تركيا.. لوحة البحار الأربعة محمد المخزنجي تصوير: حسين لاري

تركيا.. لوحة البحار الأربعة

من السهول التي تموج بسنابل القمح، إلى قمم الجبال المغطاة بالثلوج، من ضوضاء مرسى العبارات في اسطنبول، إلى سكينة الناي في موسيقى الدراويش المولوية، من شوارع تضئ زينتها تأهبا بالاحتفال برأس السنة، إلى طوابير أصحاب الرجاء عند ضريح الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري، من أبنية الوزارات في قمة أنقرة الحديثة، إلى أزقة حي القلعة القديم الحميم. رحلة رأينا فيها الكثير، ولم نر الأكثر، فتركيا بلد القارتين، والأمبراطوريات الثلاث، والحضارات الغائصة في ثنايا كل شبر من أرضها، هي لوحة تؤطرها بحار أربعة، وتكونها وحدات متجاورة من فسيفساء الزمان والمكان، وهنا بعضٌ من اللّحظ المستطاع لبعضٍ من وحدات هذه اللوحة..

" هل بدأ استطلاعنا ونحن بعد في الجو؟. نعم، فمن نافذة الطائرة وعندما دخلنا المجال الجوي التركي، رأينا سلسلة جبال "آرارات " من ارتفاع ثلاثين ألف قدم، ولم تكن هناك تحتنا غير سحابات شفيفة شاردة، مما أتاح لنا أن نمتلىء بكامل المنظر المفعم بالجلال والرهبة، أبصرنا الأخاديد التي صنعتها تدفقات "اللافا" الملتهبة في القرون السحيقة قبل أن تخمد البراكين، ولمحنا الفوالق التي شقتها تململات الأرض قبل أن تهدأ.

أحسسنا برهبة الإنسان أمام جبروت الطبيعة، وبالجلال لمنظر الجبال التي تتعرق بالثلوج، ثم إن العقل الباطن- لا بد- كان يحمل في أغواره رهبة وجلال قصة الطوفان، وسفينة نوح التي يقال انها رست في اليوم السابع عشر من الشهر السابع بعد مائة وخمسين يوما من فزع الماء فوق واحدة من قمم آرارات، وما زال بعض الماخوذين بالمقولة يحاولون الصعود بحثا عن هذه القمة المجهولة، لعلهم يعودون بقطعة من خشب السفينة الضائعة، التي انتشلت الحياة على أرضنا من موت داهم.. إلى ميلاد جديد.

عبرنا جبال "آرارات "، وجاءت جبال أخرى، وسهول، وحقول، وقرى، ثم دخلنا في نطاق مدينة اسطنبول، وكنا نستطيع بنظرة أن نطل على قارتين في آن وا حد.

كنا فوق الجزء الآسيوي الذي ذكرني بجزيرة الأميرات التي لا تعرف وسيلة للمواصلات غير الخيول، وبينما مقدمة الطائرة متوجهة غربا صوب الجزء الجنوبي من القسم الأوربي لاسطنبول، كان يمكننا الإطلال على مضيق البوسفور عند الجناح الأيمن، وبحر مرمرة تحتنا وإلى اليسار. ووجدنا أنفسنا بعد اجتياز حدود الماء نهبط باتجاه المطار كأننا نهبط في جزيرة، الأرض البنية والخضرة الداكنة والبيوت المسقوفة بالقرميد الأحمر علامة بيوت اسطنبول المميزة.

لم نستغرق وقتا طويلا في استيفاء إجراءات الدخول، إذ إن مطار اسطنبول يكتفي فيه ضابط الجوازات بالاطلاع على جواز السفر، ونقل بياناته إلى الكمبيوتر ثم تسليمه للراكب وإعطائه خاتم الدخول دون ملء أوراق أو مزيد من الأسئلة، وهذا طبيعي في دولة تعتبر السياحة موردا مهما وسمة من سمات نشاطها التجاري والثقافي.

ضاحكنا ضابط الجوازات مرددا عدة عبارات بالعربية: "يا مرحبا.. أهلين أهلين".. وأشار لنا بالعبور فوجدنا من ينتظرنا حاملا لوحة باسمينا، زميلي المصور وأنا، كان ذلك هو علي حيدر الذي أرسلته وزارة السياحة لمرافقتنا في رحاب اسطنبول وبورصة، وكان معه السائق الطيب سليم.

وبعد الخروج من دائرة المطار انطلقنا على حافة بحر مرمرة، نسيم العصر الرطيب الرائق، وأسواق السمك الفضي الطازج المزينة طاولاته بخضرة الريحان والنعناع، والسفن المتجهة عبر البحر إلى المضيق، ثم لفتت أنظارنا بقايا من أسوار المدينة القديمة تنتصب على الرصيف الداخلي للكورنيش.

كان الجزء الذي رأيناه من السور سميكا وعتيقا، هدّه القدم وضربته الشروخ التي نبتت من ظلمتها جنبات العشب وبعض الأشجار، والسور في واقع الأمر يتضمن عدة أسوار وأبراج متداخلة، وخارج كل هذه الأبراج والأسوار كان هناك أخدود يملأ بالماء عرضه 18 مترا وعمقه 7 أمتار..

ولم كان ذلك كله؟ جغرافية المدينة وتاريخها يخبرانا بسر حاجتها إلى ذلك التحصين القديم، فقد كانت- ولا تزال- بوابة الغرب إلى الشرق كما انها منفذ الشرق إلى الغرب، لهذا كانت عاصمة لثلاث إمبراطوريات كبرى: الرومانية، والبيزنطية، والعثمانية. واتخذت خلال ذلك ثلاثة أسماء أولها البيزنطية، وثانيها كونستانتينبول ثم اسطنبول، ولقرابة ألف عام ظلت المدينة الأهم في العالم الغربي وفي الشرق الأدنى، ولم تتحول عنها قوتها السياسية متجهة إلى أنقرة إلا عام 1926 بعد إعلان أتاتورك قيام الجمهورية التركية، وإن ظلت المحرك الأكبر- من بين كل المدن التركية- للنشاط التجاري إن استيرادا أو تصديرا.

غادرنا سور الأزمنة الغابرة، فكانت الأزمنة التالية تلاحقنا ونحن ندور حول قصر توب كابي متجهين إلى سراي بورنو عند مدخل "القرن الذهبي" الذي يأتي كممر مائي ممتد من مدخل مضيق البوسفور، شاقا الجزء الأوربي إلى قسمين جنوبي تقع فيه معظم عمارة التاريخ العثماني وأسواقه العريقة، ويسمى اسطنبول القديمة، وشمالي يمتد بامتداد البوسفور ويطل على  مياهه وتحتشد فيه أبنية اسطنبول وأحياؤها الأكثر عصرية.

مررنا بميناء البواخر الداخلية، فهالنا الزحام الذي تنقله، وعرفنا من مرافقنا علي حيدر أن المدينة يتضاعف عدد سكانها كل خمسة عشر عاما منذ بدء النزوح المكثف من الريف في الخمسينيات، ومن المتوقع أن يصل تعدادها عام 2000 إلى أكثرمن 10 ملايين نسمة.

لمحنا مسجد أمين أونو وأسراب الحمام التي تحوم حوله وتحط على أفاريزه وقبابه وأعتابه. وانعطفنا داخلين في جسر "جالاتا" ومن وراء الجسر أوغلنا صاعدين وملتفين حتى وقفنا أمام بناء راسخ لونه فيروزي ونوافذه بيضاء وتلوح من هيئته سمة القدم، وقرأنا على اللافتة: 1892- PERA PALACE .

كان اقتراحا ذا مغزى، ولفتة ثقافية من وزارة السياحة التركية التي اختارت لنا هذا المكان لنقيم فيه ليلتين، فقد كنا نقيم داخل قطعة من التاريخ التركي- بل العالمي- الحديث، الذي تلعب فيه اسطنبول دور المركز الذي دارت حوله تحركات وتطلعات وآمال ومخاوف، ولم يكف أبدا عن النبض كمعبر كبير بين الشرق والغرب، وكانت قائمة الأسماء التي استقبلها الفندق- كما قرأناها على أبواب الغرف والأجنحة التي أقاموا فيها- تقول الكثير: كمال أتاتورك، رضا بهلوي، فاليري جيسكار ديستان، الخديو عباس، ماتا هاري، سارة برنارد، جريتا جاربو، زازا جابور، أجاثا كريستي، جوزيف بروز تيتو، خوليو اجليسياس، ثيودراكيس.. وكثيرون.. ملوك ورؤساء وفنانون وجواسيس وكتّاب، وانضممنا إلى هذا الحشد المتنافر، وكانت غرفتي تجاور غرفة "زازا جابور" من ناحية وأجاثا كريستي من ناحية أخرى بينما جوزيف بروز تيتو أمامي..

في "بييرا بالاس " كان كل شيء قديما قدم قرن من الزمان: البلور والأفاريز النحاسية والمرمر والأبسطة الحمراء والمصعد الذي ننادي عليه بجرس نحاسي يجلجل، فيصعد أو يهبط بنا بهدوء راسخ بينما جوانبه من البلور والنحاس المشغول تكشف عن حركة هذا الصرح القديم الذي ما زال يضج بالحياة خاصة في الليل.

وحتى يجن الليل في قلب بييرا، اغتسلنا وغيرنا ملابسنا وآثرنا أن نمضي في جولة حول الفندق، واكتشفنا أننا على مبعدة خطوات من شارع "الاستقلال " وميدان "التقسيم " (وينطقان بالعربية).

هنا، بدا لنا وكأننا في شارع من شوارع أوربا التجارية العريقة، محال الملابس والمكتبات والترام القديم الأحمر والزينات المضيئة تهيؤا للاحتفال بعيد رأس السنة الميلادية، و"استاندات " آلاف بطاقات المعايدة ودمية بابا نويل وراء زجاج الواجهات، ثم المنظر الذي لفت نظري بشدة: بائعوا أوراق اليانصيب الذين يرتدون زيا أبيض وقبعات بيضاء منتفخة ويعرضون أوراقهم على عجلة دوارة تدور دورات الحظ وتتوقف عند يد من يشتري ويحدوه الأمل، ويبدو أن الأمل كان كبيرا حتى أنه كان يغرق كل أرصفة اسطنبول ببائعي " اللوترية" وعجلاتهم الدوارة بالورق، والوعد: جائزة قيمتها 40 مليار ليرة تركية أي ما يعادل ثمن 200 سيارة شاهين صناعة تركية، أو 40 شقة في قلب اسطنبول، كما أخبرنا بائع " اللوترية " السمين ذو الشوارب " نديم أوغلو".

المليار رقم يبدو خارقا، أما المليون فهو متاح للكثيرين في تركيا، ولقد صرت مليونيرا هناك، فبأقل من مائة دولار حصلت على مليون ليرة تركية، وصرت من أصحاب الملايين في لحظة، لكنها ملايين سريعة التبخر رغم رخص الطعام والشراب والملبس- النسبي- في تركيا.

وعدنا من جولتنا للقاء أطياف الماضي، ونجوم الحاضر، في ليل اسطنبول، بين جنبات قصر بييرا..

أوربا في ليل بييرا

كان هناك عرض عصري وتجمع لنماذج من الأرستقراطية التركية، فساتين السهرة الأوربية والردنجوهات والببيونات، والتورتة التي ترتفع عشرة أقدام على عربة يدفعها خمسة جرسونات، وعزف على البيانو وكئوس تتقارع، ولولا اننا طلبنا على العشاء طعاما تركيا لحسبت أنني في قاعة احتفالات لندنية أو باريسية.

ومن هذا الجو الأوربي صعدنا إلى غرفنا، وكان طبيعيا أن يكون التلفزيون هو سمير ما قبل النوم، خمسة عشر قناة يقدمها التلفزيون التركي، أربع منها حكومية والباقيات خاصة، ويؤكد التلفزيون على صورة تركيا الأوربية. لولا ذلك الغناء التركي الشرقي الجميل واللغة التركية الغنية بالأصوات العميقة لبدا أن هذا تلفزيون أوربي، وكقنوات الليل الأوربية كانت هناك قناة اسمها SHOW تبدأ عملها بعد منتصف الليل، وخلال ساعتين أو ثلاث تكون قد بثت الصواعق والغرائب.

كان ذلك بعضا من وجه الليل، لكن كان للنهار وجوها أخرى.

بصمات الروح على الجسد

"إنني معني بالتقابل، ولا أريد أن أقول المتناقضات ".. قلت هذا لمرافقنا ونحن نعيّن جولة النهار، فاخترت من بين المتاح "مسجد أبي أيوب " إذا أحسست بأنني ربما أجد هناك صورة أخرى، وقد كانت هناك صورة أخرى بالفعل.. لقد لفت نظري وأنا أعد للرحلة بالقراءة قبل السفر أن طقوس ختان الأطفال الذكور في تركيا تشغل حيزا لافتا منذ أيام العثمانيين وحتى أيامنا، ففي قصر "توب كابي" توجد قاعة مستقلة مكسوة بالسيراميك المزخرف تسمى "قاعة الختان" وأمامها نافورة يلقى في مياهها بالنقود لتحل البركة على المختن، وفي رحاب جامع أبي أيوب قرأت أن طقوسا أخرى لا تزال تمارس، ولقد أثار الأمر اهتمامي فآثرت أن أرى ذلك رأى العين.

الرحلة من قصر "بييرا" إلى ضاحية أيوب تقع كلها على أرض أوربية، على حافة الغرب، لكن ما أن يممنا شطر جسر "جالاتا" باتجاه الجنوب حتى كان الشرق أمامنا. صورة "بانورامية " لا أغنى منها ولا أقوى.. مآذن وقباب عشرات المساجد تربض عالية جلية فوق ذرى هذا الجزء من اسطنبول التي تتكون من سبعة تلال، مساجد وقباب أمين أونو والسليمانية ورستم باشا والسلطان أحمد وآيا صوفيا ومحمد الفاتح وعشرات المساجد الأخرى.. ولقد تعلمت أن أميز في اسطنبول بين نوعين من المساجد: أولهما المساجد السلطانية التي يعتبر كل منها مجمعا دينيا ودنيويا في رحاب الإسلام، فثمة فناء خارجي تحيط به مبان عمومية تضم مدرسة للقرآن، ومستشفى، ومكتبة، ومطبخا عموميا، وحماما تركيا، ثم سورا وفناء داخليا أو باحة داخلية مكشوفة تتوسطها نافورة وتحيط بها ردهات مسقوفة تظللها القباب، ومن ثم البناء الأساسي للمسجد حيث صحن المصلين والمحراب والمنبر إضافة إلى مكان خاص للسلطان على يسار المنبر والمحراب. أما الفناء الخلفي فكان مكانا لمقابر العائلة السلطانية، هذا هو نموذج المسجد السلطاني الذي ترتفع منه عدة مآذن ويستخدم كمكان للاحتفالات الرسمية والدينية والاجتماعية أيضا، غير النوع الثاني من المساجد المسماة في اسطنبول بالمساجد العادية، وهي أصغر حجما وتقتصر على مكان للصلاة وليس لها عادة غير مئذنة واحدة.

ولعل من أبرز المساجد السلطانية التي زرناها فيما بعد ويليق أن نتذكرها في سياق حديثنا جامع السلطان أحمد الذي يقع في شرق "الميدان" مواجها صرح "آيا صوفيا" وله نفس التكوين الشائع للمساجد السلطانية التركية، لكن يميزه- إضافة لزخارفه من السيراميك والخشب المنقوش والعاج والنحاس والقبة العظيمة- وجود ست مآذن، وهو المسجد الوحيد الذي له ست مآذن في اسطنبول، ولذلك قصة طريفة: فقبل أن يتجه السلطان أحمد الثاني على رأس رحلة الحج إلى مكة، أمر المعماري الشهير "سنان" أن يبني "مآذن ذهبية" للمسجد، ومن وجهة النظر الاقتصادية رأى سنان أن ذلك مستحيل، وخرج من هذا المأزق اعتمادا على التشابه القوي بين كلمتي "ذهب"، و "ستة" في اللغة التركية إذ إنهما "آلتين" و"آلتي"، وبنى ست مآذن حتى يكون قد نفذ أمر السلطان وخرج - في الوقت نفسه- من منطقة الاستحالة في بناء "مآذن ذهبية".

ولعله يكون مناسبا أيضا أن نتحدث في هذا السياق عن عبقري العمارة الإسلامية "سنان" SINAN الذي عاش في الفترة من 1490-1588، ويعتبر مضارعا لمايكل أنجلو في المكانة، وقد تدرج من موقع مهندس في الحرس السلطاني ليتبوأ موقع "المعماري الأول للإمبراطورية العثمانية" في عهد السلطان سليمان الأول بينما كان عمره 49 عاما في سنة 1539 في ذروة ازدهار الإمبراطورية العثمانية، وهو "عاشق المساجد " وأول من أدخل القبة في عمارتها، وقد خلّف 320 صرحا معماريا تعتبر من آيات فن العمارة الإسلامي على مر العصور، من بينها 80 مسجدا سلطانيا، و50 مسجدا عاديا، ومدارس، ومستشفيات، وقصور، وجسور، وحمامات، وخزانات مياه، وأسبلة.

بنى كل ذلك ومات عن ثمانية وتسعين عاما ليدفن في قبر بسيط ضمن قبور الفناء الخلفي للمسجد الأزرق الذي شيده. لكن رغم ضخامة كل مساجد اسطنبول السلطانية فإن مسجدا واحدا يعلوها جميعا من حيث المكانة الدينية لدى الناس، ذلك هو "مسجد أيوب" أو "مسجد السلطان أيوب" الذي يأتي في المكانة الدينية لدى أهل اسطنبول في المرتبة الثالثة بعد مساجد مكة والمدينة والمسجد الأقصى. ففي هذا المسجد توجد رفات الصحابي الجليل "أبو أيوب الأنصاري" وهو أبوأيوب الأنصاري "خالد بن زيد" الصحابي الخزرجي، من أهل المدينة، وقد نزل الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته يوم الهجرة، وتوفي بحصار القسطنطينية "اسطنبول " عام 52 هـ- 672 م.. وقد عثر على قبر أبو أيوب الأنصاري بعد موته بثمانية  قرون عندما استولى محمد الفاتح على المدينة وبنى المسجد كهدية لروح الراقد الطاهر، ولقد تم تجديد المسجد تماما عام 1800 وكانت ساحته موقعا لأداء القسم العثماني لكل سلطان يتولى الحكم كمعادل لمراسيم تولي العرش لدى ملوك وأباطرة وقياصرة أوربا.

أخذنا نصعد حتى انجلى صعودنا عن بقعة الزحام كأنها الوجه الآخر لاسطنبول، ولعله الوجه الحقيقي، الزحام والحوانيت التي تبيع الملابس والبخور والعطور والمسابح، والباعة الجائلون الذين تحمل صفوف عرباتهم عطور الزهور الطبيعية والمسابح والمصاحف وكتب الحديث والتفسير. غوطة على القمة ترقد بين أشجارها مقابر المسلمين ويتوسط ساحتها الصغيرة المسجد ذو القبة الكبيرة، والمئذنتان السامقتان في دقة ورقة، والباحة السماوية المحاطة بالبواكي المظللة بالقباب الصغيرة والفناء الخارجي المبلط بالمرمر وأسراب الحمام وأرتال المتشفعين والآتين للصلاة، مشهد يذكر الرائي بساحة الحسين في القاهرة، وإن بنسيم اسطنبول ومدارج أشجارها الكثيفة، النسوة في ملابس داكنة سابغة وقد غطين رءوسهن، ومن ساحة المرمر التي تتوسطها نافورة صافية كان الطابور الطويل يمتد لدخول ضريح أبي أيوب الأنصاري لقراءة الفاتحة وملامسة شباك الرجاء الذي يسيج قبر الصحابي الجليل.

أين الغرب من هذه الصورة؟ سألت نفسي بعلامة استفهام تتضمن الإجابة بالنفي، وسيحدث أن أكرر ذات السؤال بعلامة الاستفهام نفسها وأنا في بهو آيا صوفيا، أتأمل المسلمين البسطاء وقد جاءوا يدخلون إبهامهم في ثقب بأحد أعمدة البهو ويتمنون على الله ما يتمنون ثم يحاولون إدارة أكفهم دورة كاملة بينما إبهامهم ماكث في الثقب، معتقدين أن من ينجح في إتمام الدورة يحقق الله رجاءه، والأسطورة تقول إن "محمد الفاتح " عندما أوغل في اسطنبول ودخل آيا صوفيا التي كانت مركز الحياة الروحية للإمبراطورية البيزنطية، أمسك بهذا العمود فغاص إبهامه في الحجر لأنه حمل ثقل كل هذا البناء الضخم في قبضته ليحوّل اتجاهه بحيث يتجه محوره نحو الكعبة.

أي ملمح غربي في ذلك؟ سألت نفسي، وتجلت الإجابة مرة أخرى في رحاب مسجد السلطان أيوب إذ رأيت موكب الختان، نعم أحب أن أسميه موكب الختان، فالصبي الصغير المقبل على الختان جيء به في حلة بيضاء متوشحا بوشاح من الساتان الأحمر المطرز ومعتمرا بتاج من نفس القماش واللون والتطريز، وما أن يصير الصبي وذووه- الأب والأم والأهل والجيران- في ساحة المرمر ويتكون الموكب، يضعون الصغير أماهم ويتبعونه وهو يتقدمهم لدخول ضريح الصحابي الجليل، لقراءة الفاتحة وطلب البركة والسلامة والنجاة، وأن يرعى الله مسيرته في المستقبل.

لقد رأيت في ذلك مظاهرة روحية وإن كان داعيها هو جرح الجسد، وهيهات أن ينسى الصغير وأن ينسى أهله ذلك الموكب الذي سيثبت في أعماقه مع جرح الختان، وبعد البرء منه، صورة لن تنمحي- في ظني- مهما انغمس هذا الصغير- كلما كبر- في طوفان الحياة الأوربية التي تقف اسطنبول على تخومها، أو في داخل هذه التخوم، بصمة للروح على ذلك الجسد، الذي وإن كان صغيرا بعد فقد تمت له التزكية بأن يقود المسيرة ويضمن استمرارها، باتجاه الروح، والروح مسلمة.

هذا ما أحسست به بجلاء وعمق، وأنا في هذه البقعة من أركان اسطنبول المتراصة، فالإسلام روح، وهي روح يرى الممعن بصماتها رغم كل شيء، على كل شيء.. العمارة، والملامح، والطعام، والحزن، والفرح.. ومسيرة الحياة منذ الميلاد وحتى الموت.

وقفلنا عائدين إلى زحام اسطنبول العادي وضوضائها العادية، لكن سليم سائقنا سمح المحيا، كان قد ادخر إحدى مفاجآته، فقد دس في مسجل السيارة شريطا، وأعلى الصوت، فحضرت عطور الدراويش وانسابت أربيات مولانا جلال الدين الرومي، وصدحت موسيقى المولوية.

وكان سليم مواظبا على جلب المسرة إلى نفوسنا بالغناء التركي الشجي الذي كان يدخره لنا في مسجلة السيارة، فعرفنا إبراهيم تالاساس وأجيدا وآيسا "عائشة"، وها هي موسيقى الدراويش ينداح فيها صوت الكمان ويغرد القانون ويتصاعد صوت الناي إلى الأعالي فتغتسل الروح بالشجا ونحن في طريق الرجوع.

قارب بين قارتين

عندما تركب باخرة تبحر بك من بحر مرمرة متجهة إلى البحر الأسود عبر مضيق البوسفور فإنك تحس بثقل التاريخ وهول الجغرافيا، وتحس أكثر بجلال الطبيعية وجمال الكون في إحدى أجمل بقاعه..

مضيق البوسفور، يسمونه أحيانا مضيق اسطنبول، وكلمة بوسفور تعني مخاض البقرة، ومرجع ذلك أسطورة تقول إن أيو كانت معشوقة زيوس، وكانت هيرا زوجته غيورا، فخاف على أيو من بطشها فحولها إلى بقرة، لكن هيرا عرفت ذلك فأرسلت لها نحلة أفزعتها حتى انحشرت في هذا المضيق. يمتد المضيق بطول 32 كيلومترا ويتراوح عرضه بين 500 متر في أضيق نقاطه وثلاثة كيلومترات في نقاط أخرى.

صعدت إلى الباخرة وسط حشود البشر في المرسى البحري المواجه لمسجد "أمين أونو" والمجاور لجسر "جالاتا" وهذه البواخر تشبه في حركتها الوافرة وتوبيسات النقل العام، تزدحم شرفاتها بالراكبين ويزدحم سطحها بالواقفين وراء سياجه، إذ إن المقاعد على السطح قليلة، ولقد فضلت هذه الرحلة بين الناس العاديين على رحلة أخرى للسياح تقوم من مرسى قريب لقصر "توب كابي". وكانت تتوقف كثيرا عند الضفاف..

انطلقت الباخرة كعمارة هائلة بيضاء تنساب على الماء رغم صوتها الأجش وصوت صافرتها الجهير، وعملت بنصيحة أهل الخبرة في التركيز على المنظر من منطقة الذيل، عند خط الأفق، حتى لا تضيع الصورة الشاملة في زحام التفاصيل الصغيرة..

ابتعدنا عن الرصيف المزدحم ببائعي السمك الخارج توا من الماء، وزوارق السمك المقلي التي تتأرجح قرب الشاطىء، ويتناول الآكلون "صندويتشاتهم " الساخنة من بين فتحات السياج. واتسع المشهد على جانبي ممر القرن الذهبي بين الجزأين الأوربيين من اسطنبول، تلال بيوت القديمة والمآذن والقباب العتيقة في ناحية، مدارج البيوت الأكثر حداثة ذات السقوف المغطاة بالقرميد في الناحية الأخرى، ثم انعطفنا يسارا في اتجاه مدخل المضيق ولاح قصر "دولما باهشا" كعقد من اللآلئ، ينعكس ألقها على صفحة الماء وتموجاته، القصر الذي تمتد واجهته بطول 600 متر من المرمر الأبيض والمعمار المزخرف بطراز الروكوكو، ولقد بناه السلطان عبدالمجيد عام 1834 ليعيش فيه بعدما أحس بالاكتئاب من وطأة العيش يبن جنبات قصر "توب كابي" العتيق، وهفت نفسه إلى التغيير، ولعله كان محقا في التخفف من ثقل توب كابي واللجوء إلى اشراق "دولما بهجة" ولقد حذا حذوه سلاطين العثمانيين التالون له، إذ كانوا يجيئون إلى القصر المضيء تاركين "توب كابي" معلقا هناك في الأعالي مثقلا بالتاريخ والظلال.

مررنا بـ "دولما بهجة" فدخلت الباخرة إلى مرسى "بيشتكتاش "، خلف المرسى كان قصر الواجهة البحرية "سيرجان سراي" الذي تم تجديده ليكون أحد أفخم فنادق اسطنبول. نجتازه، فينخطف البصر بهول تقنية البناء المعاصرة المعلقة في جسر البوسفور الذي يبدو كقوس خرافي يطير مفتوحا فوق الماء، رابطا بين الضفة الآسيوية عن يميننا والضفة الأوربية عن يسارنا.

لقد تم بناء الجسر عام 1973 ويعتبر ثالث أكبر جسر معلق في العالم.

نعبر تحت الجسر فيستديم ظله وقتا ونؤخذ بارتفاعه وامتداده، وما أن تنجاب دهشة الجسر المعلق حتى نرى الشاليهات الحمراء البديعة على حافة الماء عند الجانب الآسيوي، دقائق وتظهر قلعتان متقابلتان على ضفتي البوسفور هما قلعتا "روميلي" و"أنادولو"، في هذه النقطة يبلغ البوسفور أضيق نقاطه إذ لا يزيد عرضه عن 500 متر، عند هذه النقطة اختار ملك الفرس "داريوس" أن يبني جسرا من القوارب "لينقل عليه جنوده خلال معاركه مع البيزنطيين.

بعد أن يمتلىء البصر ببهجة الضفاف المكللة بخضرة الغابات تنعطف الباخرة إلى مرسى "كامليكا" بعد جسر البوسفور الثاني المسمى جسر محمد الفاتح وهو أحدث وأصغر من الأول وتم افتتاحه عام 1987، وهناك ترى بائعي الزبادي الشهير "زبادي كامليكا" الذي لا ألذ منه ولا أحلى عندما يؤكل مع ملعقة من السكر. ثم تواصل الباخرة سيرها.

نرى في الجانب الأوربي فيلات حي "طرابيا" البديعة البيضاء ذات السقوف الحمراء من القرميد والتي توشك أن تحجبها خضرة الأشجار الكثيفة، ثم تمضي السفينة إلى مرساها قبل الأخير عند "ساريير" وهي قرية صيادين جذابة بيوتها متطاولة من الخشب أو الحجر لكنها ملونة بألوان مختلفة.

هبطنا من الباخرة عند نهاية الخط في الجانب الآسيوي عند "أناضولو كافاجي" لتناول وجبة من الأسماك الشهية في أحد المطاعم البحرية المنتشرة هناك، ثم أطللنا، على المشهد الواسع من قلعة جينويس على "صخرة الصراع " التي تمثل مدخل البحر الأسود والتي أبحر عبرها جايسون وأرجوناتوس في طريقهما للبحث عن الفروة الذهبية.. ثم قفلنا عائدين بالباخرة إلى ساريير حيث كانت تنتظرنا دعوة للعودة بالسيارة من هناك للإطلال على أحياء ضفة البوسفور الأوربية. وكانت أوربية حقا، ببيوتها الحديثة، ومحالها، وإيقاعها، وكثرة الغرباء فيها، ولقد لمحنا إعلانا بالعربية يقول: "هنا شقة مفروشة للإيجار".. فكان الإعلان مفاجأة ابتسمنا لها ومضينا نأوب، ونجهز للخطوة التالية.

بورصة.. الحرير والثلج

جئنا من قارة إلى قارة عبر الجو، وها نحن نمضي من قارة إلى قارة على الأرض، من اسطنبول إلى بورصة، دخلنا جسر البوسفور المعلق فوق الماء فصارت أوربا وراءنا وآسيا أمامنا، البيوت البيضاء الغارقة وسط خضرة البساتين، والمسقوفة بحمرة القرميد هي هي على الضفتين، لكن الجانب الآسيوي تبدو بيوته متعددة الطوابق، عمائر لاستيعاب الكثافة السكانية  الأكبر في قلب تركيا الاسيوي، وبدا أن هناك شيئا ما أكثر ألفة رغم رقة الحال النسبية لهذا الجانب الآسيوي، فعبر كتلة البيوت في القرى لمحنا بيوتا توحي بأن أصحابها يشيدونها (طوبة على طوبة) فهي لا تعرف بذخ الاكتمال، ثم راحت الأرض تعلو وتهبط ونحن نصعد بين التلال الخضر والجبال الهادئة حتى وصلنا إلى مرفأ العبارات، فدخلنا بسيارتنا إلى إحدى العبارات التي لا تنقطع عن عبور بحر مرمرة إلى "يالاوا". كانت متعة احتساء كوب من الشاي التركي مع بعض حبات من البندق على ظهر العبارة المغمور بنسيم البحر متعة طازجة، بينما البصر يرتحل بعيدا الي ذرى الجبال الخضر  الغارقة في الضباب، ومن "يالاوا" أخذنا في الصعود نحو بورصة، جبال خضراء تهجع في أحضانها قرى صغيرة، بضعة بيوت وساحة ومسجد، والمئذنة ملمح لا يغيب عن العين حيثما كانت هذه القرى، تذكرني بمآذن البوسنة، فهي اسطوانية كاملة الاستدارة ومدببة بدقة عند طرفها كأنها قلم مبري برهافة، يكتب على صفحة السماء: مسلمون، نحن مسلمون، فهل يضير ذلك الآخرين؟.. وأشعر بأننا في حاجة إلى فهم تركيا المسلمة بشكل أعمق، فلو لم تكن تركيا قوية ربما قصفت مدافع التعصب الآخر سموق هذه المآذن.

تتفتح ساحات الجمال أمام أعيننا، وتفر ونحن نسرع نحو بورصة، عيون الماء المتفجرة من صخور الجبال على جانبي الطريق، والجبال الخضر المتعاقبة يتغير لونها كلما ابتعدت حتى تبدو سحابا بنفسجيا عند خط الأفق، وفي أركان الطريق يعرض بائعو العسل البري والفواكه والكستناء بضاعتهم، والقرويات الجميلات يهربن في خفر أمام عدسة الكاميرا. وندخل بورصة في رائعة النهار.

بورصة، المأخوذة عن اسم الملك "بروسياس" أحد ملوك "بيوثينيا" التي كان المكان رحابها منذ اثنين وعشرين قرنا، بورصة أول عاصمة للخلافة العثمانية "1326" وأول مدينة سكت فيها نقود العثمانيين، ما زالت زاهرة تتفجر جنباتها بالمياه الحارة فتضرب شهرة حماماتها المعدنية الآفاق، ويعتدل نسيمها فلا يستنشق المرء أصفى منه ولا أرق، وتمر وجوه حسانها كالأطياف والأقمار فتكتمل دائرة الحسن مع الإطلال من ذراها الخضراء على سكينة خليج كيركابي الذي يرفده في حضنها بحر مرمرة. الماء والخضرة والوجه الحسن، والطعام الحسن، والغناء الحسن، والحرير الذي يمتد حسن صناعته إلى خمسة قرون في عمق الزمان، ولا ينتهي حسن بورصة.

لقد طفنا مسحوري الأرواح في ظلال المسجد الكبير المبنى من الحجارة المسواة برهافة الحرير، عبرنا بواباته الثلاث ومشينا تحت قبابه العشرين، وسمعنا القرآن بصوت تركي صاف لم تخدش صفاءه أصوات النوافير الست عشرة تحت قبة صحنه الهائلة.

"أولو كامي" أو المسجد الكبير، لم يكن هو آية الفن العثماني الوحيدة في بورصة، فقد رأينا هناك المسجد الأخضر المقدود كله من المرمر، والخان المعمول من الطابوق الوردي، والسوق المغطى الذي يعج بروائع نسيج بورصة وأريج عطورها.

غادرنا بورصة الخضراء ميممين شطر قمة "يولودوج "، فكان القلب معلقا في سماء بورصة والعين ترنو إلى القمة البعيدة المغطاة بالثلوج. ثلاثون دقيقة من الصعود في الجبال البكر، ومع كل مرحلة يتبدى فصل من الفصول تلوح علائمه على أوراق الشجر، أوراق الخريف الصفراء صفرة ذهبية، وأوراق الربيع الخضراء، وأوراق الصيف كثيفة الخضرة، وأغصان الشتاء العارية، ثم ترامت ساحة الثلوج أمامنا، بياضا ناصعا تطرف له العيون وبرودة قارصة لم نكن قد تدثرنا لها بما يكفي، فجلسنا في أحد المقاهي المطلة على ساحات التزلج نحتسي الشاي الساخن ونراقب المتزلجين في ملابسهم الملونة الثقيلة وكأننا نطل على ساحة تزلج سويسرية. نقاط بشرية ملونة تنساب في بهجة الثلج، وتغرينا بالخروج، فخرجنا لكننا لم نمكث إذ أسرعنا إلى جوف السيارة الدافئة نهبط من قمة الثلوج ساعين إلى سفر طويل في اتجاه قلب الأناضول.. في اتجاه العاصمة.

أنقرة.. وصال آخر

في تركيا، فسيفساء تلاقي الأماكن والأزمنة، لا تخطط كثيرا لخطوك، فمع كل خطوة سيتفتح أمامك عالم من سحر الأماكن وصدى الزمان ينادي خطوتك التالية، لقد كنا ذاهبين الي العاصمة أنقرة لننهي استطلاعنا بشكر نقدمه لوزير السياحة التركي ولقاء نجريه معه، كما كنا على موعد مع مسئول كبير بوزارة الخارجية التركية لإجراء حديث ثقافي سياسي، وكانت الفترة الزمنية ضيقة بينما كان المسئولون في حالة حركة دائبة تهيؤا لانتخابات مارس، شكرنا من يسرّوا مهمتنا من وزارة السياحة التركية، وانتقلنا إلى مبنى وزارة الخارجية العصري الهائل. والتقينا بالمسئول عن العلاقات الخارجية السيد "فرهات إتمان" ، تحاورنا حول الاستقرار في المنطقة، والفعالية الإقليمية، والتعددية كشرط حقيقي للتنمية والتحديث، واتفقنا بيقين على أن الثقافة هي بوابة المحبة والسلام الحقيقية ليعبر كل منا إلى قلب الآخر، وكانت الثقافة هي التي حملتنا إلى قلب أنقرة بعد اللقاء.

وعلى الرغم من أن أنقرة تعتبر إحدى عواصم العالم الأكثر حداثة، إلا أن الموغل في قلبها يدرك كم هي غائرة في الزمان، فبعيدا عن قمتها العصرية حيث الشوارع الفسيحة المرصوفة جيدا، والأبراج السكنية، والفنادق، والمطاعم، والمقاصف الأوربية، ومباني السفارات الحديثة، وعمائر الوزارات، ثمة قمم أخرى في تضاريس أنقرة التي تقع في حوض الأناضول مشرئبة على مجموعة من التلال هادئة الارتفاع، فما أن تأخذنا الشوارع الجانبية لمنطقة "جيسيكوندو" (والتى تعني مأوى الليل) حتى نحس بأننا في أنقرة أخرى، أنقرة القادمين من ريف الأناضول الذين لم يغير الكثيرون منهم أزياء الريف بعد، ملابس النساء الضافية المزركشة وسراويل الرجال الفضفاضة الوسط، حتى البيوت تبين متزاحمة وكأنها لا تريد أن تترك شبرا خاليا على هذا التل، وهي ملونة بألوان شتى تحمل بساطة الذوق الريفي لثلاثة ملايين انسان يشكلون الثقل العددي الأكبر لسكان العاصمة ويعيشون على هذا التل الملون، أما حي القلعة القديم فهو نسيج وحده في العراقة والعتاقة، يغوص في التاريخ حتى ثلاثة قرون فيما قبل الميلاد وتحوطه أسوار العثمانيين والرومان. نأكل لقمة شهية عجلى في مطعم عمره أكثر من قرن، وبناؤه من الخشب والرخام، وننطلق في الأزقة الضيقة النظيفة. نحوم حول القلعة العتيقة فنجد أنفسنا في سوق التوابل، وسوق المكسرات والحبوب، ونمر على محال فراء الأغنام فنلمس نعومة أصواف الموهير التركي الشهيرة، ندخل بيت السجاد عند أقدام القلعة فتتألق في عيوننا أبسطة الحرير التركي، وسجادة الحرير دقيقة الصنع تتغير ألوانها مع تغير مساقط الضوء عليها، ومن بيت السجاد إلى بيت المصنوعات اليدوية العريقة: أطباق سيراميك "إزنك " بهية التلوين، ومصابيح النحاس المطروق، والنرجيلات المزوقة، والسماورات، وخرزات الكريستال الأزرق، والصناديق المطعمة بالعاج والأصداف، وتماثيل الدراويش من البورسلين الأبيض.

وعلى مبعدة خطوات قليلة نعثر على متحف الحضارة الأناضولية، ونمضي من زمن إلى زمن، بادئين من آثار العصر الحجري الحديث حتى الرومان، نتوقف طويلا أمام آثار إحدى الحضارتين الأعرق في تاريخ البشرية، أي حضارة ساكني الجبال، (بموازاة حضارة المصريين القدامى التي كانت حضارة وديان).. حضارة الحيثيين التي تعتبر ملمحا زاهرا من ملامح عصر البرونز. ولغتها "الحيثية" تعتبر أم اللغات الهندوأوربية التي خرجت منها اللغات التي تتحدث بها أوربا والهند في عصرنا.

شدهتنا وبهرتنا أعمال النحت الضخمة الرهيفة في الحجر، وفتنتنا أدوات الحياة التي يختلط فيها الجمال بالنفع، حيث الجرار تتشكل في صور حيوانات وطيور، والنصال تزهو بروعة الزخرفة والتماثيل تسجل بدفء القلب البشري لسعي الإنسان في بيئة الجبال الوعرة.

وخارج بوابة المتحف حيث كان النسيم الشتوي باردا ومنعشا، كانت أنقرة هناك، تلالا للقديم والجديد وسط هضبة الأناضول التي ترتفع 1000 قدم فوق سطح البحر. إطلالة على عالمين يبدوان مختلفين في تركيا، عالم الساحل الغربي الذي تمثله اسطنبول وعالم الهضبة الآسيوية التي كنا نقف في مركزها. وحانت مني التفاتة مندهشة إلى مرشدتنا في أنقرة، لقد قالت إن اسمها "أويسال "، فسألتها عن معنى الاسم، ولما شرحت لي عرفت أن هذا الاسم هو بالعربية "وصال".

طوفت البصر بالأرجاء الرحيبة في أنقرة، وكنت أطالع في خاطري تركيا التي رأينا فيها الكثير ولم نر الاكثر، لوحة فسيفساء تتجاور وحداتها الزمانية والمكانية، لكنها لا تبدو منفصلة، قلت مفكرا بصوت مسموع: إنه "وصال". فظنت مرافقتنا أنني أناديها، لكنني كنت أنادي سر لوحة الموزاييك التركية الفاتنة.

 

محمد المخزنجي 

أعلى الصفحة | الصفحة الرئيسية  
اعلانات




صورة الغلاف





تركيا لوحة البحار الأربعة





خريطة تركيا.. لوحة غنية التضاريس تطل على بحار أربعة





مدخل مسجد السلطان أيوب





طابور المتشفعين على باب ضريح الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري





رقصة شعبية بسمات آسيا الوسطى





فتاة الشاي في مقهى يطل على البوسفور





مسجد السلطان أحمد





أزياء وأجيال وصور شتى وعطور متنوعة.. تلك ملامح سوق الطيور والزهور عند ساحة أمير أونو





اسطنبول العتيقة والمعاصرة في جنوب القرن الذهبي





آلاف البطاقات للتهنئة بعيد رأس  السنة





تركي شاب تدور في قلبه الأماني ويدير راحته حول ثقب الأمل في أحد أعمدة آيا صوفيا، حيث غاص إبهام السلطان محمد الفاتح





في بيت السجاد بقلب أنقرة القديم،  وعاشق لهذا الفن الشعبي يتأمل كليما تركيا





ليست الصورة في ساحات بسويسرا، إنها في يولوداج التركية





روجه تركي وسياق أوربي هذه هي ملامح الجيل الجديد في اسطنبول اليوم





فروة موهير يستعرضها بائع في سوق الفراء بأنقرة





بائع الكستناء على أبواب سوق بورصة المغطى





من آسيا الوسطى والوطن العربي.. جاءوا للسياحة في تركيا





المحرر في لحظة تركية مع عجوز مغربي أمام مسجد السلطان أحمد باسطنبول





برج انقرة يرتفع مضيئا بين أضواء المدينة الحديثة العتيقة





أنقرة وأبراجها السكنية العصرية، صورة لا تعكس النمط السائد في اللوحة التركية