سهرة الخفاش خلف الحربي

سهرة الخفاش

في غرفة التحقيق، تمر الصراصير فوق "الموكيت" المتسخ، تبدو كأنها تحك رءوسها إبريق الشاي الكهربائي يكشف عن بعض ملامح المأمور الخبيث، والأوراق المبعثرة في فضاء المكتب متسخة بسواد الكربون الناسخ. كل شيء في هذه الغرفة الضيقة يبدو كأنه نسخة أخرى!!.. حتى وجه المأمور أقسم أني قد رأيته من قبل.

- "بعد اليوم لن تدخل غرفة الحبس الانفرادي، وإذا أخطأت في أي شيء فسأعلقك في مروحة السقف".

- "خفاش؟!!"

- "أنت أحقر من خفاش. إن الخفافيش لا تعشق الخرائب والظلام قدر عشقك المهووس لهذه الغرفة الرطبة المعتمة. هل يمكنك أن تقول لي ماذا تفعل هناك؟".

- "..............."

- "ولد!!... قل لي "هل تتناول مخدراً معينا؟!. سأفتشك إن لم تقل الحقيقة!"

-"............."

-" قل لي.... ماذا دهاك؟!.. ما الذي قلب حالك هكذا. لقد كنت أفضل سجين هنا. كنت ستخرج بثلاثة أرباع المدة؟!.. فلماذا تفتعل الشجارات مع أي كان؟" - "هل تفعل ذلك كي يأخذوك إلى غرفة الحبس الانفرادي كما يقول العسكر؟!"

- "..............."

- "هل أنت على خلاف مع زملائك؟، هل تريدني أن أنقلك إلى عنبر آخر؟!"

- "..............."

- هل تريد أن أعلقك في هذه المروحة؟!"

في غرفة التحقيق بقع شاي قديم.. ومأمور لا يكف عن الصراخ.. وعصا طويلة مزينة بشريط أصفر لاصق.. وورقة كتب في أسفلها "نسخة لمأمور السجن وأخرى لصاحب العلاقة"، وصراصير تحك رءوسها، تبدو كأنها تفكر، أو كأنها تتدبر أمرها!!.

-2-

أن يحرم سجين ما في هذا العالم من اقتناء أي آلة حادة، فذلك أمر بديهي جداً كي لا يموت وفي ذمته شيء من السجن!.

وحين يحرم من الجرائد.. فتلك هي البداهة بعينها، فإذا كانت فكرة السجن تتلخص في منع مخطىء ما من الخروج إلى العالم، فإن إلغاء الفكرة من أساسها يكمن في إخراج العالم إليه. ولكن حين يحرم سجين من ممارسة سجنه بشكل مركز فيمنع من دخول غرفة الحبس الانفرادي فهذا هو الظلم بعينه.. والجبروت بأظلافه الصلبة القذرة.

ليتني قلت للمأمور حقيقة تلك الغرفة، وأرحته وارتحت. ولكن هل كان سيصدقني. وإن صدق فهل سيصدق معي ويبقيني في تلك الغرفة إلى الأبد؟.

تأملت في الممر الطويل الذي يفضي إلى غرفة المأمور وبدأت أتخيل كوميدية المشهد، خصوصا حين أقول للمأمور إننى ذاهب لتلك الغرفة للحاق بموعد عاطفي!.

-3-

أذكر تماما أول مرة دخلت فيها غرفة الحبس الانفرادي، "كان أول لقاء بها!!"، وأذكر أن السجان لم يتقن ركلته فارتفعت عن مؤخرتي وتكومت وجعاً لعيناً أسفل ظهري.

قال بصوته الأجش: "ستجلس هنا إلى ماشاء الله. حتى لا تتشاجر مع أحد مرة أخرى"!.

بعد سيجارتين أو ثلاث اختفت آخر خيوط النور التي كانت تتسلل من الشباك الصغير، وهبط الليل بطيئاً ثقيلا تتماوج وحشته على صدري. وفجأة ظهرت!!.

من حيث لا مكان، ظهرت، أشرقت بلا نور محدد، أضاءت الغرفة الصغيرة دون أن تخل بالعتمة، واخترقت نظراتها الساحرة الأخاذة قلبي.

وجهها ليس بالجميل ولا بالقبيح، ولكنه شيء غير معهود أبدا. ملامح من فضة تتناثر فوقها خصلات الذهب الخالص، عينان سوداوان إلى مالا نهاية، وشفتان من جمر هادىء. دعكت عيني طويلا علني أخلصهما من هذا الحلم، ولكنها كانت شاهرة في صحوي كحقيقة عريقة.

- "من أنت؟".

- "قرينتك!!".

وعلى الرغم من أن "الحبسة" الأولى في الانفرادي لم تتجاوز ثلاث ليال، إلا أنها كانت مزدحمة كالعمر ومليئة بالصور والأسئلة والحكايات، لا أدري كيف اطمأن قلبي لها بهذه السرعة، ولكننا تحدثنا طويلا، تحدثنا كصديقين أليفين ثم كأخوين ثم.. كـ .. كحبيبين!!، كانت مشتعلة الأفكار.. فاتنة الضحكات.. سريعة البديهة.

قلت لها إنني مللت حياتي.. فقالت وهي تتجول بنظراتها في أرجاء الغرفة:

- "الحياة مثل رماد البارحة!!.. يحتاج إلى نفخة واحدة كي يتطاير في الهواء.. ولا يحتاج إلى أكثر من هذه النفخة كي يكشف عن نار متقدة".

- "لم أفهم".
- "انفخ! ".
- "في الرماد؟!".
- "في الحياة".
- "ستتطاير".
- "وقد يشتعل ما تحتها".

-5-

هل أحببتها؟!.. لا أدري ولكننى لا أحتمل هذه الدنيا الهائلة بدونها، كلما حاولت أن ألمسها.. أن أتحقق من كونها حقيقة لا حلما محبوسا.. ارتفعت في الأعالي وقالت بغنج العفاريت:

- "لن تلمسني.. دون زواج"

ويحها.. وهل يتزوج المرء جنية؟، وإن فعل فهل سيكون سعيداً فعلاً بحبه وجنيته؟ أم أنه "سيتمرمط" بين قبائل الجان؟!.

قررت ألا أكون غبياً في زيارتها الثانية وأن أتزوجها فوراً ولكن بشروطي.

- "هل أنت متزوج؟!".

- "في هذا السجن.. هل يتزوج المرء إلا سريره!!".

احمرّ وجهها خجلا وتمتمت: "بايخ!".

سكتنا للحظات ثم همست:

- "أقصد خارج السجن؟".

- "لا... ".

- "إذن ستذهب معي إلى دنيا الجان".

- "لا.. أنت التي ستبقين معي في دنيا الناس".

- "الناس، رمل حساس، أجراس تقرع أجراسا، الناس حراس اللهو الفارغ، هل تسمع لغط الحراس؟!".

- "أنا الرجل وأنا الذي أحدد أين سنعيش... ثم إنني لا أستطيع مغادرة هذا العالم.. هل تفهمين، أنا لا أعيش بلا عالم".

- "العالم.. عرس الظالم".

- "لا أقبل إلا هذا العرس!".

- "أنت حر!".

- "أنا سجين!!".

- "اتركني وشأني إذن".

- "وهل تظنينني قد ربطتك بحبل من مسد؟.. إنني أنا الذي أبحث عمن يتركني وشأني".

اللعنة.. لقد غادرت مرة أخرى، تركت دمعة حية في زاوية الغرفة توارت فجأة فبكيت كما لم يبك رجل من قبل.

أذكر أنني توسلت لكل جدار في تلك الغرفة كي يعيدها إليّ، تشاجرت مع زملائي عشرات المرات، كي يعيدوني إلى الغرفة الرطبة. ناديتها ألف مرة، صليت حتى أوائل الصباح دون جدوى.

وصرخت كالمعتوه: - "يا أرض.. لا تحفظي ما عليك.. اضربي الشوارع بالشـوارع، تزلزلي، اقذفي بالسلالم الكهربائية في الممرات، اغرقي محطات الكهرباء ببحارك العظمى، تزلزلي، احفري ذاتك المهولة، افصحي عن امرأة واحدة فقط، جنية واحدة، واقتلي كل الناس".

- "يا منادي، لقد كبلت الأرض بقيد الجاذبية، ومنذ أن أطلق نيوتن كذبته تلك، تنازلت الأرض عن طموحها القديم بأن تكون سماء ثامنة"!.

إنه صوتها، نعم صوتها، نظرت إلى الأعلى، كان وجهها المضيء الباسم يملأ الشباك الصغير، فصرخت فرحاً وأنا لا أصدق عيني: "بنت الجنية!!... أين كنت؟!".

 

خلف الحربي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات