هل انتهى عصر التوظف الكامل؟ رمزي زكي

هل انتهى عصر التوظف الكامل؟

الآن وسط قوانين السوق التي لا ترحم والرغبة في الربح والاعتماد على الميكنة الحديثة وتوفير الآلاف من الأيدي العاملة.. هل تقول الرأسمالية وداعا لعصر التوظف الكامل أم أن تزايد البطالة سوف يرغمها على تغيير أسلوبها؟.

كان الاقتصاديون الكلاسيك في القرن التاسع عشر يعتقدون أن النظام الرأسمالي تسيره قوانين طبيعية خالدة، وأن احترام تلك القوانين، أي عدم التدخل لإعاقة مفعولها، سيقود النظام دوما نحو التوازن عند مستوى التوظف الكامل- FULL EM PLOYEMENT، وهو ذلك المستوى الذي تكون عنده جميع الموارد البشرية والطبيعية والمالية موظفة إلى أقصى طاقة ممكنة، وأنه لا يوجد توازن مستقر قبل الوصول إلى التوظف الكامل. ولهذا لم يكن واردا في منطق الفكر الاقتصادي الكلاسيكي احتمال أن يتعرض النظام الرأسمالي لأزمات اقتصادية عامة يتعطل فيها البشر والطاقات الإنتاجية، وإن كانوا قد افترضوا احتمال طروء أزمات إفراط إنتاج جزئية، ينتج عنها بطالة محدودة ومخزون سلعي غير مرغوب وتدهور في الأسعار والأرباح في صناعة ما. لكن افتراضهم لحالة المنافسة الكاملة وآليات السوق الحرة واليد الخفية جعلهم يذهبون إلى القول بأن تلك الأزمات الجزئية ذات طابع مؤقت وتقضي على نفسها بنفسها. فالبطالة التي ستحدث سوف تختفي حالما يتمكن العمال المتعطلون من التدريب على مهنة أخرى، أو حينما تنخفض الأجور وتنخفض من ثم تكلفة العمل وتغري رجال الأعمال بإعادة توظيفهم مرة أخرى. كذلك لم يكن من الوارد عند الكلاسيك أن تحدث أزمات اقتصادية عامة بسبب الاختلال الذي يحدث بين الادخار والاستثمار، فقد افترضوا أن كل ادخار يتحول إلى استثمار، لأنه توجد دوما فرص لا نهائية لتثمير رءوس الأموال، ومن ثم فليس من المتصور أن يحدث تباين بين قوى الطلب الكلي وقوى العرض الكلي. فالتوازن بينهما أمر حتمي. وكان الاقتصادي الفرنسي جان باتست ساي J.P. Say قد توصل إلى صياغة قانون مهم، صار أساسياً عند الاقتصاديين الكلاسيك، وهو القانون الذي ينص على "أن العرض يخلق الطلب المساوي له". فالناتج المحلي الإجمالي الذي أنتج في فترة معينة تقابله دخول موزعة في شكل أجور وأرباح وفوائد وريوع يعاد إنفاقها كلها لمقابلة قيمة هذا الناتج. ومن ثم لا توجد أزمة تصريف أو نقص استهلاك تعرض النظام للاختلال ولحالات واسعة من البطالة.

طقوس مقدسة

والواقع أنه حينما ظهر الاقتصاد الكلاسيكي الذي أرسى دعائمه آدم سميث وبلغ ذروة نضجه عند ديفيد ريكاردو، كانت التطورات الاقتصادية والاجتماعية تسير لصالح النظام الرأسمالي الوليد باعتباره يمثل نقلة حضارية في التطور الإنساني من المجتمع الإقطاعي الاستبدادي إلى مجتمع جديد يموج بالنمو والعقلانية وبازدهار الإنتاج الصناعي. وقد نجح الاقتصاد الكلاسيكي في اكتشاف كثير من القوانين الموضوعية التي تحكم نمو النظام الرأسمالي. ولهذا كانت مقولاته محل قبول عام. وظلت تعاليم الكلاسيك أشبه بالطقوس المقدسة التي لا يمسها أحد إلا إذا كان الهدف هو تبريرها والدفاع عنها. صحيح أن الكلاسيك، مع ذلك، كانوا ذوي نظرة ثاقبة، ولكن متشائمة، بشأن مستقبل النمو في النظام الرأسمالي عبر الأجل الطويل، حيث كانت وجهة نظرهم هي أن مآل النظام لابد وأن يكون هو الركود الدائم. وقد أسسوا وجهة نظرهم في هذا الخصوص على أساس أنه مع زيادة عدد السكان، ومع خضوع الإنتاج لقانون الغلة المتناقصة، فإن أسعار السلع الزراعية، وبالذات الغذائية، تميل للارتفاع بشكل مستمر، الأمر الذي يؤدي إلى زيادة أجور العمال وزيادة نصيب الريع الزراعي من الناتج المحلي، بينما يقل، في المقابل، نصيب الأرباح، ويضعف، من ثم، تراكم رءوس الأموال، وينخفض معدل النمو الاقتصادي، ويتردى النظام بالتدريج نحو مهاوي الركود.

وعلى الرغم من تلك النظرة التشاؤمية لمستقبل النظام الرأسمالي إلا أن أحداً لم يهتم بها كثيراً آنئذ (باستثناء روبرت مالتس). فهي نظرة تتعلق بالأمد الطويل بينما الرأسمالية كنظام اجتماعي وليد كانت في تلك الآونة في شرخ الشباب وتشق طريقها صعداً في مجال النماء ولم تكن قد عرفت بعد ظاهرة الأزمات الاقتصادية العامة.

وعندما جاءت المدرسة النيوكلاسيكية (مدرسة التحليل الحدي) في أواخر القرن التاسع الاقتصادي عند الكلاسيك وأحالت علم الاقتصاد إلى علم جاف يبحث في التوازنات الساكنة (كتوازن المنتج وتوازن المستهلك) وساوت بين الإنسان والجماد، لم تهتم مطلقاً بفكرة الأزمة في النظام الرأسمالي ومصيره عبر الزمن. ولكنها ظلت مع ذلك محتفظة بالمقولات الأساسية التي استخلصها الكلاسيك في تحليلهم وهي: الإيمان بفلسفة الحرية الاقتصادية والتنديد بالتدخل الحكومي، والاعتقاد في فاعلية القوى التلقائية للسوق في تحقيق التوزيع الأمثل للموارد، والإيمان بصحة قانون ساي وإنكار إمكان حدوث أزمة اقتصادية عامة في النظام الرأسمالي، والإيمان بقدرة الرأسمالية على تحقيقها المستمر للتوظف الكامل.

الكساد الكبير

وظلت هذه المفاهيم تسيطر على أذهان الاقتصاديين وعلى صناع السياسات الاقتصادية في دول الغرب الصناعي إلى أن جاء زلزال الكساد الكبير (1929- 1933) فأطاح بشدة بهذه المفاهيم ومزقها تمزيقاً عنيفاً، سواء على صعيد الواقع الأليم الذي كشفت عنه أحداث الكساد الكبير أو على صعيد الفكر النظري الجديد الذي قدمه اللورد الإنجليزي جون ما ينرد كينز.

فقد أثبتت أحداث الكساد الكبير فساد المنطق النظري الذي استندت إليه النظريات الكلاسيكية والنيوكلاسيكية في عدم إمكان تصور حدوث الأزمات الاقتصادية العامة وأما طت اللثام عن البون الشاسع بين الفكر الاقتصادي السائد والواقع الأليم. ففي سنوات الكساد الكبير حدثت بطالة على نطاق واسع في مختلف أنحاء المعمورة، قدرت بنحو 100 مليون عاطل، وانخفض حجم الناتج القومي في كبريات الدول الصناعية بنسب تتراوح ما بين 45 - 60 % ، وأغلقت العديد من المصانع وأفلست كثير من البنوك والشركات وانهارت البورصات وتدهورت قيم المعاملات الوطنية، وانهار نظام النقد الدولي وانكمشت حركة التجارة الدولية. وفضلا عن هذا وذاك دب الفقر والجوع والبؤس بين جموع غفيرة من السكان في مختلف أنحاء العالم. وآنذاك وقع الفكر الاقتصادي الرأسمالي في محنة كبيرة وورطة لا مثيل لها. إذ ساد الشعور بعدم صحة الافتراضات التي قامت عليها النظرية الاقتصادية الرأسمالية. فافتراض التوظف الكامل لجميع الموارد الاقتصادية، والإيمان بصحة قانون ساي للأسواق وبفاعلية القوى التلقائية للنمو، والتوافق التام بين المصلحة الخاصة والمصلحة العامة، والاعتقاد في الهارمونية التامة التي توفرها آليات الأسعار لعلاج الأزمات.... كلها بدت حينئذ أموراً ميتافيزيقية تدور في الهواء وفي عقول الاقتصاديين دون أن تكون لها أي علاقة بالواقع. وفي عام 1936 خرج اللورد كينز بنظريته العامة في التوظف والفائدة والنقود ليضع حدا لأوهام الاقتصاديين ونظريتهم الشائعة. وكانت نظريته أشبه بالانقلاب الفكري الذي أعاد النظر بجرأة شديدة في صحة ما كان ينظر إليه على أنه من الأمور المقدسة. وقد هاجم كينز قانون ساي للأسواق، وأثبت أن حالة التوظف الكامل التي ادعى الكلاسيك بأنها الوضع العادي والمألوف للاقتصاد القومي ليست إلا حالة خاصة جداً، وأن التوازن الاقتصادي يمكن أن يتحقق عند مستويات مختلفة تقل عن مستوى التوظف الكامل. وكانت الفضيلة الأساسية لكينز أنه أعاد اكتشاف فكرة "الأزمة الاقتصادية" في النظام وحتمية وقوعها إذا تركت قوى السوق لتعمل بشكل تلقائي ودون تدخل حكومي فعال. وانتهى في نظريته إلى نتيجة خطيرة تقول: إنه مع تزايد الدخل القومي يزداد الميل للادخار (وبالتالي ينقص الميل للاستهلاك) وفي الوقت نفسه تنخفض الكفاية الحدية لرأس المال (معدل الربح المتوقع). وهنا تلوح في الأفق بوادر عدم التوازن بين الادخار والاستثمار، ومن ثم ظهور الكساد والبطالة وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي. وللخروج من هذه الأزمة، التي هي في التحليل النهائي، وجود فجوة بين قوى الطلب الكلي الفعال وقوى العرض الكلي، نادى كينز بضرورة التدخل للتأثير في حجم الطلب الكلي، وأن الدولة هي الجهاز الوحيد القادر على إحداث هذا التأثير. ولهذا فإن جوهر نظريته يعتمد على التدخل الحكومي بعد انتهاء عصر المنافسة الكاملة وسياسة دعه يعمل... ودعه يمر Laissez Faire Laissez Passer. وكانت مقترحات كينز، ببساطة شديدة، أنه حينما تلوح في الأفق بوادر أزمة الكساد بما تنذر به من بطالة واسعة، فإن الحكومة يتعين عليها أن تطبق حزمة من السياسات المالية والنقدية للحيلولة دون وقوع الكساد. فدعا إلى خفض الضرائب وزيادة الإنفاق العام وتشغيل العمال في الأشغال العامة، حتى ولو أدى ذلك إلى حدوث عجز في الموازنة العامة للدولة وأن يخفض البنك المركزي من سعر الفائدة لكي يزيد الطلب على القروض والاستثمارات، ويرتفع، من ثم، مستوى الطلب الكلي. أما إذا لاحت في الأفق مخاطر التضخم بعد وصول الاقتصاد القومي إلى مرحلة التوظف الكامل، فإنه دعا إلى تطبيق سياسات انكماشية (خفض الإنفاق العام وزيادة سعر الفائدة وزيادة الضرائب) لكي ينخفض الطلب الكلي ويتوازن مع العرض الكلي عند مستوى التوظف الكامل. وبذلك قدم كينز "صك غفران" لخطيئة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي، وهي الخطيئة التي كانت لا تغتفر لدى الكلاسيك والنيوكلاسيك. وعندما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها تبنت الدول الرأسمالية الصناعية الفلسفة الكينزية القائمة على التدخل الحكومي. ولم تعد مسئولية الحكومات مقصورة فقط على وظائفها التقليدية، بل شملت تلك المسئوليات جوانب اقتصادية واجتماعية مختلفة. وكان تحقيق التوظف الكامل هدفا عزيزا على السياسات الاقتصادية في هذه الدول، سعت إليه بكل السبل باعتباره ركيزة الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي للرأسمالية. وكان هناك شبه إجماع بين الاقتصاديين وصناع السياسة على أنه لما كانت القوى التلقائية الداخلية للرأسمالية عاجزة عن تحقيق معدلات النمو التي تكفل تحقيق التوظف الكامل عبر الزمن فقد ذهبوا إلى ضرورة تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي. وخلال الفترة الممتدة ما بين 1945- 1970 توسع الإنفاق العام الحكومي توسعاً هائلا، وزادت الخدمات الحكومية ذات الطابع الاجتماعي (التعليم، الصحة، الإسكان، مصروفات الضمان الاجتماعي ودعم الفقراء والتوسع في إعانات البطالة... إلى آخره). كما زاد الإنفاق العسكري والتوظف الحكومي بل وتملكت الحكومات بعض المشروعات الأساسية، كالنقل والمواصلات والفحم والحديد ومشروعات الطاقة. وظهر ما يسمى ب "الحجم الكبير للحكومة". وكل ذلك شكل في الواقع الأسس التي قامت عليها نظم الاشتراكيات الديموقراطية بدول غرب أوربا والنظام الاجتماعي للسوق و"دولة الرفاه". إن ظهور التدخل الحكومي ونمو القطاع العام هي مسائل لا علاقة لها إذن بالاشتراكية أو بالأيديولوجيات... بل كانت ضرورة أملتها ظروف نمو الرأسمالية واستقرارها في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

محنة الكينزية

حقاً، لقد شهدت مجموعة الدول الرأسمالية الصناعية خلال الفترة من 1945 إلى 1970 ازدهارا لامعا، حيث ارتفعت فيها الإنتاجية وزاد التقدم العلمي والتقني وزادت معدلات النمو الاقتصادي، ولم يتعد معدل البطالة فيها عن 3% من مجموع القوى العاملة. وحققت استقرارا نقديا ملموسا، حيث لم يزد متوسط معدل التضخم فيها على 3% سنويا. وآنذاك ساد الاعتقاد، بأن الرأسمالية تستطيع أن تنمو بشكل مستقر وتكفل الرفاه للجميع، وأن الأزمات الاقتصادية العامة وحالات البطالة الواسعة أصبحت من مخلفات الماضي. ولكنها ظلت مع ذلك محتفظة بالمقولات الأساسية لكن الأمور تنقلب رأساً على عقب مع دخول حقبة السبعينيات، فقد دخلت المنظومة الرأسمالية في أزمة هيكلية عميقة (مازالت مستمرة حتى الآن). حيث شهدت دول المراكز الصناعية لأول مرة في تاريخها في العقد السابع ظاهرة الارتفاع المستمر للأسعار المصحوب ببطالة واسعة وبركود اقتصادي شديد. وهي الظاهرة التي عرفت تحت مصطلح "الكساد التضخمي" Stagflation. كما انهار نظام النقد الدولي (نظام بريتون وودز) حينما أوقفت الولايات المتحدة الأمريكية قابلية صرف الدولار إلى ذهب في أغسطس 1971، وعومت أسعار الصرف واضطربت أحوال التجارة الدولية وتفاقمت نزعة الحماية، وارتفعت الأسعار في الأسواق العالمية (بما فيها أسعار الفائدة) وزاد عجز موازين مدفوعات البلاد النامية، وهو العجز الذي موّل بالقروض الخارجية وخلق فيما بعد أزمة مديونية عالمية شديدة المراس.

إزاء هذه الظروف دخلت الكينزية في محنة، فلم يعد جهازها النظري قالوا على تفسير ما حدث، وعجز الكينزيون عن تقديم وصفات أو سياسات لمكافحة البطالة والتضخم والركود، بعد أن بات من الواضح أنه يستحيل في ظل التطور المعاصر للرأسمالية، الجمع بين هدف التوظف الكامل والاستقرار النقدي والتوازن الخارجي وآليات السوق. وهكذا تهيأ المناخ لظهور فكر اقتصـادي جديد. وحينئذ انتصر تيار المدرسة النيوكلاسيكية مرة أخرى (تيار مدرسة شيكاغو). حيث شن أنصار هذا التيار هجوماً عنيفا على سياسة تدخل الدولة وعلى توسع الإنفاق العام والملكية العامة ونادوا بضرورة العودة لآليات السوق الطليقة وبيع مشروعات القطاع العام وخفض مصروفات الضمان الاجتماعي وإعانات البطالة، والتخلي عن هدف التوظف الكامل. وهي الأمور التي بلورت سمات الليبرالية الجديدة التي تكتسح الآن مختلف أنحاء المعمورة.

على أن ما يهمنا الإشارة إليه في هذا السياق، هو موقف الليبراليين الجدد من قضية البطالة بعد التخلي عن هدف التوظف الكامل.وأخطر ما في الأمر هو القبول الضمني لليبراليين بأن حل أزمة التضخم لن يتم إلا في ضوء القبول بالبطالة والارتفاع بمعدل البطالة الطبيعي. وبالفعل كانت لآرائهم صداها في هذا الخصوص، حيث نجحت معظم الدول الرأسمالية الصناعية في العقد الثامن الماضي في التغلب على مشكلة التضخم، ولكن على حساب نمو البطالة من خلال السياسات الانكماشية التي أوصوا بها (زيادة أسعار الفائدة، تقييد عرض النقود، خفض معدلات نمو الإنفاق الحكومي، بيع المشروعات العامة..).

مشكلة كبرى... البطالة

والواقع أن مشكلة البطالة في دول الغرب الصناعي أصبحت الآن هي المشكلة رقم واحد، حيث يصل معدل البطالة فيها إلى 9% من مجموع القوى العاملة. ويوجد في دول أوربا الغربية الآن 32 مليون عامل عاطل (طبقا لبيانات 1992). وإذا أضفنا إلى الرقم البطالة الموجودة الآن في دول شرق أوربا والاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية، فإن الرقم يمكن أن يصل إلى أكثر من 60 مليون عاطل. أما عن البطالة في العالم الثالث فلا تقل عن ثلاثة أمثال هذا الرقم وخصوصا بعد أن تفاقمت أوضاعها الاقتصادية بعد تطبيق برامج التثبيت والتكيف الهيكلي لليبرالية.

والمعضلة الأساسية التي تواجهها البلاد الرأسمالية الصناعية بشأن مشكلة البطالة، هي أن الصناعات التي ستعتمد عليها موجة التوسع الرأسمالي القادمة هي من ذلك النوع الذي لن يوفر العمل الثابت للعمالة التي اعتمد عليها الإنتاج الصناعي الضخم في أوربا واليابان والولايات المتحدة في الماضي. فالتصنيع كثيف العمالة يتراجع الآن أمام الفنون الإنتاجية الموفرة لعنصر العمل. والإنتاج في الصناعات الجديدة يعتمد على فنون مستحدثة كثيفة المعرفة. وأصبح العمل يدار من خلال أجهزة الإنتاج والإدارة المبرمجة التي يقل فيها العمل الإنساني إلى أدنى الحدود خصوصا بعد ابتكار "الروبوت" الذي جاء بعد التطور المذهل الذي حدث في صناعة الكمبيوتر وتكنولوجيا الاتصال والآلات الدقيقة. وإذا كان دخول العمل الآلي المبرمج قد أدى إلى زيادة البطالة في كثير من الصناعات، فإن الأمر زاد حرجا حينما دخل هذا النوع من العمل في قطاع الخدمات. وهو القطاع التقليدي الذي كانت له قدرة عالية على امتصاص البطالة في الخمسينيات والستينيات من هذا القرن. صحيح، أن الموجة الجديدة للصناعات عالية التكنولوجيا ستخلق فرص عمل جديدة للعمالة الماهرة جداً، لكنها في جميع الأحوال لن تستوعب ذلك القدر من قوة العمل التي توجد الآن أو ستوجد في المستقبل. بل إنه نظراً لسرعة التقدم الفني، فإن هؤلاء الذين سيجدون فرصة العمل اليوم سيكونون معرضين في الغد للبطالة إذا لم يواكبوا الحاجات المتغيرة لمهارات العمل والإبداع المطلوبة.

كما أن الورطة الرئيسية في هذا الخصوص، هى أن شغل فرص العمل الجديدة لن يكون ممكنا إلا أمام هؤلاء القادرين على دفع نفقة التعليم وإعادة التدريب والتعرف المستمر على مهارات الثورة العلمية والتقنية، هذا في الوقت الذي أصرت فيه السياسات الليبرالية الجديدة على تقليل الإنفاق الحكومي الموجه للتعليم والتدريب، وجعلت التعليم خاضعا لاقتصاديات السوق، ومن ثم وقفاً على من يقدر على تحمل نفقاته المرتفعة. والرأسمالية الجديدة بهذا الشكل حكمت على القاعدة العريضة من العمال والفنيين والموظفين وشرائح كثيرة من الطبقة المتوسطة، حكمت عليهم بالبطالة المستديمة.

وداعا للتوظف الكامل

وخلاصة ما تقدم، هي أن مشكلة البطالة أصبحت الآن في الدول الرأسمالية الصناعية أزمة هيكلية، لا تجدي أمامها الوصفات الكينزية التقليدية، ولا الوصفات السطحية (النقدية والمالية) التي تعتمد عليها الليبرالية الجديدة. ومشكلة البطالة إذن ستصبح هي القنبلة، دائمة الخطر، التي يتعين على المراكز الرأسمالية الصناعية أن تضع لها ألف حساب، نظراً للأخطار المحدقة التي ستنجم عنها (العنف، التطرف، العنصرية، الجريمة، حوادث الشغب.. إلى آخره). ولكنها في جميع الأحوال ستعيد من جديد انبعاث الحركة العمالية التي كان الغرب الرأسمالي قد راهن على موتها إبان فترة النمو الذهبي لرأسمالية عالم ما بعد الحرب (1945- 1970). ومن المتوقع أن تحتدم الأوضاع الاجتماعية والسياسية في مراكز المنظومة الرأسمالية، خصوصا بعد التضحية بدولة الرفاه والتخلي عن هدف التوظف الكامل والقبول الواسع للبطالة. بيد أنه لن يكون بإمكان أي دولة رأسمالية أن تتحمل على المدى الطويل هذا الضغط الاجتماعي والتوترات المتزايدة التي سببتها البطالة وتفاقم أحوال الجيش الاحتياطي للعمل واستمرار عمليات الإفقار المطلق لأقسام واسعة من العمال والموظفين (فقدان فرص العمل والدخل، والغلاء، تلاشي كثير من بنود الضمان الاجتماعي...).

هكذا قالت الدول الرأسمالية الصناعية: وداعاً للتوظف الكامل. وفي النهاية يمكن بلورة ورطة الرأسمالية في مرحلتها الراهنة في التناقض التالي: أنه في الوقت الذي أصبح فيه ممكناً زيادة الإنتاج زيادات هائلة ومستمرة، إلا أن هذا الإنتاج أصبح يتم بأعداد قليلة جداً من العمالة، مما يعني التزايد المستمر للعاطلين. وهو مأزق خطير، لا حل له، فيما أتصور، إلا بتجاوز الرأسمالية نفسها.

 

رمزي زكي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات