درس في الحرية

درس في الحرية
        

ريشة: أمين  الباشا

          ينتشر الليل، تلمع النجوم فتنير المدينة، تتلألأ الشواطئ. تغني الأمواج، تنصت الطيور، يطل قمر، الليلة هي ليلة عرسه. القمر يعلم أن العرس هو كلما بزغ نوره، العاشقون سحروا، أصابهم شرود كالسكارى، لايفقهون بما هم عليه وبما هم فيه، يطغى عليهم شعور لا يعرفونه من قبل، القمر يطل كل ليلة، ينثر نوره كل ليلة، سر من أسرار القمر، مركب تائه يبحر على هدي الرياح، الحرية، قلت له. أجاب: تقول الحرية؟ هي ليست كلمة، هي فعل، قلت: الكلمة لا تمنع الحركة أو الفعل، الكلمة أوجدت حواراً بيني وبينك، قال: الحرية ليست كلمة كأي كلمة. وسألته: هل يكفي الحوار؟ قال: لا. يكفي عندما ترافقه حركة. قلت: ألا تعتقد أننا تكلمنا كفاية ولم نتحرك. لم نعمل؟ قال: صحيح. أجبته: ضاحكاً: أخاف أن نبقى نتحاور فيمضي الوقت، ويأتي الغداء ويذهب، يمضي.. قلت: أين؟ أين الغداء اليوم؟ قال: مثل البارحة. قلت: ما قولك بأكل السمك؟ نحن في فصل الخريف. البحر هادئ. والأسماك قريبة من الشواطئ. قال: بيروت والشاطئ والصيد والسمك والخريف. ليس هناك سمك طازج. بل ليس في بحرنا سمك. لقد أكلناه كله ولم يبق إلا الحسك.

          ودّعته: طيب. إلى الغد إذاً. قال: أين؟ قلت: لست أدري إلى أين.

***

          أتى الغد. ولم آكل سمكاً. أكلت سرديناً معلّباً. تحسّرت عندما تذكرت أكل السمك وفي حي «برشلوناتا» في مدينة «برشلونا».

          لن أذكر مدينة «الماريا» الأندلسية، هل أستطيع أن أتفوّه بكلمة «الأندلس» دون أن أتحسّر وأتذكّر وأسمع وأشمّ وأرى، أتحسّر كثيراً. كثيرون بكوا على الأطلال هم يبكون الآن في قصورهم.

          كيف هذا؟ أطلال الماضي وقصور الحاضر. سمك! سمك! هل أكلت سردينة مدفونة في علبة معدنية تسبح في بحر من الزيت؟ نصيحة. عندما لا تجد سمكاً عند السمّاك أو لا تجد ثمن سمكة في جيبتك. اذهب إلى دكان إسماعيل واشتر علبة سردين. أخبرني إسماعيل أن عنده فقط سردينا من المغرب. سألته: أريد علبة سردين إسبانية. قال: لم يبق منها، لم يبق سردين إسباني. قلت في نفسي: بل ليس أكثر من السردين الإسباني في إسبانيا. سألني إسماعيل: ماذا؟ أجبته لاشيء.. لاشيء.

          فكّرت قليلاً: المغرب بلد عربي. يجب علي كإنسان عربي، ومواطن صالح ووطني إلى أبعد حدود الوطنية، أن أشتري من عند إسماعيل سرديناً عربياً، وأبرهن عن وطنيتي.

          أخذت العلبة، نحرتها في المطبخ، سال منها الزيت المغربي بغزارة. أفرغتها في صحن. عصرت نصف ليمونة حامضة، قشّرت حصين من الثوم، ورحت آكل لقمة بعد لقمة، إلى أن فرغ الصحن، ولم يبق من السردين سوى ذكراه، وبعض الحموضة في معدتي.

***

          بعدها، مررت على صاحبي، مشينا حتى وصلنا إلى شاطئ البحر. كان يحدّثني عن الحرية والديمقراطية والاستقلال. كنت موافقاً معه، هازّاً رأسي إيجاباً، وعيناي لا تفارقان البحر كأني أبحث فيه عن شيء.

 

 

 

أمين الباشا