مفدي زكرياء.. إلياذة الشعر الجزائريث

مفدي زكرياء.. إلياذة الشعر الجزائري
        

          عندما كان دوي الرصاص يتصاعد في الفضاء الجزائري المحتل طويلا، كان للشعر مهمته المحددة, ليس في تحفيز الهمم للنضال، فلم تكن الهمم الجزائرية المشتاقة للحرية بحاجة لتحفيز شعري، ولكن لاستشراف صورة الوطن المشرقة وتصوير نضالاته الحاضرة وتعزيز الإحساس بالجمال في أرض تشبعت بدماء الضحايا والشهداء حتى نالت استقلالها الوطني على ضوء من اللهب المقدس، وكانت لها إلياذتها الشعرية الخالدة في سجل الحريات.

          كان مفدي زكرياء شاعر الثورة الجزائرية الذي تعالى دوي قصائده باللسان العربي المبين وسط حماسة شعب كان بالكاد يتلمس طريقه إلى استرداد لغته العربية المسروقة لحساب لغة المحتل الفرنسي.

          في بني يزقن في الجنوب الجزائري العام 1908م ولد الشيخ زكرياء بن سليمان بن يحيى بن الشيخ سليمان بن الحاج عيسى، وهذا هو اسمه الحقيقي، قبل أن يسبقه أحد أصدقائه لاحقا باسم مفدي فيصير هو الاسم العلم للشاعر الأشهر في تاريخ الجزائر.

          وفي مسقط رأسه ثم في مدينة عنابة تلقى تعليمه الأولي ونال شيئا من علوم العربية والدين الإسلامي، قبل أن ينتقل مع أسرته إلى تونس حيث أكمل تعليمه الثانوي والجامعي في مدارسها وتخرج في جامعة الزيتونة عائدا إلى الجزائر حاملا قلبا يخفق بالشعر وبالحماسة للثورة التي كانت تمهد لإرهاصاتها الأولى ، فلم يجد بدا من الانضمام لصفوفها تحت رايات مختلفة لأحزاب ولجان وجبهات قبل أن يستقر به مقام النضال تحت راية جبهة التحرير الوطني الجزائري والتي قادت الجزائر لاحقا إلى بوابة الاستقلال المضمخ على مدى سنوات طويلة بدماء مليون شهيد.

          ولم يكتف مفدي زكرياء بقصائده التي انتشرت داخل وخارج الجزائر كصورة للأمل الوطني في أبهى صوره التحررية والبلاغية قبل الاستقلال، بل راح يساهم في كل نشاط يمكنه أن يساهم فيه ، وكانت الصحافة ميدان عمله المفضل، حيث كتب في كثير من الصحف وترأس تحرير بعضها.

          لكن المحتل الذي أزعجه أن يعلو الصوت الجزائري بكل هذا الوضوح الشجاع والحماسة الوطنية والبلاغة العربية والعلو الجزائري كان لمفدي زكرياء بالمرصاد، فأدخله المعتقل أكثر من مرة. وعندما استطاع مفدي الإفلات من المعتقل لأخر مرة العام 1959 ارتأت جبهة التحرير ان تبعده إلى الخارج ، فكان سفير الثورة إلى العالم كله ، وتنقل في أكثر من بلد عربي حاملا قضية وطنه كأجمل قصيدة يمكن أن يكتبها باللهب المقدس، الذي لم يكن يريد له أن ينطفئ أبدا ، قبل أن يعود إلى مرابع صباه في تونس مضطرا، ولعله مطرودا من وطنه المستقل بسبب أدران السياسة وحسابات السياسيين. فعندما حانت لحظة النهاية العام 1977م، كانت روحه مازالت تنوء بأحمالها الوجدانية  وغصتها الكبيرة تجاه الثورة التي مارست هواية كل الثورات، فبدأت بأكل بعض أبنائها المخلصين ومنهم مفدي زكرياء الذي طرد من الجزائر العام 1965 إثر اختلافه السياسي مع الرئيس الجزائري، آنذاك، هواري بو مدين. وكان توقه للعودة إلى وطنه يتصاعد يوما بعد يوم وقصيدة بعد قصيدة ونفسا بعد نفس وحلما أبديا . لكن جثمانه وحده عاد إلى الجزائر ملفوفا بالعلم المثلث الألوان على وقع النشيد الوطني الجزائري، والذي كان مفدي قد كتب كلماته وهو في معتقل الاحتلال، فصارت كلمات ذلك النشيد  قسما ما زال الجزائريون يرددونه وفي شغافهم ذكرى شاعرهم الأثير.

          لكن النشيد الوطني - على أهميته في التاريخ الشعري والوطني على حد سواء في تاريخ الجزائر وتاريخ الشاعر - لم يكن كل ما كتب مفدي، فجعبته حافلة بالعناوين الشعرية التي نشر بعضها ومازال البعض الآخر ينتظر. ومما نشر دواوين «تحت ظلال الزيتون»، و«اللهب المقدس»، و«من وحي الأطلس».  أما ديوان «إلياذة الجزائر» فقد كانت ملحمة شعرية تاريخية ساهم مفدي زكرياء في كتابتها بالاشتراك مع شاعرين آخرين هما مولود قاسم ايت بلقاسم وعثمان العكاك حيث حاول الثلاثة أن يسجلوا في تلك الإلياذة المكونة من ألف بيت وبيت تاريخ الجزائر على مر العصور وتصحيح الشوائب والأخطاء التي لحقت بذلك التاريخ على يد من تصدى لكتابته من المؤرخين.

          وفي كل ما كتب مفدي زكرياء ظل شاعرا حقيقيا ، ولم تستطع الثورة أن تملي عليه اشتراطاتها المعتادة في ذلك الظرف السياسي الخاص. وحتى في تلك الأناشيد التي اشتهر بكتابتها حرص الشاعر على شعريته، وكانت موهبته الكبيرة تساعده على النجاح في اجتياز ذلك الاختبار التقليدي والذي يتعرض له غالبا كل الشعراء الذين وجدوا أنفسهم يضعون قصيدتهم في تصرف الوطن وحاجاته. فقد كان مفدي زكرياء شاعرا كبيرا وإلياذة جزائرية خالدة. 

 

سعدية مفرح