جمال العربية

جمال العربية

"قراءة في قصيدة للمتنبي"

يقول أبوالطيب المتنبي:

بم التعلل لا أهل ولا وطن

ولا نديم، ولا كأس، ولا سكن

أريد من زمني ذا أن يبلغني

ما ليس يبلغه من نفسه الزمن

لا تلق دهرك إلا غير مكترث

ما دام يصحب فيه روحك البدن

فما يدوم سرور ما سررت به

ولا يرد عليك الفائت الحزن

مما أضر بأهل العشق أنهمو

هووا، وما عرفوا الدنيا، وما فطنوا

تفنى عيونهمو دمعا، وأنفسهم

في إثر كل قبيح وجهه حسن

تحملوا، حملتكم كل ناجية

فكل بين عليّ اليوم مؤتمن

ما في هوادجكم من مهجتي عوض

إن مت شوقا ولا فيها لها ثمن

يا من نعيت على بعد بمجلسه

كل بما زعم الناعون مرتهن

كم قد قتلت وكم قدمت عندكمو

ثم انتفضت فزال القبر والكفن

قد كان شاهد دفني قبل قولهمو

جماعة، ثم ماتوا قبل من دفنوا

ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

رأيتكم لا يصون العرض جاركمو

ولا يدر على مرعاكمو اللبن

جزاء كل قريب منكمو قلل

وحظ كل محب منكمو ضغن

وتغضبون على من نـال رفدكمو

حتى يعاقبه التنغيص والمنن

فغادر الهجر ما بيني وبينكمو

يهماء، تكذب فيها العين والأذن

تحبو الرواسم من بعد الرسم بها

وتسأل الأرض عن إخفاقها الثفن

إني أصاحب حلمي- وهو بي كرم -

ولا أصاحب حلمي وهو بي جبن

ولا أقيم على مال أذل به

ولا ألذ بما عرضي به درن

سهرت بعد رحيلي وحشة لكمو

ثم استمر مريري وارعوى الوسن

وإن بليت بود مثل ودكمو

فإنني بفراق مثله قمن

أبلى الأجلة مهري عند غيركمو

وبذل العذر بالفسطاط والرسن

عند الهمام أبي المسك الذي غرقت

في جوده مضر الحمراء واليمن

وإن تأخر عني بعض موعده

فما تأخر آمالي ولا تهن

هو الوفي ولكني ذكرت له

مودة، فهو يبلوها ويمتحن

غاية ما يقال عن المتنبي إنه الشاعر الذي ملأ الدنيا وشغل الناس ولا يزال يشغلهم، وإنه الشاعر الذي قتله طموحه، وامتلأت حياته بأيام السراء وأيام الضراء، فتوهج شعره في الحالين، وحملت سنوات عمره الإحدى والخمسون بين عامي 303 و 354 هجرية آثار العاصفة التي تركها على معاصريه وعلى فرسانه، واستمرت أصداؤها على امتداد مسيرة الشعر العربي حتى اليوم.

وقد قيل في شعر المتنبي كلام كثير، قاله شراح ديوانه، وقاله المفسرون لشعره، وقاله الدارسون لشاعريته والباحثون عن مواطن العبقرية في كلماته وأبياته والخارجون على إجماع الذوق العربي هجوما على المتنبي الإنسان والمتنبي الشاعر.

يكاد هذا الإجماع ينعقد على تفضيل المتنبي وتقديمه ثم ينفرط عقد هذا الإجماع عند البحث في أسباب هذا التفضيل والتقديم، فمن قائل لأنه شاعر الحكمة، يبثها في ثنايا قصائده، وتلتمع بها أبياته، فتهتز لها نفس مستقبلها اهتزازا عظيما، ومن قائل بل هي صياغته المحكمة، وحسه العربي الأصيل، تجود به طبيعة شربت فصاحة البادية ورضعت لبانها عندما دفع به أهله إلى البادية صغيرا، حيث صحب الأعراب، وعاد إلى الكوفة عربيا صرفا، ومن قائل بل هي معانيه التي تجيش بها قصائده، وتفيض بها أبياته في شتى مجالات إبداعه الشعري، خاصة مجالات الحماسة والفروسية والحديث عن النفس، والتغني بمكارم الأخلاق، والثناء على الممدوحين الذين رأى فيهم - كما رأى في سيف الدولة الحمداني - نموذج الفارس العربي الشهم الجواد البصير بالشعر وفنونه، والعالي الذوق في نقده وتقييمه:

عليم بأسرار الديانات واللغى

له خطرات تفضح الناس والكتبا

غير أن المتأمل في شعر المتنبي، وفيما يتردد منه على ألسنة الناس وأقلامهم - ذاكرين ومستشهدين في مناسبات عديدة مختلفة - سرعان ما يكتشف أن وراء هذا الدوران اليومي لشعر المتنبي وذكره الدائم الذي لا يتوقف ولا ينقطع، نجاحه الفذ في التعبير عن النفس الإنسانية، في كل حالاتها، ومواقفها، انقباضا وبسطا، تفاؤلا وتشاؤما، حزنا وسرورا، سخطا ورضا، يأسا وأملا، ثقة وشكا، إقداما وتراجعا، ومن هنا كان استدعاء شعره والتمثل بأبياته كلما طرأت حالة أو عنّ موقف أو تفجر شعور أو إحساس، ومن هنا أيضا كانت هذه العلاقة الحميمة بين الذاكرة العربية وشعر المتنبي، فهي دائمة الترديد له، دائمة الاهتزاز له- إعجابا وإكبارا، دائمة الإضفاء عليه من مخزونها هالة تتسع وتضيء كلما كان الواقع الشعري من حولنا مجدبا وخاويا وكئيبا.

المتنبي إذن شاعر النفس الإنسانية التي عذبها طموحها ونشدانها عالما لا يتحقق وآمالا تناطح المستحيل، وهو عبقري هذه اللغة الجميلة التي هدته فطرته إلى أدق أسرارها وأعمق خفاياها، وهو موسيقارها الفذ الذي شحن تجلياتها الشعرية بألوان موسيقاه الهادرة الصاخبة أحيانا، الحزينة الهادئة أحيانا أخرى، وتجلت براعته الموسيقية - أكثر ما تجلت - في لون من التقطيع الموسيقي، عرفه قدماء البلاغيين باسم "التفويف" وبحثوا عنه في "جمال تقسيم الكلام"، وأشاروا إلى أنه ثمرة لتدفق الطبع ورقة التعبير وأناقة الديباجة وصفاء العبارة وتآخي الكلمات وتوازنها في أجراس مطردة عذبة، مطربة.

هذا التقطيع الموسيقي وهذا الجمال في تقسيم الكلام، و"إيقاع أسماء مفردة على سياق واحد بحيث يكون كل من هذه الأسماء له معنى قائم بذاته"- كما يقول هؤلاء البلاغيون- نطالعه في قصيدة المتنبي التي بين أيدينا منذ البيت الأول فيها:

بم التعلل، لا أهل ولا وطن

ولا نديم، ولا كأس ولا سكن

ثم تتتابع التقابلات والتقسيمات - النفسية واللغوية - في القصيدة، فالزمن يبلغ الشاعر ما لا يبلغه الزمن من نفسه والسرور لا يدوم كما أن الحزن لا يرد ذاهبا أو فائتا، هكذا تمضي الأبيات، وهكذا يستمر السياق الشعري، حتى يستوقفنا بيت القصيد:

ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفن

ولا شك أن الصورة التي تفجرها عناصر التجربة الحية في الشطر الثاني من البيت هي التي تضفي ماء الحياة والتجدد على الفكرة التي يحملها الشطر الأول، لقد نجح المتنبي في أن يجعل من كل منا ربان سفينة تلاطم الموج وتعصف بها الريح، وهي تحلم بالرياح الرخاء والمرفأ الآمن والوصول السالم، فأي تجسيد وأية استثارة للتحدي الإنساني وقدراته على التحمل والصمود؟!.

ثم نمضي مع جمال التقسيم، والتقطيع النفسي والموسيقي في القصيدة، إنه يصاحب حلمه عندما يكون الموقف موقف كرامة وشرف وكبرياء ولا يصاحب عندما يكون الموقف موقف ذلة وجبن وخسة، وهو لا يقيم على مال يجلب له المذلة ولا يلذ بعرض تلطخ واتسخ، لا يزال المتنبي مولعا بهذه التقسيمات التي تفعل فعلها في متلقي شعره قارئا أو مستمعا، وهي تقسيمات يتضافر فيها عمل المنطق- الذي استوعبه المتنبي من خلال ما ترجم عن حكماء اليونان وفلاسفتهم - وعمل الشعور الواعي والوجدان الفوار، وعمل الإحساس الموسيقي القادر على الاستجابة أو التجاوب، واختيار المفردة الدالة والصياغة المعبرة، والصورة الشعرية التي تشبه صيدا نافرا ومستحيلا أمكن اقتناصه. فإذا ما التفتنا إلى طبيعة المعجم الشعري الذي تمتلىء به القصيدة، وجدنا النديم والكأس، ووجدنا الروح والبدن، ووجدنا السرور والحزن، ووجدنا القبيح والحسن، ووجدنا القبر والكفن، والرياح والسفن، والمرعى واللبن، والعين والأذن، والكرم والجبن، والمال والعرض، ومضر الحمراء واليمن، وهو معجم يحمل ملامح نفسية المتنبي العاصفة المتقلبة، وقسمات شاعريته التي تنتظم البادية والحضر في سياق محكم، وتضع المرء دائما أمام قدره ومصيره دون تواكل أو استخذاء:

لا تلق دهرك إلا غير مكترث

ما دام يصحب فيه روحك البدن

فما يدوم سرور ما سررت به

ولا يرد عليك الفائت الحزن

ثم لا يخفى على المتأمل في بنية القصيدة، وصورها الشعرية، ومعجم مفرداتها، وجيشان موسيقاها، وشدة إحكام صياغتها وقوة أسرها، لا يخفى عليه تلك الروح الشجية الأسيانة التي تخلع ظلها على القصيدة ابتداء من البيت الأول فيها، وكان المتنبي يعيش حالة وداع مع كل ما هو مؤنس وبهيج في حياته، الأهل والوطن والنديم والكأس، والسكن الذي يأنس إليه وترتاح نفسه، والسكن هنا هو شريك الحياة أو المحب الذي تسكن إليه النفس، ولا يبتعد المتنبي كثيرا عن وصلنا بهذه الحال حتى يبادرنا بالسبب الأساسي في حدوثها، إنه يريد من زمنه الكثير بل أكثر مما يستطيعه الزمن لنفسه: أي شهوة لامتلاك الحياة وأي طموح؟!.

لا أعتقد أن الأمر يتطلب دعوة القارىء الكريم إلى إعادة قراءة هذا النص الشعري الثري من نصوص المتنبي، فسوف يعاين- بنفسه ولنفسه- لوحة بديعة من جمال العربية.

 

فاروق شوشة

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية
اعلانات