عرف جاك بريفير
بين الشعراء والنقاد على أنه شاعر الحياة اليومية، فهو من أبرز الشعراء الحديثين
الذين طوعوا البساطة إلى مهارة التعبير عن الواقع بأشد دلالاته كثافة معنى ورحابة
رؤية، ونلمس تأثيرا لأسلوبه في مراحل شعراء عرب كثيرين أمثال نزار قباني وسعدي يوسف
من جيل الرواد.
أما أهم إنجاز
لشعر بريفير وكتابته على وجه العموم فهو عنايته بالموضوع داخل نزوعات التحديث، وولع
التجريد، وهوس التصوير المغالي بحد ذاته، وعندما مال إلى الكتابة للأطفال كان شرف
الموضوع هو محط اهتمامه الأول، بالإضافة إلى مراعاته لاعتبارات مخاطبة الناشئة، ولا
سيما البساطة والوضوح في تخييل شديد التجنيح، مما يؤكد المقولة الذهبية التي ترى أن
الموضوعات كلها صالحة للأطفال والناشئة، والمهم هو تركيب الخطاب الإبداعي، الأدبي
والفني بالذات. إن الأطفال والناشئة جمهور محدد يحتاج إلى أدبه الخاص ولكنه الأدب
المفتوح على رحابة التجربة الإنسانية وإدهاش تناولها بروح المحبة
والمسئولية.
أما كتابه الذي
أود أن أقدمه فهو "قصص إلى أطفال شياطين"، (وقد ظهر أخيرا ضمن منشورات وزارة
الثقافة بدمشق بترجمة غصون رفعت عرنوق).
شاعر متعدد
المواهب
تشير النبذة
المعربة عن بريفير إلى أنه ولد في 4 فبراير/ شباط عام 1900، وكتب مسرحيات
وسيناريوهات أفلام لأعظم مخرجي عصره: جان رينوار، وراسيل كارنيه، وبيير بريفير،
وجان غريميون؟ وهو شاعر قبل كل شيء، شاعر يتمرد ويندد، لكنه يحسن الترفق والتأثر
أمام الجمال البريء، في الكون الذي يجسده الولد أو العصفور أو الزهرة، إنه شاعر
حي، جعلته حرية طبعه بعيدا عن المدارس والأحزاب والأنظمة، وليس ذلك من قبيل
اللامبالاة بأحداث العالم، فأقواله الصريحة تثبت العكس.
وبهذه الصورة
التي مثلها للحرية استمال جمهورا عريضا من اليافعين والأطفال بالإضافة إلى
الراشدين، وقد توفي بريفير في 11 مارس / آذار 1977.
وهذه الصور
القصصية والسردية التي قدمها بريفير في كتابه "قصص إلى أطفال شياطين" مكتوبة على
أسلوب الأنسنة إياه، أي إضفاء صفات الإنسان على الحيوان والكائنات الحية، ثم يستغرق
بريفير في استبطان وعي إنساني حر ومطلق في جعل الحيوانات ناطقة ومتحسسة للظلم
البشري، إنها قصص وحكايات نقدية لجشع الإنسان ونهمه وقيمه الضالة، تتآلف الحيوانات
والطبيعة في تناغم بديع هو امتزاج بالتطلع إلى الرحمة والتعاطف والكرامة
والحرية.
وقد اختار بريفير
لقصصه وحكاياته أسلوبا شفافا شديد الإلماع في نقده للمظاهر الاجتماعية الكاذبة
والخداعة، ولم يغفل دائما عن التوجيه القيمي لمتلقيه من الأطفال واليافعين الذين
يخاطب فيهم المعارف البسيطة من أجل فهم بعض المشكلات المعقدة.
قصص عن
الحيوانات
كتبت القصص
والحكايات كلها عن حيوانات عن طريق راو مضمر يبدو محايدا، ولكنه يلمح بذكاء إلى ذلك
التوجيه القيمي من خلال تعاطف لا يخفى، حتى وهو يجنح في خياله الطفلي أو الواقعي أو
التاريخي عندما يستعرض مصائر الحيوانات أمام خطر عدوان البشر عليها الذي هو عدوان
على بني الإنسان أيضا، لأن تهديد الطبيعة وكائناتها موجه إلى الإنسان ومستقبله
بالأساس، ولأن أهمية إلى ترسيخه في وجدان الناشئة بالأساس أيضا.
ونذكر بعض
الأمثلة والنماذج من هذه القصص والحكايات.
النعامة:
نقد لطيف وشفيف
لمظاهر الأبهة الكاذبة على حساب الحيوان، ولضرب الأولاد في ظل عجز الكبار عن
التواصل مع عالمهم ولقتل الحيوان واصطياده انتفاعا بفروه وجلده فحسب.
مشهد من حياة
الظباء:
عن حياة الظباء في إفريقيا، وكيفية اصطيادها وأكلها دون
رحمة، والتوازي بين السود وهذه الظباء، حيث يصطاد السود وتمارس عليهم تفرقة تنفي
الحياة في آخر الأمر.
ينطلق بريفير من
لسان حال الظباء التي افتقدت ظبية إصطادها البيض، ويختتم القصة بأسى لماح مؤثر
"وعلى صخرة تقف إحدى الظباء بلا حركة، تنظر إلي القرية البعيدة جدا في أسفل الوادي،
إنها قرية صغيرة جدا غير أن فيها كثيرا من النور والأغاني والصيحات ونار المباهج.
وتدرك الظبية معنى نار المباهج عند البشر، فتغادر صخرتها وتذهب لملاقاة الآخرين
قائلة:
- لم تعد هناك حاجة لانتظارها، بإمكاننا أن نتعشى
بدونها.
عندئذ تجلس الظباء الأخريات جميعا إلى المائدة وليس بينها من
يشعر بالجوع فتكون وجبة حزينة جدا.
وحيد السنام
المستاء:
ذهب وحيد السنام الفتي إلى محاضرة مع أبيه وأمه، وضجر من
المحاضرة، ولكن المحاضر رآه جملا.. جملا قذرا، بينما هو، أي وحيد السنام، نظيف
جدا.
الفقمة أو فيل
البحر:
عن حالات فيل البحر السعيد ونقد التكلف
أوبرا
الزرافات:
الإنسان يقتل الزرافات، والاستعمار هو الذي يكسب قماش
المعاطف، وغناء الزرافات الحزين في عدة لوحات. وفي المستعمرات، يصطاد الابن الزرافة
بشماتة بينما تقرصه ذبابة النعاس.
هي مرثية
للزرافة وهجاء للابن، فقد "نام الابن وكأنه ميت، وماتت الزرافة وكأنها
نائمة".
حصان في
جزيرة:
يعيش حصان وحيدا، ومشروعه الكبير هو العودة إلى الخيول، من
أجل أن تتبدل حياتها، فهي تعيسة، ويطالبون السادة بخدمات كالأكل والشرب حيث يأكل
السادة الشوفان ويشربون الماء البارد ويريدون عطلة، ويهددون:
- سنعض
أول شخص يضربنا. وسنقتل الشخص الثاني الذي يضربنا. هذا كل ما في الأمر. إنه نقد
لقسوة البشر وقلة تعقلهم من جهة، وتوق الكائنات للحرية من جهة أخرى، ينتهي بإنذار
الخيول.
نمر فتي حبيس في
قفص:
كانت قضبان القفص تكبر معه وكان الرجال شريرين يزدادون سوءا
وغباء، فقد قتلوا.. وقتلوا.. وسيقتلون. لقد أحس النمر من زواره أن البشر لطيفون
وطيبون، ولكن ظنه خاب. كان مروضا يضرب ويطلق النار، فيقرر النمر افتراسه فينقذه
المتفرجون، ويقف رجل إنجليزي مع النمر فيتلقى الضربات أيضا.
الحمير
الأول:
كانت غريزة الغاب والوحوش حتى جاء البشر، ملوك الخليقة،
إلى بلد الحمير فتراهم الحمير "حيوانات غريبة شاحبة تسير على قائمتين، وآذانها
صغيرة جدا، ليست على شيء من الجمال، ومع ذلك يجب أن نقيم لها حفلة استقبال صغيرة..
إنه أصغر الواجبات".
ثم ربط ملوك
الخليقة الحمير جميعا بعد استقبالها لهم مثل النقانق. وقتلوا أصغرها وشووه بالسفود،
وأكلوه "بتقزز، فهو لا يساوي الثور أو الخروف".
يتوقفون عن
أكلها، لأسباب شكلها وطعمها وثقافتها، ويقررون قيادتها.. ويبقى الماضي
ذكرى.
***
إن أدب بريفير
للأطفال والناشئة نموذج آخر للأدب الممتع الذي يجسد مهارة البساطة في احترام جمهور
الأطفال والتوجيه القيمي غير المباشر. إنه درس نافع آخر في تطوير الكتابة العربية
للأطفال واليافعين.