الزمان ومفهومه في الفكر الديني; من يستطيع أن يوقف نزيف الزمن؟

الزمان ومفهومه في الفكر الديني; من يستطيع أن يوقف نزيف الزمن؟

في اللغة العربية, كما في اليونانية لفظان للتعبير عن الزمان, هما الزمان والوقت, في حين أن اللغات الأوربية ـ المتفرعة من اللغة اللاتينية ـ تشتمل على لفظ واحد (Time) للدلالة على الزمان, واللفظان في اللغة العربية, الزمان والوقت, يستعملان ـ على التقريب ـ في معانٍ واحدة, في حين أنه ربما كان يمكن قصر لفظة (الوقت) على الفترة اليومية لدوران الأرض حول نفسها (24 ساعة تقريبا) ثم دورانها السنوي حول الشمس (2422, 365 يوم), بينما يخصص لفظ الزمان للتعبير عن الحالة أو الإدراك النفسي بمرور الأحداث, بحيث يشير (الوقت) إلى الحركة المادية, ويكون (الزمان) معبرا عن طابع نفسي حيوي لاحظ الإنسان منذ بدأ وعيه وجود حركتين, إحداهما مادية, هي شروق الشمس وغروبها, وتوالي الفصول وانقضاؤها, وميلاد الناس وموتها, ونشوء الأحداث وانتهاؤها, وثانيتهما شعورية هي إحساس الذات بالأشخاص والأحداث والأشياء. وفي حين أن الحركة المادية, على الكوكب الأرضي, وفيما يتعلق بكل الناس تقريبا, حركة واحدة ثابتة يمكن قياسها ويمكن حسابها, فإن الحركة الشعورية ذات طابع شخصي, يختلف من فرد إلى آخر, بل ويختلف مع نفس الشخص من حادث إلى حادث, إذ هي ذات طابع نسبي يقصر بدرجات متفاوتة في الأحداث السعيدة, ويطول ـ بحالات متباعدة ـ في الواقعات المؤلمة أو المؤسفة أو المقلقة.

من هذه الملاحظة التي لا صارف عنها أبدا, نشأ إدراك الزمان, وطفر مفهومه في العقل الإنساني, وأدت الملاحظة إلى انطباع سيء وفهم سلبي لأثر الزمان, فالزمان حركة, والحركة تؤدي إلى النقض وتُفضي إلى العدم, ذلك بأنه نتيجة للحركة تتحول القوة إلى ضعف, والشدة إلى فتور, والشباب إلى شيخوخة, والصحة إلى مرض, والفتوة إلى وهن, والحياة إلى موت.. وهكذا. ونتيجة لذلك, فقد وقر في اليقين البشري أن الحركة تدهور وانحلال, وأن السكون تمام وكمال, وصار من أغلى أماني الناس أن يجدوا وسيلة تقف الحركة في حيواتهم فلا ينتهوا إلى الموت, وإنما يصلوا إلى الخلود, وهو في جوهره ـ وفقا لذلك التقدير ـ ثبات وسكون ودوام بلا تغير.

وعندما عرف الوجدان الإنساني معنى الألوهية, وأشرق في ضميره نور الجلالة, فإنه استبعد الحركة عن الله (وهو اللفظ العربي المقابل لألفاظ أخرى في مختلف اللغات تفيد معنى الإله). فالله بضرورة التقابل مع الكون ولزوم التعالي عن المماثلة, لابد أن يكون غير أي عنصر آخر, ثابتا كاملا, لأنه أسمى من الحركة وأرفع من التغير, بل إن الحركة تصدر عنه والتغير ينشأ من إرادته.

الزمن والخلود

بهذا, انتهى الإدراك البشري إلى أن الله خلود في ذاته, فهو موجود منذ الأزل وسيظل موجودا حتى الأبد, أما الزمان فهو تدهور من الخلود نشأ نتيجة الخلق, وهو يتكون من عناصر ثلاثة هي الماضي ثم الحاضر ثم المستقبل, وعندما ينتهي الخلق ويزول التدهور, تصل المخلوقات ـ ومنها الإنسان ـ إلى الأبد, حيث السكون والتمام والكمال, فلا يكون هناك قصور أو يكون زوال أو يكون انحلال أو يكون تغير.

وعندما وصلت البشرية إلى مفهوم (كلمة الله), أو (كلام الله) نشأ تقدير يرى أن كلمة الله لابد أن تكون أزلية, وجدت مع الله عندما وُجد, قبل بدء الخلق ونشوء الزمان, لأنه من غير المتصور ـ في هذا الفهم ـ أن يوجد الله بغير كلمة, وأن تخلق الكلمة ولا تكون أزلية. في الشرائع الثلاث ـ الإسلام والمسيحية واليهودية ـ ظهر تعبير كلمة الله في التوراة, بحكم السبق الزماني جاء في سفر الأمثال (وهو سفر قدم كثير من العلماء أدلة متضافرة على أنه ذو أصل مصري) عن الحكمة, وهي لفظ عربي لآخر عبري يعني الكلمة العاقلة الفعالة (أنا الحكمة أسكن الذكاء وأجد معرفة التدابير.. الرب قناني أول طريقه من قبل أعماله منذ القدم. منذ الأزل مُسحت منذ البدء.. إذ لم يكن (الله) قد صنع الأرض بعد ولا البراري.. لما ثبت السماوات كنت هناك أنا. لما رسم دائرة على وجه الغمر, لما أثبت السحب من فوق.. لما وضع للبحر حده.. لما رسم أسس الأرض, كنت عنده صانعا.." 8: 12- 31. بعد ذلك جاء في سفر حزقيال: (فدخل فيّ روح.. وقال لي يا ابن آدم أنا مرسلك إلى بني إسرائيل.. وقال لي.. كل الكلام الذي أكلمك به أوعه في قلبك واسمعه بأذنيك.. وكان إلى كلام الرب.. وكانت إلى كلمة الرب..) 2: 2, وما بعدها, وفي سفر زكريا (والد يحيى المعمدان) (وكان إلى كلام الرب.. وحي كلمة الرب) وهكذا. وفي إنجيل يوحنا على لسان السيد المسيح (الذي أرسله الله يتكلم بكلام الله) 3: 34, وفي اللاهوت المسيحي أن السيد المسيح هو كلمة الله, أي اللوجوس, وهي لفظة يونانية تعني الكلمة والحركة معا, وفي القرآن الكريم سورة النساء آية 171 إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته (النساء) سورة 4 آية 171,سورة الأعراف آية 158 فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته (الأعراف) سورة 7 آية 158,سورة الكهف آية 27 واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته( الكهف) سورة 18آية 27,سورة البقرة آية 75 وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه (البقرة) سورة 2 آية 75,سورة التوبة آية 6 وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله (التوبة) سورة 9 آية 6 فالقرآن الكريم بنص الآيات السابقة هو كلام الله, وما فيه من آيات هي كلمات الله.

مفهوم الأزلية

بذلك دخلت إلى الفكر الإسلامي المفاهيم الخاصة بأزلية الله وكلمته وكلامه, وأن الكلمة والكلام أزلي لم يُخلق, أي أنه لا يتصل بالوقت ولا يتداخل مع التاريخ, وفي تعريف الأزل قيل إنه (استمرار الوجود في الماضي إلى غير نهاية فهو ما لا يكون مسبوقا بالعدم) الجرجاني: التعريفات, وفي تعريف الزمان قيل (هو مقدار للحركة إلا أنه ليس له وضع إذ لا توجد أجزاؤه معا وإن كان له اتصال, إذ ماضيه ومستقبله يتحدان بطرف هو الآن.. الزمان مقدار للحركة المستديرة من جهة المتقدم والمتأخر.. والحركة متصلة, فالزمان متصل لأنه يطابق المتصل, وكل ما طابق المتصل فهو متصل, فإذن الزمان يتهيأ أن ينقسم بالتوهم وكل متصل كذلك, فإذا قسم ثبتت له في الوهم نهايات ونحن نسميها آنات (ابن سينا) نجاة 80, 191. وفي أصل الزمان يقول (الزمان ليس محدثا حدوثا زمانيا, بل حدوث إبداع لا يتقدمه محدثه بالزمان والمدة, بل بالذات.. فالزمان مبدع أي يتقدمه باريه فقط (المرجع السابق: 91, أما الأبد فهو نتيجة لهذه المفاهيم (استمرار الوجود في المستقبل).

واضح مما سلف أن الفكر الإسلامي في الفقه وفي الفلسفة يرى الزمان من حيث منظوره الخارجي الذي يتبدى من حركة الأرض حول نفسها, ومن حركتها حول الشمس, لكن هناك وجهة نظر أخرى عن الزمان النفسي سوف يلي بيانها.

التقدير الأزلي لكلمة أو كلام الله لم يكن قولا بلا أثر أو كلاما بغير نتائج على الفكر الديني, في الشرائع الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام, وإنما كان له أبلغ الأثر وأخطر النتائج مما يمكن رصده في مسألة مهمة تطول المعتقد وتحكم العمل.

فلدى اليهودية أن التوراة (وكذلك التلمود أي التعاليم التي قدمها الأحبار) وهي أزلية, غير مخلوقة, تظل أبدية لا تتغير ولا تتبدل, ومن ثم فإن ما ورد فيها من أحكام عن الشعب المختار وعن الأرض الموعودة لا تُنسخ قط ولا تزول أبدا, بهذا, وبانتقاءات من النصوص لا ترتبط بالسياق التاريخي ولا تتصل بالبناء التركيبي, يحدث التأكيد المستمر على هذين التعبيرين بالذات بما يهيمن على الحركة السياسية, وعلى اعتقاد اليهود ـ حتى غير المؤمنين منهم ـ ويسير حركة التاريخ, لما يحكم أفعالهم وأقوالهم التي تؤثر على كل البشرية, وخاصة على العالم العربي والعالم الإسلامي.

وفي المسيحية أن السيد المسيح, وهو كلمة الله, أزلي, وأنه كان على الأرض مجسدا للكلمة التي بذلت نفسها عن البشرية حين تقدمت للفداء في واقعة الصلب (حسب الاعتقاد المسيحي), وبذلك أدت إلى خلاص الإنسان.

وفي الإسلام أن القرآن, وهو كلام الله, موجود مع الله منذ الأزل, وأنه لم يخلق قط, وإنما تنزل على النبي (صلى الله عليه وسلم) آية آية, أو مجموعة من الآيات بعد مجموعة أخرى, من الله إلى الوحي إلى النبي, من المنتهى إلى السماء الدنيا ثم إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم).

ما كان مقدرا كان

غير أن هذا الاعتقاد لم يمر بغير جدال ودون رد من آخرين. فلقد قيل في الرد على الاعتقاد اليهودي إن مؤداه أن التاريخ كله, بل والخلق جميعا, لم يكن إلا سيناريو, أي كتابة مفصلة للمشاهد المختلفة التي يتألف منها الفيلم أو التمثيلية أو المسرحية (المعجم العربي الأساسي الصادر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم, نشر لاروس), وأن الناس, على مختلف الأزمنة والأمكنة, كانت تؤدي أدوارا مرسومة من قبل, يهدف بها السيناريو إلى اختيار اليهود منهم (وهم منذ القرن السابع قبل الميلاد يهود بالثقافة وليسوا من النسل الجسدي لإبراهيم عليه السلام, وأسباطة الاثني عشر), كما يرمي إلى تمكينهم من الأرض الموعودة بعد تشتيتهم منها, وهو أمر مقدر ومكتوب منذ الأزل, وكل يؤدي دوره فيه, فلا المؤمن مؤمنا ولا الكافر كافرا, ولا الذي اضطهد اليهود (كالنازي) مخطئا ولا الذي ساعدهم مصيبا, إذ ليس لأي منهم فعل أو قول, ولا إرادة ولا خيار, إنما هو يشخص دورا رسم له منذ الأزل, وينفذ أمرا كتب عليه قبل أن يولد. وفي الرد على الاعتقاد المسيحي قيل إن معناه أن صلب السيد المسيح (وفقا لهذا الاعتقاد) كان واقعة محددة قبل الخلق, وإن كل من ساهم فيها كان ينفذ ماكتب على جبينه وما خُط له في لوح القدر, فلا الذي كان ضد المسيح كافرا ولا الذي كان من حوارييه مؤمنا, وإنما كان كل ميسرا (أي مؤهلا) لما خلق له أصلا وما وجد لكي ينفذه, دون قصد منه وبغير إرادة وبلا أي خيار. وفي الرد على الرأي الإسلامي الذي اعتنقه السلفيون قال المعتزلة, كما قال غيرهم, إن آيات القرآن تتضمن وقائع حدثت على عهد النبي (صلى الله عليه وسلم), وأشخاصا أيدوه أو عارضوه, وغزوات وحروباً لم يكن النبي نفسه يعرف نتيجتها, فكيف كان كل ذلك مرصودا في اللوح المحفوظ منذ الأزل؟ ويضيف آخرون تساؤلا عن النسخ في القرآن, وهل كان تبديل آية بآية, أو إنساء آية أمرا يساير الواقع الجاري ويوافق الظروف التاريخية أم أنه كذلك, كان أمرا محددا من قبل مقررا منذ الأزل؟ وما أثر هذا الفهم على أعمال الناس وأقوالهم, في عصر النبي (صلى الله عليه وسلم), من صحابة ومؤمنين أو كفار ومعارضين, هل هم مسئولون عما قالوا أو فعلوا بحيث يكافأون بالجنة أو يعاقبون بالنار!؟ وعلى ماذا تكون المكافأة أو تكون المعاقبة إن كان المرء قد قال أو فعل ما هو مفروض عليه, بلا أي وعي منه أو إرادة, كما لو كان دمية تحركها المقادير؟!

مفهوم البشرية عن الزمان إذن, أدى إلى عنت شديد ورهق بالغ, خاصة عندما دخل حومة الفكر الديني, وبه حدث قلق كبير في نفوس المؤمنين, فهم إن اعتنقوا المفهوم التقليدي عن أزلية كلام الله انتهى بهم الأمر إلى أن كل شيء قد كتب منذ الأزل وأنه لا جدوى من أي عمل أو قول, ولا معنى للحديث عن الإرادة أو الحرية, ذلك بأن كل هذه المعاني مجرد أوهام لا أساس لها في الواقع, وهم ـ على الجانب الآخر ـ إن اعتنقوا مفهوما مقابلا عن تاريخية كلام الله, أي حدوثه في سياق تاريخي معين, وظهوره في مجال واقعي محدد, ارتبط به وتفاعل معه وبدا من خلاله, كانوا عرضة لاتهام بالكفر أو ادعاء بالإلحاد.

كلام بلا دليل

إن الذي أوجد الصداع في العقل البشري وأحدث الصراع في الفكر الديني أن البشرية منذ انتهاء عصر الدولة القديمة في مصر (2778ـ 2270 ق.م), فصلت العلم عن التطبيق (التقنية), فصارت مفاهيمها عن الزمن والأبد والأزل كلاما بغير دليل وحديثا لا أساس له, إذ لا يمكن التثبت منه أو اختباره أو تأكيده بأساليب علمية وأسانيد غير لفظية. ومنذ أواخر القرن الماضي (التاسع عشر), بدأت علوم الفيزيقا تتطور وتتقدم وتأخذ منحى تطبيقيا ونهجا تقنيا, وفي هذا المجال قدم العالم الرياضي ألبرت أينشتاين (1879 ـ 1955) نظرية النسبية العامة (1916) لتحديد العلاقة بين الجاذبية وبين انحناء الفراغ ذي البعد الزمني الرابع (بإضافة الزمن كبعد إلى الأبعاد الثلاثة المعتادة: الطول والعرض والارتفاع), مما يجعل للكون (المادي) أربعة أبعاد, ثلاثة إحداثيات منها مكانية وإحداث رابع زمني, ولا يمكن فصل هذه الإحداثيات عن بعضها البعض, إذ هي متصلة ببعضها بما يسمى الزمكان Space-time, وقد انتمت هذه النظرية إلى تصور آخر للزمان يتأدى في أنه منحنى, يتصل أوله بآخره, حيث يكون فيه الأبد أزلا, كما يكون الأزل أبدا. وهذا التصوير يغير الفهم التقليدي للزمن من أنه شريط ممتد, سقط من الأزل إلى ساحة الواقع والتاريخ فتحلل إلى ماض وحاضر ومستقبل, وأنه فيما بعد سوف يرفع إلى مستوى الأبد, حيث يزول الواقع وينتهي التاريخ, وتستمر الأبدية إلى ما لانهاية, فبمقتضى النظرية الجديدة يكون الزمان دائرة كل جزء فيها, أو كل آن, هو الأبد وهو الأزل, وهو الماضي والحاضر والمستقبل, وبمعنى آخر فإن النظرية تطرح مفهوما جديدا يعني أن الزمان هو كل جزء فيه وكل آن منه, وأنه هو الأزل وهو الأبد, وأن الله تعالى حضور دائم في كل آن وفي كل مكان, ليس بعيدا في الأزل, أو نائيا في الأبد, لكنه الحضور الواقع المستمر, والديمومة المتصلة بلا سكون أوتفاصيل.

النظرية النسبية

بطبيعة الحال, فإن أي نظرية ـ على خلاف المعتقد الوجداني ـ تقبل النقد وتحتمل النقاش وتتعرض للتعديل. من هذا المعنى لا يمكن اعتبار نظرية النسبية الخاصة, ولا أي نظرية علمية غيرها, مطلقا لا يمس أو نهاية لا تفض, لكن خضوع النظريات العلمية الحديثة للتجربة والتطبيق يمكن أن يضفي عليها مسحة من الصحة, ولو كانت مؤقتة, إن انتمت إلى نتائج صحيحة. ولما كانت التجارب المعملية والنتائج التطبيقية أثبتت صحة هذه النظرية النسبية فإنه يمكن الاعتداد بها والركون إليها, حتى تصل الإنسانية إلى نظرية أرفع. على أن أهم ما في هذه النظرية بصدد الموضوع, هو نتيجتها الخاصة بمفهوم الزمان, وكيف أنه منحن, كل آن فيه وكل لحظة فيه هي الأزل والأبد, وهي الوجود والخلود, وهي الماضي السحيق والحاضر الواقع والمستقبل البعيد. وبهذا المفهوم ينتفي المفهوم التقليدي الذي كان يجزىء الزمان ويفصله عن الأزل والأبد, وهو أمر من شأنه أن يكون ما يصدر عن الله من كلام في الحاضر هو أيضا أزلي وأبدي, وما يكون قد صدر عنه في الأزل هو حاضر واقع, فقسمة الزمان مسألة تتصل بالعقل البشري في مرحلة معينة من نضوجه, في حين أن الزمان في حقيقته آن يتركز فيه ما يسميه الناس أزل وأبد وماض ومستقبل.

هذا المعنى يجد تأييدا له من آيات القرآن الكريم, كما يجد تعضيدا له من الفكر الإسلامي.

ففي القرآن الكريم (كل يوم هو في شأن) الرحمن سورة 55 آية 29 وهو ما يفيد أن الكون في حركية (ديناميكية) دائمة وليس سكونية (استاتيكية) ثابتة, وفيهسورة الرعد آية 39 يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب الرعد سورة 13 آية 39,سورة فاطر آية 39 وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب فاطر سورة 13 آية 39 وهما آيتان تفيدان بأن لا شيء مكتوباً لا يتغير أو نهائياً لا يتبدل, وإنما يمحو الله مقادير ويثبت أخرى, أي يغير فيها ويبدل, وأن العمر قد ينقص وفقا لقوانين كونية (هي الكتاب في الآية), هذا فضلا عن الآيةسورة الرعد آية 11 إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم الرعد سورة 13 آية 11, وهو ما يعني أن فعل الناس يمكن أن يغير حكم القدر, فيغير الله ما بهم متى ما غيروا ما بأنفسهم, أي أن الحقيقة الكونية أدنى ما تكون إلى وجود احتمالات متعددة أمام كل فرد وإزاء أي جماعة, وبناء على ما يتخذه الفرد من قرارات وما تتبعه الجماعة من اتجاهات تتحدد المصائر وتقع المقادير, ولاشك أن في الكون نظاما كما أن في المجتمع نظاما, متى ما اتبعه الفرد واندرج فيه لم يشعر بالجبر أو القهر, أما إن خالفه وعمل ضده, أحدث اضطرابا يشعر معه بالجبر والقهر.

وفي الفكر الإسلامي ما يلمح وقد يصرح بما تداعت إليه نظرية النسبية الخاصة من أن الأزل والأبد والزمان معنى واحد, هو الوجود والخلود, وهو اللحظة والآن, والواقع والحاضر, ففيه (اعلم أن أبده تعالى عين أزله, وأزله عين أبده) ابن عربي ـ الإنسان الكامل ج1, ص103, وكذلك (الدهر هو الآن الدائم الذي هو امتداد الحضرة الإلهية, وهو باطن الزمان, وبه يتحد الأزل والأبد) الجرجاني ـ التعريفات, وقد سلف بيان ما جاء في كلام ابن سينا عن الزمان وفيه (الزمان مقدار لحركة مستديرة).

هذه إشارات واضحة لفهم أدرك بصورة ما أن الزمان دائري, وأن الأزل هو الأبد, وأنه هو الحضور الدائم, هذا فضلا عن الإلماع إلى أن للزمان باطنا, وهي إشارة لافتة إلى الشعور الذاتي وإلى الإحساس الإنساني الذي يشكل لنفسه زمانا خاصا, قد يتوافق وقد يتناقض مع الزمان المادي الذي هو حركة كوكبية أو حركة كونية.

من الملاحظ أن الإدراك الصوفي منذ بداية التاريخ هو الذي عرف ابتداء صحيح مفهوم الزمان, ولعل ذلك كان يحدث من خلال التجربة الصوفية التي تنزع دائما إلى توحيد الذات الإنسانية بالحقيقة الكونية فيطفر من ذلك ما يسمى بالكشف أو الحدس أو الإلهام. هذا التوحد يظهر في بعض النصوص, وأهمها ما ورد في كتاب الموتى لقدماء المصريين حيث يقول الشخص: (إن روحي هي الإله, هي الأبدية), وهو تعبير قاطع واضح عن تطلع الإنسان إلى التوحد بالكون حيث ينشأ لديه شعور بأن الزمان واحد, هو الآن التي تضم الأزل والأبد, والماضي والحاضر والمستقبل, وأن تقسيمه إلى فترات متفاصلة أو تحديده في عصور متباعدة, قصور في الإدراك وعيوب في الفهم, ومع الوقت ترشح هذا الفهم إلى كثيرين استطاعوا التعبير عنه بوضوح, على النحو الذي سلف بيانه من الفكر الإسلامي.

إن الفهم التقليدي للزمان, وفصل الأزل عنه وقطع الأبد منه, أحدث اضطرابا شديدا في التاريخ البشري, خاصة عندما داخل الفكر الديني, فالإيمان بأن كلام الله (أو كلمته) كان في الأزل وجاء من الأزل, بعيدا عن الواقع ونائيا عن التاريخ, أدى بالكثيرين إلى أن يعيشوا خارج مجالات الزمان والمكان, في فضاء سرمدي يتعلقون فيه بنصوص مجردة من معناها, مفرغة من مضمونها, وهي لا تظهر ولا تبين إلا في النطاق التاريخي وضمن المجال الواقعي ونتيجة لذلك يحدث اغتراب عن الواقع وابتعاد عن الحياة, حيث تكون الإقامة داخل كهف من الآراء والأفكار المجردة التي تم نسجها من ألفاظ مقتطعة من السياق وعبارات منتقاة من النصوص. أما الفهم الحديث للزمان وهو فهم قديم كذلك, تم إثباته بالتجارب العلمية ووقع تأكيده بالنتائج المعملية, فإنه يرفع كثيرا من اللبس ويمنع وفيرا من التخليط, إذ يدرك كل فرد أن الأزل هو الحاضر, وأن كلمة الله وكلامه والذي كان في الأزل قد وقع في الحاضر, مادام الأزل هو الآن, وبذلك تنتفي المخاصمة بين فكرة أزلية الكلام وتاريخية الكلام, فالأزلي تاريخي, وما حدث عند الله يحدث من خلال الواقع وضمن أحداث التاريخ. يؤكد ذلك ـ فيما يتعلق بالإسلام ـ أنه يوجد فارق كبير بين أحكام القرآن إن هي فسرت على عموم الألفاظ (أي مجردة من الواقع) أو فسرت وفقا لأسباب التنزيل (أي وهي متداخلة في التاريخ), والخلاف بين المنهجين ـ على ما يبين مما أنف ـ خلاف في فهم حقيقة الزمان, ينعكس على الفكر الديني فيؤدي إلى هذا التباين الشديد وينتهي إلى صدام صعب بين من يتعلق بالنصوص مجردة عن الواقع, ومن لابد أن يراها في ظروفها التاريخية, وهو صدام وقع ويقع في كل الشرائع, ولاسبيل حقيقياً لرفعه نهائيا إلا بنشر الفهم العلمي الذي وصل إليه الإدراك الإنساني منذ زمن بعيد.

لا توجد حقيقة مطلقة

والفهم التقليدي عن الزمان كان, ولايزال, نتيجة للجهل وأثرا للقصور, فهو ليس حقيقة مطلقة ولا هو عقيدة نهائية, وتداعي هذا الفهم الخاطىء القاصر ليس أمرا هينا أو يمكن التغاضي عنه بسهولة, ذلك بأنه ـ كما سلف ـ يحدث صدعا خطيرا في الفكر الديني, بين من يتعلق بالحرف خارج نطاق الواقع في فضاء سرمدي, ومن يتمسك بالروح داخل مجال الواقع وضمن حركة التاريخ, بين من ينتهي إلى أن يكون سلبيا منفعلا بالأحداث وبين من يهدف إلى أن يكون إيجابيا فاعلا للأحداث. هذا إلى أن ذلك الفهم التقليدي للزمان لابد أن يتأدى إلى منطق الجبرية القدرية وإسقاط الاختيارية الإنسانية, وهو تقدير لا مفر من أن ينتهي إلى تقويض النظام الأخلاقي, وتهديد مبدأ الثواب والعقاب, سواء في الدنيا أم في الآخرة, فعلام يكون هذا العقاب وذلك الثواب إن لم يكن الإنسان حرا فعالا مسئولا عن عمله وقوله, ولم يكون التمسك بالأخلاق إن كانت لغوا بلا فائدة؟ ولا أثر في حساب المرء عما يقول ويفعل, إذ إن مصيره محدد سلفا, إلى الجنة أو إلى النار, سواء تمسك بالأخلاقيات على صعوبتها, أو تحلل منها مع سهولة ذلك. إن المسألة جد خطيرة, ولابد من دق الناقوس بشدة, حتى يدرك الناس الحقيقة, فيتحولوا من الخطأ في فهم الزمان إلى الصحة في تقديره وتدبر تداعياته.

 

 

محمد سعيد العشماوي