الرواية ذلك الفن المراوغ.. هل تعلن موتها؟ محمد الرميحي

الرواية ذلك الفن المراوغ.. هل تعلن موتها؟

حديث الشهر

"هو الآن في طريقه إلى قاهرة الثورة، قاهرة جمال عبدالناصر، اضطربت مشاعره بعنف وهو يتخيل نفسه مع جمال عبدالناصر في مدينة واحدة، من يدري فقد يضمه يوما معه شارع واحد، قد يراه رأي العين، وقد يصافحه ويتحدث معه ولم لا؟! ألم يجب جمال عبدالناصر على كل الرسائل التي أرسلها إليه طلاب المدرسة الثانوية في البحرين؟ ألم يهدهم صوره حسب طلبهم، صحيح أن التوقيع كان مجرد ختم، ولكنه توقيع جمال عبدالناصر، لا بد أنه يكون قد وقع الأصل بنفسه..".

سطور من الصفحات الأولى من "شقة الحرية"..رواية السفير والشاعر غازي القصيبي التي وضع فيها تجربة شبابه في القاهرة، وأحلام شاب مسافر تختلط فيها السياسة والمشاعر العامة بخلجات نفسه، فقد اجتمع مع شلة من الشباب في شقة تحولت إلى جزء لا يتجزأ من الأمة العربية، تداخلت متاهات السياسة مع أحاسيس العشق وتجسدت في هذه الشقة كل تناقضات الفكر العربي، وتخبطه بين الانتماءات المختلفة.

وعلى الرغم من أن المؤلف يؤكد في سطوره الأولى أن جميع أبطال الرواية، وجميع الأحداث من نسج الخيال، إلا أن الحقيقة الكامنة وراء سطور الرواية، وتلك الفترة التي سجلها من الزمن العربي لا يمكن إلا أن تكون حقيقة مهما بلغت درجة الإخفاء والصراحة فيها، وهذا هو سر الأدب العظيم، إنه سجل غير رسمي، وتاريخ صغير لكل أحداث المجتمع، وهو يكشف عن حركته وتطوره أكثر مما تؤديه أي غاية أخرى.

ولعلي أفهم سر لجوء السفير الشاعر إلى شكل الرواية، فهو يريد أن يبوح بالعديد من المشاعر والذكريات المختزنة في أعماقه دون أن يقع في فخ سر الأادب العظيم أنه سجل غير رسمي وتاريخ مصغر لكل أحداث المجتمع السيرة الذاتية، فهو لم ينس بعد أنه مثقف عربي، خرج من بيئة محافظة، ويشغل منصبا سياسيا حساسا، لذلك فإن الرواية التي يفترض أن تعتمد على الخيال هي الحل الأمثل حتى يبوح ولا يبوح في الوقت نفسه.

لقد غرقت في تفاصيل هذه الرواية المتشعبة الكثيرة الصفحات (618 صفحة من الحجم الصغير)، وأوصيت أكثر من صديق بقراءتها- كما أفعل مع كل كتاب جيد يقع تحت يدي- ولكن الجواب كان يفاجئني في كل مرة إنها طويلة وتحتاج إلى وقت وإلى نفس طويل في القراءة.

ولا أريد أن اخوض هنا في تقاعس عدد كبير من القراء العرب عن قراءة الموضوعات الطويلة وخاصة الروائية بعكس الشعوب المتقدمة التي نرى أفرادها وهم يحرصون على حمل الروايات الضخمة معهم خاصة في المطارات وأثناء الرحلات الطويلة والعطلات، لقد أصبحت الرواية الطويلة جزءا من المتعة وأحد مصادر المعرفة والوعاء الذي يمكن أن تقدم من خلاله آراء السياسة والفلسفة، والمصدر الذي يستمد منه علماء الاجتماع معلوماتهم عن أي مجتمع.

الفرسان يحاربون طواحين الهواء

ولكن، كيف نشأت الرواية الحديثة وتطورت واحتلت تلك المكانة الأدبية التي تحتلها الآن؟..

لقد بدأت على يد فارس حالم، لم يكن إلا شيخا عجوزا قضى الشطر الأكبر معزولا داخل مكتبة في منزل معزول في مقاطعة معزولة، غرق في صفحات الكتب حتى تداخلت الأزمنة في ذهنه واختلطت الأوهام بسطور الكلمات، فقرر أن يخرج ليكون فارسا يحارب المردة والشياطين وينصر الضعفاء، كان درعه قديما، وحصانه عجوزا،ورمحه مكسورا، والأهم من ذلك أن الزمن لم يعد هو زمن الفرسان، وهكذا أخذ يحارب طواحين الهواء وينازل الوهم ولم يدرك أن هزيمته الحقيقية تكمن في أنه خرج في زمن غير زمنه.

إنه الفارس الشهير "دون كيشوت دي لا مينشا" الذي فاقت شهرته كشخصية روائية شهرة الكاتب الذي ابتدعه، فقد اكتسبت هذه الشخصية قوتها الدافعة من أنها تحولت إلى رمز يحوي كل سعي البشرية الخائب وتوقها إلى العدالة، وقد كانت هذه الرواية التي ألفها الكاتب الإسباني ميجيل سير فانيس تحمل بعضا من تراث ملامح العصور الوسطى الذي تركه العرب في هذه الأرض، وكانت أيضا عنوانا على انتهاء عصر الإقطاع والأرستقراطية القديمة وسيادة مفاهيم الطبقة الوسطى أو البرجوازية التي أصبحت الرواية هي التأريخ غير الرسمي لصعودها.

تطور فن الرواية على أيدي العديد من الكتاب، واستقلت تدريجيا عن ملاحم القرون الوسطى كي تصبح فنا يعتمد علي الجدة ومحاربة التقليد والخضوع للأفكار السلفية القديمة، وكانت كلمة novel الإنجليزية تعني ذلك البحث عن الجديد والابتكار، على الرغم من أن الرواية تحولت إلى الاتجاه الواقعي واتخذت من الواقع الاجتماعي الذي تعيش فيه مرجعا لها.. ومع ذلك فلا يمكن اعتبارها صورة فوتوغرافية عنه.. لقد اعتمدت على مبدأ الشك الديكارتي الذي لا تأخذ فيه الحواس ما تراه من العالم الخارجي، وما تعتقده على محمل الثقة، ولكن عليها أن تهب نفسها للبحث عن الحقيقة دون أي أفكار مسبقة، وقد أكدت على بحث الإنسان المفرد عن هذه الحقيققة، وهي نفس الفلسفة التي أكدت على فردية الإنسان التي كانت الحافز الأساسي وراء نهضة الطبقة البرجوازية وصعودها في أوروبا.

ومثلما خرج فارس الرواية الغربية من عزلته إلى زمن غير خرج فارس الرواية العربية من قبره ليكتشف أيضا أنه في زمن غير زمنه. ففي رواية "حديث عيسى بن هشام" أو "فترة من الزمن" التي ألفها محمد المويلحي عام 1907 يكتشف الراوي قبرا مفتوحا يخرج منه شخص كان من المفروض أنه من الذين شبعوا موتا ليرى الحياة المعاصرة وينقدها. لقد كان مؤلف الرواية محمد المويلحي أديبا وصحفيا، درس في الأزهر وشارك في الثورة العرابية واضطر لمغادرة مصر بعد الاحتلال البريطاني وعاش عمرا مضطربا بين المنافي المختلفة، من باريس إلى الآستانة، وحين أراد أن يوجه سهامه اللاذعة لما حدث في بلاده عقب الاحتلال لجأ إلى هذا الشكل مستغلا شكل المقامة العربية القديمة، وكأنه بذلك الهدف قد استن سنة لكل الذين يعانون من الظلم والعسف والاضهاد أن يلجأوا إلى الرمز والتورية.

إن الرواية هي أحد الأسلحة البشرية لمقاومة كل صنوف الظلم وقهر الإنسان، وقد ارتدت كل الثياب وحملت كل الفلسفات كي تقوم بهذا الغرض، وإذا كان فن الرواية الآن في ازدهار فلأنها أشد الأشكال الفنية مرونة، وأكثرها ملاءمة لروح العصر الذي تعيش فيه، ففي مثل هذه الظروف التي تتشابك فيها مصائر البشر وظروف السياسة والاقتصاد وتختلط فيها الفلسفات بأفكار التطرف والعنف تصبح الحاجة ملحة لإيجاد وعاء مرن يحتوي كل هذه التناقضات، وليس هناك أفضل من الرواية في هذا المجال.

مبدع واحد ومهام عديدة

إن مهمة الرواية متعددة والهدف منها يختلف حسب الكاتب الذي يستغل هذا الشكل ليسعى من خلفه، ويرى "روجيه دوبريه" في كتابه عن الرواية أنها ذلك الشكل الأدبي الذي يقوم بدور المرآة في المجتمع، أي أن مادتها هي الإنسان في صراعاته الاجتماعية المختلفة، صراع الفرد ضد الآخرين، وينتج عن هذا الصراع خروج القارىء بفلسفة ما أو رؤية عن الإنسانية، ويمكن في هذا القول التأكيد على أن الرواية تعالج الواقع أكثر من معالجتها للأفكار والنظريات المجردة.

وتتسع مهمة الرواية عند "البير يس" الناقد الفرنسي المعروف فيطالبها بالتعبير عن القلق البشري والسرائر الداخلية والمسئوليات التي كانت فيما مضى موضوع الملحمة والتاريخ والبحث الأخلاقي والتصوف والشعر في جانب منه، وذلك أن الإنسان الحديث يرغب في أن يجد في الرواية كل شيء، وكأن الرواية ملتزمة بأن تؤمن لكل مجموعة فكرية قوتها الفضلى، فهي تقدم للأذهان الوضعية الدراسات الاجتماعية، وتقدم للنفوس الحساسة ألعاب التحليل النفسي المرهفة والمخيفة، وتقدم للباحث عن مصيره تساؤلا دائما عن الوضع البشري أو لا إنسانية العالم، كما تقدم للجميع المتع الطفولية التي يثيرها عنصر القص والتشويق والحكاية المؤثرة والمغامرة، وكأن على الرواية أن تقوم بدور الكاهن والمشرف السياسي وخادمة الأطفال وصحفي الوقائع اليومية والرائد ومعلم الفلسفة، وهي تؤدي هذه المهام جميعها في شكل فني متعارف عليه يهدف إلى أن يحل محل الفنون الأدبية كلها.

الرواية في أساسها إذن عمل إبداعي، وهي تبين أيضا القدرة الإدراكية للإبداع عند البشر. وتقول جين. س. بروز في دراستها حول الإبداع: إن ردود فعل الأفراد إزاء أي عمل إبداعي يتمثل في شيئين: المفاجأة الفعلية لهذا الفرد، ثم الصدمة التي تتبع إدراكه لخفايا العمل الإبداعي. إن الأذواق تتعدد في إدراكها للعمل الروائي، وعلى الرغم من كل الدراسات والنظريات فلا توجد قواعد ومعايير موضوعية يمكن الحكم بها - نهائيا- على الأعمال الإبداعية، ولكن البحوث قد أثبتت أنه يجب علينا أن نثق أكثر مما ألفنا في قدرة عقولنا، لأن القدرة الإدراكية تجمع على أن الناس لديهم استعدادات فطرية تسمح لهم بالتمييز بين الإنتاج الإبداعي الجيد والرديء، وهذا يعني أيضا أننا مجهزون من قبل ببذور الإنتاج الإبداعي.

الرواية العربية

هل تقوم الرواية العربية بنفس هذه المهام؟..

إنها نفس الأهداف لأنها تنبع من ذات احتياجات النفس البشرية، والفرق بين رواياتنا العربية ورواياتهم هو أننا نطالع حيواتنا نحن، ففي رواية الأرض لعبدالرحمن الشرقاوي نرى ريف مصر، وعند نجيب محفوظ نغوص وسط حواري القاهرة الضيقة، ويأخذنا حنا مينا إلى القرى الساحلية حول ميناء اللاذقية، ونعيش مشكلات التحرر والمعاناة من الأنظمة القمعية في رواية "شرق المتوسط" لعبدالرحمن منيف، ونصطدم بالصراع بين الحضارات والثقافات المختلفة والبحث عن الهوية أو الذات المفتقدة في أعمال الطيب صالح، خاصة "موسم الهجرة للشمال" وكلها أعمال تعكس فوران القضايا التي تمور في وطننا العربي، وتبحث عن صدى للإجابات على امتداد صفحات كل رواية.

المجد للرواية العربية.. ولكن

إن الناقد الشهير الدكتور علي الراعي يهتف بعد حصيلة جهد واسع في جمع صنوف الأدب العربي: "المجد للرواية العربية، فقد جعلها أفضل المبدعين فيها لسان حال الأمة وديوانا جديدا للعرب، ومستودعا لآمال وآلام أمتنا العظيمة المقطعة الأوصال".

ففي كتاب ضخم يستعرض الدكتور الراعي أشهر نماذج الرواية العربية فيقدم لنا سجلا حافلا، حوالي 90 رواية من مختلف أقطار الوطن العربي، وهي لا تمثل كل الروايات ولكنها تمثل نموذجا واحدا من أعمال كل كاتب وعلينا أن نتخيل حجم ما أنتجه كل هذا العدد الضخم من كتّاب وما قدموه من شهادات معاصرة، وسواء كان أصل الرواية العربية يعود إلى رواية المويلحي "حديث عيسى بن هشام" في بدايات هذا القرن، أو يعود إلى رواية محمد حسين هيكل "زينب" التي نشرت عام 1914، فمن الواضح أن الطفرة في تلك الفترة القصيرة كانت كبيرة جدا، فنجيب محفوظ نفسه- وهو الروائي الأمثل- يملك هرما ارتفاعه خمسون رواية أضف إلى ذلك جهود حنا مينا وعبدالرحمن منيف وفتحي غانم وأمين معلوف ومحمد شكري وغيرهم.

إن هناك نغمة مشتركة تتوحد وتتصاعد من خلال سطور كل هذا العدد الكبير من الروايات، يقول الراعي إنها تحاول أن تقاوم القهر الموجه للإنسان العربي، فهو يرى الإنسان العربي مقهورا، "مضيق عليه في الرزق والرأي والمسكن، تقهره الأنظمة وتستعبده الأعراف البالية، وتسكن روحه وتعشش فيها أشباح أناس وأصداء أقوال عاشت وصدرت في الماضي السحيق ولا تزال تجد طريقها إلى عصرنا وكان من حقها أن تبيد من زمان طويل".

مهمة الرواية العربية إذن أن تخلص هذا الإنسان العربي من قهره ومن التشويهات التي يمكن أن يحدثها هذا القهر في نفسه، كما أن عليها أن ترشده إلى من يمارس هذا القهر ضده وترشده إلى طريق الخلاص.

مهام صعبة يختلط فيها دور الروائي بالمصلح الاجتماعي بالسياسي كما قلنا من قبل، لذا فإن الرواية العربية- مثل بقية روايات العالم الثالث حافلة بالهموم الجماعية، كل كاتب يحمل قضية قومه فوق كتفه ولا يفرق في خصوصياته أو نظرته الفردية إلى الأمور إلا فيما ندر، لذا يوجه الكثير من النقاد اتهاما شائعا إلى كل الروائيين العرب وهو أنهم من خلال إبداعهم لا يخلقون شخصيات متفردة بقدر ما يكتفون بصنع أنماط بشرية ذات خصائص عامة.

وباستثناء نجيب محفوظ لا يوجد روائي عربي محترف، أي متفرغ لتنمية هذا الفن الصعب، بل وحتى نجيب محفوظ نفسه قضى الردح الأكبر من عمره وهو أسير الوظيفة الحكومية وهو يُعد بذلك أشهر موظف مصري على الإطلاق، فلا يوجد روائي عربي يعيش من عمله كروائي، ولكن عليه أن يمارس أي أعمال أخرى كي يستطيع أن يوفر قوته اليومي.

وفي الوقت الذي توفر الرواية للكاتب الغربي مصدرا كبيرا للدخل ووضعا مميزا للعيش، يعجز الروائي العربي عن أن يصل إليه، ويبقى أسير "الهواية" التي تقتطع جزءا كبيرا من موهبته.

ولأن الشروط مختلفة في الغرب فقد تطورت الرواية كثيرا، بل إن الكتّاب العرب الذين عاشوا في الغرب قد استفادوا كثيرا من هذه الشروط، واستطاعوا أن يتطوروا ويصلوا إلى آفاق جديدة ولعل أمين معلوف الذي فاز أخيرا بجائزة جونكور خير مثال على ذلك.

والمبدعات يصرخن

النساء اللاتي لم يجدن منذ زمن طويل مكانا يصرخن فيه، وجدن مكانا في شكل الرواية، تكره المرأة السينما كثيرا لأنها طالما استغلت جسدها بشكل تجاري غير مناسب، ولا ترتاح للفن الحديث لأنه استبدل بأحاسيسها الخاصة تكوينات مجردة تسبح في الفراغ، ولا تفهم الشعر الذي أصبح مستغلقا عليها، لذلك فإن الرواية أصبحت واحدا من أهم الميادين الأدبية التي تمارس فيها المرأة إبداعها الخاص، أو بالأحرى هو البيت الذي تجد فيه راحتها.

يقول الشاعر روبرت مارت: "إن العصور القديمة لم تنشىء الرواية لأن المرأة كانت مستعبدة. الرواية هي تاريخ المرأة".

ويبدو في هذا القول الكثير من الحقيقة. لقد مرت المرأة بمراحل جديدة حتى أفلتت من استبداد الرجل بها، ففي البداية كانت جارية عنده، وعندما تحررت لم يعد يراها، وبذلت الجهد الأكبر حتى يجعله يراها أولا ثم يقبلها شريكة له ثانيا.

وقد ربطت الروائية الفرنسية والمؤرخة مدام دي ستايل بيئ حقيقة انعدام الرواية عند الحضارات القديمة مثل اليونان والرومان، وحقيقة عدم إضفاء هذه الحضارات أي أهمية على العلاقات العاطفية بين الرجال والنساء، وذلك بسبب المركز الوضيع الذي كانت تحتله المرأة في تلك الحضارات، ولم تنشأ فكرة الحب العذري، واعتبار العلاقة بين الجنسين قيمة سامية للحياة على الأرض إلا في القرن الثالث عشر، في مقاطعة "بروفانس" الفرنسية، وتدريجيا أخذت هذه الفكرة في التكيف مع الواقع الديني والاجتماعي والنفسي، وأثر هذا على التراث الروائي، فبدأت قصص الحب والعشق وحدث التصالح التقليدي بين الحب العذري ومؤسسة الزواج وصار الاختيار الحر بين الفردين هو القانون السائد.

لقد انطلقت رواية المرأة من أسر هذه الأغلال الاجتماعية والفكرية، وامتلأت رفوف المكتبات بالروايات التي لا تقدر على كتابتها غير المرأة ويقول بعض النقاد إن المرأة مؤهلة لذلك أكثر من الرجل، فهي تمتلك القدرة على التقاط تفاصيل الحياة الدقيقة وإعادة نسجها وصياغتها من جديد. ولكن لا يبدو هذا القول صحيحا على إطلاقه فمن بين عدد يربو على التسعين كاتبا فازوا بجوائز نوبل للآداب لا نجد من بينهم إلا تسع نساء فقط.

وتختلف ظروف الروائية العربية كثيرا عن زميلتها الغربية، فهي لم تظفر- حتى الآن- بهذا القدر من الحرية، وما زالت كتاباتها هي محاولة منها لأن تكسر القيد الذي يحيط بها ويحدد وظيفتها الاجتماعية، حتى تقتصر على رعاية المنزل والطفل، بل إن النظرة تخلط أحيانا- بسوء نية في أغلب الأحوال- بين ما تكتبه المرأة وسيرتها الذاتية بل وتقدم لها الانتقادات الأخلاقية قبل الفنية. وواقع الحال أن ظروف المرأة العربية المبدعة صعبة لأن معوقات الإبداع كثيرة جدا، وعلى الرغم من ذلك فلا بد من أن نذكر العديد من المبدعات العربيات اللاتي اقتحمن هذا الفن الصعب، ولعلنا مازلنا نذكر آثار الضجة التي بدأت عام 1958 حين صدرت روايتان هما "أنا أحيا" للكاتبة اللبنانية ليلى بعلبكي، و"أيام معه" للكاتبة السورية كوليت خوري، وقد كانت مقدمة لاقتحام كل القضايا التي تخص المرأة من رفض التقاليد وسيطرة الأب والتمرد على العائلة بجرأة وقوف ومنذ ذلك الحين ما زالت رواية المرأة العربية تشق طريقها وسط بحر مليء بصخور التقاليد القديمة، إن كاتبات مثل: منى جبور، وإقبال بركة، وحنان الشيخ، وحميدة نعنع، وسحر خليفة، ولطيفة الزيات، ورضوى عاشور قد وضعن علامات فارقة لا على تاريخ الرواية النسائية فقط، ولكن على مسيرة المرأة العربية من أجل تحررها.

منفيون داخل اللغة

ربما كانت قوت القلوب الدمرداشية هي الأولى من الأدباء العرب الذين نشروا روايات وقصصا باللغة الفرنسية في القرن العشرين، أو بالأحرى أول أديبة تنشر كلماتها بلغة أجنبية، وقد عكست هذه القصص التي كتبتها أجواء الشرق والحياة الاجتماعية التقليدية في مصر، وخاصة مصر الإسلامية. إنه تقليد نبعت جذوره وتأصلت من رغبة الغرب العارمة في اكتشاف سحر الشرق الخفي وظل ساريا إلى الشكل الحالي الذي نجده في روايات أمن معلوف.

وعلى الرغم من أن هذه السيدة التي ولدت عام 1892 وتنحدر من سلالة أحد أمراء المماليك ورائدة في التصوف إلا أنها سبحت عكس التيار، فقد ترك لها أبوها ميراثا ضخما، وأسس واحدا من أضخم مستشفيات مصر وهو مستشفى الدمرداش أو كلية طب عين شمس الآن، إلا أن اهتمامها الرئيسي كان الثقافة، لذا فقد أقامت أول صالون للناطقين باللغة الفرنسية، وألفت روايتها الأولى بها، وأطلقت عليها اسم "حريم ـ HAR EM" عام 1937 وأتبعتها برواية "زنوبة ZANOBA" عام 1949.

ثم توالت الأسماء التي لجأت إلى الثقافة الفرنسية.. البير قصيري وأندريه شديد وجويس منصور من مصر، ومحمد ديب ومالك حداد ورشيد بوجدره من الجزائر، والطاهر بن جلون من المغرب، وجورج شحاده وأمين معلوف من لبنان.

وفي الإنجليزية هناك أكثر من اسم، ولكن أشهر هذه الأسماء على الإطلاق هو الشاعر خليل جبران الذي اختلطت في كلماته تعاليم المدينة الفاضلة بسحر الشرق وروحانياته.

لقد هاجر الأدباء من أوطانهم ومن لغاتهم إلى أوطان ولغات أخرى تحت وطأة ظروف عديدة، منها ظروف الاستعمار، والهجرة من أجل الرزق، والسعي إلى أرض جديدة خالية من القمع، ولكن المؤكد أن هؤلاء الكتاب قد ظلموا في أوطانهم، فهم يواجهون مشكلة الازدواجية الأدبية، ففي بلادهم العربية ينظر إليهم على أنهم كتاب أجانب يعيشون في بلد أجنبي، كما ينظر إليهم في أوربا نفس النظرة.

ومعظم هؤلاء الكتاب لا يزالون أسرى الواقع الذي خرجوا منه، فهم يكتبون عن الأوطان التي اضطروا لمغادرتها والناس الذين هجروهم، لم يروا أبدا المكان الذي "هاجروا" إليه، وحتى عندما كانت تضيق بم مساحة التعبير كانوا يتخيلون وطنا مجردا وأرضا رمزية يلجأون إليها.. لقد وصف الأديب الجزائري نفسه وزملاءه بأنهم "منفيون في اللغة".

ولكن علينا ألا نرثي لهم قليلا، فقد أعطاهم هذا المنفى قدرة فائقة على التعبير وحرية في تناول الأدوات الإبداعية. بل إن البعض منهم قد لعبها ببراعة أيضا، ولعل أصدق مثال على ذلك هو المؤلف اللبناني الأصل أمين معلوف، فهو لم يركز على جوانب القبح والسلبية والأشياء الغرائبية في بلاده، بحيث يقدم الشرق بنفس الصورة التي تعود عليها المستشرقون من كتّاب الغرب ولكنه يقدم شرقا آخر ساحرا مليئا بالفعل والتحقق والعشق ورغبات السمو وانكسارات الهزيمة، إنه يعود إلى تاريخ الشرق المفعم بالحيوية من غرناطة إلى نيسابور ويعيد تجسيد التاريخ، لا كما حدث ولكن كما يجب أن يكون، وهو يتعامل مع نفس الشخصيات القديمة التي لعبت على هامش الحضارات المختلفة، أو بالأحرى نقاط التماس بيننا وبيين الحضارة الأوربية، فشخصيات مثل عمر الخيام أو ليون الإفريقي لم تكن مجرد رموز في الحضارة الإسلامية فقط، ولكنها أخذت ثقلا ثقافيا وسط المركزية الأوربية، والبراعة هنا تكمن في إضفاء رؤية فنية جديدة لحركة هذه الشخصيات في الزمان والمكان.( وقد أفردت العربي صفحات طويلة في عددها الماضي بمناسبة فوز هذا الكاتب بجائزة جونكور الفرنسية عام 1993).

هل تعلن الرواية موتها؟

على الرغم من كل هذه الإيجابيات التي تتحدث عن الرواية ودورها وأهميتها.. فإن هناك سؤالا قاسيا يطرح نفسه علينا: هل تموت الرواية؟.

إنها قضية ليست مطروحة في ثقافتنا العربية فحسب، بل هي مطروحة في كل الثقافات بما فيها الثقافة الإنجلوسكسونية التي أنتجت وما زالت تنتج من فن الرواية، أغلب نماذجها وأكثرها انتشارا، فقد شهدت الصحافة الغربية في الأشهر الأخيرة نقاشا قاسيا حول وضع الرواية، أزمتها وموتها كما ذهب البعض.

وليست هذه المرة الأولى التي تقام فيها المآتم للرواية في الغرب بين الفترة والأخرى خاصة في أزمنة الصراع الاجتماعي العميق والتغيرات السياسية العظيمة، وهذا النقاش الذي يثور كثيرا لا يدور حول الرواية فقط، وإنما حول كيف يفهم المعاصرون زمنهم، وفي كل الحالات تتخذ حالة الرواية شكلا يجسد الواقع المعيش، وإن حكمنا على ما تكتبه الصحافة الغربية فإنه لا حالة الرواية ولا حالة الزمن المعيش في وضع جيد على الإطلاق.

وفي كتاب صدر أخيرا للكاتب البريطاني "دي. جي. تيللور" بعنوان "الرواية وانجلترا بعد الحرب العالمية الثانية" حاول محاولة جادة اكتشاف العلاقة بين المجتمع والرواية، ولقد وجد الكاتب تراجعا مستمرا في عمق وحيوية الرواية الإنجليزية منذ الحرب العالمية الثانية، وربط ذلك بالتراجع السريع للمجتمع البريطاني نفسه منذ ذلك الحين.

وفي رأي تيللور أن الرواية فقدت اتصالها الاجتماعي وحبها لشخوصها وإبداعها الفني ولغتها الحيوية، وباختصار كل الأدوات التي كانت تشكل قوتها وأصبحت ضيقة الأهداف تهتم بقطاع أحادي وضيق من قطاعات المجتمع، متشائمة، ولا تؤمن بنفسها، ويؤكد الكاتب أن الرواية تعاني من حالة احتضار طويلة تمتد من العصر الفيكتوري..

إن هناك شعورا متناميا في الأوساط الأدبية أن الرواية الغربية أصبحت بضاعة غير مرغوب فيها، بالمقارنة بالانتشار الذي تحققه كتب السير الذاتية التي دأب كبار المشهورين في الحياة العامة في السياسة أو الفن على إصدارها، كذلك فإن هناك عددا كبيرا من الروائيين الآن يتحولون من فن الكتابة إلى محاولة إيصال أفكارهم بواسطة التلفزيون على صورة المسلسلات التي أصبحت تستقطب عددا كبيرا من المشاهدين، وتدر عائدا أكبر على المؤلف من كتابة الرواية، وكل هذه الأشياء تؤثر على فنية الرواية وطريقة كتابتها.

ولكن الملاحظ أن كل هذه الكتابات تنعي موت الرواية الغربية، كأن الغرب ما زال هو محور العالم كما تعود أن يكون، ولكن الرواية تثبت دائما أنها فن مراوغ وغير قابل للموت بسهولة، فمن أمريكا اللاتينية ينبعث تيار روائي جديد تختلط فيه الأسطورة بالواقع ويؤسس تقنيات جديدة للسرد الروائي وإبداع الشخصيات، وهو الاتجاه الذي يطلق عليه "الواقعية السحرية" ويمثله كتاب كبار أمثال جارسيا ماركيز وكوتازار وإيزابيلا الليندي.

وهم بهذا يثبتون أن الرواية هي فن الزمن الصعب، وهي الأقدر على رصد التحولات الاجتماعية التي تمر بها الأمم. وإذا كان الأدب الغربي يمر بمرحلة من التشوش حيث لم تعد هناك ثوابت علمية أو أخلاقية موثوق فيها، فإن الرواية هي أجدر الفنون برصد أدق هذه التشوشات.. وكذلك عندنا.

 

محمد الرميحي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات