المجتمع المدني في الوطن العربي خليل حيدر

المجتمع المدني في الوطن العربي

ودوره في تحقيق الديمقراطية
المؤلف: نخبة من المثقفين العرب

هذا الكتاب هو حصيلة تجمع نحو تسعين مثقفا عربيا في ندوة شاملة في يناير 1992 أي بعد عام من انتهاء حرب تحرير الكويت وكان السؤال المهم الذي طرح نفسه عليهم: ما هي التحديات التي تحول دون قيام المجتمع المدني بدوره من أجل تحقيق الديمقراطية؟.

يستعرض الكتاب الصادر في سبتمبر 1992، في 880 صفحة، مجموع الأوراق التي قدمت في هذه الندوة فيحتوي القسم الأول، وموضوعه المجتمع العربي في الفكر والممارسة، على بحوث سعيد بن سعيد العلوي وعبدالباقي الهرماسي ووجيه كوثراني ومعن زيادة والطاهر لبيب وغيرهم. ويتناول القسم الثاني، المجتمع المدني ومؤشرات البناء، بحوث الأساتذة مسعود ضاهر وعبدالقادر الزغل وحيدر إبراهيم وباقر النجار وآخرين. أما القسم الثالث، وهو بعنوان المجتمع المدني آفاق المستقبل، فيضم دراسة للسيد ياسين، والنقاشات الختامية التي دارت تحت عنوان "ما العمل؟".

ولكن ما هو "المجتمع المدني" الذي اجتمع كل هذا الحشد من العقول العربية لتبادل الأفكار حوله؟ ولماذا اكتسب هذه الأهمية ضمن هذه الظروف؟.

ثمة مجموعة تعريفات للمجتمع المدني لا مجال لعرضها. ويمكن اعتباره خلاصة "كل المؤسسات التي تتيح للأفراد التمكن من الخيرات والمنافع العامة، دون تدخل أو توسط الحكومة".

وقد لاحظ بعض المشاركين في الندوة أن مقومات المجتمع المدني في الشرق الإسلامى تختلف تماما عنها في الغرب الأوربي "ففي حين هي في الغرب أحزاب سياسية، وكنائس، ونقابات عمالية، ونقابات مهنية، وجمعيات اجتماعية وثقافية، نجد أنها في المجتمع العربي الإسلامي فعاليات اقتصادية واجتماعية تتحلق حول المسجد. إنها أسواق الحارات، والجماعات الحرفية، والملل المذهبية، والطرق الصوفية. ومع عهود التفاعل غير المتكافىء مع الغرب، في إطار التبعية له، قامت أحزاب سياسية ونقابات وجمعيات اجتماعية وثقافية.. وغير ذلك.

" وقد لاحظ د. محمود عبدالفضيل جانبا آخر من واقع المجتمع المدني في الدول العربية.

ذلك أنه "نظرا للنشأة الغربية لمفهوم المجتمع المدني، لم يلتفت معظم الباحثين العرب حول قضايا ومشاكل المجتمع المدني إلى أنه لا يوجد في مجتمعنا العربي مجتمع مدني واحد، بل عدة مجتمعات: الأول هو ذلك المجتمع المدني، الظاهر للعيان، والذي تمتلىء الدنيا بمطبوعاته ونشراته واجتماعاته الرسمية وندواته، إنه ذلك المجتمع المدني الذي تتحرك في إطاره الأحزاب والنقابات والمنتديات، وتسهر على إدارته النخبة المثقفة والتكنوقراطية ووجهاء القوم. وفي المقابل، نلاحظ أن هناك مجتمعا مدنيا آخر تحتيا صامتا، يلف الأرياف وأحياء القصدير في المدن الكبيرة. هذا المجتمع المدني الآخر له أيضا مؤسساته وتنظيماته غير الرسمية".

ويرى الباحث أن نجاح "تيار الإسلام السياسي" مثلا، عائد أساسا لتغلغله في هذا المجتمع التحتي، والالتحام به.

وحاول د. وجيه كوثراني تلخيص التجربة العربية والإسلامية، فقال إنها أنتجت "دولة سلطانية" لا مجال فيها لتداول السلطة.. "لكنها بالمقابل شهدت مجتمعا أهليا تخللته تعبيرات من المبادرات والحريات والمشاريع الاجتماعية والعلمية ومواقف معارضة وممانعة في إطار العصبيات والقبائل أو في إطار الملل والمذاهب أو في تنظيمات الحرف وطرق الصوفية" ويبحث د. كوثراني عن أزمة الديمقراطية العربية في مكانين: "في عقل أهل الدولة العربية المعاصرة الذي يأبى فكرة التداول، وفي عقل المعارضة العربية على اختلاف اتجاهاتها التي تستعجل أمر الاستيلاء على السلطة".

لا يزال السؤال مطروحا

على الرغم من هذا التحديد لموضوع الندوة، ظلت فكرة "المجتمع المدني العربي" غير واضحة ولربما عبرت د. فريدة العلاقي عن انطباعات بعض المشاركين في الندوة قائلة: "استمعنا إلى ما يقارب عشرين بحثا ومداخلة، حتى الآن، ولا يزال السؤال حول معنى المجتمع المدني مطروحا". فتعريف مركز دراسات الوحدة العربية لهذا المجتمع أنه "هو مجموع المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تعمل في ميادين مختلفة في استقلال عن سلطة الدولة". ولربما كان هذا التحديد نفسه- تضيف د. العلاقي، مديرة إدارة المرأة والطفل في برنامج الخليج العربي لدعم منظمات الأمم المتحدة الإنمائية- هو الذي أوقعنا في المأزق. فمثل هذه المؤسسات لا وجود لها في الوطن العربي ما لم تحصل على موافقة ومباركة رسمية، وبالتالي "ليس لها استقلال عن مؤسسات الدولة".

ويشكك د. مصطفى كامل السيد فيما ذهب إليه د. كوثراني بصدد ضم النشاط الأهلي لمفهوم المجتمع المدني. فيعتبره في الواقع "أقرب إلى المؤسسات والممارسات التي كانت تميز المجتمع الإقطاعي في أوربا في عصرها الوسيط، وقد جاء مفهوم المجتمع المدني ليشكل رفضا لها ومحاولة لتجاوزها".

ولا شك أن ملاحظات د. العلاقي ومصطفى السيد في محلها. ذلك أن المجتمع المدني في الغرب أوربا والولايات المتحدة، ظاهرة حية طاغية. وثمة نشاطات أهلية واسعة، غير مرتبطة بالدولة. وقد استرعى انتباه المفكر الفرنسي المعروف "الكسيس دي توكفيل" Alexis de Toqueville في زيارته للولايات المتحدة ولع الشعب الأمريكي بتأسيس الجمعيات، فكتب يقول:

"إن الأمريكان من جميع الأعمار، ومن جميع المنازل ومن مشارب مختلفة نجدهم يكونون الجمعيات. ليست لهم جمعيات اقتصادية وصناعية فقط حيث الكل يشارك فيها، بل لهم أيضا أنواع كثيرة أخرى، من دينية وأخلاقية، ومهمة وغير مهمة". وبهذه الطريقة أيضا "يؤسسون المستشفيات والسجون والمدارس".

وأضاف مقارنا: إنك تجد على رأس مؤسسة جديدة ما "في فرنسا حضور الدولة، وفي إنجلترا حضور رجل إقطاعي أما في أمريكا فلا ترى إلا الجمعيات".

لو شئنا لقلنا إن التنوع في الحياة العربية قد يساعد على ازدهار مثل هذه الجمعيات دون أن تتفكك الحياة الاجتماعية أو الفكرية أو تتشتت الجهود. وقد لاحظ د. مسعود ضاهر أن التنوع السكاني في الوطن العربي ذو غنى يندر وجوده في أماكن أخرى من العالم "وهو يحتضن في داخله تنوعا بالغ الأهمية من حيث تعدد الأعراق مع وجود أكثرية واضحة للعنصر العربي، وتعدد الأديان مع وجود أكثرية ساحقة للدين الإسلامي، وتعدد الحضارات مع وجود تأثير بالغ للحضارة العربية الإسلامية بالدرجة الأولى".

بعد ستين عاما

وقد تناقش المنتدون حول: لماذا اهتم المثقفون العرب بإثارة قضية المجتمع المدني في بداية التسعينيات، بينما توقف الفكر الغربي عن الحديث عنها منذ ستين عاما؟.

وهو سؤال، يجدد. علي الكنز، أستاذ علم الاجتماع الجزائري جوابه في الشعور بخيبة الأمل بين المثقفين العرب بعد أن أخفقت الدول العربية الراديكالية في تحقيق تطلعاتهم إلى تغير اجتماعي واقتصادي جذري في المجتمعات العربية، لذلك تطلعوا إلى فاعل اجتماعي آخر تصوروه في "المجتمع المدني".

ويجد د. مصطفى السيد جوابا آخر: "فقد أظهر المجتمع المدني درجة عالية من الحيوية والفعالية في عدد كبير من بلدان أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا وإفريقيا السوداء، وفي بلدان شرق أوربا، فقد سقطت حكومات سلطوية في كل هذه البلدان، وحلت محلها حكومات تحترم حقوق الإنسان المدنية والسياسية بدرجة أكبر. وجاء هذا التحول نتيجة ثورات أو انتفاضات شعبية ساهمت فيها منظمات المجتمع المدني".

أما الباحثون الغربيون فيعزون تخلف المجتمع المدني في البلدان العربية والإسلامية إلى التقبل العام للسلطوية وعدم إعطاء أولوية أساسية للقيم الديمقراطية في المجتمع بشكل عام.

لا بد من الدكتاتورية

لم تكن كل الأوراق المقدمة بنفس الدرجة من الجودة. كما غلب على بعضها صعوبة اللغة وغموض التحليل. وقد اشتكى د. محمد المتوكل، من اليمن، من توغل أعمال الندوة "في العمل الأكاديمي التنظيري على حساب تحليل الواقع المعيش"، وأن بعض البحوث "أوغلت في الحذلقة اللفظية".

حمل بعض المثقفين العرب معهم مخاوفهم حول التآمر الدولي إلى الندوة. وقد رد على هؤلاء بعض المشاركين في الندوة بالقول إنه "من التبسيط الشديد وصف ما حدث من تحول باتجاه التعددية السياسية وإقامة نظم تحترم الحقوق السياسية والمدنية في عدد من دول العالم الثالث في أمريكا اللاتينية وجنوب آسيا وإفريقيا.. بأنه استجابة لمشروع أمريكي. فقد حدثت هذه التطورات في الثمانينيات في وقت لم تكن ترفع فيه الإدارة الأمريكية تحت رئاسة رونالد ريجان شعار حقوق الإنسان، وإنما كانت تؤكد ضرورة مكافحة الشيوعية في كل مكان، وتساند بذلك كل النظم الدكتاتورية في العالم الثالث".

واندفع محام عربي ضمن تعليقه على أحد البحوث، فراح يدافع عن ضرورة قيام أنظمة دكتاتورية في الوطن العربي لأن "الدولة الممركزة المتسلطة، خيار وحيد مفروض، من طرف النظام الأمريكي الكوني، على نخبات بيروقراطية وعسكرية في دول المواد الخام والأسواق المستهلكة". ولكن المحامي عينه عاد فناقض نفسه في تعليق آخر، متحسرا على "لا ديمقراطية التنظيمات الحزبية العربية"، وطالب بتشكيل "كتلة تاريخية" على المستوى القطري والقومي، فنسف بذلك الكثير من متطلبات استقلالية وتلقائية مؤسسات المجتمع المدني العربي المنشود. وقد فاض بمثقف عربي الكيل، فوقف يتساءل: "لماذا لا يزال الفكر العربي يطرح الإشكاليات والقضايا نفسها التي طرحت منذ قرنين من الزمان، وكأنه لم يحدث تقدم على صعيد مواجهة أي من القضايا الكبرى مثل: العلاقة بين الدين والدولة، والعلاقة بين الإسلام والغرب، وطبيعة النظام السياسي والاجتماعي؟ لماذا يعيد الفكر العربي اجترار وإعادة إنتاج هذه القضايا وكأن عجلة الزمان قد توقفت؟".

حضور كويتي ملموس

كان للكويتين والخليجيين في الندوة حضور ملموس حيث شارك د. باقر النجار، من جامعة البحرين، ببحث حول "المجتمع المدني في الخليج والجزيرة العربية"، وساهم أساتذة آخرون من الكويت وغيرها بالحوار.

وقد تحدثوا في تعقيباتهم عن المقاومة الوطنية والتماسك الاجتماعي الباهر الذي أبداه المجتمع الكويتي في ظل الاحتلال البغيض. كما بين الأستاذ جاسم القطامي عمق الصلة المتبادلة في الكويت بين مؤسسات المجتمع المدني والديمقراطية من حيث كون الديمقراطية أساسا سياسيا لوجود وتطور هذه المؤسسات.

ختاما، لقد أظهرت البحوث المقدمة في هذه الندوة وما أثارت من تعقيب وتعليق، أهمية الموضوع وغموضه في الوقت نفسه وبينت أحيانا أن الكثير من جوانب الصلة بين المجتمع المدني العربي والديمقراطية، بحاجة إلى دراسات جادة وصريحة.

 

خليل حيدر

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات




غلاف الكتاب




ش