(العَدَّامَة): رواية جديدة.. أم شهادة على التغيرات في مجتمع الجزيرة؟

العَدَّامَة): رواية جديدة.. أم شهادة على التغيرات في مجتمع الجزيرة؟

حديث الشهر

ربما كانت سيادة فن الرواية وانتشاره من أبرز الظواهر الأدبية التي بدت واضحة أخيراً.. وإن كان هذا الأمر ملحوظا على مستوى العالم حيث تحتفي بهذا الفن العديد من الجوائز العالمية وعلى رأسها جائزة نوبل الشهيرة للأدب, أقول إن كان هذا ملحوظا عالميا فإنه أصبح يمثل ظاهرة لها دلالتها في الأدب العربي. فالرواية لاتسود كجنس أدبي بين المبدعين فقط ولكنها أصبحت تجتذب لصفوفها كل يوم العديد من كتاب الفكر والسياسة بل وذوي المناصب الرسمية أيضا. وهي بذلك قد تحولت إلى وعاء أدبي جذاب أحيانا ومراوغ في أغلب الأحايين, يقول من خلاله المفكر ما يريد أن يصل إليه دون الاصطدام بحواجز الفكر الآخر ودون الوقوع وسط متاريس الأخلاق الجامدة التي أصبحت تحكم حياتنا الفكرية. وهكذا شاهدنا في الآونة الأخيرة دبلوماسيا وشاعراً شهيراً مثل غازي القصيبي يكتب شقة الحرية, ومفكراً مثل عبدالله العروي يكتب العديد من القصص آخرها روايته (الغريق) وفي هذا السياق نفسه تأتي رواية تركي الحمد الأخيرة (العدامة).. التي نحن بصدد الحديث عنها في هذا السياق.. وإذا تتبعنا قائمة هذه الاستثناءات الروائية فسوف تقودنا بلاشك إلى مولد أول رواية في الأدب العربي وأعني بها (زينب) التي كتبها الباشا محمد حسين هيكل متنكرا تحت تسمية فلاح مصري والتي يتم الاحتفال الآن بمرور خمسين عاما على صدورها.

لماذا تلجأ كل هذه الأسماء وغيرها إلى فن الرواية؟

مما لاشك فيه أن الرواية قد أصبحت أقدر أشكال الكتابة على التعبير عن تناقضات حياتنا المعاصرة. فهي ذات طبيعة مركبة قادرة على احتواء الأصوات المتعددة والمختلفة. وهي تعتمد على ذلك الجدل القائم بين شخصياتها من خلال الحوار والوصف والسرد وتبرز من خلال ذلك قدرتها على تكوين شبكة متداخلة الخطوط مليئة بالدلالات.

وهذه الشبكة برغم دقة خيوطها فإنها قادرة على اقتناص البنى المغلفة للعالم الذي نعيش فيه وتفتيته والسعي إلى تغييره أيضا.

هي كفن مراوغ تساعد الكاتب على البوح بكل ما لا يقدر على البوح به في فنون الكتابة الأخرى. ألم تكن شهر زاد هي الروائية الأولى التي أظهرت لشهريار مدى تسلطه ودمويته من خلال ليالي القص الطويلة التي أوقعته في حبائلها؟ إن السرد الروائى هو إحدى وسائل الاستئناس, استئناس الملوك الغاضبين, والبشر المتوترين, والمتسلطين السياسيين أيضا. فهي من خلال الرموز التي تتمثل بها تسوق دائما نقداً عنيفا لكل الأنساق الاجتماعية المتسلطة.

وهي وسيلة الطبقة الوسطى ـ كما قال الناقد الهنغاري المعروف لوكاتش ذات مرة ـ للبحث عن المعنى والقيمة في عالم تضطرب فيه علاقات المعنى والقيمة.

أهمية أخرى لفن الرواية وسبب آخر في لجوء الذين ذكرتهم سابقا لركوب هذا الفن الصعب المراوغ, هي قدرتها على الغوص في أعماق الذات, أو (الأنا), فهي قادرة على النفاذ إلى أغوار الوعي الإنساني والنفاذ خلف طبقات الخوف من التقاليد, والخجل من المصارحة بكشف الذات وتعريتها, فهي تقيم ذاتا أخرى منبثقة من ذات الكاتب ومبتعدة عنها, بل ونقيضة لها في الوقت نفسه. فهي قادرة على خلق عالم آخر, مواز لذات الكاتب, محايد وموضوعي. وبرغم أن هذه الحيادية كاذبة وغير موضوعية بل قائمة على تجربة ذاتية, فإنها في نفس الوقت تخرج الكاتب من دائرة الانفعال إلى دائرة الرصد والتأمل وهو ما يجعل القارىء شريكا بشكل أو بآخر في كل تجربة إبداعية لان الذات الروائية هنا خرجت من الإطار الفردي المغلق إلى الإطار الجماعي المفتوح. إن علينا ألا ننسى ابدا أننا نعيش وسط مجتمع محافظ يهتم بصورة الشخص أكثر مما يهتم بجوهره. وهو الأمر الذي يضع العديد من العوائق أمام رغبة المبدع بالبوح والتعبير عن الذات. وبرغم ازدهار فن السير الذاتية التي وضع تقاليدها جان جاك روسو في اعترافاته الشهيرة في القرن السابع عشر, وجعل منها نموذجا للمصارحة بخلجات النفس في الثقافةالغربية. فإن هذا التقليد لم يرسخ أبداً في الثقافة العربية, وإن كان هناك بعض التجارب المعزولة.

وبعيدا عن تجربة (الخبز الحافي) لمحمد شكري فإننا لم نر سيرة تمثل مرآة صادقة لنفس كاتبها, فهي إما كاذبة أو أنها تتخفى تحت أقنعة روائية كثيرة. وحتى أديبنا الكبير نجيب محفوظ وهو الذي قدم تشريحا كاملا للمجتمع الذي يعيش فيه وقف عاجزاً عن تشريح ذاته وتقديم جانب مهم من تجربته الإبداعية. وبدلا من ذلك لجأ إلى ارتداء أقنعة الرواية. تحدث عن الناس الذين مروا بحياته في تجربته (المرايا). ثم تحدث عن ذكريات طفولته (في حكايات حارتنا) ثم ازداد اقترابا أكثر في (أصداء السيرة الذاتية) وبرغم أنه ارتدى فيها نفس القناع الروائي فإنه مازال مترددا في نشرها في كتاب, كما سيرى القارىء في مكان آخر من هذا العدد.

هذا إذن أحد الأسباب الرئيسية للجوء العديد من الأسماء التي ذكرتها إلى فن الرواية, الحديث عن الذات والابتعاد عنها, المصارحة والتخفي, إرضاء النفس والتخفف من لوم العاتبين وفي كل الأحوال فالرواية هنا مجرد قناع يشف عما تحته.

(العدامة).. ماذا تعني؟

تقودنا هذه المقدمة التي استطالت بعض الشيء إلى مناقشة الرواية الأولى التي اصدرها الكاتب السعودي والأكاديمي المعروف تركي الحمد تحت عنوان (العدامة). وما يجعلني أهتم بهذه الرواية هو أنه برغم أن الرواية في بلد مثل مصر مزدهرة وتزخر بكثير من القمم الروائية مثل نجيب محفوظ وفتحي غانم وإحسان عبدالقدوس وسلسلة طويلة من الأسماء وأن هناك ازدهارا آخر للرواية في بلاد الشام والشمال العربي الإفريقي, فالملاحظ أن هذا الفن الكتابي الجميل يظل نادرا في إقليم الجزيرة العربية والخليج. هناك أسماء بعدد الأصابع قد تطور على يدها هذا الفن مثل عبدالرحمن منيف, غازي القصيبي, إسماعيل فهد إسماعيل, وهناك أسماء اخرى أبدعت بعض الأعمال الثانوية ولكن القائمة تبدو قصيرة نسبيا مقارنة بتلك القائمة الطويلة في مصر أو في الشام أو في بلاد المغرب العربي.

لذا فإن خروج راو جديد من هذه المنطقة حدث يستحق الاحتفاء به خاصة وأنا أعرف تركي الحمد, باحثا جادا وكاتبا مميزا, ولكنني عندما التقطت رواية (العدامة) شعرت بأن روائيا ناضجا ومبدعاً يضاف بكل أحقية واقتدار إلى تلك القائمة. (العدامة) ويبدو أنها الحلقة الأولى من ثلاثية تحت العنوان الأوسع (أطياف الأزقة المهجورة) قد استحوذت على اهتمامي فلم أستطع أن أقرأ كتابا آخر منذ أن وقعت في يدي حتى فرغت منها تماما.

فقد عشت مع البطل الراوي هشام إبراهيم العابر بكل جوارحي وهو يصف حياته وعلاقتة بأصدقائه ودخوله في التنظيم السياسي السري وكذلك علاقاته الحميمة مع الجنس الآخر ووصفه الدقيق لتلك الفترة التي عاش فيها داخل مدن المملكة العربية السعودية من الدمام إلى الرياض إلى بريدة في إقليم القصيم النجدي.

وكما يقال فإن الرواية الأولى دائما ترتكز في محورها الأساسي على شيء من سيرة الكاتب الذاتية, ولا أجزم أن تكون رواية (أطياف الأزقة المهجورة) هي طبق الأصل رواية ذاتية ولكنني لا أستبعد شيئا من ذلك خاصة في تفاصيلها الصغيرة.

(العدامة) هي إشارة إلى حي من أحياء مدينة الدمام والكلمة تعني أيضا المكان المرتفع نسبيا عن الأرض, ولها معنى شعبي آخر هو مكان تراكم القمامة في الحي الشعبي القديم في مدن الخليج.

وهو بذلك يتبع أحد تقاليد الرواية العربية والعالمية حين يضفى على روايته اسم المكان. ولعلنا نذكر أن الكاتب نجيب محفوظ خلد أحياء القاهرة القديمة من خلال رواياته. ولكن ذلك لم يمنعني ـ بل أثار انتباهي ـ من أجل البحث عن أصل هذه الكلمة في قواميس اللغة العربية. فيذكر (اللسان) أن عدامة هي ماء لبني جشم غاضت قبل الإسلام فأصبحت الأرض عدماء. ولعل هذا ما يعطي دلالة على ما تعنيه الكلمة المعاصرة بالنسبة للمكان.

شروط كتابة الرواية الناجحة لها علاقة بالبيئة الاجتماعية والثقافية والسياسية في المجتمع الذي يكتب فيه الكاتب روايته, وللأسباب ذاتها فإن كتابة الرواية أو صناعة الرواية في الجزيرة العربية والخليج لم تزدهر بعد, من هنا يأتي الاحتفاء برواية تركي الحمد.

المجتمع المفتوح المتعدد المتسامح الذي تزدهر فيه المؤسسات الأهلية وتشكيلات المجتمع المدني يمكن أن تزدهر فيه الرواية, ولكن المجتمع الشرقي بكل أثقاله التراثية والاجتماعية تقل فيه بالطبع حركة الراوي الحديث. في بلاد مثل مصر نجد ان الحلقة تلك وإن بدت متسعة إلا إنها تضيق عندما تصطدم ببعض الثوابت ولنا في رواية نجيب محفوظ (أولاد حارتنا) مثال يشار اليه, فبرغم كل التراث الروائي المصري فإن المجتمع أو قوى مؤثرة فيه وفاعلة استطاعت أن تمنع تداول تلك الرواية في شكلها المطبوع ككتاب برغم نشرها مسلسلة في جريدة الأهرام.

الرواية تتطلب ايضا شيئا من الثراء الببيئي حتى يتمكن الكاتب من نقل القارىء الى صور ومشاهد جديدة ومتغيرة تشده وتقدم له لوحات فنية بشرية ومكانية. في الغرب حيث فن الرواية متقدم ومنتشر نجد أن هناك روافد ترفد العمل الروائي بالمعلومات الدقيقة, فوصف قاعة محكمة تتعاطى في قضية جنائية هي ليست ككل قاعة محكمة, كأن تكون محكمة مخالفات المرور. وفي مناقشة أخيرة لي مع الروائيين العربيين يوسف القعيد وجمال الغيطاني كان الحديث حول هذا الموضوع بالذات, وكانت المناقشة تدور حول ما إذا كان الروائي يعتمد على خبرته الخاصة والحياتية لبناء عمل روائي أم أنه يحتاج إلى قراءة وتجميع معلومات تراثية وتاريخية وعلمية واجتماعية حتى يستطيع أن يقدم عملا روائيا متكاملا. والخبرة هنا تختلف, فروائي مثل جمال الغيطاني في روايته المهمة (الزيني بركات) قال إنه عاد إلى قراءة تراثية معمقة حتى يستطيع أن يكتب تلك الرواية التاريخية, أما يوسف القعيد في الرواية التي تحولت إلى فيلم باسم (المواطن مصري), فقد تركبت تلك الرواية من خبرة شخصية مع شيء من الخيال الروائي. ولم تكن الحدود الضاغطة على فن الرواية وقفا على ثقافتنا العربية المعاصرة, بل إن هناك أمثلة في الغرب ذائعة الصيت فقد منعت رواية (عشيق الليدي تشارلي) من التداول عندما ظهرت لأول مرة بسبب ما اعتقد في ذلك الوقت أنها تحمل تفاصيل فاضحة للمجتمع الإنجليزي الأرستقراطي عندما وصفت بالتفصيل علاقة الحب التي نشأت بين الليدي تشارلي الأرستقراطية وسائقها الذي ينتسب الى العامة. وقد أصبحت هذه الرواية بعد ذلك واحدة من أهم الروايات التي يعتبر النقاد أنها تؤرخ لعصر.

الرواية ايضا تاريخ شعبي غير موثق للمجتمع, وكثير من القراء ـ خاصة في الغرب ـ يميلون إلى قراءة الرواية عن مجتمع ما للتعرف على الديناميكية الداخلية التي تحكم هذا المجتمع, وقد أدت الرواية العربية نفس هذا الدور, فثلاثية نجيب محفوظ أرخت لفترة من فترة النضال المصري بداية من ثورة 1919 حتى مرحلة الثلاثينيات, كما أن رواياته اللاحقة واكبت تطورات الثورة المصرية وكانت شاهدا عليها فرصدت إنجازاتها وتنبأت بإخفاقاتها.

في مجتمع الجزيرة والخليج ما كان للرواية أن تظهر قبل أوانها وأعتقد أنه قد آن هذا الأوان. فعندما قدم عبدالرحمن منيف المحاولة الأولى مثل البدايات والمسافات قدم وصفا لما هي عليه الأوضاع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في مجتمع الجزيرة العربية وبدا كأنه يكتشف أرضا بكرا لم تكتشف أدبيا وروائيا من قبل.

وهذه الخبرة هي التي جعلت أعمال عبدالرحمن منيف لها رائحة الخبز الطازج, بعض القراء لم يكن لديهم قدرة على استيعاب تلك المفردات ولكنها هي التي شدت المهتمين وبعد ذلك جمهور القراء لمتابعة أعمال منيف التالية.

مجتمع الجزيرة والخليج لم يكن بعيدا عن تناول بعض الروائيين العرب الذين عاشوا لفترة على أرضه سواء كانوا في بلدان الخليج التي تدفق فيها النفط منذ الأربعينيات أو في وسط الجزيرة العربية, ولكن كانت محاولاتهم رسما على هامش المجتمع, نظرة من الخارج إلى ذلك المجتمع أو لها علاقة بقضايا تهم شريحتهم الاجتماعية أو خلفيتهم القطرية. لقد عاش مثلا في الكويت فترة من حياته الروائي الفلسطيني غسان كنفاني وأبدع أعمالاً لها علاقة بالموضوع الفلسطيني أو العلاقة الثنائية الفلسطينية الخليجية, فـ (رجال تحت الشمس), وهي رواية قصيرة تحكي معاناة الفلسطيني وقتها للقدوم إلى بلاد الخليج للعمل, وهي التي قدمت شخصية كنفاني بعد ذلك إلى المسرح الروائي العربي, كما أن يحيى يخلف وإبراهيم عبدالمجيد قدما نصوصا روائية عن الجزيرة العربية كانت محاولة لرصد ما شاهداه ووعياه عن جزء من ذلك المجتمع في فترة من فترات تطوره.

قطار الزمن

تأخذك (عدامة) تركي الحمد في رحلة روائية تبدأ وتنتهي في القطار, فهو يقدم وينهي ـ بنفس الكلمات تقريبا حتى يمكن وصل الجملة الأخيرة مع الجملة الأولى من الرواية ـ يقدم شابا في المدرسة الثانوية في مدينة الدمام, والزمان هو نهاية الستينيات مع تفتح المجتمع على جيل يهتم بالتعليم وانتشار المدارس وكذلك يمتلك وعيا بما يدور حوله من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية. ومنذ السطور الأولى ندرك أن بطل الرواية يعيش زمنا مركبا. فهو ذاهب إلى مدينة الرياض ليلتحق بكلية التجارة فيها وسوف يقيم خلال تلك المدة في منزل خاله المزدحم بالأولاد والتناقضات. ولكنه في نفس الوقت يعيش زمن نشأته في مدينة الدمام بالمنطقة الشرقية بالمملكة. إنه شخص عابر كما يعني اسمه, يمر من خلال الماضي والحاضر في دوامات لا تتوقف.

ويأخذ بطل الرواية هشام إبراهيم العابر في وصف هذه البيئة من خلال عين شاب في مقتبل عمره وحيد والديه.. ذكي وقارىء نهم لكل صنوف الفكر الإنساني التي كانت سائدة في تلك الفترة. والمساحة الزمنية التي تتراوح فيها أحداث (العدامة) هي بين فترتي سني الدراسة الثانوية لبطل الرواية وبداية التحاقه بالجامعة في الرياض.

في المدرسة الثانوية التي شهدت تنمية لنشاطه الثقافي, وكتاباته في مجلات الحائط. وكمثل افراد جيله فقد كانوا يجمعون على شيئين خطب عبدالناصر وحفلات أم كلثوم المذاعة, تلتقطه احد التنظيمات السياسية التي بدأت تتفرخ وبشيء من السذاجة والبدائية في ذلك المجتمع الفتي والجديد, وتسير مع البطل في معاناتها لهذا النوع من التنظيمات السياسية. وتحتل مساحة انضمامه إلى هذا الحزب أو بالأحرى التنظيم السري مساحة كبيرة من شبكة العمل الروائي المتداخلة, فبطل القصة يضرب دوما عن حاضره ليستعيد تلك الفترة الماضية بكل تفصيلاتها ومناقشاتها الجوفاء, فقد كانت تمثل له في أول الأمر نوعا من الانتماء إلى جماعة ما, وقد رأى فيها تجسيدا لكل القراءات التي كان شغوفا بها والتي تتحدث عن إقرار العدل في الأرض. وهو يصف الطالب (منصور) زميله في المدرسة الذي ساهم في تجنيده في هذا التنظيم بأنه لم يكن يميل إليه كثيرا برغم أن الأول أخذ يتودد إليه ويحاول ملاحقته, فقد كانت ملامحه صارمة وواثقا من نفسه ونظراته تخترق من ينظر إليه.

وبرغم ذلك النفور الذي لم يتغير كثيراً فقد وقع في حبائله وانقاد إليه وهو يعتقد أنه يهيىء نفسه من أجل رسالة عظيمة. ويضفي الكاتب لمسة من السخرية على طقوس انضمام بطل روايته إلى التنظيم حين يطلب منه المسئول أن يختار اسما حركيا يعرفه به. وهو يشبه هذا الاسم بالقناع الذي يرتديه كل واحد في التنظيم حتى لا يتعرف عليه أحد. ويقول هشام بطل الرواية بسرعة:

ـ أبوهريرة.. نعم.. أبو هريرة.. هذا هو اسمي الحركي.

ويقول مسئول التنظيم في امتعاض:

ـ ولماذا أبو هريرة.. لم لا تختار واحداً من أسماء المناضلين جيفارا, كاسترو أم أنك معجب بأبي هريرة..

ويرضى أعضاء التنظيم بهذا الاسم الحركي أو القناع الذي لا فائدة منه لأن كل واحد منهم كان يعرف الآخر باسمه الحقيقي.

ثم ينقلنا البطل بين تعاليم والديه, خاصة والدته المحافظة (التي كانت تخاف عليه من الخطف والبيع في سوق الرقيق). وكانت (تمنعه من مخالطة أي أحد أو الركوب (في السيارة) مع أي أحد في طريق عودته إلى البيت) وبين تعاليم الحزب الذي يفرض عليه مقاطعة أعز أصدقائه, لأن الصداقة شيء والرفاقية في الحزب شيء آخر.

وعندما يُهدد بوجوب اتباع أوامر الحزب وإلا نفذت عليه العقوبات يقول بعفوية: (عقوبات أوامر, نهرب من أوامر المحكوم والأم والأب ونثور على عقوبات الدولة لنقع في شبكة أوامر جديدة).

تذمر من القيود

وفي مكان آخر نرى هذا التذمر يأخذ أقصاه فقد علمه الحزب الكذب في الوقت الذي علمته أمه الصدق, وعلمه الحزب المراوغة في الوقت الذي علمه والده الاستقامة ثم يكتشف بعد أن يلقي القبض على قيادات الحزب وبعض ناشطيه أن واحدا من كبار القيادات قد زل لسانه فأفضى إلى شخص آخر ـ بعد أن أسكره كأس من العرق الشعبي ـ كل أسرار الحزب. لم يكن حزباً بالمعنى الصحيح ولكنه مجموعة من الغاضبين سرهم أن يشكلوا فيما بينهم شبكة سرية تهواها مثل هذه السن وتفخر بها.

ويسوق الكاتب من خلال فصول متتابعة في الرواية هجائية ساخرة يستخدم فيها كل براعته في الكتابة السياسية في كشف وتعرية هذه التنظيمات التي تجيد التشدق بشعارات جوفاء عن التقدم والديمقراطية ثم تمارس أبشع عناصر القمع بالنسبة للأفراد المنتمين إليها. بل وتعاني أيضا من فزع داخلي من سلطة لا تفهمها ومن مجتمع لا تعرف آليات تغيره.

تبدأ المرحلة الثانية من حياة بطل الرواية عندما ينتقل إلى مدينة الرياض. وهي عاصمة واسعة مختلفة عن مدينته الصغيرة.. واسعة وحافلة بالمغريات ومليئة بالمعرفة أيضا.يقول: (في الرياض سقطت باقي المثل التي زرعتها أمه في ذاته مع لبنها, واكتسب مفاهيم وسلوكيات جديدة لا علاقة لها بفضيلة أمه القاسية ولا بأوامر التنظيم الصارمة, في الحزب عرف كيف يكذب بسهولة ويسر وسلاسة دون إحساس بتأنيب الضمير ووخزه المؤلم محطما بذلك أول أسس الفضيلة كما علمتها إياه امه.. وفي الرياض دخن أول سيجارة وشرب أول قطرة خمر وفي الرياض عرف طعم المرأة بعيدا عن تلك الرومانسيات).

البعد الاجتماعي

في ثنايا (العدامة) تطالعك الأبعاد الاجتماعية للمجتمع الذي عاش فيه البطل وقيم ذلك المجتمع ودرجات التغير التي تطرأ على هذه القيم والعلاقات الاجتماعية السائدة, فهو يشدد على التمايز والاختلاف الاجتماعي بين أهالي المدن الصغيرة واهتماماتهم وبين المدن الكبيرة. وهو يقول على لسان إحدى شخصياته منصور: (لكي أنورك اجتماعيا أحب أن أقول لك إن أهل القلعة أو القلعاوية هم أهل المدينة والعائلات الكبيرة هم الأسياد وأصحاب الأملاك. أما البدائيون فهم أهل القرى من الفلاحين أو النخلاوية كما يسميهم أهل القلعة).

وقد تغيرت هذه العلاقات في صورتها وإن لم تتغير في جوهرها مع انتقال البطل من حياة إلى أخرى. ولكننا نلمح برغم هذا التمايز ذلك التكافل الذي يسود بين أفراد المجتمع. ففي العديد من البيوت توجد الأبقار التي تمد سكانها باللبن الطازج, فإذا فاض هذا اللبن عن حاجة السكان قاموا بتوزيعه على جيرانهم. ويستغل الكاتب هذه الواقعة لينسج خيوط قصة من الحب بين بطل قصتنا وجارتهم الصغيرة الحسناء نورة التي كانت تحمل لهم اللبن الفائض عن حاجتهم كل يوم.

أما وصفه لراشد هو أستاذ في المدرسة الثانوية التي هو طالب فيها وأحد مسئولي التنظيم فإنه في غاية الدقة والجمال, ومشكلة أول موعد معه ثم بيئته الاجتماعية البسيطة وهو لا يكف عن وصف أعداد من الشباب الذين يقابلهم أو يتناقش معهم. وهو في هذه المرحلة من تطور وعيه السياسي والمعرفي لا يمثل عنده هؤلاء الأشخاص إلا انماطا سياسية كل واحد منها يمثل اتجاها سياسياً مختلفا. لم يظهروا مثل بشر أسوياء لهم تفاصيل حياتية أخرى يعيشون لحظات من القوة والضعف الإنساني ولكن كآراء سياسية متعارضة. هذا يساري, وهذا ناصري وهذا بعثي.. كل واحد يعني تيارا فكريا. لذلك فالعديد من الشخصيات هي شخصيات غير حقيقية. لا تبقى في الذاكرة مجرد أقنعة سياسية لأفكار المؤلف. ويظهر بوضوح انشغال الكاتب بشخصية جمال عبدالناصر, فاسمه يرد في ثنايا الرواية أكثر من مرة. وتدور حوله العديد من المناقشات بين مؤيد وممتعض. وهذه الظاهرة ليست وقفا على هذه الرواية ولكنها تحتل جانبا كبيراً من الروايات التي تتناول هذه الفترة من التاريخ العربي. فهي تحاول أن تقدم الاجابة حول أعمال هذا الزعيم اللغز الذي زرع في النفس العربية أروع الأحلام وبرغم ذلك فقد مُني بأكبر الهزائم. وكل مؤلف يحاول من خلال سطور روايته وبلغة مباشرة في أغلب الأحيان أن يقدم موقفه من هذا الرجل ونظامه. وهي كلمات تختلط فيها عوامل الحب والحيرة الفاجعة كأنه يحاسب أبا وثق به كثيرا ثم خذله. رواية (العدامة) تشارك أخواتها من الروايات العربية من هذه الموجة التي لا أعرف كيف ستنتهي, ولا أعرف إن كنا نحاسب عبدالناصر من خلالها أم نحاسب ذواتنا التي لم تحسن الاختيار.

الموقف من المرأة

يقال إن فن الرواية قد نما وتقدم عندما دخلت المرأة معترك الحياة العامة ومارست العمل بجانب الرجل, أصبحت هناك امكانية التخاطب والاختلاط والاتصال في بيئة اجتماعية متحركة, ولكن المرأة لدى هشام ابراهيم العابر بطل الرواية لها عدة أوجه, فيها والدته التي اختزن فيها كل الخير وكل المبادىء الممتازة والعالية وهي مصدر اتكاء كبير لمخزون القيم الإيجابية لديه, أما نوره فهي بنت الجيران التي كانت تأتي إلى بيت البطل لإيصال اللبن كل مساء. وصفها يختلط فيه الحب العذري بالرغبة في اكتشاف جسد الآخر. وتتولد من ذلك علاقة تتداخل فيها العاطفة والحس. وهي تتوافق مع بقية نمو وعي الراوي بالعالم. والفتاة التي كانت عذراء خجولا سرعان ما تتفجر عن أعماق الأنثى المكبوتة داخلها وتحس بأنها توشك أن تفقده فتحاول أن توقظ داخله ارتباطه الحسي بعد أن شعرت بذوبان فوراته العاطفية. وتكون نتيجة ذلك هي وقوع البطل في حيرة شديدة. فهو يحبها حقا ولكنه لا يستطيع أن يذهب معها إلى مدى هو أبعد ما يكون عن إمكاناته الحسية في ذلك الوقت.

أما المرأة الثالثة فهي عمته في قريته الصغيرة وسط بيئة محافظة ولحرمانها من الأطفال كانت تعتبره طفلها المدلل, وأخيرا المرأة مع اللذة المحرمة في طريق خريص وهو طريق مغزول يلجأ إليه البطل وصديقة وفتاة. في هذا الجزء يتفوق الكاتب في وصف الاقتراب والابتعاد والرغبة والضجر ولكنه وصف مثير للخيال ومتحرك ومعجون بعبارات لا يستطيع معها القارىء المندمج إلا أن يقهقه عندما يقرأ ذلك الفصل الجميل, فالجنس هنا يختلط مع عناصر المكان, بالصخور والرمال والقمر والخوف من الافتضاح التي تتغلب عليها رغبات البشر.

(العدامة) برغم أنها كتبت بلغة عربية صافية وجميلة فقد تخللها عبارات دارجة يعرفها أهل البيئة الثقافية في الجزيرة والخليج وربما تستعصي على الآخرين, ولو أن الكاتب قد وضع ثبتا في آخر جزء من الرواية بمعاني بعض الكلمات المستعصية على الفهم للقارىء العادي, إلا أن هذا الثبت لم يشمل كل المفاهيم والكلمات الواردة في الرواية.

والسؤال الذي خطر لي وأنا اقرأ (العدامة): لماذا قرأت هذه الرواية وفي هذا الوقت القصير, هل لأنني أعرف الكاتب شخصيا, أم لانني أحب وأعشق قراءة الروايات لما لها من بعد تنويري وثقافي على المجتمع الذي تعيش فيه هذه الشخصيات, أم لأن الرواية جيدة بل ممتازة؟! إنني أميل إلى التحليل الأخير فهي بالفعل رواية ممتازة, بناؤها الروائي سلس ونقل القارىء من بيئة إلى أخرى ومن تفصيل إلى آخر, وبرغم عدم تسلسله الزمني فإنه مقبول دون تعقيد, كما أن اللغة التي استخدمها الكاتب طرية وسهلة وممتعة أيضاً.

ولكن هل يمكن أن نتساءل هنا عن ضعف العقدة في الرواية, وعدم وجود حدث ينمو ليقودنا من فصل إلى آخر؟ أم أننا نعتبرها مجرد شهادة بالاكتشافات المبكرة التي عاشها هذا الكاتب, اكتشافات الوعي بالتيارات السياسية واكتشافات التعامل مع الجسد الآخر, واكتشافات التعامل مع مجتمع متغير في فترة من فترات تطوره!.

إن الرواية تشبه سجادة غنية بالتفاصيل والنقوش. مهما بلغت درجة الفن فيها فهي تمهد لتلك الأحداث التي لاشك آتية في بقية أجزاء الثلاثية القادمة.. ونحن مازلنا في الانتظار.

 

محمد الرميحي

 
 




غلاف الكتاب





د. تركي الحمد