صندوق عبدالعزيز الفارسي «الرمادي» يبوح بأسرار شخصياته الـ «مباحة»

صندوق عبدالعزيز الفارسي «الرمادي» يبوح بأسرار شخصياته الـ «مباحة»
        

          لا يبحث القاص عبدالعزيز الفارسي عن الصندوق الأسود، المعهود منه حفظ الأسرار حين تخلف الكارثة حطامها، إذ إنه اختار صندوقه بلون يعرف أنه واقع بين متضادين: الأسود والأبيض، في هذا «الصندوق الرمادي» اكتشف أسرارًا مختبئة في ثقوب جدران تتشكل منها حارته وقريته وولايته شناص، لكنه يريد ما هو أبعد من ذلك، فتح طاقة الأسرار للغرباء الذين لا يجلسون على قهوة ألطاف ولا يعرفون الشخوص التي تناور داخل مربعها الصغير، متوهمة أنه العالم بأسره.

  • في قصصه تتشابك الخيوط كتخطيط ميداني لمعركة منتظرة
  • يناور الفارسي بتقطيعات تحيل الحكاية إلى مشاهد سينمائية

          يخبرنا عن شخصيات عادية لكنها كبيرة بأبعاد القص الفنية، تحتاج إلى ترو، ولدى الفارسي مهارته على صنع الدهشة من يوميات عادية في مفكرة عبيد بن راشد أو أبو الخصور وغيرهما من الأسماء التي آثر القاص أن يأتي بها متبوعة بنعت يعكس صفة اختزلت بها.

          صندوق عبدالعزيز الفارسي الرمادي، والصادر عن مؤسسة الانتشار العربي 2012، يحوي ست حكايات، أهداها الفارسي إلى أخيه زكي كامتنان على «بشت الحكاية» الذي لايزال المؤلف ينفض حكاياته، رائيا في أخيه «شيخ السرد» الذي أهداه «المطوع» مبتدأ المجموعة، وختامها «صمام الشيخ» وبينهما «رمانة» و«ما سمعت أذان الملايكة» و«الصندوق الرمادي» عنوان المجموعة و«عيسى عدو الصليب».

          باللغة البسيطة / السهلة / السلسة إذ كتب الحكاية بألق جميل وممتع يعنى الفارسي بتفاصيل التفاصيل وهو يمخر عباب حكاياته، مقتربًا من المكان، ولايته شناص، منتقيًا مطعم «ألطاف» المحور أو البؤرة الضامّة حكايات المكان، آخذا شخوصها إلى مفارقات تبدو غريبة لفرط ما بها من استثنائية الحكاية، ولكنها أقرب ما تكون لنا إذ يضعها المؤلف بيننا كرمزية بالغة الوضوح، معقدة وبسيطة في نفس الوقت، كأننا نعرفها لدهشة الخطوط المرسومة بها، يتتبع (الحاكي) بحذق فني ملامحها، كاشفا ما بداخل الصندوق الرمادي من أسرار قد تبدو فوق مستوى الفهم والإدراك الإنساني لكنها أبسط مما يعتقد، والقصة التي حملت هذا الاسم كافية للتدليل على هذا المعنى.

شناص في كندا

          من كندا يستحضر ولايته العمانية شناص، مقهى ألطاف والشخوص المتكاثفة بقوة التخيل على مقاعده، أربع قصص كتبها في هاميلتون بكندا، والأخيرة وحدها المنتمية إلى مسقط يناور بالهوامش لتكمل للحكاية، في نص رمانة بما يشبه المزيد من الشرح أن السارد حدثته عمته نقلاً عن رحوم البيرق أن خميسوه الأغبر سافر إلى سوق الإيرانية بالفجيرة فاشترى لزوجته مجموعة أكواب بما اعتبرته دليلاً على عظم محبته لها.

          يكتب لنا اعتيادية الحالة الاجتماعية، المقهى، المواطن الذي يتابع قناة الجزيرة، الإشاعات، ارتداد الأمل في المستقبل إلى حالة إحباط هائلة لأن الأمنيات لم تعد كما كانت، ألطاف، الآسيوي الذي يستوطن البلاد، وفي مقابله محل الذهب الذي يملكه ولده نديم، وإمام المسجد البنجالي.

السخرية الأخّاذة

          الحكاية الأولى بعنوان «المطوع» خليف بن قويسم، الذي يسميه المؤلف بصيغة التصغير فهو ليس خلف إنما خليف، ووالده ليس قاسم، بل قويسم، الجندي المتقاعد من العمل العسكري، يختار الفارسي، أو أنها مناخات الحكايات تأتي هكذا، الأسلوب الساخر في جمع تلافيف ما يحكى، يصف به إمضاء الضابط المعقد في قصة المطوع حيث «تتشابك فيه الخيوط كتخطيط ميداني لمعركة منتظرة».

          وفي قصة رمانة ينبعث الوصف الساخر بقوله «لا يختلف شناصيان على أن خميسوه الأغبر لا يمت بصلة إلى حقل الزهور بأي شكل من الأشكال» ماضيًا في تأكيد الاشتغال الفني الذي اختاره لمجموعته القصصية، أو حكاياته الست، ويدعو بطل القصة على الجد الذي تسبب في حرق لون رمانة لأنه سار وراء قلبه وتزوج امرأة سوداء، يدعو عليه بالحرق سبعين عاما لأن رعونته أضاعت رمانة من بين يديه، وعندما تذكر ذلك الامتزاج الرائع الذي جعل رمانة هكذا دعا له في الركعة الثانية بمنزلة أعلى عليين «لأنه أكثر شجاعة منه ومن زمانه».

          وفي قصة الصندوق الرمادي يبرز الفضول في الصناديق التي وضعت كل ثلاثة كيلومترات في شناص فيعتقدها أحد الأهالي حامية للولاية من هجوم نووي قادم من إيران القريبة من شناص «وتطيش حبة نووي بالغلط على ساحل الخليج وتخلينا من صيد أمس» فالصناديق هي حافظة المكان الشناصي فيما لو مسحت الحبة النووية الولاية بالكامل، لكن سواء سعدون بن خليفة «شناص ويبنوها، واحنا؟ من وين بيجيبوا مثلنا»؟!، وتتضح الحكاية أن الصناديق ليست سوى رادارات لكشف السرعة وبصوت بادية فيه الحسرة «انترست البلاد رادارات»!

          لكن الحكاية لم تنته، بل يعمد القاص إلى الهامش ليعتذر لقارئه عن هذه «النهاية المبتورة» معلقا على حالة العلاقة بين الشخوص والصناديق الرمادية التي تفننوا في إيذائها، ثم تصالحهم معها مكتشفين أن لها جانبا توثيقيا قد يرتبط بميلاد طفل يحدد الموعد الحقيقي لولادة طفل إذ عبرت به السيارة المسرعة فاصطادها الرادار.

          في قصة ما سمعت أذان الملايكة؟ تتجلى الروح الساخرة للقص، يشعر خميس وجمعة بأن القيامة قامت، اسودّت الدنيا أمامهما فاعتقدا بوقوع الحشر وهما مع زجاجة الشراب، لكن خميس يكوم التراب على الزجاجة فيعاتبه جمعة على أن ربهما رآهما وهما يشربان «تضحك على من»؟ يفكران بالذهاب إلى المسجد ليحشرا من هناك، جمعة يذهب للاستسماح من والده ويخر على الأرض يقبل قدميه ويعده بأن يعطيه ما يشاء من راتبه.. يكتشفان لاحقا أنه خسوف القمر ليس أكثر، ولأن الخوف أطار «بالسكرة» يقترح أحدهما على الآخر العودة إلى «الغرشة مال بابوه» ففيها وهي تحت التراب بقية تصلح لاستكمال حالة النسيان، بعيدًا عن كل نكد الحياة.

          وبحضور آسر للروح الساخرة تأتي قصة صمام الشيخ، اشتغال فني أنيق على فكرة الصمام المصنوع من ألياف الخنزير الذي يدخل قلب الشيخ، والمفارقات الحادثة بعدئذ، حيث الشيخ الذي كان يقبل عليه الجميع أصبح تجنبه واجبا شرعيا، وإصرار الشيخ على تعذيب عبيد بن راشد الذي اشار عليه بألمانيا لتغيير الصمام بألا يترك فرصة دون ملامسة عبيد، بل والنوم في حضنه «ممعنا في إحداث القشعريرة الظاهرة على عبيد عند كل ملامسة».

          ينتقي الفارسي لحكاياته شخوصًا تثير سخرية المجتمع أيضا، فلديها صفاتها التي تحملها اسما دالا عليها، بحيث لا تكون هي (بالضبط) إذا لم تأت مقرونة باللقب / الصفة الذي يغيّب الاسم الأصلي للإنسان / حاملها.

          مثلا، أبطال قصة المطوع هم خليف بن قويسم (بتصغير اسمه واسم ابيه) ورمانة، وخميسوه الأغبر، فرّشانه، برهوم مخاطه (الابن الأكبر لخميسوه)، وفي الهامش رحّوم البيرق، وتتضح السخرية من الأسماء الحقيقية أو شخوصها في باقي نصوص المجموعة حيث يلاحظ أسماء مثل منصور الخبيل وأبو الخصور ومحمد جزيرة (في قصة الصندوق الرمادي) وعيسى النكاب وعبيد تويّر في قصة عيسى عدو الصليب، وفي ذلك مرجعية اجتماعية، حيث تغدو الألقاب عنصرًا في المكان العماني إذ تتقارب الأسماء حد الاسم الرباعي والقبيلة أحيانًا، فتلتصق صفة ما بشخص لتمايزه عن الآخرين.

          ويعمد الفارسي إلى الهوامش لمزيد من الكشف عن شخوص حكاياته، وسخريات مرة، لهم، ومنهم، في قصة الصندوق الرمادي يترك المؤلف مساحة كبيرة ليشي القارئ بلعبة حكائية أخرى، تحلل شخصية أبو الخصور الذي أصلح الطائرة المتجهة إلى تايلند لكنه رفض مواصلة الرحلة وهبط بدراجته العجيبة إلى ولايته شناص مباشرة.

مقاربات المكان

          يتجسد المكان البطل الأوحد في مجموعة اللون الرمادي، عبر مقاربات محاورها اللهجة أو الشخوص أو الأمكنة الصغيرة التي تدور فيها الأحداث كمطعم ألطاف وغيره من الأماكن الحقيقية المعروفة في ولاية شناص، التي يتحدر منها المؤلف.

          في اللهجة تبدو الصورة النفسية واضحة في مواضع كثيرة داخل جميع النصوص تقريبا، تقول سليمة زوجة بطل المطوع «تو يالس على فوادنا».

          ويكتب عن تعقيدات اجتماعية أصابت المجتمع الحديث دون كبير إدراك بالتحولات، في قصة المطوع يكتشف خليف أن عائلته «وإن كانوا ينتسبون إليه ويعيشون مما يكسب يحيون حياتهم الخاصة المستقلة التي لم يكن يعرف عنها أي شيء»، منوها بإمام المسجد الذي كان بنجاليا لا يعرف اللغة العربية إنما وفي ظل الطوفان (العمالي الآسيوي في الخليج) فإن الحارة العمانية استعانت بعامل وافد ليؤم أبناءها، لكن (المواطن) الذي بحث عن وظيفة بعد تقاعده طمع في أداء هذا الدور، لكنه أخطأ في قراءة القرآن في الصلاة لينتهي المشهد ساخرا، فالميكروفون نقل للحارة ما قرأه خليف.

الشخوص والحكايات

          يمكن الجزم أن جميع شخصيات مجموعة الصندوق الرمادي واقعية، وإن اختلفت التسميات، تأتي أحيانا باسمها الصريح مثل إمام المسجد عبيد بن محمد الفارسي وألطاف صاحب المطعم، أو من خلال ألقابها: أبو الخصور، عيسى النكاب.

          في المجمل هم ساخرون من الحياة، متحينو فرص، راغبون في الظهور على سطح الحدث الاجتماعي مهما بلغت بساطته، وضآلة دائرته التي يتحرك فيها، هناك الجندي المتقاعد (في قصة المطوع) لم يكن يصلي يوما لكنه واكب قدرًا حمله إلى أن يكون إمام المسجد، هكذا بتلقائية لم يشعر القارئ بقفزها فوق أحداث القصة، شخصيات تشعر باكتمالها ووضوحها كالدلالات التي عليها مضامين النصوص السائرة في أفق واحد، تجليات المكان اليومية، مدهشة على بساطتها، عادية لولا مهارة القاص في نثر بهاراته على يوميات لا تشغل أحدا، ولا يلتفت إليها إلا من نافذة الصراع الإنساني المألوف لدرجة أنه لا يوقظ عينا لتتابعه.

          في قصة رمانة حكاية الحب المنبعثة بعد ربع قرن، يشاهد خميسوه مسلسل ساهر الليل فيرى فيه لولوة التي ذكرته برمانة «التي عرفها أول أيام البلوغ» وبعد شهر رمضان أصر خميسوه على أن يبحث عن حبه القديم فهاتفها ليشعر بنعيم العشق، وشرب رواد المقهى الشاي على حسابه كما تطايرت حبات الفشار إليهم.

          لكن رمانته لديها عشرة أبناء، ومرتبطة بجني، بما يكفي لجلب المتاعب النفسية لخميسوه الذي «تسبح بالشرب» ليطرد عنها الجني فلا يؤذيه يوم تحين ساعة الوصال، لكن رمانة (أيام زمان) والحب الذي كان ليست هي التي رآها، تضاعف وزنها مرتين و«استبدلت الرمانتان الناضجتان ببطيختين هامدتين تعلوان كرشا ظاهرًا» عدا النخر الذي أصاب أسنانها العلوية.

          في نص «ما سمعت أذان الملايكة»؟ البداية السردية المباشرة تحيل القصة الفنية إلى حكاية عادية، مبتعدة عن التنميق اللغوي والتكثيف الأسلوبي حيث الحدث ليس أكثر من خميس وجمعة اللذين يشربان وراء ملعب العقر، مع إسقاطات لها دلالاتها حينما يتحدث أحدهما عن عمله سائقا في دولة الإمارات، والمستوى المعيشي الذي يلاحظ فوارقه (بين بلدين جارين) وصولا إلى مخاوف الآخر (الصحية) من العمل في مشروع مصفاة صحار، المنازل القديمة المكتظة بالأفواه والمسنين الذين خسروا رهانات الانتظار، يصبح للاسمين معنى حينما يقترنان بإجازة نهاية الأسبوع، يحلو للبسطاء من أصحاب المزاج الخروج إلى الفضاء المفتوح لمعاقرة الشرب الرخيص المشترى من «بابوه» المعادل الدائم للوافد الذي يستطيع تدبير كل شيء، يفاجأون بحدث (خسوف القمر) فيرون أن القيامة قد حانت وليس في أيديهم سوى (غرشة شرب) فكيف يقابلون ربهم؟!

          يأتي «الصندوق الرمادي» نصا مستحقا ليكون عنوان المجموعة لامتلاكه مقومات الحكاية، بساطتها ودقة رمزيتها، والحضور الآسر للغة المنسابة بإسقاطاتها الاجتماعية والسياسية، لا يضع الفارسي قارئه في تعقيدات المسارات داخل فضاء الحكاية، بل يأخذه ببساطة إلى الصندوق الرمادي ليكتشف معه ماذا هناك.

          الزمن نوفمبر والبرد اللذان حلا ضيفين على شناص/ المكان، والحدث قيام عمال شركة بنصب أعمدة قصيرة ظنها شخوص الحكاية أنها ستحمل «صور السلطان المزينة بالأضواء الجميلة» وعناصر الإدهاش تخطو خطواتها مع الحركة الناعمة حيث فضول الأهالي لمعرفة ما تخبئه هذه الصناديق الرمادية التي علقت على الأعمدة القصيرة، هنا تبرز شخصية أبو الخصور، الرجل الحاذق بمهارة التخيل، يروي لهم حكاية صناديق مشابهة رآها في إحدى رحلاته نحو تايلند، صاحب الدراجة (هوندا 70) الجاثم بطلا للحكاية يحاول جرّ باقي الشخوص لتصديق ما يقوله، فجاء في الهامش خبر مبايعته «الكذاب رقم واحد في شناص».

          بناء شخصية أبو الخصور بحاجة إلى رواية خاصة تتيح لكل ذلك المتخيل على لسانه ليجري على صفحات كثيرة (الصندوق الرمادي)، رؤية ما بداخل الصناديق تحتاج إلى نظارات «طرشتها له وزارة الداخلية» بصفته «شيخ» لا يعترف به جالسو مطعم ألطاف، كما أن شخصية عبيد بن راشد لها بعدها الموازي، وتظهر في قصة صمام الشيخ متجلّية في تحريك الأحداث نحو بقعته الخاصة، ولعه بشوماخر الذي أخبره بأن ميسي سيلعب لنادي الولاية، فيما كان الجميع في مطعم ألطاف ينتظرون مكالمته الآتية من ألمانيا ليطمئنوا على أحوال شيخهم الذاهب لتغيير صمام قلبه.

          في قصة عيسى عدو الصليب تبدأ مراوغات الحكاية من اسم بطلها، عيسى، المقترن دوما بالصليب كما تقول حكاية النبي عيسي عليه السلام، لكن عيسى (عبدالعزيز الفارسي) لا يمتلك أية مقومات غير عادية، ببساطة أنه لم يكن «رجلاً استثنائيًا» كما يقرر منذ مفتتح الحكاية، درس في مدرسة معروفة للجميع، لكن الحكاية تتطلب استثنائية، ووثقها المؤلف بقوله «وجلس عيسى» حينما أغراه غرباء حطوا على مسجد حاراتهم «بالثورة النفسية» التي عرف بها أنه «حاد عن طريق الحق أكثر مما ينبغي» زادته «مواعظهم الباكية» اقتناعا بأنه «لم يكن إلا مجرد كتلة جهنمية تسير على الأرض» رائيا في الغرباء «رسالة سماوية تبيّن حب الله له».

          أمضى عيسى ليلتين في المسجد مع «جماعة الخروج» الذين يجذبون في كل مرة «عددًا جديدًا من العائدين إلى الله»، ويرصد الفارسي التفاصيل الصغيرة في التحولات التي عصفت بعيسى من حال إلى حال، ملتقطا التبدلات الطارئة على بطله / عيسى على صعيدي المظهر والجوهر، ليصبح الجميع في نظر عيسى كفارًا، فما كان من المؤلف سوى وضع مذهب جديد خاص بعيسى النكّاب هو المذهب النكّابي.، لكن ذروة الحكاية/ سخريتها تأتي مع عودة عيسى من باكستان حيث بدأ الأهالي في نسيانه لولا امرأة سليطة اللسان طرقت عليه باب بيته لتصرخ بما يمكن وصفه بذروة تصاعد الحدث (الفني).

          شعر عيسى بالحملة الصليبية على المسلمين، يرى الصليب في أعمدة الإنارة أو في الشوارب التي لم تحلق، وتنتهي حكايته باختفائه، نحو أفغانستان، أو باتجاه المجهول، تاركا للأهالي التكهنات.

          اعتمدت قصة «صمام الشيخ» على ما يمكن تسميته بالكوميديا السياسية الساخرة حيث يحتاج «الشيخ» إلى استبدال صمامه المعطوب، ولم تتخيل الحارة أن تكون بلا شيخ، بل إن أحدهم قال إن الشيخ سيعود و«يتشيخنا ثلاثين سنة زيادة»، يسافر على حساب الحكومة إلى ألمانيا، البلد المصنّعة للسيارات القوية وكذلك صمامات القلوب، لكن الروح الساخرة تبقى لتضاعف من جمالية الحدث، فالصمام البيولوجي المزروع للشيخ مصنوع من أنسجة الخنزير، فتتجنب الحارة شيخها لأن أبو الخصور أخبرهم بذلك.

          في هذا النص يناور الفارسي قارئه بتقطيعات تحيل الحكاية إلى مشاهد سينمائية تتحرك بشخوصها، وسخرية الحدث، شخصية القائد/الرمز، بموازاة آخرين لهم بصماتهم على تفاعلات الحدث: عبيد بن راشد الذي يحلم بزيارة ألمانيا فيجد في مرض الشيخ ضالته، والدخول في عتمة البعد الاجتماعي/الديني الذي يحرم أي شيء من الخنزير، ليس أكله فقط، باعتبار النجاسة التي حذر منها الدين.

          قسّم الفارسي حكايته إلى مقاطع، منتقيا لها عناوين دالّة بقوة السخرية على مسارات الحكاية.

          يغلق القارئ المجموعة القصصية «الصندوق الرمادي» بحكاياتها الست، وبحجمها الصغير، لكنه لا يغلق منافذ للحكايات المتناسلة، نقله الفارسي إلى فضاء شناص، المكان العماني بدهشة ما حدث ويحدث، ببساطة الأسلوب وعادية اللغة، وأحيانا تبرز شاعرية الكلمات لترصع جمال الحكاية، في الصندوق الرمادي «لملم العصر نفسه، وسلم حقيبة الوقت إلى المغرب الشناصي الهادئ المرصع بالانتظار والتساؤلات»، وفي نفس القصة يحدد بوضوح ملامح مقهى ألطاف الذي لو أنه «يكتب سيرة الليالي في مطعمه الذي يعجن دقيق حكاياتنا، وأفراحنا، والأمل، ليسلمه إلى أفواهنا خبزًا ساخنًا نخاتل به أحلامنا الجائعة»، وفي مقطع آخر «تناول المغرب التالي فرشاته، وغمسها في إناء الصبغ الذي يحمله دائمًا، ثم لوّن بشغفه الطفولي سماء شناص باللون البرتقالي. اكتشفت أمه اللعبة، فأخرجت دلوا ملؤه السواد، ورشت به السماء لتمحو هوس ابنها».
---------------------------
* كاتب من سلطنة عُمان.

-----------------------------------

أَعاذِلَ لَيسَ البُخلُ مِنّي سَجِيَّةً
                              وَلكِن رَأَيتُ الفَقرَ شَرَّ سَبيلِ
لَمَوتُ الفَتى خَيرٌ مِن البُخلِ لِلفَتى
                              وَلَلبُخلُ خَيرٌ مِن سُؤالِ بَخيلِ
لَعَمرُكَ ما شَيءٌ لِوَجهِكَ قيمَةٌ
                              فَلا تَلقَ مَخلوقاً بِوَجهِ ذَليلِ
وَلا تَسأَلَن مَن كانَ يَسأَلُ مَرَّةً
                              فَلَلمَوتُ خَيرٌ مِن سُؤالِ سَؤولِ

علي بن الجهم

 

 

محمد بن سيف الرحبي*