات تعذيب من كونها تستهدف تسهيل مهمة اليد, وباعتبار نفس البروفسور المذكور موسيقياً, فقد طور آلة الناي التي يعزف بها بشكل مستعرض مناسبة لحركة اليدين أكثر من الأنبوب الطولاني. بصمة الأصابع والبصمة الجينية يعود اعتماد البصمات كشاهد يقيني على مرتكبي الجرائم إلى نهاية القرن التاسع عشر, ففي عام 1788 أعلن الألماني (ج.س.ماير) أن ترتيب الخطوط البارزة في الكفين والقدمين لايمكن أن يتطابقا عند شخصين على الإطلاق! وأن هذه البروزات تبقى ثابتة مدى الحياة, وقام بتجربة على نفسه دامت 41 عاما حيث أخذ انطباعات يده بين الفترتين المذكورتين, ولاحظ ثبات هذه العلامات دون تغير يذكر, وحصل نفس الشيء مع حاكم البنغال (هرتشل) في نهاية القرن التاسع عشر عندما قارن بصمات أصابعه بفارق يصل إلى 55 سنة, مما دفع العالم البريطاني (غالتون) إلى دراسة هذه الظاهرة ليضع بعد ذلك كتابه الخالد (بصمات الأصابع) الذي يعتبر مرجعا في هذا العلم, وجعل الحكومة الأرجنتينية بعد ذلك أن تكون الأولى التي تتبنى البصمات كأثر دامغ لهوية الإنسان في عام 1891م, وتم التأكد من أن احتمال أن تتطابق 12 ميزة من بصمة على أخرى هو احتمال واحد من 64 مليارا. الطريق للنطق باليد وتبقى معجزة اليد المحيرة في قصة (هيلين كيللر) عن كيفية نطقها وهي المصابة بالخرس والعمى والصمم, فعندما يطوق الإنسان بظلمات العمى, يبقى المنفذ في اليد التي بها يقرأ, ومنها تنبجس أفكاره للكتابة بطريقة النقش البارز, وفي الحين الذي ينقطع عن العالم الخارجي عالم الكلمة والصوت والنغم المنعش للروح, تبقى اليد والأطراف هي المنفذ, فتدخل الأصوات والكلمات والتصفيق هذه المرة عن طريق حس الاهتزازات, التي تحمل اليدين من جسيماتها العدد الوفير, فهيلين كيللر عندما صفق لها الجمهور في الشرق الأوسط أثناء زيارتها له شعرت بموجة التصفيق تخترق جسمها من أسفل قدميها بالاهتزاز. بقي أن نعرف أن كيللر تعلمت النطق بواسطة سيدة صبور رافقتها لمدة خمسين عاماً. كانت فيها كيللر تضع أصابعها على حنجرة (انا سوليفان) وفمها وشفتيها ولسانها عندما تنطق, فتقلدها, وبذا نطقت كيلر وبزت الفصحاء الناطقين, وترقت في مدارج المعرفة, وعاشت حياة طويلة حافلة بالإنتاج استمرت ثماني وثمانين سنة, تكتب العديد من الكتب حتى آخر حياتها, وتلقي المحاضرات في معظم أرجاء المعمورة تتحدى البلغاء. كانت وصيتها دوما: ليكن عندنا ثقة وإيمان. وأجمل ما نقل عنها عبارتها التالية: (إن لكل شيء في الوجود مباهجه, حتى الظلام وحتى السكون فقد تعلمت أن اقتنع بأي ظروف أوجد فيها, ولا أنكر أنه كثيراً ما يتملكني إحساس رهيب بالوحدة, كما يغشى الضباب الكون, كلما أتصور أني جالسة أنتظر على باب الحياة, والباب مقفل أمامي, ودونه الضوء والموسيقى والصحبة الحلوة, فالدخول محظور عليّ وقد سد القدر الرهيب طريقي إليه!! كثيراً ما أتساءل عن حكمة هذا القدر لأن قلبي يثور أحياناً ويحار, ولكن لساني لاينطق بالشكوى التي تصعد إلى الشفاه, ثم لايلبث الأمل أن يقترب مني باسماً هامساً: (هنالك سعادة كبيرة في إنكار الذات ومقاومة الصعاب) فلهذا أراني أحاول أن أجعل شمسي الداخلية ضوءاً في عيون الآخرين, وسعادتي النفسية بسمات على شفاههم).
|