أرقام

أرقام

العالم يتثاءب!

يوما بعد يوم تتزايد الصيحات: نحن أمام عالم واحد، الحدود أصبحت وهمية، والاتصال لا بد أن يكون وثيقا، ليس من خلال التكتلات الاقتصادية فقط، ولكن من خلال حدود مفتوحة بين كل دول العالم.

آخر هذه الصيحات اتفاقية التجارة والتعريفات الجمركية المعروفة باسم "الجات" التي استمرت مفاوضاتها ثماني جولات حتى نهاية 1993، وتم الاتفاق في الجولة الأخيرة على أن يتم التوقيع في أبريل 1994.

حينذاك قال قادة المؤتمر الذي ضم "117" دولة: "إننا أمام منعطف مهم، فحرية التجارة وتخفيض الرسوم الجمركية أو إلغاؤها، سوف يكون أداة لتحريك الركود الذي يسود العالم".

هكذا كان التصور في نهاية 1993، فهل كان صحيحا؟.. هل يتحرك العالم.. أم أنه يمضي في تثاؤبه؟.

الرجوع للخلف

يقول تقرير التجارة والتنمية الصادر عن الأمم المتحدة في النصف الثاني من عام 93 إن متوسط النمو في الناتج العالمي كان "2.8%" سنويا في الثمانينيات، لكن التسعينيات شيء آخر، هبطت نسبة النمو في عامها الأول "91" إلى أقل من نصف في المائة "بالتحديد 0.4% ، ثم ارتفعت قليلا في العام التالي لتصبح 1.4 %، وهو نفس الرقم المتوقع لعام 1993.

في التفاصيل، نجد أن اليابان كانت تقف على رأس الدول المتقدمة فارتفع ناتجها لأكثر من 4% في الثمانينيات وبداية التسعينيات، لكنها سرعان ما تراجعت حتى أصبحت نسبة النمو المتوقعة لعام 93 "1%".

وعلى الجانب الآخر كان الأكثر هبوطا: وسط وشرق أوربا، فبعد أن كان النمو إيجابيا في الثمانينيات، أصبح النمو سلبيا في التسعينيات فسجل هبوطا قدره "15.9%".. وبين الاثنين الأكثر نموا في الدول المتقدمة، والأقل نموا، تقف الولايات المتحدة التي يتحسن اقتصادها وتقف أوربا الغربية التي ذهبت التوقعات لأن يكون نموها بالسالب عام 1993.

الدول النامية- وإذا أخذنا بالنسب المجردة - أفضل حالا فنسبة النمو المتوقعة لذلك العام هي: 4. 6 %.. وأعلى نسبة للنمو كانت للصين عام 92 : "12.8 %".. ولكن لأن الدول الصناعية المتقدمة تحوز وحدها 54% من حجم إنتاج العالم، فإن مركز الثقل هناك في الشمال، إذا بدأ الركود فيه ساد العالم، وإذا بدأ الانتعاش انطلق العالم كله.

في التفسير، تصبح حالة أوربا الشرقية واضحة، فعدم الاستقرار السياسي صحبته حالة من عدم الاستقرار الاقتصادي، والتحول لسياسات اقتصادية جديدة صحبه تراجع في الأداء لمختلف القطاعات الاقتصادية. نفس الشيء في مواقع التوتر مثل الجمهوريات السوفييتية وجمهوريات يوغسلافيا السابقة، وأفغانستان وبلدان إفريقية عديدة.

في الدول المتقدمة تختلف الأسباب، ولكن تطفو على السطح هذه السياسات المالية التي شهدت عجزا كبيرا، وتلك القروض الحكومية التي سجلت أرقاما تاريخية "حالة الولايات المتحدة"، وذلك الانكماش المخطط في ميزانيات الدفاع بعد أن انتهت الحرب الباردة.

وبطبيعة الحال كانت هناك استثناءات أبرزها في القارة الآسيوية.

مرحلة جديدة

آمال الاقتصاديين قائمة، والعالم كله مشغول: كيف ينتقل من الركود إلى الانتعاش؟، كيف تقل حالات الإفلاس التي نشهدها كل يوم؟، وكيف يجد كل صاحب حاجة للعمل فرصة عمل؟.

وقد جددت اتفاقية الجات الآمال في انتعاش عالمي، ولكن التجارة وحدها لا تكفي.

عربيا، لدينا سوق عربية مشتركة أزالت الكثير من الحواجز الجمركية والإدارية، سمحت بانتقال السلع والأفراد والأموال، أعفت السلعة العربية من أي رسوم في معظم الأحوال، فتحت الأبواب بين دول عربية يزيد تعدادها على 70% من سكان الوطن العربي، و.. مع ذلك كانت نسبة النمو في التجارة محدودة وكان الدرس واضحا وهو أن فتح الحدود وحده لا يكفي، فالأهم توفير السلع التي تستطيع أن تعبر الحدود.

الدرس قائم، لكن الانفتاح التجاري- على أي حال - ليس خاليا من أي فائدة، إنه ضمن عناصر أخرى يمكن أن تدفع بعجلة الإنتاج.

والقضية- كما قلت- تبدأ بالاستثمار.. أو: الادخار ثم استثمار المدخرات.

وربما كان من عوائق ذلك في السنوات الأخيرة تقلب العملات والمخاطر التي تعرضت لها الاستثمارات وحركة رءوس الأموال.

من العوائق: تلك الحدود والسدود التى وضعتها دول صناعية كبرى إزاء الأموال والسلع الأجنبية وهي تعبر إلى حدودها.

ومن العوائق: حالة التضخم التي تفقد النقود قيمتها، و.. يضاف لذلك- كما قلت- حالة عدم الاستقرار التي انتابت مناطق واسعة من العالم.

والمطلوب: شكل جديد لاقتصاد العالم، يزيد معه الطلب، ويزيد الإنتاج.

يقولون: إن الابتكار هو محرك التاريخ الاقتصادي.. فعن طريقه، تتغير الرغبات الاستهلاكية، وتتطور أجهزة الإنتاج، بل إن العرض هنا يخلق الطلب، وقد مارست الدول الصناعية طويلا هذه اللعبة، فكلما جاء كساد دفع المنتجون بسلع جديدة، وإن كانت تؤدي نفس الوظائف القديمة.

الآن، يواجه العالم عددا من التطورات، فمشاكل البيئة تخلق صناعات جديدة، بل إن خطوط إنتاج بأكملها أصبحت في حكم الإلغاء، وأصبح على المستهلكين اقتناء أجهزة جديدة لا تلوث البيئة.

أيضا، فإن العالم يشهد تحولا من الاعتماد على الإنتاج السلعي في الأساس، إلى إنتاج وتبادل الخدمات، حتى باتت تجارة الخدمات- كالبنوك وشركات التأمين وشرائط الفيديو والكاسيت- مجال صراع واسعا.

فإذا أضيف لذلك واقع الصناعات العسكرية بعد انتهاء الحرب الباردة، وهل تستمر في النمو اعتمادا على الحروب الصغيرة والإقليمية، أم تنحسر وتتغير طبيعتها، إذا أضيف ذلك العنصر لأصبحنا أمام حقبة مختلفة، لن يتحقق فيها النمو بغير مداخل جديدة، مداخل تخرج العالم من تثاؤبه، وتدفع بنسب النمو إلى أعلى.

 

محمود المراغي

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات