لاوس .. تضاريس من الجبال والأنهار والفيلة

لاوس .. تضاريس من الجبال والأنهار والفيلة

تصوير: طالب الحسيني

اسمها الأصلي يعني بلد المليون فيل، لكن الأفيال التي كانت وسيلة النقل والموصلات الأساسية عبر دروبها الجبلية تناقصت، وبرز نهر "الميكونج" الذي يشق وديانها من أقصي الشمال إلى أقصى الجنوب كوسيلة نقل ومواصلات بديلة. وهي أفقر وأغرب بلدان منطقة الهند الصينية، وأعجوبة الطبيعة البكر في جنوب شرق آسيا.

(ما هذه الرائحة الأليفة الغريبة)?

ظل ذلك السؤال يطاردني طوال اليومين الأولين من أيام تجوالي في العاصمة اللاوسية فينتيان. وفجأة انبثقت الإجابة من تلافيف ذاكرة حميمة نائية, عَدَت عليها ضوضاء الزمان المتسارع. إنها رائحة (الكانون) في بيت جدتي القديم بالسنبلاوين, ورائحة أفران القرى التي عرفتها زائراً, وعابراً, وضيفاً.. لكنها ظلت كامنة في وعيي, ولاصقة بروحي.

يا الله يافينتيان.. عاصمة من عواصم شرق آسيا المتنمر, في نهاية القرن العشرين وعلى مشارف القرن الحادي والعشرين, ومع ذلك تظل كثرة من بيوتها تطهو طعامها في مواقد الطين والآجر التي يشتعل فيها الحطب والقش والخشب. رائحة أليفة, غرّبها زمان أفران البوتاجاز والكهرباء والميكروويف في كل الدنيا, لكنها لاتزال ترف في شوارع فينتيان. ويالشوارع فينتيان.. التي ينطقها أبناؤها (فينج شان), وهي تعني (مدينة القمر).

شوارع قليلها مرصوف, وكلها تظللها الأشجار, ونادراً ماتعلو أبنيتها على هامات الشجر المداري الوارف, ونخيل جوز الهند الولود المثقل بالثمر الكبير.. الأخضر بعد. وكم هو عذب الارتواء من عصير قلبه الشفيف الطازج, بدلاً من الكوكاكولا والسفن أب والفانتا, وفي المقاهي التي مقاعدها حصير البامبو تحت أغصان شجر الشوارع. لنترك ذلك الجزء الصغير من الضاحية الجنوبية الشرقية, حيث يترامى في تواضع ذلك القصر الأبيض ذو الطابق الواحد والحديقة الواسعة, فهنا يقيم رئىس الجمهورية الاشتراكي وراء أسوار خفيضة تطل منها خضرة الأشجار وعلى جانبي بوابتها يافطتان نحاسيتان تشيران إلى (القصر الجمهوري) إحداهما باللغة الفرنسية تلفت النظر إلى البناء ذي الطراز الباقي من زمن المستعمرات الفرنسية, حيث كانت فينتيان إحدى حواضر الفرانكفونية الغازية للهند الصينية, شأنها شأن (سايجون) في فيتنام و (فنوم بنه) في كمبوديا. جاء الفرنسيون وذهبوا بعد نصف قرن ولم يتركوا أثراً في لاوس غير بضعة أبنية من قرن داثر في ضاحية القصر الجمهوري, صار أحدها سنترالاً لم يعرف أكشاك الهواتف الرقمية إلا منذ شهور قلائل, وصار الآخر مبنى للإذاعة متواضعا وأنيقا, باستثناء ذلك لا أثر للفرنسيين بقي, اللهم إلا الخبز الفرنسي الطويل الذي يعرضه باعة الفاكهة على الأرصفة الترابية في حزمات تعتلي أكوام الأناناس والموز والباباي, وما لا أعرف من الفاكهة في هذا البلد الجبلي المداري المطير, الذي أحكمت عزلته ثلاثة قرون من الحرب وأربعة تخوم مغلقة. فلاوس يسكنها أربعة ملايين ونصف مليون نسمة يتبعثرون في مساحة 237 ألف كيلو مترمربع , لتكون بذلك أقل بلدان شرق آسيا من حيث الكثافة السكانية التي لاتتعدى 18 إنساناً في الكيلو متر المربع. هذا البلد الذي يأخذ شكل رقعة متطاولة تنحصر بين سلسلة جبال أناميت من ناحية ونهر الميكونج من الناحية الأخرى, تحدها من الجهات الأربع حدود مع بلدان أربع هي فيتنام في الشرق وكمبوديا جنوبا وتايلند غربا والصين شمالاً. أربع جهات موصدة بحدود مع جيران طالما اشتعلت معهم حروب وحروب غير الحروب مع الآتين من أقاصي الدنيا, من وراء البحار التي لاتراها أبداً لاوس. فهذا البلد الذي بدأ كدويلات صغيرة لم يتوحد إلا عام 1353م في مملكة أسميت (لانزانغ) وتعني (أرض المليون فيل) إذ كانت الأفيال فيها ـ و لاتزال ـ وسيلة النقل الأساسية للأحمال الثقيلة خاصة من خشب الغابات المنتشرة في وديان هذا البلد. ولم تلبث هذه الوحدة حتى تفصمت من جديد فصارت ثلاث ممالك منفصلة في عام 1700م. ولم تكف الإغارات عليها قادمة عبر الحدود مع جيرانها الأقوى خاصة الصين وتايلند. لكن الإغارة الكبرى جاءت في نهاية القرن التاسع عشر عندما قررت فرنسا ابتلاع لاوس لتكمل إخضاع منطقة الهند الصينية (فيتنام وكمبوديا ولاوس) لنفوذها الذي ثقل وطال لأكثر من خمسين عاماً. ولم تنل لاوس بعض حريتها إلا عام 1949 عندما حصلت لجنة (لاوس الحرة) التي رأسها ثلاثة من الإخوة الأمراء اللاوسيين ـ على استقلال داخل مايسمى بالاتحاد الفرنسي ـ ومع هذا الاستقلال الغائم انقسم الإخوة الثلاثة حيث برز من بينهم سوفانوفونج الذي صعد نحو الشمال الغربي وأقام علاقة قوية مع زعيم فيتنام الشمالية الشيوعية (هوشي منه) وأسس في لاوس حركة (الباتيت لاو) أو (شعب اللاو) الشيوعية. ومع هزيمة فرنسا في معركة (ديان بيان فو) الفيتنامية عام 1954 سارع الغرب إلى عقد مؤتمر سلام في جنيف وتقرر إقامة دولة لاوس كحزام عازل بين فيتنام الشمالية الشيوعية في الشرق وتايلاند غير الشيوعية في الغرب. وظل الوضع في لاوس هادئا ـ على السطح ـ حتى عام 1960 عندما قام ضابط في الجيش بانقلاب ضد الحكومة الموالية للغرب وسرعان مااتحد مع الباتيت لاو وسيطروا على شمالي لاوس واشتعلت حرب أهلية بين الشمال الشيوعي والجنوب غير الشيوعي, إلى أن عقد مؤتمر دولي في جنيف 1962 اتفق فيه على أن تتكون حكومة ائتلافية في لاوس يرأسها الأمير المحايد سوفانا فوما ويكون الأمير الشيوعي (سوفانو فونج) والأمير المعادي للشيوعية (بو ناوم) عضوين فيها يعادل كل منهما تأثير الآخر. وصارت لاوس محايدة تحت الإشراف الدولي وغادرتها كل القوات الأجنبية, لكن سرعان مااندلعت من جديد الحرب الأهلية بين (الباتيت لاو) الشيوعيين والحكومة التي لم تكن كذلك. وهي حرب أصداء لما كان يحدث على جانبي البلاد. وانقسمت لاوس على نفسها, وظلت الهدنة بين شقيها تستقر حينا وتحترق بعد ذلك حتى انتهت الحرب الفيتنامية عام 1975, وسرعان ماصارت كمبوديا تحت سيطرة الشيوعيين, وكذلك لاوس التي حكمها (الباتيت لاو) وهيمن عليها الفيتناميون الذين خف تأثيرهم مع تغيرات الدنيا والزمان وبرغم أن لاوس لاتزال شيوعية بالاسم ونظام الحكم, فإن شيوعيتها بدأت تنفتح كما غيرها وتتمحك في اقتصاد السوق وإن على استحياء وتحت مسميات وأشكال ش تى كان من بينها رفع المطرقة والمنجل من شعار البلاد عام 1990, وهو ماتأكدنا منه طوال أيام تجوالنا في فينتيان وماوراء فينتيان.تبدو فينتيان ـ للوهلة الأولى مملة ـ لكنها تتسلل إلى النفس بهدوء, وتغدو شوارعها الترابية المظللة, وحوانيتها الفقيرة الصغيرة, وبشرها النحاف السمر الطيبون, يغدو كل ذلك كما لو كان من صحبة أول العمر. وكأنني أعرفهم من زمان, كنت أقفز في صناديق التوكتوك, قائلاً لسائقيها (مرحبا) فينطلقون دون أن نتفق على هدف أو أجر. فالأماكن المستهدفة بالزيارة قليلة, وأجور التنقل بالتوكتوك أزهد من التفاوض حولها, والناس لايعرفون كيف يكذبون. فالسياحة في لاوس وليدة بعد, تثغو ببراءة دون أن تتراكم عليها أدران السياحة التي لامهرب منها. والسلطات الاشتراكية البيوريتانية (المتطهرة) تجادل للاحتفاظ بهذه البراءة. ويعبر عن ذلك أحد مدراء السياحة الذين التقيتهم في شركة (ل.إ.ت) بمبناها المتواضع بشارع (ثانون سيتثاسيرات), وأحسست أنه يردد كلاما رسمياً يحفظه أكثر مما يسبر أغواره.. قال لي عندما أبديت احتجاجي على نظام تضييق منح التأشيرات السياحية وإخطار السلطات بالإقامة في كل مدينة ينتقل إليها السائح: (نحن نتحاشى سياحة تؤدي إلى التلوث الثقافي.. نريد سياحة ثقافية وبيئية).

كلام جميل, وبريء في عالم ليس كذلك, فالذي حدث ويحدث في مواجهة هذه الروح البيوريتانية أن السلطات تحكم باب السياحة من ناحيتها, فيأتي الآخرون من فوق الأسوار ويتسللون من الثغرات والنوافذ.. عبر نقاط الحدود البرية المترامية ومن نهر الميكونج. ففي إحدى السنوات الأخيرة دخل لاوس 62 ألف سائح بالطرق الرسمية, لكن من دخلوا من تايلند وفيتنام المجاورتين أضعاف ذلك, دفعوا نقودهم هناك وجاءوا إلى لاوس بكل (الملوثات) السياحية, فحدث التلوث الثقافي ولم تغنم لاوس في المقابل فلساً ولا بنسا!

مدرج لاتصعده الطائرات

أطرف مرشد سياحي انطلق بنا في أطرف مركبة سياحية في أطرف عاصمة من عواصم شرق آسيا, ولتعميق التعارف أعطاني (الكارت) الخاص به, وهو كارت طريف أيضا. على بطن قصاصة من علبة سجائر كتب اسمه مسبوقاً بلقب مستر وتحته كتب العنوان ورقمي هاتف متباعدين رجحت أن أحدهما لجاره البقال والآخر ربما لأحد أقاربه في الجانب الآخر من المدينة. وفي التوكتوك المتقافز على ثلاث عجلات انطلق بنا المستر (بوفالاي سيسوثان) الذي لايعرف إلا ثلاث كلمات إنجليزية هي (يس) و (نو) و (مستر), مررنا بميدان النافورة الذي يعتبر نقطة الانطلاق السياحية في قلب فينتيان, نافورة صغيرة في وسط مقهى يتوسط ميدانا دائريا تحيط به أبنية حديثة من طابق أو طابقين وبها تتناثر مقاه ومطاعم أوربية صغيرة, محال تبيع العاديات والتحف القديمة للسياح القليلين الذين تخففوا من ثياب الشتاء في شتاء لاوس الدافىء وراحوا يظهرون هنا وهناك ماشين بصنادل خفيفة دائخين من فرط السكينة وربما من الأفيون أو الساكي.

أشار مرشدنا إلى النافورة وقال (يس), فقلت (نو), ففهم وانطلق إلى أشهر معالم فينتيان وصروحها, يسمونه (نصب الجندي المجهول) وهو على نسق قوس النصر الباريسي وإن برقة حال وزخرفة يمكن تسميتها (الباروك) الشرقي. قوس أسمنتي اللون هائل الارتفاع والضخامة تتوضع تحته وداخل قوائمه محال لبيع منحوتات الخشب والمنسوجات اليدوية للسياح الذين لم يكن منهم في المكان غيرنا. هذا الصرح يسميه أهالي فينتيان (مدرج الطائرات الرأسي), وسبب التسمية التهكمية هي أن الولايات المتحدة أحضرت شحنة من الأسمنت لبناء مطار لحلفائها وما إن استولى الشيوعيون على الحكم حتى أخذوا الأسمنت الأمريكي وبنوا به هذا الصرح الصاعد في الأعالي.. هائلاً, كالحاً, وسط حديقة لابأس بجمالها تتوسط الميدان الدائري الكبير الذي لاتزال بعض الطرق المؤدية إليه ترابية لم ترصف بعد!.انتهينا من تفقد (قوس النصر) الفينتياني فأشار (سيسوثان) بيده إلى بعيد سائلاً (يس) فقلنا (يس), وانطلقنا إلى أهم صروح فينتيان الدينية وأكثرها قداسة لدى أبناء لاوس البوذيين ـ الثيرفادا.. إنه (شات لوانج) وهو ضريح برجي ذهبي أصفر مغلق على ذاته يصعد إليه الزائرون ويدورون حول قاعدة البرج المصمتة ثم يهبطون, وبالطبع فإن القاعدة مغلقة على مايعده البوذيون أثراً مقدساً أو صفحة مقدسة. لم أشعر بتلك القداسة أبداً لهذا لم أكمل الدورة ونزلت. وخرجنا إلى ساحة المعبد الفسيحة, حيث تتناثر معابد بوذية أخرى ويمر في هدوء الرهبان في أروابهم البرتقالية, وثمة بناء بائس عرفنا أنه مدرسة دينية للرهبان الصغار الذين كانوا بالعشرات داخل المبنى المتقشف وفي ظلال الأشجار. وفي ظل شجرة, وعلى حصير من البامبو, جلست أستريح وأبرد جوفي المحتر بشراب بارد, وياله من مقهى أرضي ممتع ترف نسماته بوداعة لامثيل لها في ظهيرة شتاء ساخن.

وعاد (سيسوثان) يقول (يس) فنقول (يس), وننطلق إلى معلم آخر من معالم فينتيان.. بل عدة معالم متتابعة يكتنزها سوق يسمى (سوق النهار).. سوق مغطى, في الخارج منه يوجد موقف لعربات (التوكتوك) بالعشرات و(جراج) لأكداس مئات الدراجات التي يستخدمها بكثرة أهل فينتيان رجالاً ونساء, كما توجد حول أسوار السوق الخارجية الخضر والفواكه القادمة مباشرة من الريف ومن أعالي الشجر, والميزان من ذلك النوع الأثري العتيق ذي الكفتين المرفوعتين في الهواء.. البضاعة في كفة والموازين في الكفة الأخرى وبعضها قطع من الحجارة نحتت بحيث يوازي وزن كل منها أحد الموازين المعروفة. أما في داخل (سوق النهار) المغطى فالحوانيت تتتابع مفتوحة ومتواجهة على جانبي ممرين طويلين يكونان معبر السوق. حوانيت لكل الأدوات المنزلية ومقصد السياح من المنحوتات الخشبية والمنسوجات التقليدية التي تتراص مغطية جوانب المحال ومنشور بعضها عند الواجهة, وهي جميعاً تصنع لوحات من المنمنمات اللاوسية تكثر فيها الزهور ورسوم الأفيال. والطريف والمؤثر أن كل هذا الإبداع من خيوط القطن والحرير الملونة وتوشيات خيوط الفضة والذهب تصنعه أصابع الفقيرات على أنوال يدوية في معظم البيوت حتى ليقال إنه لاتوجد امرأة في لاوس لاتعرف النسج.ومن الطريف المؤلم أن النسج اليدوي في لاوس تأثر تأثراً مباشراً بالحروب العديدة التي أثخنت جسد هذه البلاد بالطعنات من كل صوب. فبينما احتفظ أسلوب النسج الجنوبي بطابعه القديم البسيط من أفضل خيوط الحرير وبرسوم من تضاعيف صور المعابد والأفيال من المناظر التي تكثر رؤيتها في مقاطعة (شامبا ساك), تأثر أسلوب النسج في شمال لاوس بتدخلات السلم والحروب العديدة مع الفيتناميين والصينيين واليابانيين وحتى الأمريكيين, فظهرت الرسوم ذات الطبيعة الزخرفية المعقدة, وكثر استخدام الخيوط الصناعية, وهذا جلي في التأثرات الصينية خاصة, التي تكثر فيها رسوم التنين الزخرفية. لكن يظل مدهشاً في هذا الفقر أن هناك ست عشرة طريقة من طرق النسيج التقليدي في لاوس, ولاتزال الأصباغ المستعملة طبيعية بحتة, من النباتات والأحجار وحتى بعض الحشرات, ولهم في تحضيرها طرق بدائية عجيبة من المعالجة بالتفاعلات الطبيعية واستخدام الجير والشب والملح. وهي أصباغ عظيمة الثبات حتى أن قطع النسيج اليدوي الفاخرة تطير من لاوس إلى أوربا, خاصة الشمال الاسكندنافي لتباع بأعلى الأسعار. ولقد التقيت سائحا دنماركيا وجدته يتفقد الأقمشة بولع خبير أريب, وكان كذلك, وأخبرني في معرض حديث عجول بأن تلك الطرق التقليدية التي يستخدمها أهل لاوس في الصباغة تؤدي إلى بلوغ درجة من التوازن الدقيق بين القلوية والحامضية, هذه التي يعبر عنها كيميائيا بتوازن الـ PH, وهو توازن تعجز عن بلوغه معامل الغرب الكيميائية الحديثة, لهذا تظل ألوان منسوجات لاوس اليدوية الفقيرة أثبت.. وأزهى على مر السنين!

تعجبت, ونظرت في لحظة تعجبي إلى وجه (سيسوثان) الذي بادرنا مشيراً إلى البعيد, سائلاً: (يس), فرددت مأخوذا ومفتونا: (يس), (يس), (يس), وانطلقنا.

أم المياه.. أبو الحياة

لم أر الفقر جميلاً أبداً إلا في لاوس, خاصة تلك المقاهي المتربة البائسة المعلقة على ضفة نهر الميكونج. ولعله من الأفضل أن أقول بدلاً من الفقر رقة الحال. فلا أرقّ من تلك المناضد العتيقة المسودة والكراسي القديمة من خشب التيك الثقيل وأرض المقهى الخشبية القائمة على أوتاد مغروسة في شاطىء النهر لتظل أعلى كلما علت مياه الفيضان. أما البناء فهو مجرد حيطان منسوجة من لحاء البامبو وسقف (جمالوني) من أعواد البامبو والقش, وقناديل زيت عتيقة, وشجرة حور وارفة يستند إليها البناء.. إنها شرفات على النهر تحوطها جذوع نخيل جوز الهند والغاب العملاق, وفي الأفق تسري وادعة حياة النهر العظيم, وكنت في إحدى هذه الشرفات أتابع عظمة تلك الحياة, وأنتظر مع عشرات من الغربيين سحر الغروب, وأي سحر??

يا الله, ما أبدع خلقك, وما أكرمك أن مننت عليّ بهبتين نادرتين في عمري, إذ جعلتني أعاين رحلة نهر النيل الطويلة طائراً من أواسط إفريقيا حتى أقصى شمالها, وأنعمت عليّ بالإطلال والإبحار مرات من بلدان مختلفة على نهر الميكونج.. فيتنام وتايلاند وميانمار (بورما) وكمبوديا.. وأخيراً.. لاوس. ولم يبق لي إلا أن أصعد خمسة آلاف متر فوق هضبة التبت, في مقاطعة قينغاي الصينية, لأبلغ منابع النهر العظيم الذي يمضي مخترقاً السهول والجبال والحدود ليصب بعد رحلة طولها 4350 كيلو متراً في البحر عبر الساحل الفيتنامي.

يسمونه في الصين (لانكانج جيانج) أي النهر العاصف, وفي تايلاند وميانمار ولاوس (مايي نام خونج) أي أم المياه, وفي كمبوديا (تونلي ثم) أي عظيم الماء, وفي فيتنام (كو أو لونج) أي نهر التنينات التسعة.

إنه نهر يبلغ اتساعه 14 كيلو متراً بين الضفتين عند امتلائه في موسم الفيضان (من يوليو إلى نوفمبر) قرب الحدود بين لاوس وكمبوديا, وكان ماركو بولو أول الغربيين الذين أذهلهم هذا النهر عندما رآه في القرن 13, ولايزال مذهلاً, فطاقته الهيدروليكية تساوي الطاقة التي يولدها كل النفط المستخرج من بلد نفطي كبير كأندونيسيا, وضفافه الخصبة تطرح معظم محاصيل الحياة حيثما يمر. وفي بلد تشكل تضاريس الجبال 07% من مجمل مساحته كما في لاوس فإن النقل النهري في الميكونج يمثل الجزء الأكبر من حجم المواصلات والشحن عبر هذا البلد الذي تفوق مساحته مساحة بريطانيا.. العظمي.

هذا بعض من نهر الميكونج, أما البعض الآخر, والأهم بالنسبة لي, فقد كان شيئاً لايحسب بالأرقام. إذ إنه يتعلق بالسحر الذي عاينته بنفسي, بعد أن قرأت عنه وصفاً لم أعه إلا بالمعايشة, ففي أكثر من موضع تصف كتب الرحلات منظر ضفاف الميكونج عند الغروب بأنها هادئة أو ذات تأثير مهدىء. لكنني أقول بأنها تعادل (المهدئات الكبرى) التي يصفها أطباء النفس والأعصاب لمكدودي العقول والنفوس في كل مصحات وعيادات العالم. وهاكم التجربة..

فينتيان مدينة, بل بلدة ريفية الطابع, تتمدد في ارتياح على قوس مديد من ضفاف نهر الميكونج. النهر واسع المجرى إلى درجة أن ضفته الأخرى تبدو وكأنها في بلد بعيد, وبين الضفتين ثمة جزيرة تسمى (دون شان) تكبر وتصغر تبعاً لارتفاع المياه في النهر. ولأنني حين جلست على الضفة في تلك الأيام من شهر يناير بينما النهر في غيض, فإن جزيرة (دون شان) كانت تترامى باتساع بلدة.. بلدة من الرمل الرمادي الناعم الصافي. أمامها مياه, ووراءها مياه, وعلى رمالها يمضي كثرة من الأطفال وبعض البشر ومنهم رهبان صغار في أرواب برتقالية. وفي شرفة مقهى خشبي معلق.. مترب وفقير, كنت أراقب الغروب مع حشد من السياح الغربيين الذين تأهلوا لسحر المنظر بجالونات من البيرة, وربما خمر الأرز المحلية أيضاً, وقد يكون هناك بعض الأفيون الذي جلبوه معهم عبر الحدود من منطقة المثلث الذهبي أو من أبناء القبائل الجبلية الذين يزرعونه في تلافيف الجبال. ولم أكن مؤهلاً بأي من ذلك, مجرد علبة (بيبسي) شربت بعضها وزهدت في البقية, ورحت أطرد عن وجهي وأطرافي عشرات من النمل الكبير الذي راح ينبع من خشب أرض المقهى ومن جذوع الشجر المجاور. ومع النمل المفزع بركضه على جلدي, أخذ توالد البعوض الاستوائي يتزايد ويتزايد معه الطنين واللسع ولم يكن معي ذلك الدهان الطارد للبعوض إذ اكتفيت بأقراص الوقاية من الملاريا.

باختصار, كان جحيما, قررت أن احتمله لأرصد مشهد الغروب الذي قرأت عنه. وبدأت الشمس تهبط في الأفق البعيد.. تكبر ويحمر قرصها وتتكاثف حولها هالة بنفسجية تدكن كلما زاد الهبوط. ومن القرص الأحمر الوهاج تراءى انسكاب رقراق من الذهب الأحمر تعبره ظلال زوارق منسابة وبشر نحاف يخوضون في اللجة وطيور آيبة في سلام. ولم أعد أشعر بوحشية النمل ولا البعوض برغم أنها كانت تتكاثر على أطرافي ووجهي.. تلسع وتعقص, وأنا هناك.. هناك لا أدري بنفسي الهائمة في ترنيمة السحر.. في غروب الشمس فوق نهر الميكونج.

مقعد أمام الجناح.. الأيسر!

في نشوة مغرب من المغارب على ضفة الميكونج في فينتيان بادرني بالحديث سائح بريطاني عرفت أنه مهندس الكترونات لندني اسمه (جون ماتسي). كان في نحو الثلاثينيات قوي البنية وأشقر راح يمسح ذراعيه وعنقه بالكريم الطارد للبعوض وبدا لي ثملاً وهو يقول لي: (هل ذهبت إلى لوانج برابانج). قلت (ليس بعد). فقال هاتفاً: (أوه.. لابد أن تذهب.. لوانج برابانج.. فانتازتيك.. فانتازتيك). ونصحني بأن أجلس على مقعد إلى جوار إحدى النوافذ في الجانب الأيسر لأطل على أروع مناظر الطبيعة قبل هبوط الطائرة بين الجبال وعلى مشهد من النهر العظيم وتفرعاته في الوديان الخضراء. وكنوع من تسلط الهواجس الغامضة حرصت على أن أكون في مقدمة الصاعدين إلى الطائرة القديمة سوفييتية الصنع, ولأن رحلات الطيران الداخلية لا تحدد أرقاماً للجلوس داخل الطائرة سارعت باحتلال أحد المقاعد بجوار نافذة في الجانب الأيسر. وبينما كانت الطائرة الفقيرة تخفض من ارتفاعها بعد رحلة زمنها 35 دقيقة, تهيؤا للهبوط في مطار لوانج برابانج, أيقنت أن مهندس الإلكترونيات البريطاني السائح لم يكن ثملاً, بل كان مفتونا وهو يتذكر روعة المنظر.

جبال خضراء تغطيها الغابات, تتناغم ألوانها في تعاقبها الذي لاينتهي, فتبدأ من البنفسجي في الأفق السماوي البعيد, وتتألق خضرة مع الاقتراب, وفي الوديان والسهول تتراسم مدارج وأحواض الحقول المروية واليانعة. وبين الجبال الخضر يمضي نهر الميكونج رحيبا تتبعثر في حوضه جزر خضراء ورملية وأخرى بألوان الصخور المتدرجة ألوانا من الأحمر إلى البني فالأزرق الداكن. وما من أثر يبدو للبيوت المبعثرة في ظلال الأشجار الكثيفة على التلال.. لا أثر لوجود البشر إلا الخطوط النحيلة للدروب التي شقها الإنسان على مدى القرون دون أن تغيرها القرون, تتبدى بلون التراب الطيني البرتقالي الدافىء متلوية نحيلة بين أمواج الخضرة.

هبطت الطائرة كأنها تطفو نازلة في بئر خرافي فسيح بين روعة الجبال.

وما إن نزلت من الطائرة وخطوت مع سرب الركاب على أرض المطار الريفي الوادع, حتى وجدت هناك من ينتظرني حاملاً لوحة مكتوبا عليها اسمي بحروف لاتينية مرتبكة وبتهجئة خاطئة. كانت فتاة فيتنامية الملامح ترتدي ملابس رياضية متواضعة وأخبرتني أنها المرشدة السياحية التي ستصحبني في جولة لوانج برابانج.. وبعد حوار خاطف بالإنجليزية عرفت أننا سنبدأ برحلة إبحار في الميكونج إلى منطقة الكهوف والشلالات وعند العودة سنتوقف عند بعض القرى النهرية. وكنت متلهفاً لبدء الرحلة, لذلك ضقت بالإيقاع شديد البطء لتسليم الحقائب من منطقة جمركية تشبه أكشاك باعة الخضر, ثم إنه كان يتعين علينا أن نراجع الجوازات لتسجيل إقامة جديدة لدى سلطات المقاطعة. بطء شديد, وبؤس شديد, وبيروقراطية تعيسة. لكن ما إن انتهى كل شيء وعبرنا جسراً حديديا قديما معلقا فوق واد أخضر يمضي فيه فرع من النهر, ورحنا نخترق مدينة لوانج برابانج, حتى أحسست بانقشاع كل الضيق, وبدأت أتنفس ملء رئتي من هواء عالم شديد البكارة في بلدة جبلية من بلدات القرن الثامن عشر, لم تتلوث روحها بعد. وأدركت أنني أمضي في إحدى أبهى رحلات العمر بينما الميكروباص السياحي يخترق شوارع تنام بيوتها الخشبية والمعمولة من البامبو في ظل الأشجار ونخيل جوز الهند, وعلى الأرض الترابية المرشوشة يسعى البشر والدراجات والتريسكلات والدجاج والكلاب الهائمة والدواب على أنواعها في وداعة آتية من هدأة زمن سحيق غادر العالم وأقام هنا.

تركنا حقائبنا في (الميكروباص) وهبطنا إلى النهر في واد سحيق, فضفاف الميكونج في هذا الجزء الشمالي من لاوس تتكون من سلسلة جبلية شاهقة وخضراء. خطونا فوق سقالة بين الشاطىء والزورق تترقرق تحتها مياه النهر الخضراء المزرقة والتي سنراها تغير ألوانها على امتداد رحلتنا التي طالت إلى نهار كامل وودت لو أنها تطول حتى نهاية العمر وأن يصحبني فيها كل من أحبهم ويحبونني.

قالت لي مرافقتنا التي كانت بسيطة ورقيقة وإن كان اسمها مركبا وعسيراً حتى أنني مكثت أناديها اختصاراً: (داو داو). قالت (داو داو) إن غايتنا هي شلالات (كوانج سي) التي تبعد 29 كيلو متراً جنوب المدينة. لكنني ألححت أن نرى أولاً كهوف (باك أو) وكانت على مبعدة 25 كيلو متراً إلى الشمال, وهكذا صارت الرحلة رحلتين, ومكثنا نهاراً شبه كامل في رحاب الميكونج وبين ضفافه الجبلية وفي غابات جباله وكهوفها وبعض القرى والجزر. نهار كامل في دنيا كأنها في بداية الخلق أو ماقبل التاريخ.كان الزورق نحيلاً جداً وطويلاً جداً ومسقوفاً برقيقة محدبة من (الصاج) أخذت تدق بإيقاعات بعض المطر الذي تساقط خفيفاً في جزء صغير من الرحلة, وكان يجري بسرعة (موتور ديزل) عتيق لم يكن يخدش سرمدية سكينة النهر والجبال من حولنا عداه, وعدا الزوارق التايلاندية الحديثة السريعة التي كانت تطير مفزعة الضوضاء عابرة إيانا حاملة (سياح الحدود) الذين يمضون رحلة نهار واحد في لاوس عبرالنهر ويعودون في آخر النهار إلى مستقرهم في تايلاند.

ارتديت سترة النجاة البرتقالية صارخة اللون فيما كانت (داو داو) وقائد الزورق ومساعده ينظرون نحوي بابتسامة عطوف. وكان طالب الحسيني المثقل بآلات تصويره ينظر إليّ في زهو لأنه يتحرك دون سترة نجاة. لكنني لم أكن مستعداً للمنافسة الضاحكة. فلم تكن سترة النجاة مجرد رغبة للشعور بالأمان, بل كانت أيضاً وأساساً رغبة في طرد أدنى تشويش للذهن والخاطر والروح, لأنني أحسست بعيد انطلاقنا بأن هذه واحدة من أندر رحلات العمر, وعليّ أن أصفِّي نفسي تماماً وأفرغها لتتشرب دقائق اللحظات, وبأقصى طاقة الحواس.. كل الحواس. ولعل ذلك النهر يفسر النهم الذي رحت ألتهم به وجبة مقررة في برنامج الرحلة أتت بها (داو داو) على ظهر الزورق. نظر طالب إلى الطعام بريبة واكتفى ببرتقالة وبعض الموز فيما رحت أنا أقبل على كل شيء وأقول له وأنا أمضغ (كل يابني.. الأكل ثقافة شعوب.. تثقّف). لكنه خشي وخشيته مبررة, ويفترض أن أكون ـ كطبيب ـ أكثر منه خشية لأنني أعرف المستوى الصحي الوقائى المتواضع جداً في بلد فقير كهذا. لكنني رحت ألتهم الطعام اللاوسي بيقين كامل أن شيئاً أبدا لن يصيبني, لاسلامونيلا ولاشيجيلا ولا فيروس التهاب كبدي ولامعدي ولا غيره, إيمان كامل بأنني سأقهر كل هذه الدنايا برغم الاحتمال الكبير لوجودها, فقد كنت آكل مع الدجاج المتبل بالصويا والسكر جبروت روعة الجبال المغطاة بالغابات البكر من حولي, وكنت أزدرد عجينة الأرز الأحمر المطبوخ بالبخار في أقماع من البامبو بفيض من انسياب النهر العظيم وهو يدور حول جزر صخرية تبدو حجارتها النارية المنحوتة بمرور القرون وكأنها من زمن البراكين الأولى, وتحليت بسكاكر الأرز وجوز الهند الملفوفة في أوراق الموز البنية المعتقة وأنا أوقن ـ لحد الرغبة في البكاء صفاءً ـ أن دنيا الله حلوة خضرة, حقا.. لو تركت لفطرتها, وابتعد عنها جشع الإنسان.انشقت الجبال الخضراء فجأة عن يميننا, مفسحة الطريق لنهر يخرج من النهر, أو يدخل إليه, يسمى نهر (أو), وكانت كهوف (باك أو) عن يسارنا, وعرفت بسر تسميتها هكذا, فكلمة (باك) في اللغة اللاوسية تعني فوهة النهر, ومنها أسميت الكهوف بكهوف فوهة نهر أو. ولقد رأينا منها كهفين أولهما يسمى (ثام تينج), صعدنا إليه عالياً على درج منحوت في حجارة الجبل الجيرية البيضاء. والكهف نفسه مغارة عميقة التجويف من هذه الحجارة وبها تما ثيل لبوذا أشهرها وأكبرها تمثال (بوذا واقفا), والكهف ليس مجرد موقع سياحي بل هو مزار ديني يعتقدون في حلول البركة على زواره. وفي هذا الكهف حدث لي أمر عجيب إن لم ينطو على خدعة ما. فهناك تمثال صغير لبوذا جالساً في وضع التأمل وحوله تشتعل شموع الزائرين وزهورهم. وثمة صندوق معدني قديم للنذور وعلبة بها عصي على كل منها رقم, وتبعاً لخطوات شرحتها لي المرشدة وضعت قطعة نقد في صندوق النذور المعدني وحملته بين يدي أهزه ليخشخش بينما كنت, في سري, أتمنى ما أتمنى وأسأل ما أريد, ثم سحبت عصا قرأت رقمها وسحبت ورقة من لوحة أوراق بالرقم ذاته, وراحت (داو داو) تقرأ المكتوب باللغة اللاوسية وتترجم ماتقرأ, وكان مذهلاً ماقرأته إذ كان إجابات محددة على تمنياتي وأسئلتي تحديداً والتي رددتها في سري. واقشعر جلدي في كهف (ثام تينج). ثم هدأت مع خروجي من الكهف في الطريق إلى كهف آخر اسمه (ثام فوم). جسور معلقة على حافة الجبل فوق الماء, ودرج يواصل الصعود عبر غابة الجبل المدارية. أشجار مترعة, عملاقة, أشجار مانجو لم أر أضخم ولا أعلى منها وثمار كبيرة بشكل غير عادي, وكذلك كل الأشجار خاصة أشجار التيك التي تصعد سامقة منتهية بمظلة خضراء محكمة الاستدارة. وكانت الأشجار تتكاثف والأغصان تشتبك فتزداد العتمة والبرودة حتى الكهف الذي لم نستطع الوصول إليه إلا بإرشاد الكشافات التي أحضرها المرشدون وزودنا بها حراس الغابة والكهوف. لكنني اكتفيت بدخول الكهف الأول, وعدت أدراجي إلى النهر والزورق. وأقفلنا في اتجاه الجنوب

إنهم يصيدون الذهب

مررنا في أول طريق رجوعنا بقرية للصيادين, وجزيرة لصانعي الجرار, وثالثة للنساجات على الأنوال اليدوية, وكانت الصور ذاتها.. قرى على منحدرات الجبال وعلى ضفاف النهر تنهض بيوتها على أوتاد من الخشب وهي على هيئة صناديق كبيرة من البامبو بسقوف (جمالونية) مائلة ونوافذ صغيرة تطل منها وجوه مليئة بالسكينة وبعض الدهشة. طرقات ترابية محفوفة بأشجار المانجو ونخيل جوز الهند يلهو فيها أطفال كثر خفاف الثياب مع الدجاج والماعز والكلاب. أما أغرب القرى فكانت قرية صانعي (الساكي) أو خمر الأرز. قرية رائحتها لاتطاق ومدخلها ساحات تترامى فيها جرار تخمير الأرز وأدوات التقطير البدائية وصناديق الزجاجات المعبأة. لكن الغريب هو عدم العثور على سكران واحد في القرية التي تفقدناها بما يكفي ونحن نكاد نغطي أنوفنا لعدم احتمال فظاعة الرائحة.وبينما كنا ننطلق إلى الشلالات مكثنا نمر بأناس متباعدين, أسر كاملة من الأب والأم والأولاد, يقرفصون على حافة الماء, على شواطىء القرى المعزولة وفي الجزر, يمسكون بغرابيل ينخلون بها الرمل بحثا عن الذهب. وتقول (داو داو): (إنهم يعثرون فعلاً على ذهب في حوض النهر أثناء انحساره, وأحيانا ما تكون الكمية جراماً كاملا من الذهب في اليوم الواحد).25 ميلاً من الإبحار رجوعاً إلى لوانج برابانج ثم 29 ميلاً إلى الجنوب منها, أي 54 ميلاً من الإبحار حتى الوصول إلى شلالات (كوانج سي) وأكاد لا أقطع هل كانت روعة الصور حلماً أم واقعاً. فلعلني بتأثير رحابة النهر الساجي وبكارة الجبال الخضر السامقة قد نمت, أو صرت في سرنمة, فمياه الشلالات الصافية المنحدرة من الغابة العالية كانت تنحدر على الحواف الحجرية البيضاء فتنداح ستائر شاسعة الرحابة من الفضة الشفافة تنتهي بهدير ناعم في برك خضراء في الوادي العميق المسالم. ولقد تم تحويل سفوح الشلالات إلى حدائق عامة في مشروع تبنته منظمة الفاو عام 1987. وفي الحدائق ثمة مقاصف بسيطة شربنا فيها مياها غازية واسترحنا لنعود, وفي طريق العودة نمت.. وفي نومي كنت أطير سابحاً فوق نهر بين جبال خضر, تمر بي في الفضاء السماوي طيور بيضاء وعلى المسارب بين الجبال ألمح أفيالاً تسير وئيدة بأحمال من البامبو وخشب الأشجار الأحمر.

زهور على عظام

لوانج برابانج, يالها من مدينة حلم, (فانتازتيك) حقا كما قال لي السائح البريطاني الذي التقيته في فينتيان. مدينة يحتضنها نهر الميكونج بطول شاطىء مديد, ويحنو عليها فلا يتركها إلا بإحاطتها مزيداً برافد آخر يمنحه الميكونج للمدينة ويسمى (نام خيان). أما الجبال فإنها تحرسها بعناية ألوانها الخضراء والزرقاء والرمادية والتي بلون الضباب والسحاب.

مدينة ليست من دنيانا ولازمننا, وهذا سر جمالها البريء, برغم رقة حالها وافتقاد أشياء كثيرة نظن أنها لازمة للحياة ونكتشف في لوانج برابانج أنها ليست كذلك. فحتى وقت قريب يحكى أنه لم تكن هناك آلة نسخ مستندات واحدة في المدينة التي كانت عاصمة ملكية للاوس, وحتى الآن تعوزها التليفونات التي لم نعثر عليها في فندق بديع كان قصراً من قصور أوائل القرن التاسع عشر سكنا فيه. أما السيارات فهي صرعة جديدة في طرقات البلدة التي يزعجها مجرد رفيف الدرجات وعربات الجر اليدوية. مدينة تنام مع الغروب وتصحو مع الشروق على صياح الديكة وأصوات الأطفال وشدو الطيور في غمرة أشجارها التي تخرج من بين خضرتها البيوت الجميلة الخفيفة التي لاتتعالى أبداً على هامات نخيل جوز الهند.

أسواق ريفية ومعابد ملكية وقصور قانعة قديمة وحديقة تلتم فيها نسوة القبائل الجبلية يشتغلن ويبعن مايبدعنه بإبر التطريز ولوحات القماش ساحرة الزخارف والألوان. فواكه مدارية في كل ركن, وشوارع تغسلك بوداعتها وبساطتها كلما درت فيها. لازحام, ولاضوضاء, ولاعجب في أن منظمة اليونسكو أعلنت منذ سنوات هذه المدينة واحدة من محميات الثقافة والتراث الإنساني العالمي. وثمة لوحة خشبية, كبيرة, وجميلة, معلقة تحت مظلة ـ هي بذاتها قطعة فنية ـ في شارع (فان باتانج) تشهر نص إعلان اليونسكو.مدينة حديقة, محوطة بالنهر والجبال, تتناثر بين أشجارها البيوت, ويتصاعد الدخان من مواقد الطهو المشتعلة بالخشب والحطب في بيوتها. مدينة صعدت للإطلال عليها من قمة تسمى (فوسي) وتعني (جبل الأعجوبة) حيث يتسنمها ضريح بوذي يوفر حوله شرفات دائرية تتيح إلقاء نظرة بانورامية على رحاب المدينة من جبال الأفق حتى جبال الأفق, ويعود تاريخ إنشاء الضريح والشرفات إلى عام 1804 الذي يبدو أن المدينة لم تغادره إلا قليلاً.

وصلت إلى قمة (فوسي) بعد ارتقاء سلم حلزوني من الحجر يرتفع 329 درجة ويصعد في غابة تكثر فيها أشجار عجيبة بلا أوراق وأغصانها تنتهي بما يشبه الأصابع وعلى أطراف الأصابع تتفتح زهور أعتقد أنها من فصيلة الياسمين الهندي, زهور هادئة البياض وفي قلوبها صفرة ناعمة مشرقة. عرفت أن هذه الزهور هي رمز لاوس التاريخي. وهذا النوع من الزهور يسميه أهل الزراعة (إزهار على العظم) إذ يقوم مباشرة على جسم الفروع. جمال غريب يوحي بالزهد والفتنة معاً, ويوحي لي بسر فتنة لاوس, التي وقفت عند قمة من قممها أطل على أبهى صور الطبيعة البكر وعذوبة قناعة الإنسان بالفطرة. أطل وأعاود الإطلال وأود لو أبقى وأذوب في صفاء هذا الوجود, لكن لامفر من الهبوط, ولامهرب للبلدة مما يسمى بالتحديث وأول بواكيره مشروع لطريق دولي سريع (هاي واي) سيمر بها رابطا بين الصين ولاوس وتايلاند, فهل أهتف: مرحى, أم أقول: وا أسفاه.?!

 

محمد المخزنجي

 
 




صورة الغلاف





لاوس تضاريس من الجبال والأنهار





في العاصمة، شوارع ترابية لرفيف الدراجات





أبرز معالم فينتيان صرح الجندي المجهول





غروب الشمس على ضفاف نهر الميكونج





عود البامبو عصا توازن يعبر بها الصبي الجسر





يجوب مياه أعظم أنهار الدنيا.. الميكونج





غداء بسيط في ظلال غابات





نهر يسري في أبدية وجبال خضراء وزوارق بسيطة





كهف في أحد جبال ضفة الميكونخ، حيث تختلط الأسطورة والبوذية ورهبة الطبيعة





نحو قمة "فوسي" تحت قوس أشجار "الجلوميريا التي "تزهر على العظم"





نساء القبائل الجبلية في شمال لاوس





انه يبني بيوتا سابقة التجهيز بألواح وقشور البامبو





القصر الملكي صار متحفاً على شاطئ النهر





سلال كبيرة من قش البامبو لكل شيء





بيت خشبي على الأوتاد في قرية تصنع الساكي ولا تشرب





مشاوير على الدراجات في ظلال لوانج الخضراء الوديعة





بوابة المدنية البوذية في العاصمة فينتيان





رمز لاوس .. "الجلوميريا"





بائعة الفلفل الحار .. لمسة هندية في الطعام





لم يتبق من آثار الفرنسيين غير هذا الخبر





غرزة غرزة .. تصنع العجوز القروية تحفتها الملونة