العوائق المعرفية في الخطاب الاستشراقي

العوائق المعرفية في الخطاب الاستشراقي
        

          لم يبرأ الاستشراق عن الإصابة بعدد من النواقص التي اتخذت هيئة عوائق معرفية، كونت الأساس لما صار يعرف بأزمة الاستشراق. وقد أنتجت هذه العوائق المعرفية للاستشراق آثاراً؛ نبطت عنها مترتبات عادت بالضرر على الظاهرة الاستشراقية بعامة، في سياق تأثيرها الثقافي والمعرفي في العلم الشرقي لاسيما العالم العربي منه.

          بالرغم من ضرر تأثير تلكم العوائق في فاعلية وسمعة الاستشراق فإنها لم تصل لدرجة تستطيع عندها طمس الإنجازات العلمية والآثار المعرفية التي أنتجها التوجه الاستشراقي.

تحديد العوائق

          أُصيب الاستشراق بعدد من نقاط الضعف التي أسهمت في إضعاف بنيته المعرفية، وزعزعة قوته العلمية، وتوهين الثقة في مراميه وعروضه ونتائجه؛ فشكل هذا كله مبررات للهجمات الضخمة التي وجهها كثير من كتاب العرب والمسلمين إليه.

          لقد كونت نقاط الضعف تلك عوائق معرفية أصابت الطرح الاستشراقي القائم على مقاربة وتلمس العالم العربي والإسلامي على مختلف المستويات، ومن كل الزوايا، فما هي هذه العوائق؟

التورط الديني

          حين تدخُل الأيديولوجيا ساحة الممارسة المعرفية، لابد أن تكون النتيجة سيئة، من حيث المردود العلمي والنتاج البحثي. وانطلاقا من هذه المسلمة كان طبيعيا أن يتشوه العمق العلمي للاسشراق بما لابسه وخالطه من تأثيرات الخلفية الدينية التي سيطرت على توجهات وأهداف كثير من المستشرقين، ولا أعمم هنا؛ كي لا أظلم كثيرا آخرين كانون من أبرياء المسْبقات الأيديولوجية.

          لقد حاول بعضهم توظيف التوجه الاستشراقي ليكون وسيلة تنصرية، وآلية يعتمد عليها دعاة المسيحية وسط المجتمعات الشرقية المسلمة.

          أسهم هذا التوظيف الديني في تشويه السمعة العلمية للظاهرة الاستشراقية، وجعل منها محلاً للريبة، ومواطن للتهمة حتى طال التشويه كثيراً من نزهاء المستشرقين الذين لم يرضوا بجعل الاستشراق مجرد آليه ضمن سياق الإستراتيجية التنصيرية العالمية.

          كما أن انطلاقة الاستشراق المدون بدأت بدوافع على رأسها الهدف الديني وهذا جلي في عمل بطرس المبجل وترجمته للقرآن. كذلك جهود بدرودي الفونسوpedro De Alfonso بداية القرن الثاني عشر الميلادي بعد اعتناقه المسيحية وتركه لليهودية، ثم نشط هذا الاتجاه الاستشراقي المتدين في القرن الرابع عشر الميلادي بجهود أمثال ريكولد دامنت كروس Ricoldo Da Mont Croce صاحب كتاب تفنيد آيات القرآن والعرب.

- التورط السياسي

          حينما كتب إدوارد سعيد كتابه الاستشراق. كان مرتكز نقده متمثلا في تلك الارتباطية التي وصلت بين الاستشراق من جهة، والإمبريالية الاستعمارية من جهة أخرى.

          وقد زعزعت تلك الارتباطية ما كاد أن ينصب من جسور الثقة والتواصل بين عالم الباحثين والمثقفين المسلمين، وباحثي الاستشراق لاسيما الذين تورطوا في علاقات مع جهات سياسية للدول الاستعمارية من ذلك مثلاً لويس ما سينيون، وهرجرونيه.

          وليس يخفى حرص وزارات الخارجية الاستعمارية على الاستعانة ببعض المستشرقين في أهداف سيطرية، لاسيما من طرف فرنسا وإنجلترا.

          ليس من الخطأ الربط بين الاستشراق والاستعمار، ولكن الخطأ في التعميم وتوسعة دائرة الاتهام وتصوير الحركة الاستشراقية في هيئة أداة استعمارية.

          وقد عرف كثير من المستشرقين ببراءتهم عن التورط في السياسة منهم كايتاني، وإدوارد براون، ونولدكة، وفلهاوزن، وجولد تسير.

          ولقد أكد بعض المستشرقين ترابطية الاستعمار ببعض قطاعات الحركة الاستشراقية وهذا ما لقيناه في شهادات بعض أعلامهم مثل: جوستاف دوغا، وجاك بيرك.

          فالأول قال: «إن المستشرقين مناطون بمهمة جديدة، إذ عليهم وهم يجوبون فلك العلم الخالص أن يعتنوا بالعلم الحاضر في الوقت الذي تكتسح فيه أوربا كل المنطقة الشرقية، وعلى الحكومات الواعية بمصالحها الحقيقية أن تعرف كيف تشجع وتستخدم رجال العلم والإخلاص أولئك. فالأمر يتعلق بإلحاق إضافات أخرى إلى محصول الحضارة المكتسبة وذلك باغتنام الإفادات التي من شأن الشعوب الشرقية أن تعطينا إياها».

          أما «جاك بيرك» فقد ذكر أن الاستشراق يتناول بعض المواضيع في الشرق لمصلحة ثلاث دفعات سياسية كبيرة: مرحلة مكتبنا العربي في الجزائر... مرحلة التمرد في الصحراء وانتصار العملاء البريطانيين في الشـرق الأوسط، وأخيراً رحلة التوسع النفطي المـعاصر».

ضعف الأدوات البحثية

          لابد لكل دراسة جادة مثمرة، من توافر أدوات معرفية تعين على حسن الاستنباط، وتضمن الوصول إلى أمتن النتائج، ومن أهم الأدوات البحثية الأداة اللغوية، ففي عالم الدراسات الإسلامية تحديداً تبرز اللغة وعلومها، بوصفها أداة بحثية مركزية لا يمكن الاستغناء عنها.

          وفي ساحة الدراسات الاستشراقية ظهر عائق مهم ومؤثر، حيث جاء تأثيره ضاراً بالبحث ونتائجه التي انطوت عليها دراسات أكثر المستشرقين، ذلك العائق هو ضعف الإلمام باللغة العربية سواء في مستواها المعجمي أو النحوي أو الصرفي أو البلاغي، هذا واقع لاريب فيه ولا تخطئه العين، وبخاصة في البحوث التي تركزت على مقاربة النص القرآني، والنص النبوي.

التورط في المركزية الغربية

          لا يخفى الأثر الذي أوجدته المركزية الغربية في الخطاب الاستشراقي وهي من أوضح المثالب التي دندن حولها نقاد الاستشراق. من هنا قال أنور عبد الملك: «ساحة الاستشراق تنظر إلينا من أجل التهميش واستمرار الركود والخضوع.. أصبح خبراء المستشرقين في عصر النهضات القومية بعد الحرب العالمية الثانية عاجزين عن فهم، أو عاجزين عن قبول الظواهر الجديدة «في الشرق ونهضته الحضارية».

          لم يقبل الشرقيون مثل هذا النزوع المتعالي من الطرف الغربي؛ فنشأت ردَّات فعل أخذت صوراً أهمها:

          - ظهور الدعوة إلى الاستغراب في ردة فعل معرفية، وهو غير التغريب الذي أنتج من باتوا يُسمَّوْن بالمستشرقين العرب. يقول أحمد الشيخ: «المستغرب هو شخص وطني بالضرورة يملك وعياً حضارياً ويتوجه للتحاور، وفهم، ودراسة الآخر، ليس من أجل التغريب، وليس من أجل الآخر. ولكن من أجل ذاته».

          - ظهور اعتراضات نقدية شديدة للخطاب الاستشراقي، بل لشرعية التوجه الاستشراقي نفسه، من جهة مثقفين شرقيين مسلمين ومسيحيين على حد سواء. مثلا شكيب أرسلان ومحمد البهي، أنور عبد الملك وإدوارد سعيد. بتأثير المركزية الغربية «كان من أخطاء الاستشراق الأخلاقية استلاب منجزات الحضارة العربية الإسلامية، ثم محاولة تفريغ العقل المسلم بعد ذلك من فكره ومضامينه وإحلال المفاهيم الغربية مكانها».

          لقد ظهر وهم المركزية الغربية في طروح كثير من المستشرقين لعل أشهرهم «آرنست رينان» الفرنسي حين قرر تمايز البنية المعرفية للعقول بحسب الأعراف حيث رأى أن العقل الغربي منذ اليونان عقل إبداعي مقابل العقل الشرقي، الذي لايجاوز دور المحاكاة والاسترداد.

          إن تلك المركزية تتبنى فكرة محورية مفادها كون «الهوية الأوربية متفوقة بالمقارنة مع جميع الشعوب والثقافات غير الأوربية».

          وقد كانت نتائج هيمنة هذه الفكرة أن الاستشراق في كثير من طروحه كان محكوماً بها إلى درجة سوغت لبعض الباحثين أن يقول إن «صورة الشرق التي يقدمها الاستشراق هي إعادة للشرق بوعي غربي». وفي هذا نسف لاحتمالات الموضوعية والدقة عنده. لاجرم أن تلقي الاستشراق لهذا النقد الشديد جاء تبعاً لتبنيه وهم المركزية الغربية.

آثار العوائق المعرفية

          إن اتصالية الاستشراق بالجهات السياسية وتعاون بعض المستشرقين معها، أوجد آثاراً عادت بالضرر على مستواه المعرفي، وتوجهه البحثي.

          لقد نزع ذلك عن الاستشراق عباءته العلمية المعرفية، وكساه جبة عسكرية، أواستخباراتية.  ومن آثار هذا الوضع حدوث أزمة ثقة بالغة التأثير، من طرف المثقفين الشرقيين، لاسيما المسلمين الذين صاروا يرون الاستشراق. «أسلوباً غربياً للسيطرة على المشرق، وإعادة بنائه وامتلاكه».

          من باب الانصاف لابد أن أذكر أن كثيراً من كتابنا قد جنح إلى الغلو في وصف الصلة بين الاستشراق والجهات السياسية الأوربية، فصوروه في هيئة الأداة الطيعة، كأن ليس للاستشراق بعد معرفي أو علمي مطلقاً. إن هذه الصورة الشوهاء على هذا القدر من الغلو هي من منتجات النقد المتطرف.

آثار التورط في المركزية الغربية

          لقد صنع ذلك الأمر حاجزاً نفسياً؛ جعل أكثر مثقفي وباحثي الشرق ينفرون عن المستشرقين، ويرون فيهم جماعات من المستكبرين العنصرين العدائيين. هذه الحالة وهذه الصفات هي من مترتبات تأثير المركزية الغربية في التوجه الاستشراقي.

          لقد تقرر لدى كثيرين منذ مقال أنور عبد الملك سنة 1973م أن الاستشراق «تعبير إيديولوجي متقدم عن المحورية الغربية Europeocentrisme».

          القائمة أساسا على تضخيم المركز الأوربي من حيث الوضع والوظيفة، وتهميش ما سواه في التبعيات والملاحق؛ مما ينـتج عنه على الصعيد المعرفي التنقيص من شأن الباحثين والدارسين القوميين، وتسييد الكتابات الاستشراقية».

          إن تورط الاستشراق في خطيئة التعالي الغربي صنع عائقاً معرفياً أسهم في تثبيط التأثيرات العلمية والمعرفية التي تلقتها الساحة الثقافية الشرقية، وقد عبر إدوارد سعيد عن وقوع الاستشراق في هذه الحُبالة فقال «لقد استجاب الاستشراق للثقافة التي أنتجته، أكثر مما استجاب لموضوعه المزعوم».

آثار ضعف الأدوات

          لقد ترتب ضعف الأدوات البحثية تأثير بليغ على مستوى النتائج والأفكار التي حوتها بحوث أكثر المستشرقين. فبسبب ضعف التمكن من اللغة العربية والعجز عن استكناه أغوارها؛وقع كثير من المستشرقين في أغلاط فاحشة على مستوى الفهم والتأويل؛ قادتهم لنتائج واهية، وآراء متهافتة ومتناقضة. من أمثلتها مانجده في تفاسير الآيات القرآنية، وفي الترجمات التي عملها بعض المستشرقين للقرآن لاسيما القديمة منها.

          ويخطئ من يحسب أن بداية النقد كانت مع مقال أنور عبد الملك سنة 1973. فقد سبقه إلى نقد الاستشراق (الشدياق) في القرن التاسع عشر ومما قاله فيهم «إن هؤلاء الأساتيذ لم يأخذوا العلم عن شيوخه،..إنما تطفلوا عليه تطفلاً وتوثبوا توثباً».

          ثم نقدهم شكيب أرسلان ومما قاله: «لا يقدر أحد أن يقول إن الشرقيين ليسوا أدرى من الغربيين في أدب الشرقيين ولغات الشرقيين. أما هؤلاء المستشرقون المتنطعون ولا يطلق هذا إلا على نزر منهم فإذا عثروا على حكاية شاردة، أونكتة فاردة في زاوية كتاب قد يكون محرفاً؛ سقطوا عليها تهافت الذباب على الحلواء، وجعلوها معياراً ومقياساً».

          ثم تلاهم محمد البهي بكتابه «الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي». ثم ظهر أنور عبد الملك، وعبد الله العروي بكتابه «الأيديولوجيا العربية المعاصرة» منتصف الستينيات، ثم كتب ماكس تيرنر في السبعينيات كتابه «ماركس ونهاية الاستشراق».

          ثم جاء الكتاب الأشهر في هذا السياق، سنة 1978م وهوكتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد.

          ولا يزال سيل النقد جارفاً على المنتج الاستشراقي، لكن مع الأسف يحوطنا حين نطالع أكثر ذلك الجهد، لاسيما الجديد منه فنراه ليس أكثر من صراخ وشتائم واتهامات يكيلها كتابنا، ثم يهرقونها على وجه الحركة الاستشراقية، بعيداً عن الروية والتدبر والمنهجية في النقد والنقض والتمحيص.

 


 

خالد إبراهيم المحجوبي