120 عاما على وفاة الطهطاوي: جابر عصفور

120 عاما على وفاة الطهطاوي:

من التنوير إلى الحرية

رفاعة رافع الطهطاوي "1801- 1873" رائد التنوير بلا منازع، وبشير التقدم، ومؤسس النهضة العربية الفكرية الحديثة بلا جدال، يتردد اسمه منذ أشهر في الأوساط العربية التي تهتم بالتنوير وتدافع عنه، في مواجهة جحافل الإظلام، وذلك بمناسبة مرور مائة وعشرين عاما على وفاته.

احتفلت طهطا موطنه الأصلي في الصعيد "الجواني" بهذا المولد، تذكرت المكتبة التي أقيمت باسمه في قصره، وتم تزيينها، وإعادة تأسيسها، وتحركت فرقة مسرحية واعدة، تقدم مسرحية نعمان عاشور عن "بشير التقدم"، وهي سرد ملحمي لحياة الشيخ رفاعة الطهطاوي، وتذكرت العواصم العربية كلها الرجل الذي استهل الاستنارة عندما وضع أول لبنة في صرح التعليم الحديث، وابتعث أول جريدة- مجلة واعدة، وأسس مدرسة الألسن، وتخرّج على يديه عشرات من المترجمين الأكفاء الذين تحولوا إلى أعلام النهضة، وكتب في كل فروع المعارف الحديثة التي رأى فيها وسيلة للنهوض بأوطان العرب، والانتقال بها من وهاد التخلف إلى ذرى التقدم، وصاغ ثمـرة أول لقاء حديث بين الشرق المتطلع إلى النهضة والغرب المتقدم، وذلك في عمله البديع "تخليص الإبريز في وصف باريز"، وترجم أول زواية حديثة إلى اللغة العربية، وهي رواية سياسية، تهدف إلى تنوير أولي الأمر، وتثقيفهم بأصول الحكم العادل، وهي رواية "مغامرات تليماك" للكاتب فنلون "1651- 1715" التي أصدرها في باريس عام 1699 ليعلّم ولي عهد فرنسا مسئوليات الحاكم وواجبات الملك، بواسطة استخدام تاريخ اليونان وآدابهم، فاستعار إطار مغامرات تليماكوس ابن أوديسيوس الذي ارتحل باحثا عن أبيه الغائب ليعود به إلى وطنه، وقد ترجم رفاعة هذه الرواية حين نفاه الخديو عباس إلى السودان "1850- 1853" فاستغل الوقت في الترجمة التي كانت رسالته، واستغل الترجمة في بث آرائه عن الحكم العادل ضمن النص المترجم الذي أصدره في بيروت "عام 1867 بعد عودته من المنفى" بعنوان "مواقع الأفلاك في وقائع تليماك".

آفاق عصر جديد

لقد كانت الترجمة هي وسيلة رفاعة الأولى في الانتقال بوطنه إلى آفاق العصر الحديث، نقل بها كتب الاستنارة الفرنسية، وعرّف بها، منذ أن تعرّف هذه الكتب لأول مرة في السنوات التي قضاها في باريس (1826- 1831) منذ أن ذهب إليها وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وصافحت عينه مؤلفات روسو وفولتير ومونتسكيو، وكل أعلام التنوير الفرنسي، والترجمة هي قناع رفاعة المراوغ، حين كان يحاول نقل أفكاره السياسية وتوصيلها، بكل ما تحمل هذه الأفكار من إشارات إلى كيفية تحقق العدل، والثورة على الظلم، ولم يكن من قبيل المصادفة أن يعجب رفاعة الطهطاوي بميراث الثورة الفرنسية في هذا المجال، وأن يترجم وهو في باريس نشيد المارسيلييز نظما، ويتبعه بترجمة "القصيدة الباريسية" التي قيلت في ثورة الفرنسيين ضد ملكهم شارل العاشر، لقد أهاجته قيم الحرية والعدالة والمساواة التي رفعتها الثورة الفرنسية، وبقدر تمثله لهذه القيم، واسترجاع تراثه العربي الإسلامي الذي يتجاوب معها، صاغ نشيد المارسيلييز الفرنسي "الذي تهدم على وقع إيقاعه سجن الباستيل" في صياغة عربية تومىء إلى نظائر الطغيان، في كل مكان، وتقول في أوضح بيان:

إلهي، كيف يقهرنا ملوك

بسبل العدل ليس لهم سلوك

وأنذال للاستعباد حيكوا

وما في الفخر يشركنا شريك

ولا أحد به أبدا حريا

عليكم بالسلاح أيا أهالي

ونظم صفوفكم مثل اللآلي

وخوضوا في دماء أولي الوبال

فهم أعداؤكم في كل حال

وجورهم غدا فيكم جليا

بنا خوضوا دماء أولي الوبال

مؤكد أن النص الفرنسي الأصلي لا يعرف المسحة العربية الجزلة التي أضفاها رفاعة عليه، ومؤكد أن تشبيه صفوف الثائرين بالنظم مثل اللآلي بعيد عن البلاغة الثورية للمتمردين الذين هدموا الباستيل رمز الظلم والجبروت، ولكن الصياغة العربية بنبرتها الحماسية، وتراثها الذي يدعم نبرة الفخر، تبرز مطلب "العدل" والثـورة على "الاستعباد" وحب "الحرية". إن حب الحرية هو النغمة الأساسية في كل ما ترجمه رفاعة، ولا يوازيها في ارتفاع مدى الصوت والوقع إلا حب العدل والإيمان بالمساواة، وتلك نغمة أخرى تتضافر مع غيرها من النغمات التي تتجاوب أصداؤها في المفتتح النظمي الذي يصوغ به رفاعة القصيدة الباريسية على هذا النحو:

يا أهل فرانسة الغرا

يا شجعانا بشهامتكم

عشتم في الرق وورطته

والآن، خذوا حريتكم

ما أحسن يوم فخاركم

بتوافقكم في كلمتكم

كروا كرا للظفر بهم

النصر حليف شجاعتكم

إن النظم الفرنسي ينقلب إلى لسان عربي مبين في أمثال هذه الأبيات، واللسان العربي المبين يتوسل بالنص المترجم ويخفي تحته مطامحه الحقيقية إلى الحرية والعدل، هكذا يختفي رفاعة المعلم المنفي إلى السودان، تحت قناع منظور مربي تليماك ورفيقه في رحلاته، ويقول له:

"ما أسعد الأمة التي يحكمها ملك عاقل، وسلطان عادل، تعيش في الرخاء والكرم والسخاء، وتكون سعيدة مرتاحة، وتحب دوام ملكه إذ هو السبب في الراحة، يا تليماك، إذا ساعدتك المقادير بالتولية على ملك أبيك، فاحكم هكذا، وأدخل السرور على الرعية، وأحبهم كأنهم عيالك، لتحظى بكونهم أيضا يحبونك، وعاملهم حسن المعاملة، بحيث يفهمون أن هذا بحسن تدبيرك وبقصد الراحة والمحبة لهم، فالملوك الطغاة التي لا تشتغل إلا بالتخويف والإرهاب وهضم رعاياهم بقصد الإطاعة ومنع الارتياب هم كناية عن طاعون ووباء يهلك بهم الناس ويضيعون هباء".

حقا "ما أسعد الأمة التي يحكمها العقل والعدل"، ذلك ما تعلمه رفاعة من "تخليص الإبريز" حين توقف أمام تمرد الشعوب على ظالميها، وتعلم معنى الدستور والقانون والفصل بين السلطات والتسامح وحق الاختلاف وحرية التعبير وضرورة مقاومة الظلم، وكانت البداية يوم أن جلس في غرفته المتواضعة، في مدينة باريس، بيده قلم، وفي صدره حماسة الخارجين من الثورة الفرنسية، وأمام عينيه وثائق يتعلم منها معنى العدل في سوس الأمم، هكذا، ترجم ما عرفه عن تدبير الدولة الفرنسية هدية إلى شعبه العربي المسلم، ووصية إلى ولي النعم محمد علي الذي أرسله ليتعلم من الفرنسيس أسباب تقدمهم.

أول دستور باللغة العربية

ولم يكن من المصادفة - والأمر كذلك - أن يكون أول "دستور" باللغة العربية هو الدستور الذي ترجمه رفاعة الطهطاوي في أواخر الثلث الأول من القرن التاسع عشر، قبل عودته إلى مصر عام 1831، وهو الدستور الذي يؤكد أن ملك فرنسا - ومن ثم كل ملك- ليس مطلق التصرف، وأن لويز الثامن عشر "بضم اللام وكسر الواو" الذي ألّف هذا الدستور القانون الذي أسماه "الشرطة" La Sharte يمكن أن يكون مثالا يحتذى، هذا الدستور وإن كان غالب ما فيه ليس في كتاب الله تعالى، يؤكد أن العقول البشرية يمكن أن تهتدي بذاتها إلى أن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، فالعدل أساس العمران، ولا عمارة إلا بالعدل، وأبلغ الأشياء في تدبير المملكة تسديدها بالعدل، وأول مادة في هذا الدستور أن البشر متساوون أمام القانون، وأن من حق كل واحد منهم الوصول إلى أي منصب أو رتبة، ويعني ذلك أن الدعوى الشرعية تقام على الملك وينفذ عليه الحكم كغيره، وأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين، بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، وأن حرية كل إنسان مباحة، وحقه مكفول في أن يظهر رأيه وعلمه وسائر ما يخطر بباله، مما لا يضر غيره، فيعلم الإنسان سائر ما في نفس صاحبه خصوصا الورقات اليومية المسماة بـ "الجورنالات" و"الكازيطات" "الأولى جمع "جرنال" (جريدة)، والثانية جمع "كازيطة" (مجلة) ". فإن الإنسان يعرف منها سائر الأخبار المتجددة سواء كانت داخلية أو خارجية، أي داخل المملكة وخارجها.

وإذا كانت الترجمة هي قناع الشيخ رفاعة الذي تخفى وراءه ونقل كل ما كان يريد توصيله إلى من يطالع ما كتب، تأكيدا لحلمه الجميل في أن تنتقل أمته من مستوى الضرورة إلى مستوى الحرية، فإن الكتابة الذاتية كانت وسيلة موازية لهذا القناع، لقد بدأت رحلته التنويرية بالرحلة إلى فرنسا وقبل الرحلة نبهه أستاذه الجليل الشيخ حسن العطار إلى ضرورة تدوين مشاهده في كتاب، هكذا انبثقت فكرة "تخليص الإبريز في وصف باريز"، وذلك بالمعنى الذي جعل الكتاب استخلاصا لأسباب تقدم الفرنسيين، ووصفا للمظاهر الفعلية لهذا التقدم، وكما كان السفر "مرآة الأعاجيب" على نحو ما قال الشيخ حسن العطار في تقديمه كتاب تلميذه بعد أن فرغ منه وعاد إلى مستقره، كان السفر تحولا للوعي، وتغيرا في الفكر، وارتحالا من منظور إلى منظور، وكانت الكتابة تسجيلا لهذا التحول، خطوة، خطوة.

حث ديار الإسلام

ويبدأ "تخليص الإبريز" حركته من القاهرة، ومن ولي النعم الذي سهل الدخول في وظيفة واعظ في العساكر الجهادية، ثم منها إلى رتبة مبعوث إلى باريس صحبة الأفندية المبعوثين لتعلم العلوم والفنون الموجودة بهذه المدينة البهية، وقبل أن تنقلب الصفحة الأولى من الكتاب، ونغادر القاهرة، يؤكد لنا الشيخ الشاب الواعظ الذي صار مبعوثا أن هدفه من الكتاب هو حث ديار الإسلام على البحث عن العلوم البرانية والفنون والصنائع، فإن كمال ذلك ببلاد الإفرنج أمر ثابت شائع، والحق أحق أن يتبع، ويعلن الشيخ الشاب في حسرة خلاصة الرحلة، من قبل أن تبدأ أوراق وصفها، كأنه يستبق النتيجة التي لا يصبر عليها، ويقول مقسما: "ولعمر الله إنني مدة إقامتي بهذه البلاد في حسرة على تمتعها بذلك وخلو ممالك الإسلام منه ". هذه العبارة هي مفتاح الكتاب كله ومفتاح جهد رفاعة في حياته كلها.

كيف تصل بلاد المسلمين إلى التقدم الذي وصلت إليه بلاد الفرنجة؟ ذلك هو السؤال الذي استهل به رفاعة الرحلة، وكان "تخليص الإبريز" هو البداية، و"وصف باريز" هو المنطلق، وكان أول الإجابة مرتبطا بإعمال العقل- لا النقل- في تحصيل المعرفة، وإطلاق سراح العقل في التجريب والإبداع دون حجر عليه، ودون تعلل بالقشور، أو الجمود الذي يعوق حركة العقل ويشله، وتمضي الإجابة التي تقرن العقل بالعلم الذي لا يفصل بين المصنع والمعمل، ويتأسس بالمكتبة والمخبر، وينمو بالأكاديمية الحرة والمؤسسة التعليمية المستقلة، ويتضافر العقل والعلم مع العدل والمساواة في معاملة الحاكم للمحكوم، ومعاملة المواطن للمواطن، ويتأسس ذلك كله بالفصل بين السلطات وخضوع الجميع إلى الدستور والقانون، وحين تتأكد الحرية بوصفها القيمة التي تنطوي عليها قيم العدل والمساواة والعلم والعقل يتأكد التقدم في المجتمع، وتكتمل إجابة رفاعة عن السؤال.

ولم يكن مصادفة أن يبدأ رفاعة الفصل الأول من المقالة الثانية "من تخليص الإبريز" ساخرا دون أن يعلن سخريته، وينهي الكتاب في الخاتمة مهاجما دون أن يعلن هجومه، وفي كلا الحالين، كان يؤكد قيمة العقل في أكثر سياقاته حساسية لعصره، يتوقف قبل أن يصف دخوله إلى مدينة مرسيليا، أي وهو في الأعراف الفاصلة بين شرقه المتخلف والغرب المتقدم الذاهب إليه، يتوقف رفاعة، والسفينة تنتظر في الحجر الصحي "الكرنتينة" ليذكر ما قيل له عن مناظرات بعض فقهاء المغرب، فقد وقعت الواقعة بين العلامة الشيخ محمد المناعي التونسي المالكي المدرس بجامع الزيتونة ومفتي الحنفية العلامة الشيخ محمد البيرم، وذلك حول الحجر الصحي "الكرنتينة" أمباح هو أم حرام؟ أما الأول فذهب إلى التحريم مؤكدا أن الكرنتينة من جملة الفرار من القضاء، وذهب الثاني إلى الإباحة والوجوب مستدلا على ذلك من الكتاب والسنة، ويصمت رفاعة عن التعليق لكن وصفه للكرنتينة يغني عن كل تعليق.

النساء عند الإفرنج

وتغادر سفينة رفاعة الأعراف ويصل إلى باريس، ويتعلم، ويسجل خلاصة ما تعلم، لكنه، وهو يختم كتابه، يتوقف عند المرأة الفرنسية، فينصفها، ويؤكد صورتها الجميلة في إبداع الفنون وإتقان العلوم، ويقول لنا إن السؤال يقع كثيرا من جميع الناس على حالة النساء عند الإفرنج، ويجيب رفاعة عن السؤال بقوله: "إن وقوع اللخبطة بالنسبة لعفة النساء لا يأتي من كشفهن أو سترهن، بل منشأ ذلك التربية الجيدة والخسيسة والتعود على محبة واحد دون غيره، وعدم التشريك في المحبة والالتئام بين الزوجين"، ولا يعلن رفاعة عن من تقع عنده "اللخبطة" لكن سياق كتابه يوضح المقصود، وأهم من ذلك يوضح حلمه في أن تصبح النساء في وطنه "حسان المسايرة" لا يختلفن عن الذكور في تحصيل المنافع والفوائد، خصوصا بعد أن علمته باريس "أن للنساء تآليف عظيمة، ومنهن مترجمات للكتب من لغة إلى أخرى، مع حسن العبارات وسبكها وجودتها"، كما تعلم أنه لا يليق للمرء أن يسأل عن جمال المرأة وحده بل "عن عقل المرأة وقريحتها وفهمها وعن معرفتها".

ولم تكن مصادفة - والأمر كذلك- أن أول كتاب يترجمه رفاعة في باريس يحمل عنوان "قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر"، ونقرأ فيه أنه "كلما كثر احترام النساء عند قوم كثر أدبهم وظرافتهم، فعدم توفية النساء حقوقهن، فيما ينبغي لهن الحرية فيه، دليل على الطبيعة البربرية"، ولم تكن مصادفة أن آخر كتاب أخرجه قلم رفاعة كان "المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين"، وهو الكتاب الذي طبع في العام الذي افتتحت فيه أول مدرسة لتعليم البنات، وهو العام نفسه الذي توفي فيه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير الأول عام 1873.

 

جابر عصفور

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات



ش