يوم تغنى الزهاوي والرصافي بأم كلثوم

يوم تغنى الزهاوي والرصافي بأم كلثوم
        

          يعد الشاعران جميل صدقي الزهاوي، ومعروف عبدالغني الرصافي من بين أهم الشعراء العراقيين في مطلع النهضة العربية الحديثة أوائل القرن العشرين، فقد أسهما، وبحضور طاغ ومؤثر في مسار حركية الشعر العراقي ومنذ بواكير نهضته الحديثة، فمثّلا - معًا أو كل على انفراد - أفقًا خاصًا لتشكيل فاعلية ثقافية مغايرة، لا في حدود التجربة الشعرية لكل منهما بل في مختلف جوانب الوعي والتبشير بذائقة ثقافية مغايرة، لاتكتفي بالشعر وحده، فهي تذهب بذلك إلى جوانب متعددة من الفنون والممارسات ذات النزوع المنتمي الى قيم التجديد وفاعليته المؤثرة.

          ينضوي الشاعران تحت مسمى جيلهما الشعري الموصوف بـ «جيل الإحياء»، هذا الجيل الذي وجد نفسه ومنجزه الشعري مؤطرًا في مساحتين من الرؤية والتحقق الفني، تبدت الأولى في تأمل الأدب القديم الموروث والنسج على منواله، في مسعى لتمثل أفقه القيمي والجمالي والنسج على منواله، عبر احتدام الرغبة في تجاوز ما فرضته قرون من الانشغالات الأدبية غير المجدية التي انتهت عند القرن التاسع عشر، وهي تجتر ممارسات ذابلة الروح والتأثير، سعى شعراء الإحياء إلى تخطيها ووصل تجاربهم بالناضج من الموروث الشعري، وهي رؤية توشر أولى مراحل الوعي السديد في تطلعات هؤلاء الشعراء، وتفصح عن مساحة من القلق المعرفي الذي لا يجد في منجز عصرهم ما يستند إليه ويطمئن إلى متحققه، لتقف انشغالاتهم عنده. ومن هنا تلجلجت قناعاتهم وأرهص وعيهم ـ وهو يبحث عن البدائل الأفضل ـ في تأمل مختلف التجارب، وصولًا إلى مدرك التجديد وتلمس مقترباته ـ وهي المساحة الوارفة الأخرى التي تبدى فيها وعيهم وتجاربهم ـ ليطمئنوا لاحقًا إلى ما كان يتماس مع وجودهم في عصر شهد متغيرات لا حدود لتجلياتها وانعتاق صوتها نحو التحديد، عبر الشاعران عن وعيهما لها بقول الزهاوي:

إنّا بعصر قد أبان رقيه
                              والناس غاصوا البحر وطاروا

          وقول الرصافي:

أيها الناس إنّ ذا العصر عصر
                              العلم والجد في العلى والجهاد
عصر حكم البخار والكهرباء
                              والماكينات والمنطـاد
بنيت فيه للعـلوم المباني
                              وأقيمت للبحث فيه النوادي

          لقد أسس هذا التوجه الذهني الجديد لحضوره الفاعل في شخصية كلً من الشاعرين، ونقل وعيهما إلى آفاق، لعلها لم تكن لتتاح لسواهما من شعراء مرحلتهما، فقد استوعب كل منهما - بقدر وآخر - تلك الكشوفات المعرفية الجديدة، وانشغل بها طويلًا وأطال الوقوف عند متحققها.

          وهكذا أصبحت استجابتهما لدواعي التجديد ومنجزاته بعدًا راسخ الملامح في شخصية كل منهما وشعره.وبحكم قناعة كليهما بأهمية دوره ـ بوصفه المعبر عن انشغالات الجمهور من أبناء وطنه وتطلعاتهم والناطق باسمهم ـ فقد وقفا تمامًا مع دعاوى التجديد في مختلف آفاقها، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية، أم كانت ثقافية متعددة الانشغالات.

          لقد جرب كل منهما أن يؤدي دوره في مجتمعه من خلال العمل السياسي، ولكن عنايتهما بالسياسة ظلت غير مؤثرة، سواء في حدود شخصية كل منهما أم في المحيط الذي تجشما عناء خوضه، حيث لم يكن أي منهما - في خصوصياته النفسية - لينسجم مع واقع السياسة ومستلزماتها السلوكية. ولم تكن لهما تطلعات بعيدة المدى في هذا المجال، إذ أن صلاتهما بالعمل السياسي لم تكن إلا بعض صلتهما بالظرف المرحلي الذي عايشاه. وهذا يعني أن كلا منهما كان مستجيبًا - في اهتمامه السياسي - لواقعه واشتراطاته التي يفرضها على وجوده الشخصي وليس من خلال كيانه المتفرد في الموقف والرؤية. وحين لم ينل الشاعران شيئًا ذا قيمة من السياسة وانشغالاتها، ولم يجدا في قرارة نفسيهما تمثلًا حقيقيًا لمتطلباتها - إلا في أطر عامة شاركوا في المناداة بشعاراتها: كالاستقلال والحرية والعدالة وسواها - فقد خلفاها وراءهما، وعادا إلى الانغماس في التجربة الشعرية لكل منهما، يحملانها أفكارهما وشعاراتهما التي ما كانا يمتلكان مقدرة لتجسيدها في خضم الواقع.

          تنبني أفكار الشاعرين التجديدية على حصيلة من الوعي بمستجدات العلوم والمعارف والفلسفات الحديثة، وعلى تناغم ذهني يستجيب لتوصلاتها ويتمثلها - بمقدار أو آخر - وهو ما يمكن رصد تجلياته في بعض مؤلفاتهما المنشورة أو تلك التي لم تنشر، وكذالك في شعرهما الذي يمكن عدّه الوثيقة الأبرز التي يمكن التوفر عليها، بعد أن لم يعد الاطلاع ميسرًا على مؤلفاتهما النثرية، لتاريخ طبعها المبكر الذي يعود في معظمه إلى الثلث الأول من القرن العشرين، وكذالك لضياع بعضها الآخر.

          إن دواوين شعرهما الموجودة بين أيدينا تمدنا بكثير من التأملات والأفكار ذات الطبيعة العقلية والمحتوى الفكري الذي استوقفهما وشغلا بالتعبير عنه. لقد أدت بهما التوجهات القرائية التي تحصلاها من المعارف والعلوم المستحدثة إلى حالة من التجاذب والاضطراب وفي أكثر من بعد تعبيري وسلوكي عندهما. فهي أولًا قد وسعت أفق الرؤية لديهما، وأرستها على مدارك لا تتقبل ما يواجهها من الظواهر والأفكار إلا بحدود استجابتها لقيم العقل ومنطقيته، وهذا ما شكل حالة من المواجهة مع الواقع المعيش بمظاهره وأفكاره وقناعاته ـ وهو يطرح أمام ناظريهما كثيرًا مما لايوائم القناعات التي أرسيا وعيهما عليها. الأمر الذي سيذهب بهما إلى الاحتماء بوعيهما المستمد من تلك المعارف والعلوم التي ارتضياها، ليكون هو الرد المعلن أو غير المعلن على مايريانه من الواقع، ومن جانب آخر - ولأنهما شاعران في التأسيس الأول لشخصية كل منهما - فإن ذلك المحصول المعرفي الذي يتمثلانه سيخلق عندهما نوعًا من المكابدة المترددة بين تلك الإستجابات العقلية والتأسيس الجمالي الذي يعلنان عن وجودهما من خلاله في تمثلات تعبيرية ذاتية لها أفقها من التلمس الشعوري المتخيل والمحسوس به عاطفيًا.

          يمثل الاهتمام الذي أولاه كل من الزهاوي والرصافي بالفنون الجميلة مساحة من تجليات وعي التجديد عندهما، واتساع الرؤية التي تتأمل مختلف جوانب الحياة العصرية في تشكلات وعيها وذوقها، والمنتج الحضاري الذي يعلن عن نفسه فيها.

          لقد كان أفق استجابتهما لما تعلن عنه تلك الفنون دالًا على فهم رصين لأهميتها ولدورها في بناء حركة اجتماعية جديدة، لما في هذه الفنون من استجابات حقيقية لدواعي التطور وحركيته التي يسلكها الواقع الحضاري في مآلاته الثقافية والاجتماعية وذائقته الجمالية.

          وعبر هذه القناعات فقد تبنيا موقفًا واعيًا في تعاملهما مع هذه الفنون وتأكيد مكانتها والإشادة بمبدعيها.

          وفي البدء لابد من الإشارة إلى ما كانا عليه من دأب نبيل في متابعة الأنشطة الفنية المختلفة، إذ كانا يحضران فعاليتها، ويوثقانها عندهما، لا من خلال الاطلاع المباشر عليها فحسب بل الإشارة المنفعلة عنها في شعرهما، وتخصيص أكثر من قصيدة تتغنى بهذا الفن أو ذاك، وتجهر بأسماء مبدعيه، وتؤكد القيمة الجمالية لوجود مثل هذه الفنون في تأسيس ذائقة مغايرة تصنع عالمًا جديدًا يصفه الرصافي بقوله:

إن رمت عيشًا ناعما ورقيقا
                              فاسلك إليه من الفنون طريقا
واجعـل حياتك غضة بالشعر
                              والتمثيل ًوالتصوير والموسيقى
تلك الفنون المشتهاة هي التي
                              غض الحياة بها يكون وريقا

          ودور هذه الفنون متصل - وفق رؤيتهما - بما تحدثه من تهذيب للسلوك والذوق، والارتقاء بالأحاسيس الإنسانية إلى مدارج عالية من التحضر والرقي، وهو ما شخصه الزهاوي بقوله:

والفن للروح العصي مروض
                              والفن للطبع الغليظ ملطف
تتثقف الأخلاق راشدة به
                              وبغيره الاخلاق لا تتثقف

          ورده الرصافي أيضًا، وهو يشير إلى الفعل الذي تصنعه تلك الفنون:

وهي التي تجلو النفوس فتمتلي
                              منها الوجـوه تلألأ وبريقـًا
وهي التي بمذاقها ومشاقها
                              يمسي الغليظ من الطباع رقيقا
تلك الفنون فطر إلى سعة بها
                              إن كنت تشكو في الحياة الضيقا

          ومن هذا المنطلق فقد بدت نظرة كل منهما إلى الفنون الجميلة منشدّة نحو الفعل الغائي فيها, عبر القيمة المعيارية التي يستخلصانها من دورها في الحياة, وما ينتج عنها من تأثير اجتماعي, لقد أشار الشاعران إلى الفنون الجميلة المختلفة وتناولاها في شعرهما من حيث الخصائص الجمالية وطرائق الأداء التي تتجلى فيها, كما أشادا بأولئك الفنانين الذين يبدعونها، وذكرا كثيرًا منهم بالاسم في نصوص شعر خاصة بهم.

          لقد استوقفتهما «الموسيقى» فخصاها ببعض قصائدهما, إذ أشاد الزهاوي بأحد الموسيقيين العرب البارزين في تلك المرحلة وهو «سامي الشوا»  فكتب فيه قصيدته «كمنجة سامي» مبديا إعجابه بما يقدمه:

وكأن الأوتار تحت يديه
                              ألسن تشرح الغرام فصاح

          دون أن تفوته الإشارة إلى خصوصية التأثير الذي تحدثه الموسيقى في النفس:

حبذا الموسيقى وحسبك منها
                              لغة في غموضها إفصاح
لغة ليس يفهم العقل ما
                              يسمع منها وتفهم الأرواح

          وهذا الموسيقار هو ذاته الذي نظم فيه الرصافي مقطوعته «صاحب الكمان», وهي من أربعة أبيات رددت جانبًا من الأفكار التي تداولتها قصيدة الزهاوي السابقة, وجاءت بإيقاع غنائي سريع أراده الرصافي لها في تمثل لإيقاع لحني خاص, يقول فيها:

يا ضاربًا بالكمـان
                              يفـتن كل افتتـان
سحرت سمعي وعقلي
                              بصوت تلك المثاني
ضربت لحنًا بديعـًا
                              حوى بديع المعاني
فكان شيئًا عجيبـًا
                              إذ سرني وشجاني

          أما الأخرى فهي قصيدته «إلى أمير الكمنجة» التي ابتدأها مشيدًا بجمال ما يقدمه الموسيقار وحميميته, مستعيدًا الأفكار ذاتها التي ذكرها في قصيدته السابقة.

          نال الغناء حصة دالة في شعر الزهاوي وأفكاره منطلقًا مما تهيأ له من القناعة بحالة التواصل بين الشعر والغناء التي يجدها متمثلة في مجال الموسيقى المتسع لكليهما, فهو يعرّف الشعر بأنه: الكلام الكبير الموسيقي, وبذا يرى أن الفنين: شقيقان قد تولدا من إحساس واحد.

          وعبر هذه الرؤية فإن الزهاوي يجد أن مصدرهما متقارب فعنده أن الغناء: «تولد من امتدادات تلك الأصوات وانقطاعاتها المتخللة إياها وارتفاعاتها وانخفاضاتها, بعد أن أخذت أشكالا معينة بسبب التكرار وإقبال الجمهور عليها, إلى أن صارت كلما قلدها أحد تعيد في السامعين والسامعات تلك الإحساسات». أما الشعر: «فمتولد من تلك الأصوات والانقطاعات التي تتخللها بإعادتها أو زيادة مقطع عليها أو حذفه, وتبديل مقطع بأخر يدل على إحساسات جديدة».

          ويتفق الرصافي مع صاحبه في القول بصلة الشعر بالغناء, ويضيف الرقص إليهما، فعنده «أن الغناء والرقص غريزتان من غرائز الإنسان, كما أن النطق غريزة فيه. وما الشعر إلا وليد هاتين الغريزتين ففن النطق - هو أسنى مظهر من مظاهر الشعور, لما اقترن بالغناء تولد الشعر».

          ويبدو أن لهذه القناعة المشتركة لدى الشاعرين دورها في اهتمامهما بالغناء وحضور حفلاته, والإشادة بمطرباته ومطربيه، وقول الشعر فيهم, والترنم به فوق المسارح التي كان أولئك المطربون يؤدون حفلاتهم عليها. لقد كان الزهاوي «يلقي بعض قصائده على خشبة المسرح الذي تقف عليه المطربة أو الممثلة. وكان في بعض الحالات يطبع قبلة حارة على خد هذه الممثلة أو تلك المطربة قبل أن ينشد قصيدته أمام الجمهور المحتشد في القاعة. ومن هذه المواقف التي هاجمه بعض الأدباء عليها قبلته التي طبعها على خد أميرة الطرب «نادرة», ثم ألقى قصيدته التي أسماها باسمها وكان مطلعها:

ما أنت إلا نادره
                              في كل فن ساحره

          وقبل ذلك فإن للزهاوي قصيدته المشهورة التي نظمها في المطرب والموسيقار الخالد «محمد عبدالوهاب» وجعل عنوانها باسمه, وهي قصيدة طويلة تجاوزت السبعة والخمسين بيتًا.

          ولعل في ما نظمه الشاعران بأم كلثوم وغنائها ما يجسد ذلك الجانب من اهتمامهما.

          جاءت أم كلثوم إلى بغداد عام 1932م وأحيت حفلات عدة فيها. ويبدو أن الشاعرين كانا من بين حضور تلك الحفلات, فقد أنشد «الزهاوي» في واحدة منها, وعلى خشبة المسرح, وأمام الجمهور قصيدته «يا أم كلثوم» التي بلغت سبعين بيتًا, جاءت على شكل مقاطع مؤلف كل منها من عشرة أبيات, لها حرف روي مختلف عما هو في المقاطع الأخرى. وكان من الطريف أن يلح الزهاوي على ذكر اسم (أم كلثوم) فيردده في ثنايا القصيدة وبحدود ثلاث عشرة مرة، مشيدًا في أبياته بفن أم كلثوم وصوتها المبدع وغنائها الذي لا يجارى، ولاسيما في أداء الشعر:

الفن روض أنيق غير مسؤوم
                              وأنت بلبله يا أم كلثوم
لأنت أقدر من غنى بقافية
                              لحنًا يرجّعه من بعد ترنيم

          ولم يترك الفرصة تفوته كي يتحدث عن أمور تخصه, كالرد على من لامه, حين سبق له أن اعتلى المسرح، وطبع قبلة على خد إحدى الفنانات, أو ذكر بعض جوانب فلسفته:

لي في الحياة احترام للنواميس
                              فلا أبدل موهومًا بمحسوس

          لافتًا الاهتمام إلى قيمة الفن في نهضة الأمم وتطورها:

غني وغني على الأوتار صادحة
                              فإنما بالأغاني تنهض الأمم

          تغنى الرصافي هو أيضًا بأم كلثوم في شعره مثلما كان قد فعل الأمر نفسه مع مطربات أخريات, كما في قصيدته «مليكة غناء العرب» في «منيرة المهدية» فخصها بقصيدته «إلى أم كلثوم» التي بدأها مشيدًا بجمال صوتها, وما فيه من مقدرة عالية على التجسيد العاطفي:

أم كلثوم في فنون الأغاني
                              أمة وحدها بهذا الزمان
ما تغنت إلا وقد سحرتنا
                              بافتتان لها وأي افتتان
في الأغاني تمثل الحب تمثيلًا
                              صريحًا بصوتها الفتان

          ليتخذ من صوتها مثالًاً لما يمكن أن يتركه الغناء من تأثير في النفس:

قد سمعنا غناءها فعرفنا
                              كيف فعل الغناء في الإنسان

          أخيرًا نود القول:

          تبث المنظومة المعرفية والجمالية التي نالها كل من الزهاوي والرصافي جملة من الإشارات الدالة التي تخبر عما تهيأ للمثقف العراقي - في تلك المرحلة - أن يقف عنده من الانشغالات ومرتكزات الوعي والذائقة التي انطلق منها ليتعامل مع محيطه الإنساني وما تنهض عليه أفاقة الثقافية والاجتماعية في جوانبها المختلفة.

          وعبر ما تم للشاعرين أن يقفا عنده من القضايا الفكرية والأدبية التي كانا يتفقان على محمولها القيمي, أو يختلفان فيه, فقد أعلنت الثقافة العراقية - وقتذاك - عن متحققها الأدبي والنقدي الذي لا خلاف فيه على المكانة المبرزة للرصافي والزهاوي, بوصفهما من بين أكثر الذين تمثلوا قيمه واستنطقوا فاعليته.

          وإذ أشر تمثلهما لكثير من المنجز العلمي عن مسايرة لتطلعاته المعرفية المثيرة فإن في موقفهما من الفنون الجميلة وتأملهما لما بدأت تعلن عنه من أشكال تعبيرية هو مناط من المدرك الخاص والتذوق الجمالي يفصحان عن قدرات ذاتية تمكنا منها ورسخاها ضمن مكونات الرؤية والذوق.

          وإذا بدا على كثير من حديثهما عن الفنون الجميلة ارتباطه بالمناسبة غالبًا - كأن يحضران حفلًا غنائيًا أو عرضًا مسرحيًا أو موسيقيًا - فإن تلك الحالة لم تكن لتؤشر انفعالًا آنيًا أو استجابة قابلة للمصادرة عندهما لاحقًا، بل أسست لانضواء حصيف إلى مجمل انشغالات الرؤية الجمالية وأفاق التمثل التي بقيا مشدودين إليها عبر مقدرة من التأمل والاستجابة تستجلب وعيهما باتجاه حضاري, سعيا، كل من وجهة نظره إلى استنبات قيمه في منافذ الحياة العصرية التي دعيا إليها. وكان أفق الرؤية عندهما منسجمًا بين تطلعهما المتأمل لتلك الفنون وحدود اقترابها من فن الشعر - بوصفه انشغالهما الجمالي الأثير وهوية ابداعهما التي يعرفان من خلالها - بما حقق تواصلًا - وإن بدا نظريًا - بين الفنون جميعًا, وما يبشران به من توجهات تسعى إلى مغادرة السائد من الانشغالات الشعرية التقليدية.
--------------------------------
* شاعر وأكاديمي من العراق.

----------------------------------------

لِلدَّهرِ إِدبارٌ وَإِقبالُ
                              وَكُلُّ حالٍ بَعدَها حالُ
وَصاحِبُ الأَيّامِ في غَفلَةٍ
                              وَلَيسَ لِلأَيّامِ إِغفالُ
وَالمَرءُ مَنسوبٌ إِلى فِعلِهِ
                              وَالناسُ أَخبارٌ وَأَمثالُ
يا أَيُّها المُطلِقُ آمالَهُ
                              مِن دونِ آمالِكَ آجالُ
كَم أَبلَتِ الدُنيا وَكَم جَدَّدَت
                              مِنّا وَكَم تُبلي وَتَغتالُ
ما أَحسَنَ الصَبرَ وَلا سِيَّما
                              بِالحُرِّ إِن ضاقَت بِهِ الحالُ

علي بن الجهم

 

علي حداد