تأملات في رياض التراث العربي الإسلامي عبدالرزاق البصير

تأملات في رياض التراث العربي الإسلامي

أحدثت معي شدة متابعتي لما تنشره الصحف المحلية وغير المحلية ولما تذيعه وسائل الإعلام العربية وغير العربية حول ما يقع من أحداث دامية في الشرق والغرب ضيقا شديدا لم أجد بدا من أن أخفف عن نفسي بعضه، وذلك باللجوء إلى تراثنا العربي الإسلامي. ويغلب على ظني أن ذلك شأن كل من يصاب بمثل ما أصبت به من التصاق ليس له من فكاك من متابعة الأحداث الجارية الدامية. فجاء هذا المقال.

قرأت منذ مدة طويلة نخبة صالحة من شعر عبدالله بن عمر بن عمرو ابن الخليفة الثالث رضي الله عنه، وقد وجدت في قراءة ذلك الشعر عذوبة وحلاوة تجعل الإنسان لا يمل من الوقوف عليها ومن تذكر ما أحيط بها من قصص وروايات.

لقد وجدت نفسي تهفو إلى التعرف على هذا الشاعر بصورة مفصلة، أريد أن أعرف شيئا عن والديه وعن سيرة حياته، ولقد وجدتني سعيدا حينما وجدت مؤرخي الأدب لم يبخلوا علينا في الحديث عن حياته كما هو الحال حين يؤرخون كثيرا من أدبائنا المشهورين فنحن لا نجد ما يعرفنا بصورة كافية حين نأتي إلى ترجمة الشاعر المغلق "خيار النهدي" هذا الشاعر الذي جرى حوار بينه وبين معاوية بن أبي سفيان وفيه تستبين قوة تعبير "خيار النهدي" وذلك حين سأله معاوية: ما صنع بك الدهر؟ وهو سؤال يحتاج الجواب عنه إلى ما يكمن في نفس المسئول من تجربة عميقة في الحياة، فكان جواب الشاعر النهدي: "صدع قناتي وشيّب سوادي وأفنى لداتي وجرأ علي أعدائي.. ولقد بقيت زمانا آنس بالأصحاب وأسبل الثياب وألف الأحباب، فبادوا عني ودنا الموت مني" ثم أنشده أبياتا في ذم الخمر. وإذا بحثت عن تاريخ هذا الشاعر فإنك لا تجد عند مؤرخي الأدب حديثا فيه أي غناء.

ويقال مثل ذلك في أبي سليمان الداودي، فإننا لا نعرف عن هذا الأديب إلا أنه يحفظ جملة صالحة من شعر أبي العلاء المعري وأنه برع في الأدب. وأنت واجد مثل هذه الحالة في أدباء كثيرين، ولكن مؤرخى الأدب حفظوا لنا الكثير من حياة العرجي، ولم أكد أمضي في الوقوف على تاريخ أسرة العرجي حتى وجدت نفسي تغبط ذلك الجيل الذي أنفق حياته في تلك الأيام الزاهرة، لأنها حياة بعيدة عن التكلف في كل شيء، فهي لا تتكلف ما نتكلفه نحن إذا أراد أحدنا الاقتران بشريكة حياته، فإن الله قد أنعم عليهم بخليفة عظيم يعرف معنى الأمانة حق المعرفة ويقدرها أعظم التقدير.

فلنتأمل تزويج جدة هذا الشاعر لأبيه، فإننا إن فعلنا ذلك فسنجد ما ذكرناه من تقدير الأمانة ومن بساطة الحياة.

الزواج ببساطة

هاجر جندب بن حممة الدوسي إلى المدينة أيام خلافة الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأقام فيها مدة صح عزمه فيها أن يذهب مجاهدا إلى الشام وترك ابنته "أم أبان" أمانة عند الخليفة وقد فوضه في تزويجها فيمن يراه أهلا لذلك ومضى لسبيله حتى نال كرامة الشهادة في سبيل الله وبقيت "أم أبان" في كنف الخليفة عمر تدعوه أباها ويدعوها ابنته، لما كانت تجده من عطف وحنان من قبل الخليفة.

وبقيت أم أبان في عيشة راضية تنعم بعطف الخليفة الأبوي عليها وبما كان يروي لها من أحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم - ومن قصص أنستها حبها لوالدها. جندب حتى جاء يوم أراد الله لها أن تنتقل فيه إلى ما تحلم بـه كل فتـاة وتتمنـاه، وذلـك حين خطـر للخليفـة عمر تزويجها وإذا به يقول على المنبر. "من له في الجميلة الحسيبة بنت جندب بن عمرو بن حممه، وليعلم إمرؤ من هو! فقام عثمان فقال: أنا يا أمير المؤمنين، فقال: أنت لعمر الله! كـم سقت إليها؟ قال: كذا وكذا، قال: قد زوجتكها معجلة فإنها معدة.

ونزل عن المنبر، فجاءه عثمان- رضي الله عنه- بمهرها فأخذه عمر في ردنه فدخل به عليها، فقال: يا بنية مدي حجرك. ففتحت حجرها فألقى فيه المال، ثم قال: قولي اللهم بارك لي فيه، فقالت: اللهم بارك لي فيه".

وهكذا اقترنت بعثمان بن عفان وعاشت معه في أسعد حال، ولقد وجد فيها ذو النورين كل ما أحبه من المرأة مما جعله يطيل المكث عندها أياما لا يخرج إلى الناس، حتى أن سعيد بن العاص دخل عليه يبدي له استغرابه من طول لبثه مع زوجه الجديدة، فأجابه ذو النورين: "أما أنه ما بقيت خصلة كنت أحب أن تكون في امرأة إلا صادفتها فيها".

وهكذا أنجبت للخليفة عثمان ولدا أسماه عمر، وهو جدّ شاعرنا العرجي، ومن ذلك يتبين لنا أن أسرة شاعرنا أسرة ناعمة تسري في دمائها القيم الإسلامية السمحة، فكان مزاج العرجي مزاجا شاعريا يشبه مزاج عمر بن أبي ربيعة، فهو شاعر غزلي يصوّر في شعره خفة دمه وميله إلى الجمال، يصور ذلك بصراحة تجعل الواقف على شعره يشعر بمتعة غامرة لأن شعر العرجي واضح لا تكلف فيه، مثل قوله:

باتا بأنعم ليلة حتى بدا

صبح تلوح كالأغر الأشقر

فتلازما عند الفراق صبابة

أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

ولقد جرت حول هذين البيتين قصة طريفة تبين لك كيف يبلغ الشعر في بعض النفوس مبلغا عظيما يدفع سامعه إلى أن يكون مسلكه مسلكا يستنكره من يراه.

أهل المدينة وشعر الغزل

"يروي مصعب بن عبدالله عن أبيه قال: أتاني أبو السائب المخزومي ليلة بعدما رقد السامر فأشرفت عليه، فقال: سهرت وذكرت أخا لي أستمتع به فلم أجد سواك، فلو مضينا إلى العقيق فتناشدنا وتحدثنا، فمضينا فأنشدته في بعض ذلك بيتين للعرجي (البيتان المذكوران). فقال: أعده علي، فأعدته، فقال: أحسن والله! امرأته طالق إن نطق بحرف غيره حتى يرجع إلى بيته، فلقينا عبدالله بن حسن بن حسن، فلما صرنا إليه وقف بنا وهو منصرف من ماله يريد المدينة فسلم، ثم قال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال له:

فتلازما عند الفراق صبابة

أخذ الغريم بفضل ثوب المعسر

فالتفت إلي فقال: متى أنكرت صاحبك؟ فقلت: منذ الليلة، فقال: إنا لله وأي كهل أصيبت منه قريش! ثم مضينا فلقينا محمد بن عمران التيمي قاضي المدينة يريد مالا له على بغلة ومعه غلام على عنقه مخلاة فيها قيد البغلة فسلم ثم قال: كيف أنت يا أبا السائب؟ فقال:

فتلازما عند الفراق صبابة

أخد الغريم بفضل ثوب المعسر

فالتفت إليّ فقال: متى أنكرت صاحبك؟ فقلت آنفا. فلما أراد المضي قلت: أتدعه هكذا؟ والله ما آمن أن يتهور في بعض آبار العقيق! فقال: صدقت، يا غلام قيد البغلة.

فأخذ القيد فوضعه في رجله وهو ينشد البيت ويشير بيده إليه يرى أنه يفهم عنه قصته، ثم نزل الشيخ وقال لغلامه: يا غلام احمله على بغلتي وألحقه بأهله، فلما كان بحيث علمت أنه قد فاته أخبرته بخبره، فقال: قبحك الله ماجنا! فضحت شيخا من قريش وغررتني".

وهذه القصة إن صحت فإنها تدل على مقدار ما يفعله الشعر بقارئه أو سامعه إذا استحسنه، وإن لم تصح فإن كاتبها يريد أن يصور ما يفعله الشعر بقارئه أو سامعه إذا أحسن فهمه، فإن أبا السائب شيخ من شيوخ قريش معروف بالأريحية والفهم.

أما هذان البيتان اللذان قال عنهما الرواة إنهما فعلا بالشيخ ما ذكرناه فإنهما من الشعر الجيد ولا سيما البيت الثاني، حيث يرسـم صورة طريفة وهي: ما يفعله الغريم بالمدين الذي أخلف وعده بوفاء الدين خلفا جعل غريمه يقنط من وفاء ما عليه، فما هي إلا أن أخذ بثوب غريمه مقسما ألا يدعه حتى يأخذ حقه منه، غير مبال بما يحاول غريمه أن يتخلص منه بالقسم والترجي، وأنه سيؤدي ما عليه.

أما البيت الأول فإنه يرسم صورة للعاشقين حين يجود الزمان عليهما بالوصال من دون رقيب، وليس شيء ألذ لدى العشاق من التواصل وهما في حالة أمن لا يكدره واش أو عازل ثقيل.

على أن مؤرخي الأدب ذكروا عددا لا بأس به من القصص لشاعرنا عبدالله بن عمر بن عمرو ابن الخليفة الراشد الثالث عثمان نختار منها ما يتسع له هذا المجال، راجين أن يتضح للقارىء بعض صور ظرف أهل الحجاز في القرنين الأول والثاني للهجرة، فمن ذلك ما يروى عن عبدالله بن عمر العمري قال: "خرجت حاجا فرأيت امرأة جميلة تتكلم بكلام أرفثت فيه، فأدنيت ناقتي منها، ثم قلت لها: يا أمة الله، ألست حاجة؟ أما تخافين الله؟ فسفرت عن وجه يبهر الشمس حسنا، ثم قالت: تأمل يا عم فإنني ممن عناه العرجي بقوله:

أماطت كساء الخزعن حر وجهها

وأدنت على الخدين بردا مهلهلا

من اللائي لم يحججن يبغين حسبة

ولكن ليقتلن البريء المغفلا

قال: فقلت لها: فإني أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار، قال: وبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال: أما والله لو كان من بعض بغضاء العراق لقال لها: اغربي قبحك الله! ولكنه من ظرف عباد الحجاز".

فإذا عرفنا أن سعيد بن المسيب سيد التابعين وأحد الفقهاء السبعة بالمدينة وأنه أحفظ الناس لأحكام الخليفة عمر بن الخطاب وأقضيته حتى سمي راوية عمر. إذا عرفنا هذا كله تبين لنا سماحة المشهورين من الفقهاء، وكيف أن صدورهم تتسع للترويح عن النفوس، وهذا يعني أن الفقهاء لا يتعجلون برمي المتظرفين بأنهم فساق يستحقون العقاب من الله عز وجل.

نحن والشعر الندي

أليس من الأفضل لنا ونحن في هذا العصر أن نقتدي بأولئك الفقهاء الأعلام وذلك بأن نتقبل ما تجود به قرائح شعرائنا من شعر ندي يروح عن النفوس في هذا الزمن الكالح، على أن يكون فيما يحل ويجمل؟، وعلى كل حال فإني أود أن أروي هنا قطعة من شعر الشاعر العرجي متصورا أنها نفحة تدل على أريحيته:

حوراء لو نظرت يوما إلى حجر

لأثرت سقما في ذلك الحجر

يزداد توريد خديها إذا لحظت

كما يزيد نبات الأرض بالمطر

فالورد وجنتها والخمر ريقتها

وضوء بهجتها أضوا من القمر

يا من رأى الخمر في غير الكروم ومن

هذا رأى نبت ورد في سوى الشجر

كادت ترف عليها الطير من طرب

لما تغنت بتغريد على وتر

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا

ليلاي منكن أم ليلى من البشر

وفي تصوري أن أصحاب الأذواق السليمة يجدون فيها متعة تجعلهم يستعيدونها أكثر من مرة، وربما يتمنى بعضهم لو لحنت لحنا رفيعا، فإن التغني بالشعر يجعله محفوظا على كل لسان حين يكون المغني موهوبا في الأداء وحسن الصوت.

بداية نهاية الشاعر

أما لقب شاعرنا "العرجي" فلأنه كان يسكن العرج وهو منزل بطريق مكة، حسب ما ذكره صاحب خزانة الأدب وغيره من المؤرخين.

وإذا ما أردنا أن نتعرف على نهاية هذا الشاعر فإنا نجد أمرا مستغربا لا يلام من يتحفظ على أقوال مؤرخي الأدب فيه، وهو أنه تشبب بالجيداء أم محمد بن هشام المخزومي والي المدينة المنورة بأبيات مرقصة شاعت على كل لسان. وليس من شك أن الشاعر العرجي يدرك بأن هذا الفعل يغضب والي المدينة عليه أشد الغضب، وأي شيء أعظم على المرء من أن يكون حديث أمه على ألسنة الناس في قطعة شعرية تقرأ للتسلية والاستمتاع، ومما يزيد الإنسان في استغراب هذا العمل، قول المؤرخين إنه شبب بأم الوالي لا عن كلف بها وإنما قصد النكاية بالوالي، فلو كان عن حبّ لكان للشاعر شيء من العذر، ولكن أن تكون النكاية بالوالي هي الغرض المقصود، فذلك هو العبث الذي لا معنى له، بل هو التهور في واقع الأمر، وكانت نتيجة هذا التشبيب بأم الوالي وزوجته واسمها "جبرة" أن اتهمه الوالي بأشنع التهم فكان أن أخذه وقيده وضربه وأقامه للناس ثم حبسه وأقسم: لا تخرج من الحبس ما دام لي سلطان، فمكث في حبسه نحوا من تسع سنين حتى توفي.

ولم يخبرنا المؤرخون بسنة مولده، أما سنة وفاته فإنها سنة "120" للهجرة حسب رواية الزركلي في الأعلام.

على أن دم الشاعر العرجي لم يذهب جبارا فقد أخذ الخليفة الأموي الوليد بن يزيد بن عبدالملك بحق الشاعر حيث أذاق محمد بن هشام نفس الكأس المرّ الذي سقى الشاعر به والمتمثل في الجلد والتنكيل وكان محمد بن هشام يتوسل إلى الخليفة قائلا: أسألك بالقرابة، قال: وأي قرابة بيني وبينك وهل أنت إلا من أشجع؟! قال: فأسألك بصهر عبدالملك، قال: لم تحفظه، فقال له: يا أمير المؤمنين قد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن يضرب قرشي بالسياط إلا في حدّ، قال: ففي حدّ أضربك وقود، أنت أول من سن ذلك على العرجي وهو ابن عمي وابن أمير المؤمنين عثمان، فما رعيت حق جده ولا نسبه بهشام ولا ذكرت حينئذ هذا الخبر.

وهكذا يصدق المثل المعروف على محمد بن هشام "بيت الظالم خراب ولو بعد حين".

وقد يكون من تمام الحديث عن هذا الشاعر أن نروي شعر الغزل الذي قاله الشاعر في "جيداء" أم محمد بن هشام والذي أدى به إلى ما ذكرناه من ضرب وتعذيب:

عوجي علينا ربة الهودج

إنك إن لا تفعلي تحرجي

إنى أتيحت لي يمانية

إحدى بني الحارث من مذحج

نلبث حولا كاملا كله

لا نلتقي إلا على منهج

في الحج إن حجت وماذا منى

وأهله إن هي لم تحجج

فلما سمع عطاء بن رباح البيت الأخير قال: الخير كله بمنى وأهله! حجت أم لم تحج.

وقد صدق عطاء فيما قال ولكنها مبالغة الشعراء.

 

عبدالرزاق البصير

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات



ش