أفكار وأجنحة

  أفكار وأجنحة
        

          يستطرد الكاتب في سرده للأحداث التي واكبت نكسة يونيو 1967، وما بعدها، وموقف الطلاب منها، في مصر، وأصداء ذلك كله في العالم، وهو يناقش ميلاد أفكاره التي آمن بها بفضل صناع التحرر الاجتماعي، الذين أصبحوا مسئولين عن الهزيمة العسكرية.

          كانت الفلسفات الذائعة في هذا العصر زادي الذي لا أملّ من التهامه، الماركسية التي قرأت حتى أصولها، ولكني لم أنضم قط إلى أحد أحزابها أو تجمعاتها السرية، فقد كانت نزعة المساءلة تقارب ما بيني والشيوعيين من أصدقائي وتباعدني عنهم في آن وقد قادتني الماركسية إلى هجر الوجودية التي أعجبت برموزها الأدبية أكثر من رموزها الفلسفية ومن المؤكد أن تشظي عالم ما بعد الهزيمة المروعة قادني وآخرين إلى مذهب «العبث» فعرفنا «اللامعقول» الذي كان عالم ما بعد الهزيمة مثالا له. وأعتقد أن هذا هو السبب الذي قاد نجيب محفوظ والحكيم إلى اللامعقول، فكتب الأول مجموعته «تحت المظلة» وكتب الثاني «يا طالع الشجرة» وكان ذلك في سياق أغرى صلاح عبدالصبور بكتابة «مسافر ليل» لينطق بها المسكوت المقموع في مواجهة «عشري السترة».

روح ناقدة

          والمؤكد أنني ظللت في هذه السنوات أقرب إلى الروح النقدي لليساري الشاب الذي تحولت إليه، مع تنامي نزعة المساءلة التي وضعت بها كل معتقداتي القديمة موضع المساءلة، وعلى رأسها عبد الناصر الذي ظل حبيب الملايين وأملها في الخلاص، والذي فتح أمامنا أبواب العالم الاشتراكي والدول الشيوعية وثوارها الشباب، أمثال كاسترو ويفارا الذي سكن القلب ولم يغادره. أما عبد الناصر فقد ظللت مؤمنا به، رغم كل انتقاداتي له، فما كان يمكن أن أنسى أن الناصرية هي التي أدخلتني الجامعة بالمجان، وجعلت الفلاحين المعدمين ملاكا، ولم تتردد في استئصال الإقطاع الجديد، وهي التي ظلت تضمن عمل الخريجين من الجامعة، وهي التي لم تتردد في دعم ثورة اليمن للقضاء على حكم الأئمة الفاسدين، وبدا عبد الناصر كما لو كان الشباب قد عاد إليه، مع نتائج معركة «الكرامة» في الأردن (مارس 68) التي كانت بمنزلة الانطلاقة لمنظمة التحرير الفلسطينية، في موازاة الانطلاقة لقوة دفع بيان « 30 مارس» بعدها.

          وبدا شباب العالم كما لو كانوا يتمردون على كل الأنساق المغلقة في نوفمبر 1968، حين حدثت ثورة الطلاب التي هتفت بسقوط البنيوية التي هي فلسفة أنساق مغلقة، لا تقنع من يريد التحرر من سجون النسق، لكن مع الأسف، لم أكن اطلعت على شيء من البنيوية بعد، وإلا كنت قد استخدمت منهجها في دراستي لدرجة الماستير التي حصلت عليها في يوليو 1969 ولم أكن سمعت عن لوسيان جولدمان، ولا عن بنيويته التوليدية بعد، فما كنت أسمع عن لوكاش الذي قرأت بعض ترجماته عن الرواية أما الشعر التقليدي لشعراء الإحياء، موضوع أطروحة الماستير، فقد اخترت منهجا يتفق مع تقليديته، حسب ما رأيت في ذلك الوقت وقد عرفت عن رفض ثورة الطلاب للبنيوية بعد 1969 بالتأكيد، فلا أذكر أن شهر نوفمبر 1968 هو الشهر نفسه الذي انهار فيه الاستعمار البرتغالي في إفريقيا، وأن الغارة الإسرائيلية على مطار بيروت جاءت في نهاية العام لتذكر باليد الطولى لإسرائيل الغاصبة، لكن يأتي العام التاسع والستون حاملا علامات بداية حرب الاستنزاف التي كتبت بطولاتها دماء الجندي المصري، الذي سرعان ما أخذ يثبت قدرته على مجابهة خرافة إسرائيل التي لا تقهر واقترن باستمرار حرب الاستنزاف، تولي سالم ربيع في اليمن، وبعده الإطاحة بالملكية في ليبيا، وإعلان الجمهورية بقيادة ضابط شاب اسمه معمر القذافي، رأى فيه عبد الناصر شبابه، ورأى هو في عبد الناصر زعيما ومعلما، وجاء العام السبعون ليشهد الغارات الإسرائيلية في عمق الأراضي المصرية مع حرب الاستنزاف، ويصل عبد الناصر الليل بالنهار لاستكمال بناء حائط الصواريخ لصد الطائرات الإسرائيلية والحيلولة دونها والغارات على المدن الآمنة.

          وأذكر أن عبد الناصر سافر في أول 1970 إلى موسكو لطلب معدات دفاع جوي للسيطرة على الطائرات الإسرائيلية، وتعلن هذه الطائرات عن وجودها الوحشي عندما تقصف أبو زعبل ومدرسة بحر البقر الابتدائية، بدعوى وجود مطارات سرية للجيش المصري في هذه القرية، وكانت النتيجة وقوع ضحايا كثيرين من تلاميذ المدرسة في الثامن من أبريل 1970، ولكن استمر بناء حائط الصواريخ، واستكمال أنظمة الدفاع الجوي في صيف 1970، حيث ظهرت نتائج حرب الاستنزاف البطولية التي دفعت الولايات المتحدة، حامية إسرائيل، إلى تقديم مبادرة روجرز للسلام.

المثقف الحقيقي

          ويبدو أن تداعي الأحداث المتسارعة قد أنساني خطاب عبد الناصر في جامعة القاهرة لشرح بيان 30 مارس في الخامس والعشرين من أبريل 1968، وكنت حاضرا في هذا اللقاء، ولن أنسى الطريقة التي تكلم بها عبد الناصر، وإشاراته المتكررة إلى المثقفين ودورهم وتأكيده على أن المثقف الحقيقي لابد أن يكون ملتزما بالارتقاء بالمجتمع، والارتقاء بالحياة عن طريق المشاركة في العمل والتوجيه السياسي والفكري وأن المثقف الملتزم لا يستطيع أن يؤدي هذا الدور بالعزلة، وإنما بالاقتراب والاندماج في المجتمع لابد للمثقف أن يدرس أحوال المجتمع، ويعاني معاناته، وأن يستوعب مشكلات المجتمع وأمانيه، ويحلل حركته واتجاهاته هكذا يكون المثقف يعمل لمصلحة المصلحة العامة.

          كما أكد عبد الناصر أن المثقفين ليسوا طبقة اجتماعية وإنما تيارات منتسبة إلى طبقات، وقيمتها في إسهام كل منها في التقدم الفعلي للمجتمع ويضيف قائلا إن المثقفين طلائع كل الطبقات، والعنصر القائد والدافع لحركة كل الطبقات في المجتمع، ويعني ذلك أن معيار القيمة في الحكم على المثقفين هو مواقفهم الفكرية التي يمكن أن تؤدي إلى التخلف أو التقدم، تحقق مصلحة فئة محدودة على حساب الأغلبية، أو تعمل من أجل مصلحة الأغلبية بلا تمييز ولن أنسى كلماته، في هذا الخطاب، حين أكد أن الثقافة، في صميمها، هي التفتيش عن الحقيقة، والالتزام هو السعي الدائب والدائم لإيجاد تناسق بين الحقيقة والواقع، وملاءمة حركة المجتمع مع اتجاهات التطور الإنساني كله.

          كنت أتشرب هذه الكلمات بعقلي ووجداني، وأعود بها إلى عبد الناصر الذي لا أزال أراه عظيما، وقائدا نادرا، ومثقفا كبيرا وكان عبد الناصر، ولايزال، أول زعيم عربي يعرف أهمية الثقافة وحتمية دورها في عمليات التغيير المجتمعي وكان يعرف صعوبة التعامل مع فئة المثقفين وصعوبة جمعهم، أو فرض رأي عليهم، أولا لاختلاف مواقفهم الذاتية، وثانيا لتباين أوضاعهم وانتماءاتهم الطبقية لكنه - وهذا هو المهم - كان يحدد مدى حركة المثقف الملتزم بأنها حركة محكومة بالصراع بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وما يحدث في مدى هذا الصراع من عقبات ورواسب قرون التخلف، والإمكانات الموضوعية لحركة التقدم ولم يفت عبد الناصر أن يحدد معنى العصرية، من حيث هي انتساب إلى العصر، لكن بما لا يعني الانقطاع عن الماضي، كما أن الحرص على تقاليد الماضي لا يعني الانقطاع عن المستقبل. ويفرح عبدالناصر قلوبنا حين يؤكد أن الشباب لابد أن يمتلك حق التجربة دون وصاية، وأنه لابد أن يسهم في إدارة البلاد.

من ناصر إلى سارتر

          أذكر أنني عدت إلى منزلي وأنا أشعر بالسعادة، فما قاله عبد الناصر كان متفقا مع أفكاري التي أخذت منحى يساريا، خاصة في زمن قرأت فيه ما كتبه سارتر عن الأدب الملتزم، وكنت أقرب ما يكون إلى دفاع محمد مندور عن الالتزام، مقابل رشاد رشدي الذي كان يدافع عن استقلال الفن ونزعته الجمالية الخالية من الغرض وكنت مثل جيل الستينيات، ألتهم كتابات بليخانوف ولوكاش عن الواقعية، وننتشي بواقعية نجيب محفوظ التي اتخذت طابعا رمزيا منذ «اللص والكلاب» ولم تتردد في مهاجمة النظام السياسي الذي لم يكن يعبأ فيما ترى الرواية بالمثقفين المعارضين، ولا ينصت إليهم، فتنتهي حيويتهم إلى أن تتحول إلى «ثرثرة فوق النيل». ولكن كلمات هذا الخطاب الذي عدت إلى نصه جعلتنى أدرك أن دور الثقافة والمثقفين لم يغب عن الفكر الناصري، وأن احترام الدور الاجتماعي لهذا الدور في تقدم عملية التنمية، يسير جنبا إلى جنب الإيمان بالفكر العلمي، واحترام العلم والاحتفاء به، ولولا ذلك ما اختتم عبد الناصر كلمته في الجلسة الختامية للدورة الثالثة للمؤتمر القومي للاتحاد الاشتراكي (يوليو 69) بضرورة التخطيط العلمي الدقيق لما يجب أن يكون، وتحية الإنجاز العلمي الذي تحقق عندما عادت إلى الأرض أول بعثة للإنسان، وضعت خطاه فوق سطح القمر، حيث وجدت في نص الخطاب «وإذا كان هذا الإنجاز العظيم قد تحقق للولايات المتحدة الأمريكية، فإننا لا نجد حرجا في الإشارة إليه والإشادة به إننا لسنا أصدقاء للسياسة الأمريكية، ولكننا أصدقاء للعلم إننا نتصدى للمخططات العدوانية الاستعمارية، ولكننا نعتبر أن أي إنجاز يحققه الإنسان في أي مكان هو تكريم للإنسان في كل مكان. إننا نختلف ولكننا لا نحقد، بل إننا قد نعادي ولكننا بالرغم من أي عداء قادرون على أن نرى الضوء حيث يكون».

ضد الأدلجة

          كم كانت هذه الكلمات مؤثرة حين استمعت إليها، فقد نزلت بردا وسلاما على نفسي، خصوصا أنني قد أخذت أملّ من أفكار الأصوليين الماركسيين من أصدقاء، كانوا لا يترددون في أدلجة حتى العلوم البحتة، شأنهم في ذلك شأن الأصوليين الذين سعوا إلى مركسة العلم السوفييتي، فانتهى بهم الأمر إلى كارثة، تسبب فيها علماء متمركسون من أمثال ليسنكو. وأظن أن كلمات عبد الناصر لاقت هوى في ذهني الذي أصبح محكوما بنزعة المساءلة، ضائقا بالأدلجة الأصولية لأي موقف أو فكرة وأغلب الظن أن هذه النزعة هي التي جعلت ثلاثة أرباع وعيي السياسي يقوم على أقانيم أساسية للفكر الناصري الإيمان بالعدالة الاجتماعية الذي تحوّل، إلى الإيمان بالاشتراكية الديموقراطية التي عرفتها فيما بعد، والإيمان بالحرية التي لم أختزلها في البعد الاجتماعي وحده بالرغم من أهميته مع البعد الاقتصادي وقد أضفت إلى هذين الأقنومين توسيع معنى الوحدة وتطويرها بما يؤسس لفكر قومي رحب، منفتح على العالم الذي يتسارع تقدمه.

خطبة الوداع

          وأعتقد أن هذه الأفكار كانت قد أخذت تتبلور، على نحو أولي، في ذهني عندما استمعت إلى خطبة عبد الناصر التي ألقاها في جامعة القاهرة في افتتاح الدورة الرابعة للمؤتمر القومي، في يوليو 1970 وأسميها خطبة الوداع، لأنها كانت، إن لم تخني الذاكرة، آخر خطب عبد الناصر، وقد أعلن فيها انتهاء بناء السد العالي، وانتهاء العمل في محطة كهرباء السد العالي الذي أخذ يعمل بكامل طاقته، وينتظر الاحتفال الرسمي بانتهائه وأعلن عن اكتمال إعادة بناء القوات المسلحة، وانتظارها اللحظة الحاسمة لاسترداد الأرض والكرامة، ولم يعلن بالطبع أن خطة العبور التي نفذها السادات قد اكتملت، وأصبح الجيش بكل أفرعه على أهبة الاستعداد، ولكن لم يفته الإلماح إلى ذلك، واكتفى عبدالناصر باستعراض الإنجازات في المجالات الاقتصادية والزراعية والصناعية، وأكد السعي الدائم للعمل من أجل مبادئ الحرية والاستقلال في جميع أنحاء الوطن العربي. أما الصراع مع إسرائيل، فلم يفت عبد الناصر إعلان أننا نشعر، الآن بأن موقفنا أقوى، وأننا لا نتحرك من موقف الضعف، وإنما نتحرك من موقف القوة، وذلك بسبب تزايد مقدرة قواتنا المسلحة على الردع. وختم عبد الناصر خطابه بأنه قد مرت علينا أيام عصيبة جدا، ولكننا الآن في وضع مختلف، وأننا سنصمد، وسوف نحول الصمود إلى تحرير ونصر.

          لم تكن هذه الكلمات كلمات في الهواء، وإنما كانت كلمات زعيم لم يعرف الراحة كي يعيد بناء كل شيء. ولا أزال أذكر ملامحه التي لا تزال محببة إلى نفسي، بالرغم من كل أخطائه، لكن يشفع له أنه أنجز ما لم ينجزه أحد قبله، ولا حتى بعده. كان الإرهاق باديا على وجهه، والشيب يجلل فوديه، وصوته القوي الجسور تحول إلى صوت حكيم محزون، لكنه مصمم على الوصول بشعبه إلى نهاية طريق التحرير الذي رآه قريبا.

          ولم أسمع خطابا لعبد الناصر بعد ذلك، فقد تتابعت الأحداث، وحدث وقف إطلاق النار بين مصر وإسرائيل، حسب خطة روجرز وزير الخارجية الأمريكية, وقد قبلها عبد الناصر ليستكمل الاستعداد للتحرير الذي أصبح الجيش جاهزا لعبء النهوض به، وجاءت أحداث (أيلول الأسود) سبتمبر في الاشتباكات بين الجيش الأردني ومقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية وقام عبد الناصر بدوره المعتاد، دعا إلى مؤتمر قمة عربية، واستطاع بصعوبة بالغة أن يوقف نزيف الدم الفلسطيني، وحافظ على سلامة أبو عمار وانتهت الأزمة العاصفة، وأخذ عبدالناصر يودع الرؤساء العرب الذين جاءوا إليه في القاهرة وكان الإرهاق قد تمكن منه تماما، وهو يودع حاكم الكويت، آخر من قام بتوديعه، وعاد إلى بيته وحيدا، ليلقى ربه، تاركا الأمة العربية التي وجدت فيه قائدا وزعيما لمصائرها المحتومة. وخرجت جماهير مصر كالطوفان في جنازته، صارخة من قلبها، مرددة أغنية حزينة «الوداع يا جمال، يا حبيب الملايين» وأعترف أنني شعرت باليتم مرة أخرى، ولم أقاوم الدموع المنهمرة من عيني، وأنا أرقب مشهد الجنازة المهيب الذي لا ينسى، وإلى جواري زوجتي، محتضنة ابنتنا الرضيعة، وهي تبكي في صمت مثلي وكان ذلك اليوم، الثامن والعشرين من سبتمبر 1970، نهاية مرحلة وبداية مرحلة، وأهم من ذلك خاتمة زمن جميل مضى.

-------------------------------

          إن من يُهمل الدروسَ، ويَنْسى
                                        ضرباتِ الزمانِ، لن يسْتفِيدَا...
          نسِيَت درسَها فرنسا، فلقّنَّا
                                        فرنسا بالحرب، درساً جديدَا!
          وجَعَلْنا لجُنْدِها «دار لقمَانَ»
                                        قبوراً، ملءَ الثَّرى ولحودَا!
          يا «زبانا» ويا رفاقَ «زبانا»
                                        عشتمُ كالوجودِ، دهراً مديدَا
          كُلّ منْ في البلادِ أضْحى «زبانا»
                                        وتمنّى بأن يموتَ «شَهيدَا»!!

مفدي زكرياء

 

 

 

جابر عصفور