حول حقوق الإنسان : هل فشل مؤتمر فيينا محمد السيد سعيد

حول حقوق الإنسان : هل فشل مؤتمر فيينا

حول حقوق الإنسان:

منظمة العفو الدولية وصفت مؤتمر الأمم المتحدة العالمي لحقوق الإنسان في فيينا بأنه مؤتمر "الفرص المهدرة"، أما الفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان- وهي منظمة دولية غير حكومية تتخذ باريس مركزا رئيسيا لها- فقد ذهبت أبعد من ذلك، إذ شبهت برنامج العمل الذي صدر عن المؤتمر بـ "الجوزة الفارغة" وشجبت فشل المؤتمر في اتخاذ إجراءات إيجابية، ودانت الطريقة التى تمت بها صياغة بيان فيينا.

عقد المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان بفيينا خلال يومي 14 و 15 حزيران/ يونيو 1993، وذلك بعد خمسة وعشرين عاما من المؤتمر العالمي الأول لحقوق الإنسان في طهران عام 1968، وهذه الفترة الطويلة كانت بالطبع كافية لنضج الوعي العالمي بأهمية حماية حقوق الإنسان وتوفير الآليات والضمانات الدولية المناسبة لحث الدول والحكومات على احترام المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان، وكذا، فإن التحضير لهذا المؤتمر والتخطيط له كان ممتازا بكل المعايير، وبالمقارنة مثلا بمؤتمر الأمم المتحدة العالمي حول البيئة، حيث قامت الجهات المسئولة في الأمم المتحدة بجهود مستميتة في الإعداد للوثائق والاتفاقات الأولية والتنسيق مع الهياكل الإقليمية الحكومية وغير الحكومية والإشراف على عدد هائل من الأنشطة السياسية والفكرية والدعائية، ويكفي للتدليل على امتياز الإعداد الشكلي للمؤتمر أن جميع مناطق العالم الكبرى قد شاركت في التحضير له من خلال مؤتمرات عقدت تحت إشراف لجان إقليمية وضمت المستويين الحكومي وغير الحكومي، بل ويكفي أن هذا المؤتمر الذي يعقد في ظل مؤسسة عالمية حكومية صرفة قد شمل مشاركة واسعة من قبل منظمات غير حكومية: عالمية وإقليمية ووطنية من كل أرجاء المعمورة وهو ما يحسب للقائمين على الإعداد للمؤتمر الذين استبسلوا دفاعا عن هذا الحق في المشاركة لجميع المهتمين والمناضلين من أجل حقوق الإنسان في العالم، وباختصار فإن هذا المؤتمر مثل أول مناسبة حقيقية تظهر فيها مقولة كوكبية العالم بنطاق وفعالية غير مسبوقين من قبل، وذلك حول قضية كوكبية بالفعل وهي ضمانات حماية حقوق الإنسان، ويختلف ذلك كلية عن الممارسات السياسية الدولية حتى الآن، حيث تعالج قضايا كوكبية بمشاركة الحكومات فقط، ويحسم نتائجها عدد محدود من الدول الكبرى.

وهذا الاستنتاج بأن مؤتمر فيينا هو مناسبة "للفرص المهدرة" تبرره بوضوح مضاهاة "إعلان فيينا" وبرنامج العمل المتضمن فيه مع المطالب والتوصيات التي برزت من أكثرية البيانات التي صدرت عن لجان العمل الإقليمية في سياق عملها التحضيري للمؤتمر، وتلك التي خرجت بها أكثرية ساحقة من الدراسات والتقارير العلمية والفنية التي عكف على إعدادها عدد هائل من المختصين والمهتمين بشئون حقوق الإنسان، وكذا تلك التوصيات التي روجت لها منظمات عالمية غير حكومية عملاقة مثل منظمة العفو الدولية والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان واللجنة الدولية للحقوقيين.

إن تحليل الانطباع السائد بفشل مؤتمر فيينا هو أمر مهم من زاويتين على الأقل، فمن زاوية النضال من أجل ضمان احترام حقوق الإنسان والمواثيق الدولية الأساسية التي قننت هذه الحقوق يهمنا أن نعرف السر في انطباع أغلبية المشتغلين بحقوق الإنسان بفشل مؤتمر فيينا، حيث يرى هؤلاء أن مؤتمر فيينا قد يكون نكسة لعملية تراكمية وكفاحية طويلة المدى تستهدف إقرار وتقنين الحقوق الأساسية للشخص الإنساني، وللجماعات والشعوب من ناحية ووضع آليات دولية لضمان احترام هذه الحقوق ومعاقبة القائمين على انتهاكها من ناحية أخرى.

الفشل والنجاح في فيينا

والواقع أن الانطباع السائد بفشل مؤتمر فيينا لحقوق الإنسان ليس هو الانطباع الوحيد، فمن وجهة نظر الحكومات ربما لا يكون المؤتمر قد فشل على الإطلاق، بل ومن وجهة نظر بعض المتخصصين وقليل من المنظمات الدولية وبعض مراكز البحوث قد لا يكون مؤتمر فيينا فشل فثلا كاملا، فهناك بعض مجالات وجوانب النجاح وبعض مجالات وجوانب الفشل.

القائلون بالفشل يستندون إلى حجة مركزية قوية، يمكن صياغتها كما يلي: إن جوهر جدول الأعمال الذي قامت عليه فكرة عقد مؤتمر الأمم المتحدة في فيينا يرتكز على مسألة آليات الحماية الدولية لحقوق الإنسان، وذلك في نطاق الأمم المتحدة وخارجها.

فقد توسع التشريع العالمي لحقوق الإنسان على نحو مرض إلى حد كبير، بحيث صار هذا التشريع يغطي المجالات الأساسية والمهمة للحقوق بأبعادها وأجيالها المختلفة، أي الحقوق والحريات المدنية والسياسية الشخصية "الفردية" والجماعية "مثل حق تقرير المصير وحق التنمية" وحقوق الفئات المضطهدة أو المظلومة تاريخيا بحكم عوامل اجتماعية وسياسية وثقافية مختلفة مثل الشعوب الأصلية، والمرأة والطفل والمسنين.. وغير ذلك.. ولكن يبقى أمام المجتمع الدولي البازغ المسألة الحاسمة في أي تشريع، وهي تطبيقه على نحو منسجم وأمين وبروح النزاهة والحياد المطلوبين لضمان العدالة، وبحيث يكون القانون- ولا تكون السياسة- هو العامل الحاسم في التطبيق.

وتكتسب هذه المسألة أهمية مضاعفة بسبب أنها تتضمن مشكلة مزدوجة، فهي تدخل ضمن الإطار العام لمشكلة تطبيق القانون الدولي وضمانات الانصياع العام له من جانب الحكومات والمؤسسات الوطنية التي تحتج قولا وتلتزم عملا بمبدأ السيادة، فالسر الأعمق وراء الفشل المتوالي للتشريع الدولي حتى الآن، والسر المكشوف وراء النكسات المتوالية لفكرة إنشاء نظام دولي حقيقي وفعال هو الافتقار إلى آليات مناسبة لتطبيق القانون الدولي بالمقارنة بالقانون الوطني أو المحلي الذي تتوفر على تطبيقه آليات قضائية وإكراهية، ويصدق ذلك أيضا على التشريع الدولي لحقوق الإنسـان، حيث يفتقر حتى الآن إلى آليات للتنفيذ وضمانات لمعاقبة انتهاك نصوصه والتزاماته، ومن ناحية أخرى، هناك مشكلة خاصة بتطبيق القانون الدولي لحقوق الإنسان لأن القائم على انتهاك هذا القانون هو الدولة، أو بالأحرى النظام السياسي الوطني في أكثرية دول العالم، وهذا النظام ينظر إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان نظرة عدائية في الحقيقة لأن هذا القانون يقيد سلوكه في مجالات وعلى مستويات تتعلق بما يراه هذا النظام ضرورة للاستقرار السياسي، وبعض النظم السياسية، وربما أكثرها، قد لا يستمر في تولي السلطة العامة في بلاده إذا توقف عن انتهاك الحريات والحقوق المدنية والسياسية الأساسية، وكأن القانون الدولي لحقوق الإنسان يسأل المتهم بانتهاكه أن يقوم على تطبيقه بروح من النزاهة والاستقامة، مما قد يؤدي إلى خسارته لمزيته الأساسية وهي بقاؤه في الحكم!.

آليات عالمية محايدة

ولهذا السبب فإن ضمانات وآليات احترام حقوق الإنسان والتشريع الدولي الكاشف عن هذه الحقوق يجب أن تكون عالمية بطبيعتها، وألا تخضع للعوامل السياسية حتى لا تتلاعب بها أهواء الحكام والحكومات، مهما كانت قوتها أو سطوتها، ومن هنا تحدد جدول أعمال مؤتمر فيينا بتلك المطالب الأساسية التي صاغتها الحركة العالمية لحقوق الإنسان والتي تتركز على التنفيذ والتطبيق من خلال أو بواسطة آليات محايدة سياسيا.

ومن أبرز هذه المطالب ما يلي:

1 - إنشاء محكمة جنائية دولية لحقوق الإنسان تكون مفتوحة لأهلية الأفراد والمنظمات في تحريك الدعوى الجنائية ضد القائمين على انتهاك حقوق الإنسان والقانون الدولي للإنسان، وتكون قادرة على إصدار أحكام قابلة للتنفيذ بخصوص جرائم مثل الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات المستمرة والجسيمة ضد حقوق الإنسان، وتكون هذه المحكمة دائمة وتتمتع بشتى الضمانات القضائية ضد عسف أي حكومة أو سلطة تنفيذية فردية أو جماعية.

2 - إنشاء منصب المفوض السامي لحقوق الإنسان في إطار الأمم المتحدة يتمتع بالاستقلال عن الإرادات الحكومية بما في ذلك إرادة مجلس الأمن، ويكون من صلاحيته التحقيق مع المخالفين والقائمين على انتهاك الحقوق، إلى جانب الرصد والمتابعة ووضع التقارير.

3 - إنشاء منصب المقرر الخاص عن العنف ضد المرأة في إطار منظومة الأمم المتحدة كتعبير مؤسسي عن المطلب العام والخاص بدمج حقوق المرأة في القانون الدولي لحقوق الإنسان، وكذا إنشاء منصب المقرر الخاص للحقوق الإنسانية للمرأة عموما.

4 - اتخاذ منظور شمولي للحق في التنمية بما في ذلك ضمان أن تأتي شتى البرامج الاقتصادية - بما في ذلك برامج التكيف الهيكلي التي يضعها صندوق النقد الدولي- متماشية مع حقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية.

5 - إنشاء مجموعة عمل خاصة في إطار لجنة حقوق الإنسان العامة لحماية حقوق الأقليات "الدينية والعرقية والثقافية.. وغير ذلك"..

6 - الاعتراف بالحق الشامل للشعوب الأصلية كحق جماعي بما في ذلك حقها في تقرير المصير والتنمية.

7 - مجموعة مطالب تتصل بتكثيف الطبيعة الإلزامية للمواثيق الدولية الأساسية لحقوق الإنسان واستصدار ما هو ضروري من تشريعات لضمان هذا الإلزام، وخاصة القبول به والتصديق على البروتوكول الاختياري الملحق بالعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وميثاق المرأة، والبروتوكول الاختياري الملحق بميثاق مناهضة التعذيب، وهو بروتوكول يشمل نظاما عالميا للتفتيش المبكر والدوري على السجون وأماكن الحجز.

هذه المطالب الجوهرية تمتعت بإجماع عالمي- على المستوى غير الحكومي- لأنها تمثل مفاتيح مهمة لضمان تماشي سلوك الدول مع المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان وتقطع مشوارا كبيرا على طريق ضمانات التنفيذ وآليات الحماية.

جوانب مضيئة

ومع ذلك فمن وجهة النظر الأخرى لم يكن المؤتمر فشلا كاملا، بل لقد سجل بعض النجاحات المهمة التي ينبغي الإشارة إليها حتى نصل إلى رؤية متوازنة لأعمال ونتائج هذا المؤتمر الذي مثل حدثا عالميا ضخما، ومن أهم جوانب النجاح ما يلي:

1 -المشاركة المدهشة من جانب المنظمات غير الحكومية، فكما سبق أن ألمحنا يعد هذا المؤتمر هو أول حدث عالمي يعبر حقيقة عن فكرة المواطنة العالمية، فلم تعد الحكومات هي الفاعل الوحيد على الساحة الدولية، بل وصارت إرادات هيئات ومنظمات غير حكومية أكثر أهمية في تخليق ثقافة عالمية إنسانية، وبالتالي يجب عدم النظر في أعمال الشق الحكومي من المؤتمر وحده، بل يجب أن نهتم بالشق غير الحكومي بما هو جدير به من الاهتمام، فقد شارك نحو ثلاثة آلاف مندوب وممثل لنحو 1500 منظمة غير حكومية لحقوق الإنسان من جميع مناطق العالم منها 202 منظمة من إفريقيا، 178 منظمة من أمريكا الشمالية و 236 منظمة من أمريكا اللاتينية، و 279 منظمة من آسيا، و 426 منظمة من غرب أوربا، و 179 منظمة من شرق ووسط أوربا. وتعد مشاركة النساء أيضا أحد أهم أوجه نجاحات هذا المؤتمر، وخاصة في شقه غير الحكومي، إذ جاءت مشاركة المرأة مساوية تقريبا لمشاركة الرجل، بل ولاحظ المراقبون والمهتمون أن المنظمات النسائية غير الحكومية كانت هي الأكثر فعالية بكثير، واستقطبت الاهتمام والاحترام معا باعتبارها محرك أكثر النشاطات في المجال غير الحكومي، وقام هذا الجمع الهائل من الممثلين والمنظمات غير الحكومية بكم مذهل من الأنشطة الإعلامية والدراسية والتفاوضية بالتفاعل معا، وعبر هذا التفاعل عن عملية بطيئة ولكنها لا تفتقر لقوة دفع معقولة عن مجتمع عالمي حقا، لا مجرد ضمير إنساني مجرد.

2 - إن الشق الحكومي من المؤتمر لم يتجاهل كلية كل المطالب الكبرى والخاصة بالتشريع الدولي لحقوق الإنسان وآليات تطبيقه، إذ تبنى البيان الختامي من المؤتمر وثائق مهمة مثل البروتوكول الاختياري للعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، والمعاهدة الخاصة بالمرأة وحث على القبول المبكر، بالمعاهدة الخاصة بمناهضة التعذيب وإنشاء منتدى دائم للشعوب الأصلية، كما حقق المؤتمر مكسبا مهما لحقوق المرأة بأن أقر ضرورة إدماج هذه الحقوق في التيار الأساسي للتشريع الدولي لحقوق الإنسان، وأشار البيان إشارات متفرقة لبعض المطالب العملية الأخرى والخاصة بآليات التنفيذ والتطبيق.

وكذلك قبل المؤتمر بفكرة الحق في التنمية واعتبار هذا الحق "حقا عالميا غير قابل للتصرف وجزءا عضويا من الحقوق الأساسية للإنسان" بما في ذلك الدعوة لعلاقات اقتصادية عالمية أكثر عدالة، واهتم المؤتمر - بشقه الحكومي كذلك - بإدانة ممارسات التطهير العرقي والعنصرية، وأصدر بيانا مستقلاً عن البوسنة والهرسك بناء على طلب الدول الإسلامية، كما أعطى المؤتمر اهتماما وافرا بحق الطفل والأشخاص المعاقين والتشريع لحقوقهم.

العملية السياسية ومستقبل الرسالة

جانب آخر للتقدير المتوازن لمؤتمر فيينا يتعلق بالنواحي السياسية الدولية، وهنا ينبغي أن نتعرض قبل كل شيء للسؤال الذي طرحناه في البداية، فإذا كانت الحكومات الغربية الكبرى قد صارت تحتكر القوة والنفوذ في النظام الدولي فلماذا فشلت في إقناع أو الضغط على عدد من حكومات العالم الثالث للموافقة على ضمانات حقوق الإنسان؟ الواقع ان مفتاح الإجابة عن هذا السؤال هو شرح الخطأ الكامن في السؤال نفسه، أو بالأحرى في الانطباع السائد لدى الصحافة الشعبية في بلادنا العربية وفي العديد من دول العالم الثالث الأخرى بخصوص طبيعة حركة حقوق الإنسان والمصادر السياسية للتشريع الدولي لحقوق الإنسان.

فمن الخطأ البالغ القول بأن الحكومات الغربية هي المصدر السياسي لهذا التشريع وللتجديدات المطلوبة في مجال التنفيذ، ولا أدل على ذلك من أن الولايات المتحدة ذاتها لم تصدق على العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية ولا العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وهما قلب ما يسمى بالشرعية الدولية لحقوق الإنسان، فالمصدر السياسي الحقيقي للتشريع الدولي هو في واقع الأمر حركة عالمية تستهدف أن تكون غير سياسية أو على الأقل محايدة سياسيا، هذه الحركة تدعمها حكومات مختلفة من العالم الغربي ومن العالم الثالث، والآن من حكومات العالم الشرقي "أي أوربا الشرقية والاتحاد السوفييتي المنحل"، وهذا الدعم متفاوت في طبيعته ومشروعيته ودرجة الحماسة فيه، والمهم هو أن هذه الحركة تطورت بفعل تطور المجتمعات المدنية في أرجاء متفرقة من العالم، وتدعمت بفعل الازدهار غير المسبوق للمنظمات الكفاحية على المستويات الوطنية والإقليمية والعالمية لحقوق الإنسان أساسا في المجال غير الحكومي.

فالواقع هو أن السجال الرئيسي لم يتم بين الحكومات بعضها البعض، وإنما بين الشق الحكومي من المؤتمر في مجمله والشق غير الحكومي من المؤتمر في مجمله أيضا، ولذلك فإن المنظمات غير الحكومية اختلفت وقاومت أطروحات معينة لبعض الحكومات الغربية، واختلفت وقاومت أطروحات أخرى لبعض حكومات العالم الثالث وخاصة الآسيوية، فمثلا حاولت الولايات المتحدة أن تصوغ فكرة إنشاء منصب المفوض السامي لحقوق الإنسان بحيث يخضع لمجلس الأمن، وقاومت المنظمات غير الحكومية تلك الصياغة وأصرت على فكرة أن يكون هذا المفوض محايدا سياسيا، أي مستقلا عن مجلس الأمن، ورفضت الولايات المتحدة وحكومات غربية أخرى المطلب العالمي الخاص بإقرار الحق في التنمية كحق أساسي للإنسان، وهناك قائمة طويلة من المطالب التي واجهت فيها الحركة العالمية لحقوق الإنسان وخاصة في شقها غير الحكومي حكومات غربية مختلفة، وخاصة الإدارة الأمريكية، ويصدق الأمر نفسه بالنسبة للمواجهات بين هذه الحركة من ناحية وحكومات من العالم الثالث من ناحية أخرى.

ويجدر بنا التأكيد أيضا على أن حكومات كثيرة من العالم الثالث وخاصة في أمريكا اللاتينية وإفريقيا جنوب الصحراء ذهبت إلى مدى بعيد- أثناء مداولات المؤتمر- في تدعيم مطالب الحركة العالمية لحقوق الإنسان، وأن المواجهة التي شهدها الشق الحكومي من مؤتمر فيينا لم تكن بين الشمال والجنوب بقدر ما كانت بين جبهات سياسية من الطرفين، ويجدر بنا التأكيد أيضا على أن الصراع لم يكن هو شكل التفاعل الوحيد، ذلك أن جبهتي التفاعل كانتا أيضا متوافقتين حول موقف سلبي من مطالب مهمة لحركة حقوق الإنسان، وجاء البيان الختامي تعبيرا عن صفقة شملت الاستبعاد المتبادل لمطالب من الشمال والجنوب.

الثقافة الخصوصية

ومع ذلك كله فإننا لا نستطيع أن نهمل أهمية الصراع بين جبهة معينة تكونت من دول في العالم الثالث وخاصة من آسيا والوطن العربي من ناحية، وجبهة الدول الديمقراطية وخاصة في شمال العالم وأمريكا اللاتينية من ناحية أخرى، الجبهة الأولى بقيادة الصين طرحت مفهوم الخصوصية الثقافية والحقوق الجماعية وخاصة حق التنمية أساسا لمقاومة عالمية حقوق الإنسان والإلزام التشريعي والقضائي للمواثيق والعهود، أما الجبهة الأخرى بقيادة أوربا الغربية فكانت تطرح عالمية حقوق الإنسان ولكنها صاغت هذه العالمية على نحو غير مجرد سياسيا، وذلك بربط آليات التنفيذ بالهيئات السياسية التي تسيطر عليها الدول الغربية، وخاصة مجلس الأمن.

ويمكننا تصوير هذا الصراع في النقاط التالية:

أولا: الحكومات الديمقراطية الغربية طرحت تصورا يقوم على أن الإقرار بحقوق الإنسان هو جزء لا يتجزأ من دعوة النظام العالمي الجديد، ولكن صياغاتها النظرية والعملية لآليات هذا النظام تفتح الباب واسعا أمام احتكار السلطة في النظام الدولي وانتقائية أو ازدواجية المعايير على أساس سياسي مصلحي، وهو ما لا يتفق مع جوهر حقوق الإنسان.

ثانيا: في مواجهة الطرح الغربي أصرت جبهة معينة من دول العالم الثالث بقيادة الصين على عدم تمرير أي آليات تنفيذية قوية لضمان إلزامية حقوق الإنسان، كجزء من رفضها لأطروحة النظام العالمي الجديد أصلا.

وفي الوقت الذي تذعن فيه حكومات تسلطية كثيرة في العالم الثالث لضغوط الدول الغربية الكبرى من مجلس الأمن وخارجه - في إطار العلاقات الثنائية- فيما يتصل بقضايا أخرى، فإنها قاومت بضراوة أي تجديدات تنفيذية ومؤسسية في مجال حقوق الإنسان، وهو المجال الأكثر تماسا باستقرارها السياسي: أي بإمكان التغيير السلمي والمنهجي لسلطة الحكم، واستطاعت فعلا جبهة المعارضة هذه أن تجهض المطالب التجديدية والمهمة المتعلقة بإلزامية التشريع الدولي لحقوق الإنسان في مؤتمر فيينا، والسبب في ذلك يعود قبل كل شيء إلى أن الدول الغربية الكبرى لم تجد في ذلك ضررا شديدا بمصالحها، إذ إنها قد تجد في المطالب الخاصة بإلزامية حقوق الإنسان قيدا على سياستها الخارجية لأن هذه المطالب تتعلق بأسبقية القانون على السياسة وبالحياد السياسي لآليات تنفيذ حقوق الإنسان، وهذا يحرم الدول الغربية من مجال واسع لحرية التصرف ويقيد ممارستها للكيل بمكيالين والتعامل على أساس انتقائي في مجال الإلزام.

وهذا يعني في الجوهر أن مستقبل التشريع والإلزام الدوليين لحقوق الإنسان قد خرج تاريخيا من أيدي الحكومات- شرقا وغربا وشمالا وجنوبا- وصار رهنا بنضال عالمي غير حكومي، أي أن التقدم في مجال الإلزام بالتشريع الدولي لحقوق الإنسان قد صار أمانة في عنق الناس كافة: المنظمات غير الحكومية والمجتمعات المدنية والفعاليات الثقافية وذات النفوذ المعنوي والأخلاقي.. في أعناقنا جميعا.

 

محمد السيد سعيد

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات