على هامش الفرقة والتشتت: المشروع الحضارى والعبث بالمصير العربي

على هامش الفرقة والتشتت: المشروع الحضارى والعبث بالمصير العربي

يطول الكلام عن محاولات التحديث التى ماسها العرب خلال القرنين السابقين بهدف تشخيص الواقع العربى الراهن. والكلام عن التحديث دون تخصيص نواحيه ومجالاته يكفى، غير أنه ليس تحديثاً فى المطلق، بل يندرج فى إطار " المشروع الحضارى العربى "، وهو مشروع قائم مهما تكاثرت أسباب الشك فيه، لأن العرب دون مشروع حضارى يقوم على التحديث سوف يقعون أسارى مشروعات سلفية أو تقليدية أو ديكتاتورية فيتباعد ما بينهم وبين التطور الحضارى الذى تتراكم منجزاته من قرنين دون أن نستطيع سد الفجوة الحضارة بيننا وبين المجتمعات المتقدمة.

تقتضى ظروف التحديث أن تكون الدولة القومية الواحدة للأمة العربية هى حاضنة المشروع الثقافى العربى، لأنها وحدها، هذه الدولة الموحدة، قادرة على تقديم الأساس المادى للحداثة. غير أن العرب لم يجمعوا على مشروع ولم يحددوا حتى مواصفاته، مع أن شرط " المشروع الحضارى " أن يحظى بالإجماع، بوصفه مبدأ تعتمده الأمة لتضعه فى حيز الممارسة. لكن فقدان الاتفاق على أى شئ كاد يصير سمة عربية ثابته يعتمد عليها العدو ويحار فيه الصديق.

إن تقرير المصير ليس مفهوما مجردا فى عالم الحقوق، وإنما هو دليل تاريخى يوجه المجتمع ويحدد الجماعات التى تقبل أن تتلاحم على هدى المبدأ القومى فتجعل الأرض مشتركة بلا حدود، وتعتمد على الثقافة المشتركة لتخلق فهما مشتركا للتاريخ والمستقبل " لأن الفهم المشترك للتاريخ هو الذى يخلق التاريخ المشترك، كما أن النظرة الموحدة إلى المستقبل تحدد أهدفها والإجماع فيما بينها على تحقيق تلك الأهداف " عدم إحساس العرب بمصيرهم لم يؤد فقط إلى التفريط بعناصر قوميتهم، وإنما أفقدهم إحساسهم بذاتهم فباتوا لا يتصرفون على أنهم أمة واحدة. بالتالى فمن المستحيل أن ينتجوا فى ظروفهم الراهنة مشروعا حضاريا وأن يجدوا العقل الكافى لتفصيل عناصره والاتفاق عليها، وأن تكون لديهم العزيمة اللازمة لتنفيذها.

كيف فقدنا القدرة ؟

كيف فقد العرب القدرة على تقرير مصيرهم بأنفسهم ؟ لقد حل بهم هذا الداء منذ ألف عام، حين أخرج الخليفة المعتصم العنصر العربى من الجيش العباسى، فقد حل المعتصم الجيش العربى وشكل بدلاً منه جيشا تركيا حوالى عام 840م " أى بعد قرنين من ظهور الإسلام ". لكن الأتراك خلال ربع قرن التاريخ قتلوا الخليفة العباسى المتوكل على اله فشطروا سلطة الخلافة إلى سلطة شرعية يمثلها الخليفة العربى العباسى، وسلطة دنيوية يمارسها أمير الأمراء السلطان التركى. ثم ما لبثت كل حامية عسكرية من الأتراك أن استقلت بمدينة أو مقاطعة فتفككت الخلافة وسقط مفهوم الدولة والمجتمع لأن الأتراك كانوا بعيدين عن أى مفهوم للثقافة أو الحضارة أو القانون، فهم "بدو العجم"، كما عرفهم الجاحظ، فتوقفت بذور الحضارة العربية عن النمو وبأت المؤسسات الإدارية والثقافية والقانونية بالنهيار بعد أن عطلوها وحاربوها لأنها تحد من نهبهم وتخريبهم. ولم ينته القرن العاشر الميلادي حتى كانت الحضارة العربية حضارة معطلة.

في عام 1098 م سقطت القدس بأيدي الصليبين الذين احتلو معظم الساحل السوري ويشهد المؤرخون الأوربيون الذين رافقوا الحملة الصليبية بأن الغزاة ذبحوا مائة ألف من السكان العرب في اليوم الأول لاجتياحها. استمرت الحرب الصليبية حوالي القرنين. وقبيل انتهائها استشعرت أوروبا الهزيمة فاتصلت البابوية بخاقانات التتار في الصين وحرضتهم على غزو المناطق العربية والإسلامية، فتحرك هولاكو وأحرق بغداد عام 1254 م ومن بعده أحرق تيمور لنك دمشق عام 1400 م.

بهذا المشهد من الغزوات المتلاحقة والدمار الشامل تم القضاء على الحضارة العربية قضاء مبرماً شمل وجودها المادي والمعنوي. خلال هذه السلسلة التي امتدت من القرن التاسع إلى القرن السادس عشر للميلاد " حتى مجيئ العثمانيين " حوصر الوطن العربي من الغرب بالغزو الصليبي ومن الشرق بالغزو التتاري - المغولي مما دفع المثقفين العرب إلى إنشاء حلف مع الشعوب الإسلامية والقبول بحكم المماليك ما دامو يحمون "بيضة الإسلام". وقد كرس الفقهاء هذا الاتجاه بفتويين كانت لهما آثار خطيرة إلى اليوم، الفتوى الأولى بتحريم الثورة إطلاقا مهما كانت الأسباب (وادعوا وجود حديث شريف مفاده أن الصبر على حاكم ظالم ستين سنة خير من فتنة ساعة)، لأن الثورة تؤدي إلى الفتنة فلا يجوز أن ينقسم المسلمون وديارهم عرضة لغزو الصليبين والتتار والمغول. الفتوى الثانية كانت بمنزلة إقرار بتنازل العرب عن حقهم في السلطة أو في أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وهي الفتوى التي تجيز إمارة المتغلب بحيث يجوز أخذ البيعة لأي رجل مسلم يتغلب بالقوة ويتسلم السلطة - علما بأن العرف جرى منذ سقيفة بني ساعدة على ألا تجوز البيعة إلا لرجل من قريش. وقد أبلى المماليك بلاء حسناً في الدفاع عن الأراضي العربية لانهم إذا خسرهم خسروا كل شيء.

نصيحة مؤسفة

- كان البويهيون من شيعة الفرس، فلما استولى معز الدولة البويهي على بغداد أراد أن يزيل الخلافة العباسية ويوليها لخليفة علوي. فلما استشار قال له أبوه : أنت الآن تحت خليفة عباسي سني، لا تؤمن أنت وجندك بطاعته. فإن أمرتهم بقتله قتلوه. أما إذا وليت خليفة علوياً تؤمن أنت وجندك بوجوب طاعته فإنه إذا أمرهم بقتلك قتلوك! ولهذا سلمت الخلافة لبني العباس.

- ولقد زود نور الدينالزنكي، حاكم سوريا وشمال العراق صلاح الدين الأيوبي بجيش كبير وأرسله إلى مصر مرتين للدفاع عنه ضد الصليبين إثر اضطراب الخلافة الفاطمية في مصر. فلما أطاح صلاح الدين بالخلافة الفاطمية في مصر واستتب له الأمر كتب إليه نور الدين عدة مرات يطلب منه أن ينزل بالجيش المصري فيما يزحف نور الدين بالجيش الشامي ويتلاقى الجيشان عند حصن الكرك الصليبي في الأردن. تحمس صلاح الدين للخطة في البداية، فخلا به عمه أسد الدين شيركوه وقال له : " أنت الآن تحكم مصر، وبينك وبين نور الدين قلاع الصليبيين والبحر. فإن انتصرتم على الصليبيين واتصلت الأرض بينك وبينه فقدت استقلالك وربما عزلك فقتلك " !

هذه "النصيحة" أخرت تحرير القدس ثلاثين عاماً ! - كان بيبرس حاكماً عظيماً بين سلاطين المماليك وقد قام بتطهير بلاد الشام من بقايا المستعمرات الصليبية التي تركها أسلافه. لكنه كان يكره العرب فمنع انخراطهم في الجيش أو ترقيتهم وجعل يستورد مماليك من موطنه في صحارى تركستان ويدربهم ليعهد إليهم بمراتب القيادة في الجيش والإدارة. وبهذه الوسيلة استمر حكم المماليك لمصر والشام والعراق ثلاثمائة عام.

العثمانيون والعرب

بعد المماليك الجراكسة والأتراك حكم العثمانيون الأتراك المنطقة العربية لمدة أربعمائة عام " 1516 - 1918 وقد دخل العرب بإرادتهم تحت طاعة السلطان.

وقد وجد العثمانيون تينك الفتويين جاهزتين لشد وثاق العرب وقمع أي تطلع عربي للتحرر القومي، حفاظاً على مبدأي تحريم الثورة على الحاكم الظالم وجواز إمارة المتغلب - وهما أسوأ ما جاء به الفقه المتخلف - منع العثمانيون الاجتهاد لأن كل اجتهاد وأي اجتهاد سوف يعرض هذين المبدأين للمساءلة والإلغاء، لأن أي ثورة سوف تطالب بعودة الخلافة للعرب. وهذا ما فعله المفكر القومي عبد الرحمن الكواكبي، فقد ألف كتابه " أم القرى" لدحض فتوى إمارة المتغلب والمناداة بعودة الخلافة للعرب، كما ألف " طبائع الاستبداد " لدحض فتوى بطلان الثورة على الحاكم الظالم وترك أمره إلى الله.

ومهما يكن من أمر، فقد شاعت عن العرب فكرة أن العثمانيين حموا البلاد العربية من هجمات الغرب لمدة أربعة قرون بدافع من حميتهم الإسلامية. هذه الفكرة المغلوطة تدحضها الوقائع التاريخية. ففي القرنين السادس عشر والسابع عشر كان العرب آمنين من شر الغرب لأن أوروبا انشغلت بحروبها الداخلية للتنازع على استيطان أمريكا وحروب الإصلاح الديني. فلم يكن التفكير بالشاطئ الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط وارداً لدى الدول الأوروبية فيما كانت تتنافس على ما يرقد في غربي تالأطلسي وجنوبه.

ومنذ بداية العثمانيين إلى نهايتهم، يمكن القول إن العثمانيين لم يستخدموا قوتهم ولا مرة للدفاع عن العرب. ففي عام 1492 م سقطت غرناطة، وكان العثمانيون يملكون أقوى جيش بري وبحري في العالم تدعمه مدفعية لم يعرف لها العالم مثيلاً من قبل. وقد سارت وفود من عرب إسبانيا إلى القسطنطينية تستغيث وتطلب المساعدة فلم يحرك الأتراك الأقوياء ساكناً. وحين أحكم الأتراك قبضتهم على الوطن العربي راحوا يسامون قوى الاستعمار الأوربى على الأرض العربية قطرا بعد قطر. وهذا عقاب أمة رهنت مصيرها، باسم الإسلام، لدى أمة أخرى. المدافعون عن السلطنة العثمانية والمعتذرون عنها يقولون إن السلطنة كانت عاجزة لأنها كانت تخوض حروباً ضارية فى أوربا الشرقية. ولعل أكبر مشكلات الأمة العربية أنها بعد العثمانيين عانت من الاحتلال الأوربى ثم الغزو الصهيونى. وفى أعقاب هذا الغزو دخلت فى مرحلة تهتك انتهك فيه الرق العربى كل المحرمات التى كان يمكن أن تصونه لو دهل فى عراك معها وحافظ على حدود اللامساس بقضايا الوحدة والأراضى العربية المغتصبة والتعريب وتطوير أحكام الإسلام بما يتلاءم وروح العصر. هذه الثوابت ليست تعصباً. وإنما هى ملامح أساسية لابد منها لإيجاد شخصية قومية فاعلة فى التاريخ. وقد عرف العرب فى جاهليتهم أهمية التحريم وسموه " الحفاظ " فأولو الحفاظ هم الذين يغضبون للحرمات إذا انتهكت. وأول انتهاك فى حياتنا السياسية المعاصرة ارتكبه الشعوبيون حين حاربوا المد الوحدوى وأيدوا كل الحركات الانفصالية باسم الاشتراكية واليسار، حتى صار للكيانات من الشرعية ما يفوق فكرة الوحدة ويدحضها. كما أن آخر الحرمات التى سقطت هى العرف بألا يهدر العرب دماءهم فيما بينهم، وبدلا من حقن الدماء العربية استباح العرق الكويت.

القومية والعرق

لتحديد المصطلحات نذكر بأن العرق أوجدته الطبيعة، العرق العربى والعرق الإغريقى أو الصينى، فمللما تنقسم مملكة الحيوان إلى فصائل فقارية أو لبونه تنقسم مملكة الإنسان إلى عروق طبيعية تكونت فى رقعة جغرافية لها ملامح ولغة وعادات وثقافة وتاريخ. هذه العناصر بشكلها الطبيعى تشكل عرقا، فإذا تم تفعيلها بعوامل سياسية انقلبت إلى عوامل قومية تعيد صياغة وجود العرق الطبيعى وتحوله إلى أمة - دولة. فتمتد حدود الكيان السياسى لتشمل كل الأراضى التى يقيم عليها العرق الطبيعى. وبما أنه لم يبق خلال التاريخ عرق بحالة محضة خالصة فيجرى تحديد العرق بانتشار لغته وثقافته ووحدة عاداته واشتراكه فى تاريخه بحسب إرادة مشتركة، لأن تحويل العناصر الطبيعية إلى عناصر سياسية بوعى إرادى مقصود من قبل النخب الفاعلة فى الأمة. هذا الإجماع الإدارى مفقود فى الفكر والواقع عند العرب، وفقدانه أدى إلى انعدام الإرادة الجماعية، مما ينتج عنه فقدان العناصر القومية لقيمتها، ومن ثم فقدان الأمة للعناصر المكونة لوجودها : فالأرض تغتصب، واللغة تهمل، والثقافة المشتركة تتحجر وتتفسخ، ويصبح التاريخ عامل فرقة بدل أن يكون موحداً.

فهل الثقافة العربية، فى وضعها الراهن من القوة والانتشار فى المجتمع العربى بحيث تستطيع أن تقلبه من وضعية العرق الطبيعى إلى الأمة التى تؤسس دولتها القومية ؟ إن تقرير المصير العربى على هذا النحو يقتضى درجة من الوعى الجمعى تقلب الروح العربية المستكينة لإرادة القوى العظمى إلى روح متوقدة تستوعب منجزات الإنسانية وتزاحمها لكى تفرض نفسها فى صنع تاريخ لها وللإنسانية بقوة العلم والمال والأدب والتجارة والسياسة والعسكرية والفكر والصناعة والفلسفة وكل نشاط بشرى. فهل نحن جاهزون لمثل هذه المهمة العظمى ؟ لو صرفنا مؤقتا عن 80 % من الأمين و 10% من أنصاف المثقفين لوجدنا أن لدينا 10% من النخبة العربية ذات شبه متقدمة كأوربا الشرقية وأمريكا الجنوبية والصين والهند، كلها أسعد حالا من العرب لأنها تجتمع تحت سقف دولة موحدة ولديها من فرص التنمية المستقلة ما لن يعرفه العرب المجزأون أبدا.

وإذن فلدينا مثقفون وليس لدينا ثقافة، أو بالأحرى لدينا مختصون يكررون معلوماتهم التى حصلوها عن الغرب من حقول اختصاصاتهم وليس لدينا نتاج ثقافى، أسباب ذلك كثيرة منها ضعف المردود، وانعدام المؤسسات الثقافية ومراكز البحث. ولهذا فالعلم والثقافة محصوران فى الإطار الجامعى تقريبا، وهو إطار محافظ راكد. غير أن العامل الأهم فى اختناق الإبداع الثقافى يكمن فى غياب المشروع الحضارى العربى الذى يعطى الثقافة دافعا للحركة واتجاها تسير عليه. فكما أن الثقافة الحديثة الرفيعة تخلق المشروع الحضارى فإن هذا الأخير بدوره يغنى الثقافة بالعناصر الجمعية وبالهدف من الإبداع الثقافي. فحين حدد المشروع الحضارى الغربى لنفسه هدفى الحرية والوضعية تفتقت أذهان الفلاسفة والمفكرين عن والفردية لم تكن تخطر على بال. وجاءت الرؤية العلمية أو الموضوعية لتوجه الثقافة نحو الاهتمام بالإنسان فى تحرير عواطفه وغرائره وسلوكه ومعلوماته:

فعلوم النفس والاجتماع والتواصل وليد شرعي للحرية والوضعية اللتين هما حجر الاساس فى المشروع الحضرى الغربي.

ومادامت الجامعات الخمسون فى البلاد العربية هى مراكز الثاقفة العربية الرئيسية فإن نتاجها الفعلى يقتصر على الأدب والفقة والعلوم المعيشية التي لا يستغنى عنها العمران. هذا يعنى أننا مازلنا فى طور الثقافة العربية التقليدية التي على الأدب والفقة اللذين استمرا فى عصور الازدهار والظلام على السواء والصراع السيدة. أما العلم فقد ظل هامشياً لتسلية الملوك بالدمى المتحركة، وأما الفلسفة فكانت أمراً خطيراً فى حالتي رضا السلطة أو غضبها. وفي كل الأحوال عاشت الفلسفة والعلم حوالى ثلاثة أو أربعة قرون لم يشتغل فى كل منهما أكثر من مائيى شخص فى كل قرن.

الصحيح أن الفلسفة لم تتجذر على الإطلاث في الثقافة العربية منذ الكندي إلى عبدالرحمن بدوي. لدى على ذلك دليلان: في الحضارة العربية القديمة لا نجد أثراً للفلسفة فى الفقة وعلم الكلام لأنهما نضجا قبل دخول الفلسفة. كما لا نجد لها أثراً فى النقد الأدبي، فنظرية عمود الشعر لا أثر فيها للفلسفة علما بأن الذي أعطاها صيغتها النهائية هو القاضي على بن عبد العزيز الجرجانى المتوفى عام 395 هـ "حوالي ألف ميلادية" وهو رئيس المعتزلة فى عصره. وحتى فكر بن خلدون لا يقوم على أساس فلسفي مع إلمامه بها.

أما الدليل الثاني فهو فكرنا المعاصر. فنحن قد تعاملنا مع كل الأيدلوجيات والمذاهب السياسية الموجودة فى العالم، ومع ذلك فإنها لم تنفع لا في تنظيم الجماهير ولا في إصلاح الدولة ولا في تطوير الاقتصاد. بل هذه المذاهب تأتى وتشغل المثقفين تبشيراً ودعوة أو رفضا ودحضا ثم تتلاشى دون أن تترك أثرا في فكرنا أو واقعنا. كما أننا نحن لا نترك فيها أثراً فلا نحور منها ولا نضيف إليها. وحار الناس في تحليل هذه الظاهرة، وأنا أرجعها إلى انعدام الأساس الفلسفى فى تفكيرنا. فهو المسئول عن بقاء المذاهب السياسية مثلما يصدق على المذاهب الفلسفية أو الاجتماعية أو العلمنفسية. ويبقى حاضرنا الفكري رهينا بظاهرة الفكر المستورد من ماضينا السحيق أو من الحاضر الأوربي المبدع.

ولقد وصلتنا مبادئ الثورة الفرنسية بعد عشر سنوات من وقوع الثورة مع غزو نابليون لمصر، وتلاها فيض من الفلسفات في الحكم، ومع ذلك فإن بنية النظام السياسي عند العرب لم تتغير من أيام الفراعنة حتى اليوم. فالفرعون هو السلطة المطلقة والمالك المطلق للأرض والبشرن ومن حوله مراكز قوى تمثل الجيش والكهنة والتجار وأصحاب الأراضى وزعماء القبائل. هؤلاء ليس لهم حق محاسبة الفرعون لأنه إله أو ظل الإله على الأرض، ولكن وظيفتهم مراقبة الرعية في ولائهم وإنتاجهم. وقد شدد الإسلام على مسئولية الفرد الحاكم أما الله لكن كل من حوله خاضعون له بالبيعة المطلقة وليس لهم حق فى مراجعته أ, محاسبته. وحتى مجلس الشورى الذى انتخبه تنتهى مهمته بانتخاب الخليفة بعد ذلك، علماً بأن أعضاء مجلس الشورى ينتقون على أساس العصبية، فمن لا عصبية له لا شورى له. أى أن الرعية لاتستشار فى أمر حاكمها ولا فى طريقة حكمه. وهذا هو مصدر الأقوال بأن ديمقراطية فى الاسلام، وهو قول صحيح من زاوية عدم حق الناس فى التشريع لأنفسهم. كذلك فإن الحاكم هو المالك الفعلي لبيت المال يوزع موارد الدولة كما يرى مناسبا، والأرض أيضا ملك الدولة توزع سكانها اقطاعات. وللحاكم حق المصدرة، فالملكية الفردية ليست مصونة. وكل من قرأ شيئا عن المصادرات التى كان يجريها الخليفة أو السلطان يعرف أنه من المستحيل قيام نظام رأسمالى فى ظل الخلافة العباسية أو المماليك.

أظن أن هذا يكفى للقول بأننا نعيش فى ثقافة متحجرة وأنظمة تستهلك طاقتها فى إعادة أنتاج ذاتها وفى الانغلاق ضد المؤثرات الخارجية. كذلك فإن التطور مطلوب على كل الجهبات، ولكنه مستحيل إذا لم نقرر غاية مسارنا، إلى أين نتجه وإلى سوف نصل أو نريد أن نصل طبعاً. الانتماء إلى المستقبل لا يتم دون تحيد الانتماء إلى الماضي، وقد ازدهرت الحضارة العربية والمجتمع خلال القرون الأربعة الأولى للإسلام، فنحن عرب ننتمى إلى حضارتنا المنفتحة ورسالتها العالمية. وما تلاها من لف عام هو تاريخ شاركنا آخرون، وبالتالي فهو لنا ولغيرنا، أما القرون الأربعة الأولى فهى عصر الازدهار العربي المطلق. عهد الحرية والعنفوان والإبداع والعقل.

عقل التاريخ

ولكي نعيد للتاريخ حركته نحو التقدم لابد من ان نضع للتاريخ عقلا، أى لابد من أن نخرج من هذا العلماء واللاتشكل والتهتك الذي يطبع مرحلتنا الراهنة. فالمرحلة الراهنة هى مرحلة اللا عقل. ذلك أن العرب بعد الحرب العالمية حاولوا أن يخضعوا حياتهم لقواعد العقل، فانتسبوا إلى جامعة الدول العربية وصنعوا ميثاق الدفاع العربي المشترك وحاولوا أن يختلفوا أسواقا اقتصادية عربية. ومضوا مع العقل إلى أبعد الحدود: حاربوا الجهل بتأسيس المدارس والجامعات، قاوموا الغزو بإنشاء الجيوش، تصدوا لهجمات الغرب بتضامن عربى فعال فى لحظاتت من تاريخهم وأوجدوا لأنفسهم أصدقاء بين الدول الكبرى والأمم المتقدمة لنصرة قضيتهم فى فلسطين وفى الوحدة التقدم وقد عاشوا لحظات انتصار مجيد فاخترقوا النظام العالمى الاستعمارى حين أعلنوا قيام الجمهورية العربية المتحدة وكادوا يخترقون النظام الرأسمالى بأكمله فى حرب أكتوبر ورفع أسعار البترول غير أن حكام العرب خافوا من هذا النصر ولم يعرفوا كيف يستثمرونه لغياب كل مشروع قومى مستقبلى عن فكرهم ولأنهم يرون فى كل تغيير خطرا عليهم.. فجأة وانتصر الغرب عليهم وعلى العالم فتهاوى منطقهم وخلا الواقع من العقل. فلا العلم أوجد للعرب تقدما حضاريا، ولا الجيوش والمعارك أنجزت شيئا محسوسا، وضاع المال والأراضي والاستقلالا. فى هذا الوضع غير المنطقي، وهذ النتائج المحبطة يبدو العالم خاويا، وتفقد الجماعات الإحساس بذاتها، ويغيب عن العقول معنى كفاح الأمم لتأكيد ذاتها وتقرير مصيرها. إن منطق الآخرين هو دائما يمثل اللامنطق بالنسبة لنا لأنه إلغاء لمنطقنا وموقفنا وتطلعاتنا. إنه إلغاء لنا. هذا هو النظام العالمي الجديد.

" ولكنها تدور" هكذا قال جاليلو لمحكمة التفتيش. وأضيف: إنها تدور على ظهرها أمة عربية تشغل 10 % من مساحتها. أمة سوف تجد نفسها فى حداثتها. وتحقق قوميتها بإنشاء الدولة الأمة، وتشرف من ذروة حضارتها الشاهقة على مستقبل أشد ديمقراطية وعدالة وأوفر حرية وإبداعا فإذا أنجزنا نكون قد أنجزنا التحديث. وعندهم يتكلم أحفادنا عما بعد الحداثة وعما بعد القومية.

ذلك أننا إذن نكون قوميتنا بجهدنا وإبداعنا ونضالنا فتتشكل بتشكل تاريخنا وتتقدم بتقدم تفكيرنا ولا يتك اكتمالها إلا بقيام الدولة الدولة القومية الموحدة والحاضنة للمشروع الحضارى العربي، منها فى المبتدأ وفى المنتهى.

 

محيي الدين صبحي